فنج لون: سيد البنائين
لا يكفي أن تحدد المهام، وإنما يجب أيضًا أن تحل مشكلة وسائل تنفيذها. إذا كانت مهمتنا عبور نهر، فإننا لن نستطيع العبور من دون جسر أو قارب. وما لم تحل مشكلة الجسر أو القارب. فإن حديثنا عن العبور لا يتجاوز حدود الأحلام. وما لم نحل مشكلة الوسيلة أو الطريقة، فالحديث عن المهمة عبث.
وعندما التقينا، كان فنج لون مضغوطًا؛ لإنهاء مهام تمويل مجمع مكاتب جديد في بكين. وسبب ما يعانيه من ضغوط، أن البنوك الصينية امتنعت عن تقديم قروض لمشروعات مماثلة، نظرًا لما تعانيه سوق العقارات من تضخم. وبدأت بنوك الاستثمار الغربية تتراجع بعد مرحلة النشاط الواسعة، التي شهدتها الصين في مطلع التسعينيات.
ويبدو فنج غير قلق بسبب الضائقة المالية التي تهدد مشروعه الأكبر. رأيناه جالسًا فوق حشية صغيرة، داخل جناح لفندق شديد التواضع في بلازا بولي في بكين. حضر في لباس عادي: نظارة أنيقة ذات إطار أسود، وقميص مخطط مفتوح الصدر، وعلى الكم الأيسر علامة تميز صاحبه، وحذاء له رباطات سوداء، ويحمل في يده حقيبة صغيرة جلدية سوداء بسيطة، وهاتفًا خلويًّا. وهذان هما فقط المظهران الوحيدان اللذان ينمَّان عن ثراء وسلطة. ولم يكن معه مساعدون يحيطون به أو سكرتارية، ولا نداءات هاتف من صغار الأمراء الجدد، يدعونه إلى مباراة جولف أو هوكي.
كان المسار الوظيفي الذي اختطه فنج لون لنفسه، في البداية، بعيدًا كل البعد عن عالم التنمية العقارية وما يقتضيه من مجازفة. بدأ حياته على الطريقة النمطية كباحث شاب في الحزب الشيوعي، واحدًا من ألمع وأفضل الباحثين. وصعد من درجة باحث إلى أستاذ في النظرية الاقتصادية الماركسية اللينينية، بجامعة تخضع مباشرة لإدارة اللجنة المركزية للحزب. وفي منتصف الثمانينيات التقطه جاو جيانج رئيس الوزراء آنذاك؛ للعمل في لجنة الدولة المعنية بإعادة هيكلة النظام الاقتصادي، وهي من أقوى وأهم مراكز الفكر المعنية بتحويل اقتصاد الصين. وصل فنج ولم تكن لديه أي خطط للمستقبل، فيما عدا إنجاز الدور التقليدي للمثقفين في مجال «خدمة الصين»، والخدمة هنا تعني عمل بحوث اقتصادية مقارنة، ومحاولة إصلاح جهاز الحكم من الداخل، شأن أجيال من نخبة الباحثين قبله ثم وقعت واقعة ميدان تيان آن مين. وعلى عكس الحال بالنسبة إلى شن بنج، لم يختر فنج لنفسه القفز وسط مياه البحر، بل وجد نفسه مدفوعًا إليه.
كانت ضربة مروعة: رأى فنج، على أحد المستويات، افتراضاته السابقة، والتي تقضي، بأن مصالح الدولة — الأمة ومصالح الحزب الحاكم واحدة ومتطابقة — قد تهاوت وسقطت. ورأى على مستوًى أعمق أن خسارته لمنصبه تمثل خسارةً كبرى، في مجتمع علَّم الناس، من أمثال فنج، أن يذيبوا ذواتهم فيما يفعلون، وأن يجعلوا من مهنتهم إنجازًا وتحقيقًا لأنفسهم.
