السنوات الخمس القادمة التنين في الوطن
(١) طقوس الانتقال: الصراع على الخلافة بعد دنج (١٩٩٨–٢٠٠٢م)
إن ما يريد أن يعرفه أي إنسان عن مستقبل الصين الآن هو: ما الذي ستتمخض عنه عملية انتقال السلطة بعد دنج هسياو بنج؟ وما المسار الذي سيلتزمه جيانج زيمين والقادة الآخرون بشأن القضايا الحاسمة في السياسة والاقتصاد؟ وكيف سيؤثر هذا كله في مصالح الأعمال على الصعيد الدولي، وكذا في ميزان القوى الكوكبي؟
لقد انتهَت «حقبة دنج» في الحقيقة قبل وفاة «القائد المبرز» في فبراير (شباط) ١٩٩٧م. وكان ثمة صراع على الخلافة طوال التسعينيات بين زعماء متعددين وفرق متباينة استبقوا وفاة دنج. وإذا كان المؤتمر الخامس عشر للحزب وضع اسميًّا خاتمه ليعلن موافقته على القيادة الراهنة في سبتمبر ١٩٩٧م، فإنه، وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الصراع مستمرًّا يسري داخل النظام. وطبعي أنه في حالة عدم وجود سيادة حقيقية للقانون، وغياب الهياكل الشفافة ذات التكوين المؤسسي للحوار وتنفيذ السياسة، يكون الصراع على الخلافة، وبدرجة كبيرة، هو أعلى أشكال الحوار السياسي، وسوف يستمر، على الأرجح، بصورة أو بأخرى لسنواتٍ عديدة قادمة.
تحدى جيانج زيمين التوقعات الأولية وكان له النصيب الأوفى والأفضل دون الجميع. شغل جيانج قبل ذلك منصب عمدة شنغهاي، قبل أن يستدعيه دنج إلى بكين عام ١٩٨٩م؛ للإشراف على أعمال الدعاية عندما تفاقمت حدة التناقضات التي أفضت إلى أزمة تيان آن مين. وظلَّت يدا جيانج زيمين، على خلاف لي بنج، مبرَّأتَين اسمًا من أي مشاركة مباشرة في سفك الدماء في كارثة تيان آن مين، وعلى الرغم مما يبدو في الظاهر من أنه كان خارج دائرة صنع القرار المباشر، فإنه يقينًا لم يكشف عن أي بادرة تنمُّ عن أنه مختلف مع المبدأ الأساسي السياسي.
واعتقد قليلون من الأجانب، وأقل منهم من الصينيين — خلال مطلع التسعينيات — في أن جيانج أخذ نجمه في التصاعد متطلعًا لتولي قيادة الصين ليظهر كأول خليفة لدنج. وكشف استطلاعٌ للرأي بأنه لو أجريت انتخابات حرة على الرئاسة، فإن الشعب الصيني ربما يصوت لانتخاب نيلسون مانديلا أو بيل كلينتون بنسبة أصوات تزيد على أصوات جيانج زيمين بهامش عشرة في المائة، ولكن جيانج استثمر وجود دنج الباهت البطيء زمنًا؛ وأحكم قبضته على السلطة، وهكذا استطاع أن يقود عملية انتقال أكثر استقرارًا مما توقع كثير من الغربيين.
وإذا نظرنا إلى جيانج نظرة تقييم مجردة تأسيسًا على ما جمعه من ألقاب ومناصب، نجد أنه الصيني الأكثر قوة في التاريخ الحديث؛ إذ إنه يعمل في وقتٍ واحدٍ رئيسًا للحكومة، وأمينًا عامًّا للحزب الشيوعي، ورئيسًا للجنة الشئون العسكرية ذات النفوذ القومي، ولكن جيانج في الحقيقة ليس بالقوة التي توحي بها ألقابه. إن مجرد حاجته الشديدة للألقاب دليل على ضعفه النسبي. هذا على عكس دنج هسياو بنج في ضوء شائعة تقول إنه كان فقط نائبًا لرئيس الوزراء خلال أكثر سنوات نشاطه حمية وحماسة، واعتبر نفسه بعد ذلك «متقاعدًا» لا يحمل لقبًا رسميًّا، حتى على الرغم من أن الجميع ظلوا ينظرون إليه باعتباره قائد الصين الحقيقي خلال سنوات مرضه الأخيرة.
