ألف نهر
لا يوجد في تاريخ بلدنا سوى فرصةٍ واحدةٍ كهذه.
الشعب المتميز يخلق نجاحًا متميزًا.
ولم يكن هذا هو الحال منذ وقت غير طويل — أي منذ السبعينيات، بل ومطلع الثمانينيات — إذ كنا آنذاك ننتظر داخل فندق أو بيت ضيافة عتيق، جدرانه كالحة، والعاملون فيه سيئو الطباع، علاوة على كمِّ التراب المتراكم على سجادة حمراء تغطي الممشى الخارجي للفندق. ودوت في الخارج عبر مكبرات الصوت أغنية قصيرة عن ماو، بينما اليوم نسمع رباعية وترية نابضة بالحياة من مؤلفات موتسارت. وجاء المرافق الذي سيصحبنا، وهو على الأرجح موظف بإحدى الإدارات الحكومية، ويصعب وصف شكله، ومعه سيارة موديل عتيق لم يتغير منذ الأربعينيات.
ولكن اليوم، تناهى إلى أسماعنا صوت رخيم يسأل عنا، إنه ليس صوت موظف بيروقراطي، بل صوت ديانا شن، التي توضح بطاقتها أنها مديرة تنفيذية في الشركة: فتاة أنيقة ممشوقة القوام، طيف خيال في ثوب أسود قصير، وفي قدميها حذاء أسود اللون عالي الكعبين، وتحمل في يديها حقيبةً جلدية كبيرة سوداء تخرج منها هاتفًا خلويًّا لتنادي السائق. بعد دقيقة واحدة وقفت أمامنا سيارة صينية الصنع، سوداء فاخرة ماركة أودي، وهي الماركة التي يؤثرها من يريدون تجنب نظرات الدهشة عند رؤية ماركات المرسيدس أو ليكزس، في وقت تزايد فيه الدفاع المناهض للفساد. ومرقت بنا السيارة سريعًا عبر طرقات شنغهاي، اتجهت السيارة شرقًا على طول طريق يانان، وهي الطريق التي تحمل اسم قاعدة ماو الثورية خلال الثلاثينيات. ثم تجاوزت السيارة عددًا محدودًا من المباني شمال القاعدة، حيث المكان الذي تأسَّس فيه الحزب الشيوعي الصيني عام ١٩٢١م. وتزداد السخرية عمقًا؛ إذ كان اللون الأحمر في عهد ماو هو الرمز الدال على الصواب السياسي، وكان أسوأ ما ينعت به شيء أن يوصف بالسواد؛ كأن يقال على سبيل النقد اللاذع «إن دنج هسياو بنج خائن، متبع الخط السياسي الأسود.» أما الآن، فإن اللون الأسود هو اللون الذي تختاره الصفوة من بين كبار منظمي المشروعات في الصين، أما اللون الأحمر، فهو ريفولون أو أي ماركة محلية أخرى لأحمر الشفاه الذي تضعه السيدة شن.
صعدنا بضع درجات، ووصلنا إلى مدخل زجاجي اصطفت على جانبيه أصص النباتات، ورأينا أسماء العديد من مشروعات جانج وي محفورة على إعلانات نحاسية معلقة على باب جانبي. تجاوزنا مكتب الاستقبال وصفوفًا من المقاعد التي يشغلها فنانون مختصون بالرسم البياني، يستخدمون أحدث تصميمات برامج الكمبيوتر. بعد هذا وجدنا أنفسنا داخل مكتبه، وقد اتخذنا مجلسنا في راحة كبيرة فوق أرائك جلدية سوداء حديثة، وأبصرنا عددًا من خزانات الكتب لصق أحد الجدران، ومكتبًا أسود اللون غاصًّا بالأوراق، وجهاز كمبيوتر وأكوامًا من الورق هنا وهناك. ورأينا الجميع يتحدثون عن كثير من المشروعات المتنوعة، وقد التزموا بقواعد متعارف عليها، ومدَّت السيدة شن يدها لتخرج من ثلاجة في زاوية القاعة زجاجات ماء تحمل رسمًا مميزًا هو شعار جانج.
وبدأنا لقاءنا مع جانج بالحديث عن التغيرات التي شهدتها المدينة، منذ آخر زيارة لنا قبل بضعة أشهر، وطفرت إلى الذهن عبارة وردت في مقال منشور في مجلة الإيكونومست، يصف المقال النمو والنجاح المثيرَين في شنغهاي، وذلك أساسًا بفضل ذكاء وحمية رجال مثل جانج وي، ثم قالت الصحيفة ساخرة: «لو أصبحت كل مدن الصين مثل شنغهاي، فإن بقية العالم قد يُمنَى بالهزيمة غدًا.»
وإن هذا التغير الذي طرأ على أسلوب عمل شنغهاي، وأنحاء أخرى كثيرة في الصين بدأ على أيدي حوالَي ٢٥ مليون عصامي صيني، ترك أغلبهم طوعًا نظام مشروع الدولة؛ ليعملوا بائعين جائلين يعرضون بضائع، هي فائض إنتاج المصانع لبيعها في الطرق الجانبية، ويطرقون الأبواب لبيع كل شيء: ابتداءً من وثائق التأمين وحتى أدوات التجميل أو يريدون المطاعم والمحال الخاصة بهم.