وبعد عامين، أي في عام ١٩٩١م، كان فنج مستعدًّا لكي يبدأ مسيرته، وعاد هو وخمسة من أصدقاء العمر إلى هاينان، وبدءوا معًا تأسيس شركة للتنمية العقارية، اتخذوا لها اسم فانتون، والتي تعني بالصينية «عشرة آلاف علاقة»، وهي عبارة صينية مبهمة ومثيرة؛ إذ تشير إلى معنيَين: أنهم يعرفون الناس الجيدين، وأنهم يجدون الفرصة متاحة حيثما ذهبوا وحيثما قصدوا، أن يكونوا حلقة وصل بين الناس والفرص. وهذا اسم كبير في الحقيقة بالنسبة لشركة رأس مالها لا يزيد على ٢٤ دولارًا من كل شريك، علاوة على ٢٤٠ دولارًا جُمعت بالجهد والشقاء من أصدقاء وأقرباء.
ولكن لماذا هاينان؟ قال فنج مفسرًا: بدا لنا أن بها شرطَين يجعلانها مثل أمريكا؛ أولهما أنها مثل فورة الذهب الأمريكية: حدود جديدة علمتكم كيف تقهرون الخوف؛ والسبب الثاني هو إحساس الشركاء بأنه في مثل هذا المناخ الحدودي، يستطيع الذكاء والمخ أن يكون لهما دورٌ فعالٌ شأن العلاقات. «إنك لو وضعت مثقفي بكين في الأوضاع الحدودية التي تميز هاينان، فإنك تستطيع أن تقهر كل شيء يصادفك، مثلما حدث في أمريكا»، وكانت هذه هي طريقة فنج في تصوير المسألة.
وساعدهم كذلك مصرفيٌّ في بنك محلي؛ إذ كانت بنوك الدولة، وحتى عام ١٩٩١م، قادرة على أن تعمل بنشاط في مجال الإقراض للقائمين على مشروعات التنمية العقارية. وعقد فنج صداقة مع الرئيس المحلي لبنك الصين، وقتما كان لا يزال في منصبه الرسمي في بكين. وكان هذا القرض، علاوة على رأسمالهم الضئيل جدًّا، كافيًا كمقدم ثمن لشراء مجموعة من الوحدات السكنية. وشمر الشركاء الستة، أصحاب شركة فانتون عن سواعدهم، وشرعوا في إصلاح وتجديد المباني السكنية بأنفسهم. وبعد فترة قصيرة أصبح بالإمكان بيع المجمع السكني لمالك جديد، كان في حاجة إلى الأرض، لإنشاء مكاتب فيها. لقد كانوا في المكان الصحيح، وفي الوقت الصحيح، وأثبتت هاينان أنها أحد المراكز المهمة للمشروعات العقارية. وأصبحت شركة فانتون، بفضل الربح الكبير غير المتوقع، ذات اسم بارز على الخريطة.
بعد ذلك، كرر فنج وشركاؤه العملية مرات عديدة، وفي كل مرة يدخلون التجربة، ويخرجون منها سريعًا، وقد تضاعفت سريعًا حصصهم في المغامرة. وكان مطلع التسعينيات سنوات ازدهار لسوق العقارات في الصين، وصعدت شركة فانتون، خلال هذه الظروف، إلى مكانتها الراهنة، وبلغت قيمة الشركة خلال أربع سنوات ٤٧٦ مليون دولار، ولها مكاتب في شنغهاي وبكين وشيان، علاوة على ١٣١ مليون دولار؛ لتمويل بناء مراكز تسويق، وأبراج مكاتب ومراكز للتكنولوجيا.