ولعل قدرة جيانج على تشكيل تحالفات وحلفاء خلف المسرح، هي أكثر النتائج نجاحًا للخطة الرئيسية التي وضعها دنج للصين لما بعد الوفاة. وإن خبرة دنج على مدى سبعة عقود من اللف والدوران في الصراع الداخلي للحزب أقنعته بأن نظام الرجل القوي الأوحد الشبيه بالإمبراطور، والذي كان سائدًا قديمًا، نظام غير عملي بالنسبة لعملية تحديث الصين على المدى الطويل، بل وربما خطر عليها، ووضع حلًّا لهذه المسألة تمثَّل في تحديد اثنَين للخلافة ونظام للمراقبة والموازنة وسط الدوائر الداخلية للسلطة. وإذا ترك جيانج العناصر الحقيقية الملائمة في السلطة — مع الخصوم الحقيقيين — أصبح ضامنًا لإمكان كبح نزوع أي قائد أو فريق إلى التجاوز والتطرف، وبذلك يمكن الإبقاء على الصين في مسارٍ معتدل بعامة. وإن أوضح دليل على هذا هو مثال لي بنج، الذي اعتبره كثيرون من المثقفين، ليس فقط شخصية غير محبوبة، بل وأيضًا منافسًا خطيرًا لجيانج. وتقضي الحكمة التقليدية بأن يتخلص جيانج من لي في أثناء المؤتمر الخامس عشر المنعقد في سبتمبر ١٩٩٧م، ولكن على خلاف جميع التوقعات التي رشحت لي للخروج، احتفظ لي بمنصبه الرفيع في المكتب السياسي، وأصبح رئيسًا لمؤتمر الشعب القومي الذي تتزايد قوته في مارس ١٩٩٨م بعد أن انتهت فترة رئاسته للوزارة.
وربما يثبت جيانج أنه مناسب تمامًا إزاء القواعد الجديدة للعبة السياسية التي يريد أن يصل إليها تدريجيًّا وبذكاء، وهي من نوع حكم الرجل الواحد الذي سعى دنج لإنهائه. بيد أننا لا نرجح هذه النتيجة، والشيء المحتمل، بدلًا من ذلك، هو أن أسلوب العمل الحذر والبطيء سعيًا للحفاظ على التوازن وضمانًا لبقاء السفينة الصينية طافية، سوف يفرض قدرًا كبيرًا من الاعتدال بحيث تعجز حكومة بزعامة جيانج عن معالجة مشكلات الصين الكبرى في الاقتصاد والسياسة. وهذا ليس من شأنه فقط أن يزيد تلك المشكلات تفاقمًا وتعقدًا، بل يفضي في النهاية إلى حدوث انفجار ضد جيانج.
ونحن نرى أن هذا السيناريو محتمل ليس مرجحًا. وسوف يتمكن جيانج وزمرته من أن يؤدوا المهمة بنجاح بالنسبة للتنمية الاقتصادية والتحسن المطرد في نوعية الحياة، ومواصلة عملية التوازن الدقيقة والحرجة لسنوات أخرى عديدة. وتجري في الوقت ذاته عملية تطوُّر معارضة منظمة، ولكنها مستأنسة وتسعى من أجل اتباع سياسات اقتصادية أكثر ديناميكية مع تطبيق خطة سياسية أكثر ديموقراطية، ولكن يبدو أن الحاجة إلى التعامل مع هذه القوى، وما سوف يترتب عليها من مظاهر تنفيس وتخفيف، لا بد لها من الانتظار حتى منتصف العقد التالي، أو بعده بقليل.
وإن النهج الصحيح لتقييم مستقبل الصين هو أن نركز على العملية الجارية والنتائج النهائية، وليس على الشخصيات، ذلك أن الشخصيات السياسية في أي بلد من البلدان يمكن أن تعرض مشاهد مثيرة بالنسبة للقضايا موضوع الحوار. ويحدث أحيانًا أن ينتهي الأمر بهم بعد الانتخابات إلى تنفيذ سياسات مغايرة إلى حد كبير للمبادئ التي أعلنوها في أثناء الحملة الانتخابية. وطبعي أن الشخصيات الصينية ليست استثناءً من هذا، ويتمثل الفارق الكبير في الطبيعة الغامضة للنظام الصيني، والكلمات الملغزة والمتعددة الألوان، والتي يتحدث بها حتى أقوى القادة؛ مما يجعل من الصعب على الأجانب فهم من هو هذا، وما الذي يقصدونه ويدعون إليه حقًّا وفعلًا.
ويمارس بعض النقاد ضغوطًا على جيانج زيمين؛ لكي يضع حدًّا لممارساته التي تنزع إلى حشو القيادة برفاقه من شنغهاي. وإزاء هذه الضغوط أعطى جيانج إشارة الموافقة إلى هو لكي يؤيد الفكرة الداعية إلى أن يكون القادة الجدد من مجالات جغرافية وجماعات سياسية متباينة، وهو المبدأ المستمد من الحكمة القائلة: «خمس بحيرات وأربعة بحار»، ولكن لم يتضح بعد إذا كان «هو جيانتو» ظهر في الحقيقة كقائد رفيع المستوى، أم أن هذا الطراز من السلطة يظل أساسيًّا بين أيدي أولئك الذين ظلوا على صلة مباشرة مع جيانج لأجل أطول.
ونحن نتنبأ بأن القدر الأعظم من اتجاهات السياسة الراهنة في الصين سيظل نافذًا بدرجة أو بأخرى حتى وإن تغيرت القيادة الفعلية، وكشفت عن واقع الصراع داخل الحزب؛ إذ على الرغم من وجود اختلافات موضوعية داخل القيادة اليوم، وعلى الرغم مما يتجلى واضحًا أكثر فأكثر من تشكل معسكرات من «المحافظين» و«الوسطيين» و«الليبراليين» وغيرهم، فإن هذه المعسكرات يجمعها اتفاق عام بشأن الكثير من المسائل التي يراها الأجانب المؤشرات الرئيسية الدالة على اتجاه السياسة. والملاحظ أنه لا يوجد فريق داخل القيادة العليا راغب في أن يغلق الباب تمامًا أمام الاستثمار الأجنبي كمثال. ولا يوجد فريق يؤمن بأنه قادر على تحويل اهتمام الصين بعيدًا عن النمو الاقتصادي والتحديث، والعودة إلى السياسة والأيديولوجيا، ثم يبقى في السلطة. إن كل عضو من أعضاء القيادة الصينية يدرك جيدًا أن السلطة السياسية والاستقرار كلاهما الآن رهن توفير السلع اقتصاديًّا، وليس فوهة البندقية (أو حملة سياسية جماهيرية).