وتواصلت الحال عن طريق سائقي الشاحنات والفلاحين وعمال المصانع وموظفين سابقين استطاعوا، عن طريق مختلف التبديلات في أنواع الأعمال الشاقة، ومن خلال العلاقات وعمليات التواطؤ والمضاربة، أن ينشئوا حوالي ٤٣٥ ألف شركة خاصة تحول معها بعض منظمي المشروعات إلى أصحاب ملايين بين عشية وضحاها. وهجر الحكومة والهيئات خلال عام ١٩٩٣م فقط مئات الآلاف من المهنيين ليبدءوا تأسيس شركاتهم، أو للعمل في مشروعات أجنبية مشتركة، وبلغ عدد هؤلاء ٦٠٠ ألف عام ١٩٩٢م. ونرى اليوم قادة الحزب المحلي والحكومة يتباهون ببطاقات الأعمال التي تصفهم بأنهم مديرون ورؤساء أو مستشارون لدى شركات تجارية واستثمارية، وكذلك زبدة الصفوة من الشباب الصاعد، أفضل وأذكى أبناء الصين الذين صهرتهم الثورة الثقافية وهجروا السياسة عقب أحداث ميدان تيان آن مين عام ١٩٨٩م: تحول اهتمامهم، مثلما فعل السيد جانج من إصلاح النظام إلى حماسة أصيلة لتنظيم المشروعات.
وطبعي أنه قد يكون من الصعب أحيانًا أن تتحدث إلى الاقتصاديين الجدد عن طريق الأحلام والمهارة والحافز، في ضوء المحظوظ أو الفاسد، الذي تهيأت له فرصة أو اقتنصها أيام الهوجة في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات. إذ جرت في أثناء هذه الفترة خصخصة العقارات وبدأت أسواق الأسهم، وسمحت الدولة للأجانب بالاستثمار في الشركات الصينية. وليس لنا أن ندهش إذ نرى كثيرين من أعضاء الصفوة الشيوعية قديمًا، وكذا أبناءهم يهيمنون على الثروات التي تشكلت حديثًا، ولكن كثرة كبيرة جدًّا من الصينيين العاديين بدءوا يبرزون ببطء خلال هذه العملية، ويتحولون إلى جماعة جديدة دينامية من منظمي المشروعات ورجال الأعمال. إنهم طلائع شرائح عليا من طبقة وسطى جديدة.
واستطاع الملايين من الصينيين — بوسائل مختلفة — التعبير عن غرائزهم الكامنة كمنظمي مشروعات. وكم هو عسير المبالغة في تقدير شجاعتهم أو أهمية ما يسببونه من تحول في التيار. وكثيرًا ما تجري مقارنة بين منظمي المشروعات الصينيين الجُدُد والرواد وسكان الحدود في أمريكا القرن التاسع عشر، بيد أنهم يواجهون صعوبة فريدة: قرونًا من البيروقراطية، وثقافة علَّمتهم أن «أول طائر يجرؤ على الخروج من عشه، هو أول فريسة للصيد.» ولهذا فإنها جرأة مضاعفة أن يختار المرء التخلي عن مكانه الذي يطمئن إليه داخل النظام، وأن يقلع عن عادة الإمساك «بسلطانية الأرز المعدنية»؛ إذ إن مثل هذه الجرأة تحرم صاحبها من اليقين النفسي والاقتصادي معًا. إنها قفزة عبرت عنها بصدق مأثورة صينية تتردد عند مواجهة مثل هذا التحول في مسيرة الحياة «اقفز في البحر، وسوف تعرف كيف تسبح.» ويتضمن المثل مستوًى من المخاطرة لا يعبر عنها مثال أمريكي مناظر يقول: «ابدأ مشروعًا عصاميًّا».
ويمثِّل الأشخاص الذين نعرض لهم في الفصول التالية — وهم جانج وي، وشن بنج، وفنج لون — بعض العناصر الأفضل من بين هؤلاء السباحين. لقد عرفوا، شأن كثيرين غيرهم، اتجاه حركة الرياح في الصين، وانطلقوا عن وعي من أجل الثراء فور أن تيسر لهم ذلك. ولا يملك المرء إلا أن يقدم هؤلاء الثلاثة، ليس فقط كأمثلة لها قصصها المهمة التي يتعين أن نحكيها، ولكن لأنهم تعلقوا بأبصارهم إلى آفاق عالية بعيدة. هدفهم إقامة مشروعات كبرى ذات بنية مؤسسية يمكن أن تقود الصين إلى القرن الواحد والعشرين. إنهم يتجاوزون في حركتهم مرحلة الاكتفاء بكونهم منظمي مشروعات سياسيين، أعني أولئك الذين تعتمد مشروعاتهم بالكامل على علاقاتهم بالسلطة وموظفيها، وعلى المحاباة والمحسوبيات التجارية، ولكنهم إذ يتجاوزون ذلك يتطلعون إلى أن يكونوا منظمي مشروعات سوقيين، أي يعتمدون على السوق ومنطقها، ويتخذون المزيد من المخاطر، ويقيمون الشركات اعتمادًا على قوتهم هم، ويعملون في استقلال عن النظام إلى أبعد حدٍّ ممكن. صفوة القول: إنهم ينشئون، عن وعي، سوق المستقبل الاجتماعية الكونفوشية.