ورغبة في استكمال ذلك، سجل فنج أحد فروع شركاته — والمسمى شركة فانتون بكين المحدودة للصناعة — باعتبارها «شركة مساهمة مشتركة»، ويسمح له هذا الوضع ببيع حصص أسهم للشركات، وليس للجمهور العام. وباع حتى أواخر عام ١٩٩٥م حصص أسهم، بلغت قيمتها ٩٥ مليون دولار، أي ما يساوي تقريبًا ٦٠ في المائة من شركة فانتون بكين المحدودة للصناعة، تأسيسًا على قيمتها عام ١٩٩٤م. والجدير ذكره أن الغالبية العظمى لحائزي الأسهم في شركات فنج شركات مملوكة للدولة، وهي مجموعة متعددة التخصصات، تبحث عن الربح، فيما كان يعتبر ساحة نشطة للاقتصاد. ويعتزم فنج، شأنه في هذا شأن جانج وي، شراء كامل حصة حملة الأسهم فيما بعد. بحيث يستعيد سيطرته الكاملة. وقال لنا: «نحن نملك الآن أربعين في المائة»، «ولكن ما إن تتهيأ لنا القوة اللازمة، فسوف نسترد حصص الأسهم الباقية، وبعد أن يتحقق لنا هذا نستطيع عرضها على الجمهور؛ ومن ثم يدرج اسم الشركة ضمن كبرى شركات الأوراق المالية الأجنبية.»
تأمل فنج مسيرته الصاعدة: من باحث إلى واحد من أقطاب الملكية العقارية والمال والصناعة، وقال في تواضع واضح: «على مدى السنوات الأربع الأخيرة، لم نلتزم فقط بقواعد الاقتصاد، بل جاهدنا لبناء مشروعات أعمال.» لقد جاهد، شأنه شأن جانج وي وشن بنج، من أجل إنجاز كل هذه المشروعات من دون أي قدر، ولو ضئيلًا، من التدرب على إدارة الأعمال. وقال لنا: «نعم قرأت بعض الكتب العامة عن إدارة الأعمال الغربية والشرقية، بيد أنني أفضل القصص الصينية التقليدية، مثل قصة مغامرة أسرة بنج «طريدي العدالة والمستنقع». إن الشيء الذي حفزنا إلى النجاح ليس التدريب، بل معرفة موقع الثغرات داخل النظام وكيف نستثمرها.»
ولا يستطيع فنج أن يقنع بأمجاده ويبقى ساكنًا، إنه يعمل جاهدًا لاطراد نموه، ولو من أجل البقاء. ويقول: «إنه وقت صعب بالنسبة لنا، نحن محصورون معصورون بين جدارين؛ إذ نجد من ناحية سيطرة الحكومة، فرأسمال الدول يتمتَّع بمزايا خاصة، وإذا أراد شيئًا استطاع أن ينجزه كما يشاء، وبالطريقة التي يريدها. والجدار الثاني هو المشروعات الأجنبية والتغيرات التي يدخلونها على نظامنا، والتي تعني مزيدًا من المنافسة وأخطارًا جديدة.»
ويعرف فنج خط الأساس الذي لا نزول بعده: إذ لا تزال الحكومة تمسك بمفاتيح مستقبل شركة فانتون، ذلك أن فنج وأمثاله موجودون الآن، باعتبارهم نوعًا من الانحراف المفيد؛ ولهذا يكابد فنج لضمان بقاء واستمرارية شركة فانتون أطول فترة ممكنة. وتحقيقًا لهذا الهدف، يعمد إلى تنويع أنماط المشروعات وتوزيعها جغرافيًّا، علاوة على العمل في مشروعات يمكنها أن تمد جذورها عميقة في البنية الأساسية لتنمية الصين.
أما عن «جدار» المشروعات الأجنبية، فإن فنج يشير هنا إلى مفارقة مهمة وواضحة، تتمثل في واقع أن الحكومة تتخذ تدابير استثنائية لإغواء وتشجيع الشركات الأجنبية القائمة على أرض الصين، بينما تكاد بصعوبة تأخذ موقف التسامح، أو أكثر من ذلك قليلًا، مع المشروعات الصينية الأصيلة. وإن هذه السياسة، وجودة المنتجات الأجنبية المعروضة في السوق. وخبرة الإدارة، ومهارات التسويق، كل هذا يجعل الشركات الأجنبية قادرة على أن تجب وتحجب الشركات الصينية المنافسة.