ولكن وجود هذه المساحات العريضة من الاتفاق لا يعني أن لا قيمة أو وزنًا للزعماء السياسيين الأفراد ولفلسفاتهم أو شخصياتهم. إنها في الحقيقة أكثر أهمية الآن خاصة مع اتساع مدى الآراء المقبولة، وبعد أن أصبحت القضايا التي يتعين التصدي لها غير مسبوقة، ونشوء جماعات مصالح سياسية «عادية».
إن المشاهد السياسية الصينية المتعاقبة خلال القرن العشرين بدت في الغالب فوضوية عنيفة ودموية. والحقيقة أن القرن العشرين — ابتداءً من حكام الأسر، ثم القوميين فالثوريين — لم يسجل تحولًا واضحًا في السلطة، جرى سلسًا في هدوء. ويتعين على جيانج للتغلب على لعنة التاريخ هذه، والحفاظ بقبضته المحكمة على ركائز السلطة أن يعمل بدأب ومثابرة وبشكل متواصل من أجل تقليل الخصوم إلى أدنى حد ممكن، وتهميشهم، وأن يلحق بهم الهزيمة بمناورات بارعة. وهذا هو ما يتسق مع أسلوبه الذي اتبعه على مدى السنوات الأخيرة، وإن أقوى الجماعات المتطلعة للسلطة الآن تضم:
وسوف تكون إدارةُ جيانج زيمين أنزع إلى الائتلاف أكثر مما كانت عليه الحكومة في عهد دنج. وسوف تظهر بعض القوى والأصوات المعبرة عن اتجاهات فكرية مختلفة، ومراكز قوى داخل القيادة الشيوعية. وواضح أن مهارة جيانج تتمثل في المساومة بين هذه الصفقات والحفاظ على حركة الجهاز في مجموعه، وحتى وإن لم يبلغ أقصى سرعته. وحسب هذا المعنى نقول إن الصين في سبيلها لكي تصبح بلدًا «عاديًّا سويًّا»، إنها سياسيًّا تتحول ببطء إلى بلد لديه القدرة على التسامح واستيعاب بعض مظاهر الاختلاف (المتواضعة) داخل صفوف القيادة، دون استثارة حملات تطهير أو نقد جماعي أو أعمال عنف.
(٢) كيف سيشكل فكر جيانج السنوات الخمس القادمة؟
إذا كان جيانج عاجزًا عن الالتزام بوعده في مواجهة وحل المشكلات الكبرى، مثل البطالة والفساد، فإن هذا يعني أنه يواصل النهج القديم الراسخ في السياسة العامة الصينية: إعطاء الأولوية للنظام، والاستقرار على مطلب التقدم في إعادة بناء الإطار السياسي والاجتماعي للبلاد، بيد أن هذا النوع من «النظام» و«الاستقرار» يعني العودة إلى معضلة البدائل بين مشكلات يتعذر حسمها. إن مشكلات الصين يمكن أن تزداد وتتعاظم، ويمكن أن يتأخر نموها، وقد تتضاءل عدالة توزيع ثمار رخائها شيئًا فشيئًا باطراد. وهنا سيتزايد النقد ونزعات الانشقاق والمعارضة في مواجهة جيانج، وسوف يحاول احتواءها عن طريق إصلاحات ارتجالية للعلاج المؤقت وعمل تغييرات إدارية، وربما الاندفاع في اتجاه التحالف مع القوميين الجدد والتقليديين، وربما أحيانًا مع دعاة مناهضة الغرب. وهذه جميعها لا تصلح وصفة من أجل كفالة نظام واستقرار حقيقيَّين.
ومع تحوُّل جيانج من ناحية أخرى إلى شخصية تحظى بقدر أكبر من الثقة والمنعة الرئاسية؛ فقد يصبح قادرًا على إنجاز بعض المبادرات الجريئة التي تحدث عنها أو ألمح إليها؛ على نحو ما فعل في ندائه أمام المؤتمر الخامس عشر للحزب، حين وعد بمزيد من الحلول المرنة بالنسبة للمشروعات المملوكة للدولة (بما في ذلك البيع أو التفكيك أو خصخصة الآلاف من المشروعات). وإذا أضيفت إلى جيانج بصيرة جو رونجي، فإن هذا قد يعوض جيانج افتقاره إلى «البصيرة الواضحة»، وهو ما يقلِّل من مصداقيته. ويمكن حينئذٍ أن تنطلق مسيرة أكثر جرأة على طريق الإصلاح الاقتصادي، وربما، ومع استيلاء جيانج على أعلى مناصب الحزب، فإنه ربما يجري بحذر شديد تخفيفًا للمبادئ الشيوعية التقليدية. وقد تشتمل هذه الإصلاحات على منح المقاطعات والدوائر الانتخابية المختلفة مزايا جديدة من حيث حقوق التصويت وتوسيع نطاق الانتخابات على مستوى القرية والمستوى المحلي.
ونحن نتوقع أن يستمر النهج المتبع اليوم: وهو من ناحية نهج إيجابي، ولو أنه إصلاحي كمي تدريجي. وهو من ناحية أخرى قدر من التوسع المستمر في الديموقراطية النيابية بالانتخاب على المستوى المحلي، مع رغبة محدودة جدًّا في مواجهة مطلب الإصلاح السياسي عند القمة. ونعتقد أن جيانج يمكنه أن يواصل عملية التوازن هذه بنجاح لفترة قادمة، وفي تقديرنا أنه وفريقه سيكون بإمكانهم الحفاظ على الوضع القائم حتى نهاية عام ٢٠٠٠م، على أقل تقدير، وربما إلى حين انعقاد المؤتمر السادس عشر للحزب عام ٢٠٠٢م.
وعلاوة على هذه الحجج السياسية رفيعة المستوى، من المحتمل حدوث درجة ما من الاضطرابات العامة في شكل إضرابات أو أحداث شغب أو تظاهرات، ولكننا لا نتوقع أحداثًا على غرار أحداث ميدان تيان آن مين في عام ١٩٨٩م، ناهيك عن وقوع أحداث عنيفة عارمة مثل الثورة الثقافية.
وفي ضوء التاريخ ومدلولاته، نعتقد أن جيانج زيمين سيكون موضع ثقة ومصداقية للنجاح في الخروج بالصين من المياه الخطرة، التي تجمعت خلال فترة الانتقال بعد دنج. وكذا النجاح في صوغ مثال — وإن بدا إشكاليًّا — لأول خلافة تتم في سلام، وتحقق تطويرًا سياسيًّا في الصين الحديثة، وإن المشكلات التي ستتراكم خلال هذه الفترة سوف تخلق أيضًا الظروف اللازمة لتغيرات حقيقية وضرورية، عندما تئول السلطة إلى قادة المستقبل بعد عام ٢٠٠٠م.
(٣) ماذا بعد جيانج؟
إن نوع التغير السياسي والاقتصادي الدرامي الذي يأمل فيه كثيرون في الغرب، والذي تحتاج الصين في النهاية إلى المشاركة فيه بدرجةٍ ما؛ مرتبط أوثق ارتباط بالتغير بين الأجيال. وسوف يستلزم أكثر من بضع مبادرات سياسية قليلة؛ إذ سيمتد أجيالًا إلى أن تتغير الصين.
والمعروف أن ماو تسي تونج، وشواين لاي، وجو دي وزملاءهم من الثوريين الذين أسسوا جمهورية الصين الشعبية عام ١٩٤٩م، يعتبرون جميعًا «الجيل الأول» من القادة. وبدأ هؤلاء الآباء المؤسسون بناء الحزب وتأسيس جيش، وشاركوا في المسيرة الكبرى، وحضروا اجتماع ميدان تيان آن مين في أكتوبر عام ١٩٤٩م، عندما أعلن ماو انتصار الثورة بكلماته المشهورة: «الآن تقف الصين شامخة.» وهؤلاء الرجال، مثلهم مثل قادة أقوياء آخرين في عصرهم — روزفلت وديجول وتشرشل — تميزوا جميعًا بالقوة والشخصية الزعامية الجذابة «الكاريزمية»، وكانوا أكبر من الحياة. حنكتهم المعارك، وصهرتهم الحرب والثورة، وكانوا ذروة القوميين المحدثين، وركزوا اهتمامهم على رؤًى وآمال عظام هدفها التقدم بمصالح أمتهم. كذلك كان ماو ومعاصروه مثل نظرائهم من قادة الغرب في الحرب العالمية الثانية يستمدون سلطتهم من نجاحهم في قيادة شعوبهم، من أجل تحديد خبرات الحقبة الحديثة وخلاص البلاد، ولن يظهر لهم مثيل في المستقبل القريب.
ووضح دنج هسياو بنج بنفسه — عن وعي — ضمن «الجيل الثاني» من قادة الصين، على الرغم من أنه يشارك الجيل الأول في العمر والخبرة من نواحٍ كثيرة. ويرجع هذا جزئيًّا إلى وازع الاحترام لماو (كان دنج يصغره بأحد عشر عامًا)، ولكنه كان يريد أن يباعد بينه وبين الرئيس: لقد شاء أن يضع نفسه في صورة من اختاره القدر لإصلاح وتحسين النظام الذي بدأه ماو، وكان دنج هو «العم» المتشدد أكثر منه «الأب» المحبوب والكاريزمي. وأصبح بهذه الصورة أول زعيم صيني جمع بين الوضع التاريخي المواتي، والعقل المنفتح تمامًا للتأمل الجاد في كيف يفتح أبواب الصين للعالم وللحداثة.