ويعرف فنج لون أن الواجب يقتضيه أن يبدع ويجدد؛ لذلك عقد العزم على تجاوز النظام التقليدي لمشروعات الأسرة الصينية، وتحويل فانتون إلى اتحاد شركات حديث وشفاف على نحو كامل. ويتضمن هذا في نظر فنج برامج تدريب على الإدارة وحوافز، ويؤمن أيضًا بالرسائل التي تثير الإلهام والاهتمام. وتتضمن جريدة الشركة اقتباسات مثل «القانون الخالد في مشروعات الأعمال، أن الكلمات كلمات، والتفسيرات تفسيرات، والوعود وعود، ولكن الأداء هو وحده الحقيقة الواقعة ولا شيء سواه.» وأكثر من هذا، أن حقيبة مشتريات الشركة تحمل في زهو شعار الشركة: «الرجال العظام صناع أعظم النجاحات.»
ولا يحاول فنج الاقتداء بالمفاهيم الغربية، من منطلق التبعية والخضوع، بل إنه يقول: «هدفي أن ألتزم ثقافة الصين التقليدية، وأن أجد سبلًا جديدة لحل المشكلات.» مثال ذلك: أنه في الوقت الذي يؤمن فيه بضرورة مهارات التسويق الغربية للنجاح (إذ يسمحون لكم بالبقاء هنا كرواد)، هناك على الأقل مبدآن آخران لازمان للنجاح «ويتعين أن نهتدي إليهما في ثقافتنا نحن: كيف تستخدم النظام السياسي لمصلحتك، وكيف تتعامل مع الناس؟».
ولا يؤمن فنج بأن على الصين أن تختار لنفسها رأسمالية حرية العمل، إنه يأسى أشد الأسى، لأولئك الذين يؤمنون بأن الاشتراكية ينبغي أن تعني «كل ما يفيد ويحقق نتيجة»، فهذا — في رأيه — ضرب من الفكر الفوضوي، ويتعارض تمامًا مع ما كان الزعماء يعلمونه للشعب، ابتداءً من صن يات-صن، وحتى ماو تسي تونج؛ إذ بينما من المهم أن يصبح الاقتصاد كفؤًا وفعالًا، حري أن يبقي المجتمع منصفًا وعادلًا (على نحو ما يقترح الاشتراكيون الديموقراطيون في شمال أوروبا)، وأن يعامل الناس كأسرة واحدة كبيرة (مثلما هي الحال في تايوان واليابان). صفوة القول: إنها ستكون اشتراكية ذات خصائص صينية. وسألناه ماذا تعني هذه العبارة عنده؟ قال فنج: «الأسلوب الصيني للاشتراكية يعني زيادة فعالية الإنتاج، مع التقدم أخلاقيًّا في الوقت ذاته، إنها نوع من المثالية التي تجمع بين الرغبات الطيبة والوسائل العملية، التي تيسر التحولات التي تجعل حياتنا أفضل، إنها تخلق التناغم.»
ويصرح فنج بأنه سيكون من العسير إنجاز هذه المثالية في الحياة الواقعية. وعلى أي حال، فقد واجه انتقادات في هذا الشأن. «يظن بعض الشيوخ من الناس أنني رأسمالي، بينما يقول لي الشباب في شركتي إنني شيوعي ولست قويًّا بما فيه الكفاية لكي أتصدَّى للحكومة.»
إن محاولة خلق روح لتنظيم المشروعات داخل كيان اشتراكي، يشبه محاولة من يجري على حبل مشدود غير مستقر، تحت خيمة كبيرة، تلطمها رياح هوجاء تشد بقوة حبالها. وتستلزم عملية التوازن شجاعة كبيرة ورشاقة فائقة، والنتيجة غير مؤكدة.
(١) الدروس المستفادة من تنظيم المشروعات
الشيء اللافت للنظر في الصين، خلال النصف الثاني من التسعينيات، وجود مئات الآلاف من منظمي المشروعات، الذين لديهم الكثير من قصص البطولة لروايتها. إن جانج وي وشن ينج وفنج لون من الشخصيات التي تحقق تفوقًا في أي مجتمع، إنهم وآلافًا من أقرانهم، يخلقون نظام مشروعات الأعمال من أجل المستقبل، ويرسون الأساس لقطاع خاص.
وهؤلاء أفراد مركبون، إن حياة كلٍّ منهم ومشروعاته تحكي لنا الكثير عن عصر الفرص الذهبية، الذي حل بالصين. وإذا ما قارنا بينهم وبين نمط جديد من رجال الأعمال الصينيين الأجلاف الفاسدين الخبثاء الماكرين، الذين تشرَّبوا في نفوسهم سلطة الأجهزة الشيوعية، نجد أن من عرضنا صورتهم هنا، هم أكثر تمثيلًا لواقع الأعمال في الصين اليوم.
وهؤلاء هم من يتعين على الولايات المتحدة أن تشجعهم، سواء في مجال صفقات الأعمال التي تعقدها الشركات الأمريكية في الموقع، أو من أجل صياغة سياسة الصين. إن جانج وشن وفنج من النوع الذي يحفز عملية التغير في الصين، عن طريق تغيير جميع الأسس الاقتصادية والعلاقات الاقتصادية المهمة، التي تمثل ركيزة المجتمع. إنهم ربما لا يضعون أمريكا أمام أعينهم عند كل مسألة يتعرضون لها، غير أن مواقفهم كمديرين وكرجال أعمال، تجعلهم شركاء في توافق واتساق مع المصالح الأمريكية في مجال الأعمال. إنهم الرجال الذين سيوسعون ساحة الأسواق والحقوق الديموقراطية في الصين، خاصة إذا ما توافر لهم المناخ الاقتصادي والسياسي الملائم الذي يعملون فيه.
ومع هذا كله، فإن القصص الذي يحكونه يوضح أيضًا أن الرأسمالية التي يبنيها حتى أكثر الصينيين التزامًا بنظام المشروعات وأكثرهم نجاحًا، ليست بالضرورة من النمط الذي قد يتصوره الأمريكيون. وهذا شيء يتعين على سكان الطرف المقابل لنا في المحيط الهادي، أن يفهموه ويتعايشوا معه.
وإن أهداف وقيم النخبة الجديدة من أصحاب مشروعات الأعمال، أكثر تركيبًا وتعقدًا من مجرد الرغبة في تحقيق مجد الثراء. ويجب — بالمثل — أن يكون المناخ الذي يعملون فيه له «الخصائص الصينية»، التي قد تنطوي على قيود، مثلما تنطوي على فرص … وهي خصائص تغفلها مشروعات الأعمال الأجنبية مما يشكل خطرًا عليها.
بيئة يكون فيها «النظام» و«السوق» ليس فقط من الصعب الفصل بينهما، بل أن يبقيا متلاحمين ومتداخلين على نحو فريد
وها هو شن ينج يواجه مشكلة مثارة — وكما سبق أن حكينا — فقد تساءل شن متعجبًا ذات يوم: «لماذا لا يريد الأمريكيون عمل مشروعات إلا مع القطاع المملوك للدولة؟ لماذا مشروعات الأعمال مع الرسميين بينما يمكن إنجازها معي؟» إنه سؤال جيد، إذا عرفنا نزوع الشركات الأجنبية للانجذاب نحو المشروعات، التي تديرها الدولة، التي تعمل، بجد، على مغازلة وغواية الرسميين من أعلى المستويات.
إن منظم المشروعات الذي يشعر بأنه غريب، هو بقية من تراث مناهضة الرأسمالية، منذ عصر كونفوشيوس، ولكن المسألة ليست مجرد فكرة قديمة؛ إذ ثمة دراسة استقصائية قومية واسعة جرَتْ عام ١٩٩٢م شملت الشباب، وهم جيل من المفترض أنه تلقَّى الأفكار الجديدة. سألت الدراسة الشباب المشارك أن يذكر أسماء أهم الشخصيات التي تحظى بإعجابهم، اختار ٦٢ في المائة الزعماء الثوريين، واختار ٢٥ في المائة العلماء، واختار ٢٤ في المائة ممثلين ومغنين مشهورين، واختار ٤٫٦ في المائة فقط منظمي المشروعات، ولكن هذا الانطباع غرسه في الأذهان، وعززه نجاح الصينيين فيما وراء البحار، أي أولئك الذين هاجروا، وليس من بقوا داخل الصين.