أما جيانج زيمين وأقرانه فهم «الجيل الثالث» من القادة، ربما شاركوا في ثورة الصين عام ١٩٤٩م، ولكن فقط كطلاب أو فتيان، إنهم ليسوا أبطال حرب، بل من بقوا بعد جولات التطهير المتعاقبة، وصراعات الحزب الداخلية: يتمتعون بالقدر اللازم من التعليم الأساسي والمهارات، وإن كثيرين منهم، مثل جيانج، مهندسون تخرجوا في الجامعة، ولكنهم على عكس دنج الذي سافر إلى فرنسا شابًّا ثوريًّا طالبًا للعلم واحتفظ في ذاكرته بعد ذلك إلى الأبد، ليس فقط بحب فطائر الكيرواسان، بل وبفهم حقيقي للعالم الخارجي، بينما الخبرة الأولية «العالمية» لدى قادة الجيل الثالث كانت ثقافتهم السوفييتية.
إنهم بوجه عام يتمتعون بعقول نشطة، ويمكنهم قبول الجديد بسهولة على نحو ما قال أحد المحللين الصينيين في تعليق له في صحيفة «جوانمنج ريباو»، ولكن سنوات التكوين قضوها داخل الصين المغلقة، حيث الأيديولوجيا هي الملك، وإن السياسة الوحيدة التي يعرفها الجيل الثالث هي سياسة الفكر الماركسي-اللينيني-الماوي، ويدركون أن هذا التراث غير وثيق الصلة — إلى حدٍّ كبير — بمستقبل الصين، ولكنهم لا يملكون رؤية رحبة وواضحة عما يضعونه بديلًا عنه. وتعلموا إذ قدر لهم البقاء بعد الثورة الثقافية، أن يكونوا حذرين، يتطلعون إلى ما وراء ظهورهم، وأن يقفز كلٌّ متجاوزًا الآخر للصعود على درج السلم: حسب وصف مراقب صيني.
إن جيانج ومعاصريه آلت إليهم الهيمنة على السياسة بحكم السن والأقدمية، ولكن تسود على نطاق واسع نظرة مؤداها أن هذا ليس إلا جيل قادة «مؤقتًا» و«مستعارًا»، يفتقر إلى كلٍّ من الرؤية الخاصة به، كما تعوزه السلطة للإنجاز.
إن بعض شخصيات الجيل الثالث يمكنهم، وهذا أمر محتمل، أن يقوموا الآن بدور تاريخي لهم، مثال ذلك جو رونجي لديه فهم برؤية، وحدد معالم خطة لتغيير درامي، ولكنه، وعلى الرغم من وضعه الرئاسي الرفيع، يجد نفسه أسير خطوات محدودة المجال. وحدث أن عبر جو لبعض الزوار الأجانب عن قدر كبير من الأفكار الاقتصادية الجريئة، بل والأكثر جرأة مما اعتاد أن يفصح عنه علانية في الصين، أو حاول تنفيذه.
و«الجيل الرابع» هو الجيل الذي يتولى الآن إدارة البنوك والمؤسسات المالية، ويشغل مناصب المحافظين أو عُمَد المدن، وينتشر أبناء هذا الجيل في مختلف مراكز الفكر والوزارات والشركات الصينية الجديدة في الداخل والخارج. وهؤلاء في العقد الرابع أو الخامس من العمر، ومن المقدَّر لهم أن يشغلوا مناصب رئاسية في هيكل السلطة خلال العقد القادم. وينزعون إلى الاعتقاد بأن الإصلاح السياسي أمر حاسم من أجل مستقبل الصين، بيد أنهم يعرفون أيضًا ويفهمون أسباب التدرج في العمل السياسي. وحيث إنهم شباب فقد تصدَّروا صفوف الثورة الثقافية، وأغلقوا مدارس ومعاهد الصين وطافوا بأنحاء البلاد من أجل «صنع الثورة»، ورأوا بأعينهم كيف أصبحت الصين في حالة الفوضى، وفي مناخ التغيير المتطرف. وأضحت المعرفة لديهم — الآن — أفضل من الإصرار على التغيير الجذري، بيد أنهم يخشون من أن تخفق الصين إذا لم يحدث تغيير.
والملاحظ أن خبرات قادة الجيل الرابع جعلتهم أقوياء صامدين ناضجين وأصحاب نظرة علمية متقدمة ونظرة عالمية. لقد تحملوا الظروف الصعبة القاسية في الريف حين ذهبوا إلى هناك لمشاركة الفلاحين حياتهم في أعماق الريف في أثناء الثورة الثقافية. وحاربوا بحماس من أجل ما كانوا يؤمنون به كقضية صائبة، وقدموا تضحيات هائلة ثم لم يجنوا شيئًا سوى أن اهتزَّت منظومة العقيدة لديهم. وقال لنا أحد كبار المصرفيين: «كنا في القاع وهذا جعلنا أقوياء، فلماذا الخوف؟».
ويتصف الجيل الرابع بثنائية مثيرة للانتباه: إنهم يتمنون أن يروا الصين بلدًا حديثًا مزدهرًا وأكثر ديموقراطية، ولكن على الرغم من أنهم كشفوا في الماضي عن شجاعة، فإنهم يعتقدون أنهم لا يزالون في انتظار أن تواتيهم فرصتهم. إنهم مقتنعون بأنه حين يصل جيلهم في نهاية المطاف إلى ركائز السلطة السياسية القومية، فإنهم سيبدءون «حقبة ذهبية» للإصلاح والتقدم خلال القرن الواحد والعشرين، ولكن ربما يفقدون صبرهم وأعصابهم، وهم في انتظار فرصتهم، ويقعون تحت سطوة أنماط ومعتقدات قيادة أكثر تقليدية.