اتجاه القيادة إلى اعتبار المشروعات الخاصة الكبيرة تكميلية، وليست جوهرية
نعم، هناك دور للمشروع الخاص في الصين؛ لأن الدولة وحدها لا يمكنها حل جميع مشكلات العمالة، وإن المنافسة مع الشركات الخاصة ستساعد مشروعات الدولة، لكي تزيد من كفاءتها، ولكن سيظل في الصين دائمًا مشروع عام ومشروع خاص، والجزء «الخاص» لا يعني بالضرورة ما يعنيه في الغرب.
مفهوم «الملكية»، الذي يظل غائمًا، ولكنه على ما يبدو ناجحًا، على الأقل، خلال فترة الانتقال
الأصول قد تكون تحت سيطرة أصحاب المشروعات، ولكن لا يمكن استخدامها حسب المشيئة. والمستثمرون في شركات منظمي المشروعات، وهي في الغالب الأعم شركات مملوكة للدولة، وتتطلع إلى تحقيق أرباح يفتقدها قطاع الدولة. ونجد عند أحد الطرفين بعض الشركات الخاصة، لا تزيد أحيانًا عن كونها منافذ شرعية للمضاربة، ويرعاها مسئولون من قطاع الدولة لتحقيق مآرب «خاصة». ونجد عند الطرف الآخر عددًا من الشركات الجديدة التي تدار إدارة جيدة، ولكنها تعاني — مع هذا — نزيفًا مستمرًّا للنقد الحر، الذي يتعين دفعه ثانية إلى الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى التي أنشأتها.
ويدور في كل أنحاء الصين نقاش حول «سؤال الملكية» بجانبه الفلسفي الجذاب: من الذي يملك الأصول ورأس المال الذي خلقه منظمو المشروعات الفرديون، ولكن مع استثمار أولي من مؤسسات الدولة؟ كيف يمكن أن تكون الأصول الرأسمالية قابلة للمتاجرة؟ ما الذي يمكن بيعه، وما الذي يمكن شراؤه، ومن الذي يبيع ويشتري؟ وغالبًا لا نجد إجابة رسمية، وأصبحت «الخصخصة» كلمة طنانة رائجة في أواخر ١٩٩٧م، تأسيسًا على إصرار الخبراء الغربيين على أن الصين في حاجة إليها، ثم قادة الصين يرددونها ويتحدثون بعبارة متباينة رهن تأويلات مختلفة، ولكنَّ ثمة شيئًا واحدًا واضحًا عن الخصخصة بالأسلوب الصيني: أنها ستكون بطيئةً ومعقدةً ومتعددة النكهة والأشكال.
إن الإجابات الحقيقية عن سؤال الملكية لن تكون معروفة لفترة زمنية قادمة. وسوف تظل المرونة خلال الفترة الحالية على نحو ما رأينا بالنسبة لمنظمي المشروعات، الذين عرضنا لهم، هي السمة العامة المميزة لمن يضطلعون بإنشاء إمبراطورياتهم الكبرى، قرين قدر كافٍ من الدهاء السياسي، حتى يتسنى لهم مواصلة جني ثمار جهودهم.
حكومة مستمرة في موقفها من حيث إنها تفضل التعامل مع شركات أجنبية كبيرة وقوية، أكثر مما تريد المخاطرة بظهور شركات صينية خاصة قوية، أو حتى شبه خاصة
مسموح للشركات الأجنبية في الصين بأن تعمل كل شيءٍ يجد منظمو المشروعات الصينيون مشكلات وصعوبات عند عمله، ابتداءً من شراء حصص في مشروعات الأعمال، وحتى اقتراض النقود. وليحاول المرء أن يتأمل في قصص نجاح منظمي المشروعات الصينيين من أمثال شن بنج، سيجد دائمًا أن الوصول بالشركة إلى حجم كبير، استلزم عمل مشروعات مشتركة مع رجال أعمال من هونج كونج أو غرباء آخرين. ولم يكن السبب لمجرد أنهم في حاجة إلى شركاء للتمويل أو الإدارة بل، فقط، لأن مشروعات الأعمال «الأجنبية» مسموح لها بعمل ما كانوا هم، كمواطنين صينيين، يريدون عمله في بلدهم.
وإنه لأمر يدعو إلى السخرية تمامًا، أن الصينيين، ذوي النزعة القومية، ينكرون على شعبهم الفرص التي يعرضونها بشكل روتيني على الأجانب، ولكن هناك ما هو أشد وأنكى في مجتمعٍ يضفي أهمية كبرى على النماذج ذات الدور الفعال؛ إذ إن النظام الصيني حين يجعل من الصعوبة بمكان أن يصبح المرء منظم مشروعات ناجحًا، فقد انتهى إلى أنه يكافئ ويثري ما كان يبدو في وقت سابق أشبه بمجموعة متنافرة غير متطابقة؛ ذلك أن بعض الأثرياء الجدد في الصين اليوم، ليسوا على حظٍّ متميزٍ من التعليم، وليسوا بالضرورة أصحاب أحلام تتعلق بإدارة مشروعات أعمال، ولا يشبهون — في كثير أو قليل — جانج وشن وفنج. إن بعضهم مجرد ناس كانوا على هامش المجتمع، وليس لديهم ما ينقدونه. واقتنصوا الفرصة حين رأوها متاحة لهم — خاصة خصخصة العقارات — وبدءوا، منذ ذلك الحين، وهم يضاعفون أرباحهم الأولى، التي أتتهم سهلة سريعة.
الانحياز للكيانات وليس للأفراد كمنظمي مشروعات
إن خط الحكومة، بشأن تطوير شركات كبيرة مملوكة لأفراد، هو أن الصين «ليست مستعدة»، وهذا صحيح تمامًا، ولكن من الصعب تجنُّب إدراك أن ظهور طبقة قوية من أصحاب الأعمال، تراه السلطة تهديدًا للنظام وللاستقرار، وللحفاظ على السلطة الشيوعية. وواضح أن النظام، في أواخر القرن العشرين، يهتم اهتمامًا ضئيلًا بالشروع في ثورة برجوازية، لم يكن لها وجود أبدًا في الصين؛ إذ إن هذا، لو حدث، يعني المخاطرة بخلق طبقة رأسمالية، ستكون لها، في النهاية، مصالحها الخاصة، وتشكل قاعدة قوة خاصة بها، وهذا هو، تحديدًا، ما يأمل الأمريكيون أن يروه في الصين.
الحرية التي يلتمسها منظمو المشروعات لتوسيع آفاقهم الاقتصادية لا يمكن ترجمتها، بالضرورة، إلى رغبة في التمتع بحرية سياسية، حسب الطريقة المفترضة عند الأمريكيين
إن منظمي المشروعات — حتى مَن يعتبرون أنفسهم غرباء، ويشكون مرَّ الشكوى من أجل أن تبقى الحكومة بمنأًى عن مشروعاتهم — يتجنبون عادة التورط في جدول أعمال مفتوح؛ لتغيير نظام الصين السياسي. وإن أصحاب الأعمال هؤلاء — ربما أكثرهم من أبناء الجيل الثاني من القادة — ينشدون، بشكل جادٍّ، قيام مجتمع أكثر انفتاحًا، وأغنى بما يوفِّره من حقوق، ومن مؤسسات جديدة، ومجموعات قوانين، كفيلة بأن تحميهم هم ومشروعاتهم، ولكن حتى شن بنج، أكثر منظمي الأعمال حرية، سوف يتفق — دون شك — مع ما قاله لنا فنج لون؛ إذ قال: «نحن لا نختلف بشأن النموذج الأشمل، نحن نريد فقط إصلاحه، وليس عمل ثورة ضده.»