ونحن نعتقد أن صعود قادة الجيل الرابع تدريجيًّا إلى المناصب البارزة — على مدى العقد القادم — سوف يبشر بحدوث تغييرات إيجابية متباينة، ولكن على الرغم من الآمال التي تراودهم — ويشاركهم فيها الأجانب — فإنه لن تكون الأرض ممهدة لتغيرات بعيدة المدى. إن انتقال شعلة القيادة السياسية من الجيل الثالث إلى الرابع سوف تشبه إلى حد ما الخبرة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، عندما خبا ضوء جيل ريجان-بوش القديم، وظهر جيل جديد يمثله كلينتون، ووصل إلى واشنطن. سمعنا أفكارًا جديدة كثيرة وخطبًا جديدة رنانة، وتحولات سياسية مهمة، ولكن في النهاية لم نرَ شيئًا يمثل تحولًا برنامجيًّا واسعًا على نحو ما توقعنا من المتحدثين عن «إعادة ابتكار السلطة». وهكذا، فإن قادة الجيل الرابع الصيني المتصف بالذكاء والعلم والمؤمن بالتغيير ربما يعودون مثلما عاد كلينتون إلى المركز التقليدي حال توليهم السلطة.
ولكن إذا صح هذا التوقع، فسوف يستمرون في مساهمتهم من أجل تغيير شروط وقواعد الحوار، ووضع أساس لمجتمع أكثر انفتاحًا، ولنظام سياسي أكثر إيجابية؛ ومن ثم سوف ينتظر التحول الحقيقي بالضرورة إلى حين، الجيل الخامس وربما السادس: حسب الطريقة الصينية في الحركة بين الأجيال. لقد عاش هؤلاء الشباب القسط الأكبر من حياتهم في ظل حقبة ما بعد ماو، وكان الإصلاح والتحديث والتغيير ثوابت تجربتهم، بينما انمحت تقريبًا مظاهر أحداث التطهير والصراعات الداخلية للحزب، والجمود العقائدي المتطرف. ولا يحمل هذا الجيل ذكريات شخصية عن الصين الفقيرة المتخلفة المنعزلة المعادية للأجانب والمتطرفة في الفكر، ولم يتربوا على المعتقدات الشيوعية.
يبدو أن تقديرنا هو أن الجيل الخامس سوف يعلو على هذه العيوب التي تشوب طابع الأجيال، ويكون القوة الدافعة التي تغير الصين عمليًّا، وتحولها إلى أمة حديثة بالكامل. سوف يصوغ هذا الجيل منظومة القيم التي تصالح بين الدوافع المختلفة؛ فتكون صينية وحديثة في آنٍ واحد؛ ومن ثم تستحدث مؤسسات اقتصادية سياسية تمزج بنجاح التراث الآسيوي والتراث الغربي، ولكن الجيل الخامس لن يبدأ تولي أمور السلطة إلا بعد عشرين عامًا أو أكثر، وهذا مؤشر واضح يكشف لنا المدى الزمني الغريب تاريخيًّا لحدوث التحول النهائي للصين.
(٤) هل عاد ماو؟
موضوع مهم آخر سيثار خلال السنوات القليلة القادمة، بشأن احتمال بعث الماوية من جديد؛ إذ تميل الأنباء القليلة الواردة إلى الغرب هذه الأيام عن ماو تسي تونج إلى بذل المزيد من الجهد؛ لتقويم أي شهرة خلفها وراءه تؤكد أنه إحدى الشخصيات العملاقة في القرن العشرين. والملاحظ أن كتابًا ألفه طبيبه الخاص أثار انتباهًا أمريكيًّا واسع النطاق في عام ١٩٩٤م، لما تضمنه من قصص مثيرة وشنيعة عن مغامراته الجنسية. وصدر كتاب عقب هذا يؤكد بالوثائق دوره في المجاعات الكبرى خلال الخمسينيات والستينيات، عندما رفض مساعدات غذائية أجنبية بينما الملايين من الصينيين يتضورون جوعًا.
ولكن بدأت في الصين بعض المظاهر التي تشير إلى عودة ماو. ففي أوائل التسعينيات بدأ سائقو سيارات الأجرة في جوانجو وفي مدن أخرى يزينون المرايا الأمامية في مواجهة السائق بميداليات ماو؛ تعبيرًا عن الحظ الحسن. وعادت إلى الظهور في بعض المدن والقرى تماثيل ماو التي سبقت إزالتها، وثمة مواقع حول الصين كانت وقفًا على ماو واختفت تمامًا في الثمانينيات، ولكنها عادت إلى سابق عهدها. ويستطيع الزائر أن يرى الآن من يؤرقهم الحنين إلى الثورة الثقافية، يتناولون طعامهم في مطاعم تعود إلى تلك الأيام. وأكثر من هذا أن بدأ إحياء أوبرات بكين الثورية، التي أبدعت في أثناء الثورة الثقافية. وأيضًا، فإن صورة ماو بطلعته المهيبة لا تزال باقيةً في ميدان تيان آن مين، على الرغم من أن الصينيين نزعوا صور ماركس وإنجلز ولينين وستالين التي كانت ملاصقة له.