علاوة على هذا، فإن كل واحد من كبار منظمي الأعمال، الذين تحدثنا إليهم على مدى سنوات، إنما يتطلع إلى إقامة شركة من نوع جديد: شركة الأسلوب الصيني لا الغربي. ثمة نمط للملكية يوحي بنوع من رأسمالية الدولة، ونظام قيمي يحاول دمج تقنيات الإدارة الغربية في نموذج شامل لشركة «صينية». ويقول فنج لون في هذا الصدد:
نحن لا نتبنى النموذج الأمريكي، حيث المنافسة هي كل شيء، وكل علاقة هي علاقة قانونية (أي محكومة دائمًا بعقد)، نحن نريد علاقة مغايرة بين الناس؛ للحفاظ على مسار أخلاقي، ولإيجاد توازن طبيعي بين الناس والمجتمع. يتعيَّن التأكيد على الكفاءة، ولكن يتعين علينا، في الوقت ذاته، أن نُعنى بالتنوع والنزاهة.
كل ما أسلفناه، هو جزء من بحث إبداعي، وإن بدا في الغالب حذرًا وجلًا لتصميم نظام اقتصادي سياسي يلتزم «طريقًا ثالثة». ومثلما أن منظمي الأعمال يريدون أن يروا فطيرة أكبر، ولكن يستمر تقسيمها بنزاهة، كذلك فإن صناع السياسة الصينيين يودون أن يروا رواد الأعمال المتحمسين والموهوبين من رجال المستقبل، وقد ظهروا من بين المشروعات المحلية ومعامل الجامعة الجمعية المملوكة ملكية خاصة. ويودون كذلك أن يروا الشركات القومية أو المملوكة للمقاطعات، وقد أنشئت بفضل استثمار الدولة، بل وأن يروا مشروعات مشتركة مع شركات أجنبية. ويسود اعتقاد بأن هذا العمل الجيد، من جانب القادة، سوف يحقق الثراء والكثرة، لا القلة. وإن تحويل الشخصيات المعنوية، لا الأفراد، إلى منظمي مشروعات، من شأنه أن يكفل حسًّا بالتلاحم الاقتصادي، علاوة على إمكان تحاشي المخاطر المقترنة بقوة وسلطة طبقة اقتصادية حقيقية مؤلفة من الأفراد. أو هذه هي على الأقل النظرية.
ويمكن أن نجد خبرات مماثلة، وبدرجات متفاوتة، في اليابان وسنغافورة وكوريا وتايوان، وفي أماكن أخرى من آسيا. إن رغبة الصين في أن تملك نظامًا للمشروعات من دون منظمين للمشروعات، وملكية من دون ملاك، واقتصادًا من دون ديموقراطية — حسب الأسلوب الأمريكي — ليست تناقضًا أو جمعًا بين متناقضات كما يتراءى للغربيين، وإنما على العكس؛ إذ ينبع هذا من طبيعة سياق القيم الآسيوية، والمبادئ الكونفوشية وتاريخ الصين.
ولكن السؤال عما إذا كان منظمو المشروعات الصينيون يمكنهم أن يحققوا هذا كله معًا — مزيج من الثقافة الصينية والاشتراكية المستنيرة، واقتصاد سوق حرة فعال — لا يزال سؤالًا بغير جواب؛ ذلك لأن دور السوق والقطاع الخاص لا يزال لغزًا حتى الآن داخل لغز اشتراكي. إنه سياحة في إطار التاريخ، بدلًا من قفزة إلى داخل رأسمالية العلاج بالصدمات، إنه، في الغالب الأعم، وكما قال جانج وي: «فرصة لمرة واحدة في التاريخ.»
ربما يكون هناك شكٌّ محدود، في أن نجاحهم جزء من مصلحة أمريكا، ولكن، حتى لو لم تكن رؤيتهم متطابقةً مع رؤية غربية، فإنها شيء يمكن للأجانب أن يفهموه ويتعايشوا معه، على نحو أفضل من الرؤية العامة الرئيسية، لدى الأوساط الرسمية في بكين، ولكن تعزيز وتقوية هذه الجماعة البازغة، في مجال تنظيم المشروعات، يستلزم ارتباطًا لا معارضة من جانب أمريكا. إنهم جديرون بالاهتمام والاحترام والإعجاب والدعم من مشروعات الأعمال الأمريكية، وليس كما يوحي الصقور، وخزهم بالتفسيرات المعنوية المناهضة، أو بالعقوبات التجارية والقيود السياسية.