وواضح أن عملية إحياء ذكرى ماو سوف تنمو وتزداد، ولكن فقط باعتباره واحدًا بين اتجاهات أخرى كثيرة ظهرت مع انهيار عقيدة الشيوعية الجامدة، والأيديولوجيا القديمة ذات الفكر الأحادي النظرة. وسوف يملأ ماو الفراغ السياسي، بل والروحي، ما دامت القيادة الجديدة ضعيفةً وفاقدةً لسحر الزعامة الكاريزمية. لقد كان لماو في حياته مكانة شبه إلهية؛ ولذلك ليس لنا أن ندهش؛ إذ يعود إليه الناس يلتمسونه في ظروف التحدي الصعبة تمامًا مثلما يلوذون بالبوذية والكنفوشية وديانات العصر الجديد، ولكنه لن يكون ثانية الشخصية الإلهية المعصومة التي لا تسأل مثلما كان في حياته، وإنما سيعود ربًّا مقيمًا في البيت، قريبًا من بعض الصينيين.
ولسوء الحظ، أن عمليات إحياء ماو الراهنة هي على الأرجح ضرب من التصدي لمشكلة ماو الحقيقية في تاريخ الصين؛ إذ حاولت الصين «أن تمضي قدمًا» وتقطع أواصر علاقتها مع الماوية عمليًّا، مع تجنب الأخطار السياسية التي امتدَّت عقدَين نتيجة قطع الصلة بالماوية نظريًّا».
ولكن لم تصدر أيديولوجيا جديدة، كما لم تظهر رؤية محددة عن مستقبل الصين. وإن هذه الفترة يقينًا فترة راحة لأولئك الذين اعتادوا على مدى العقود سماع تأكيدات زائفة على لسان الرسميين الصينيين، ولكي يسمعوا اليوم جرعة صحية من اللاأدرية، والاعتراف بفقدان اليقين إزاء المستقبل. ونجد غالبية هؤلاء القادة يتصفون بالتواضع والخنوع والعقل المتفتح وهم يواجهون تحديات الصين غير المسبوقة في التاريخ، ولكنَّ هناك أيضًا أسبابًا أخرى أقل جاذبية تفسِّر لماذا الصينيون، وهم أصحاب ثقافة عريقة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ في التفكير والاستراتيجية (حوالَي ٥ آلاف سنة، وليس فقط الأعوام الخمسين — عمر تراث ماو) يحتفظون بمثل هذه الصورة الغامضة عن المستقبل.
إن الصين لكي تضع رؤية جديدة محددة المعالم بدقة عن المستقبل، ستضطر إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع الماضي الموروث عن فكر ماو والشيوعية. وهذا من شأنه أن يطرح أسئلة جديدة عن المشروعية الهشة لقادة اليوم، وقد كانوا جميعًا، ودون استثناء، تلامذة ثورة ماو. وإن الغوص والتنقيب في سجلات ماضي الحزب الشيوعي تحت قيادة ماو، للكشف عن المعنى الحقيقي لمعتقدات وأهداف الحزب المقررة آنذاك، سوف يؤديان إلى كشف النقاب عن فلسفته البالية، وعن مظاهر عدم تلاؤمها وتناقضها باطراد مع متطلبات الصين الراهنة؛ لذلك فإن إغفال مجموع الآثار المتبقية عن الشيوعية، والتي تشكل ركيزة الفكر السياسي الصيني، أيسر كثيرًا من محاولة إزالتها.
وإذا كان لا بد من إجراء عملية استئصال جراحية لجوهر الفكر المادي في التاريخ السياسي الصيني؛ إذن لا بد أيضًا من أن تحل محله رؤية جديدة مميزة ومحددة. وهذا من شأنه أن يركز الانتباه على السياسة، ويستثير حتمًا من جديد حجج الثمانينيات التي تقول إنه «من دون التحديث الخامس» (أي إصلاح النظام السياسي الصيني وتطبيق ديموقراطية جماهيرية أصيلة)، فإن الصين لن تنجح. ويرى جيانج زيمين، مثلما كان يرى دنج من قبله، أن مثل هذا النهج استخدام بائس من جانب القيادة لرأسمالها السياسي المحدود. وهو مراهنة ترتكز على حسابات خاطئة، ستفضي حتمًا إلى اضطراب حالة الاستقرار السطحي، الذي حرصت الصين عليه طوال عقدَين الآن. والمعروف أن الحوار بشأن هذه المسائل أوقفته السلطات منذ مطلع الثمانينيات، ولا يجد أمامه سوى النظر إلى كوريا الجنوبية أو إلى الفليبين؛ ليؤكد مخاوفه من أن إعادة فتح باب الحوار بشأن الحكام الدكتاتوريين السابقين، سوف يعرض للخطر حالة الاستقرار السياسي، بل والنجاحات الاقتصادية.
وإذا افترضنا أن عملية إحياء فكر ماو ليست سوى طيف عابر، فإن الصعوبات التي تناولناها آنفًا لمعالجة ومواجهة ماضي ماو، سوف تظل تحبط باطراد أفضل النوايا لدى قادة الجيل الرابع، فيما يتعلق بمسائل التحديث السياسي والديموقراطية. والصين هنا مثلها مثل الولايات المتحدة تمامًا في بداية النشأة عندما تعايشت العبودية مع ديموقراطية جيفرسون؛ إذ تنتظرها مستقبلًا وهي في مسيرتها هذه الفرصة للتنفيس عما هو مكبوت بداخلها.
(٥) أتمنى لك الحياة في أيام ممتعة
إذن، مهما حاولنا تحديد أكثر المسائل الرئيسية التي ستحدد تطور الصين على مدى السنوات الخمس القادمة، فإن المستقبل سوف يثير يقينًا عددًا من القضايا أكثر حسمًا ودقة، والتي ستكون مثار دهشة ومفاجأة، ومن دون أي مقدمات واضحة.
مثال ذلك، أن قوى السوق ما إن تنطلق حتى تتخذ مسارًا غريبًا تتدفق عبره على مدى التاريخ. وإن من دواعي السخرية، التي لا يصدقها عقل، تلك المخاوف التي سادت من احتمال ما قد يسببه السلوك السياسي الصيني من شيوع حالة من الذعر المالي في هونج كونج، بعد عودتها إلى الوطن الأم. ثم كانت الحقيقة أن ارتفعت السوق وبلغت ذُرًا جديدة عالية مرحبة بالسلطة الصينية، ثم انهارت السوق وساد الذعر شهورًا عدة بعد ذلك؛ بسبب العوامل المتعلقة بقوى السوق، ولا علاقة لها البتة بالسيادة الصينية، وهكذا تعمل قُوى السوق.
وإن أسواق المال حديثة العهد في الصين يمكن أن تواجه عددًا من المشكلات لا حصر لها؛ بسبب الميزان الدقيق للاستثمار الأجنبي، وتقييمات العملة والديون المحلية المعدومة، والموازنات التجارية ذات الحساسية السياسية ومناخ الأزمة المالية الوشيكة التي تعم آسيا. وسوف تقود تلك المشكلات إلى تحديات خطيرة لمصداقية الحكومة. وأبدى خبراء كثيرون — منذ وقت طويل — قلقًا لأن الصين عمدت (عن وعي أو غير وعي) إلى محاكاة نموذج كوريا الجنوبية المؤلف من أساليب متعددة ومتباينة، ولكن انهار الاقتصاد الكوري الجنوبي عام ١٩٩٧م، بعد فترة تألق، واضطر في ذلة إلى أن يلوذ بصندوق النقد الدولي؛ من أجل الحصول على كفالة مالية ضخمة تنقذه من ورطته. هنا بدأ الاهتمام بفحص وتدقيق الميزانيات العامة للشركات في الصين، بعد أن أغفلها طويلًا الأجانب الذين اعتادوا تقييم هذه الشركات على أساس علاقتها بالسلطة، والمبالغة في تقييمها بما يتجاوز كثيرًا واقع أصولها.
وكما لاحظنا، قاومت الصين طريق الخصخصة الجذرية لأسباب كثيرة، ليس أقلها ما أحدثته من كوارث في روسيا، ولكن ما الذي سيحدث إذا ما بدأت عملية الخصخصة في روسيا تحقق نجاحًا خلال الأعوام القليلة القادمة، وبدأ الاقتصاد الروسي يتعافى؟ إذا حدث هذا فربما يكون له أثره المهم في الحوار الدائر داخل الصين. وبالمثل، إذا ما دخلت آسيا فترة كساد وركود طويلة الأمد، وإذا ما تأثرت الصين بهذه الدوامة، فسوف يتفجَّر في بكين جدل سياسي أكثر حدة، بشأن الاتجاه الاقتصادي للبلاد.
ومن المحتمل أيضًا أن تستثير بعض التواريخ، ذات الدلالة المميزة أو الأحداث المتوقعة، تيارات رئيسية معارضة للوضع القائم. مثال ذلك أن وفاة جاو جيانج قد تدفع بمعاونيه السابقين إلى الخروج إلى طرقات بكين مرة أخرى، إذا ما حاولت الجهات الرسمية في الصين قمع أي محاولة للحداد العام.
وقدمت الفترة الباكرة من عام ١٩٩٧م درسًا جيدًا بالنسبة للقانون الصارم للأحداث المذهلة، التي يتعين تحليلها إلى عواملها في أي عملية تكهن بالمستقبل. إذ إنه مع وفاة دنج هسياو بنج ناقش أحد المعنيين بأحداث المستقبل الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة بعد انكشاف فضيحة تورط الصين في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام ١٩٩٦م. ولم يتصور غالبية المتنبئين أنه في الوقت الذي كان فيه كلينتون يحشد السفن الحربية الأمريكية لمواجهة التحركات الصينية في مضيق تايوان عام ١٩٩٦م، كان مشغولًا في الوقت ذاته ببذل جهد خاص من أجل زيادة الموارد المالية للحملة من مصادر صينية. وأكد هذا كله حقيقة أننا جميعًا نعيش في ظل اللعنة الصينية القديمة «أتمنى لك الحياة في أزمنة ممتعة».