الأعوام الخمسة القادمة
(١) هونج كونج: الحياة بعد ١٩٩٧م
سئل ذات يوم لي كوان يوو من سنغافورة: ماذا في هونج كونج بعد ١٩٩٧م؟ وتعبيرًا عن ثقته في مستقبل المستعمرة البريطانية السابقة، بعد أن تئول إلى الإدارة الصينية، قال مازحًا: «ألف وتسعمائة وثمانٍ وتسعين.»
إن العالم الغربي يرقب عن كثب ما سيجري بعد ١٩٩٧م؛ ذلك لأن هونج كونج ظلت تاريخيًّا خلية نحل لطاقات السوق الحرة. وكانت مثال مخفر التجارة الحرة في عالم الحمائية والميركانتيلية. ويعتقد الأجانب أنهم يعرفون ويفهمون هونج كونج وثقافتها؛ إذ في هذه البقعة الصغيرة من آسيا، شعر البريطانيون والأمريكيون والأوروبيون واليابانيون والتايوانيون والكوريون والإندونيسيون وغيرهم من كل أنحاء العالم بالراحة والاطمئنان على الاستثمار هناك، والحياة، وإقامة المشروعات، والاتجار وتكديس الأموال أكوامًا بعد أكوام.
وطرحت واشنطن مسألة كيف ستتعامل بكين مع هونج كونج، واعتبرت واشنطن هذه المسألة علامة «نضج»؛ إذ ستحدد كيف ستنظر الولايات المتحدة بعين راضية إلى الصين ذاتها. وصرح أحد كبار الرسميين في إدارة كلينتون وقت إتمام عملية الانتقال قائلًا: «نحن لا نتطلع إلى أن تحل محل بريطانيا حارسًا على هونج كونج، بيد أن هذا دور لا يمكن تجنبه، وحيث إننا مانحون ولدينا مشروعات أعمال كثيرة هناك، فسوف نكون أول من يصيح معبرًا عن استيائه.»
وحدث في هذه الأثناء أن أعضاء مجلس الشيوخ، ممن ينتقدون سياسة إدارة كلينتون، حذروا من أنهم يراقبون مدى قوة وجدية البيت الأبيض في مراقبته للصين. وإذا لم يدافع كلينتون بحزم كافٍ عن هونج كونج حتى لا تفسد الصين الديموقراطية فيها، فإنه على أهبة الاستعداد للعمل على إلغاء معاملة الصين معاملة الدولة الأكثر رعاية، أو لاتخاذ خطوات أخرى لإلجام سلوك بكين من داخل الكونجرس.
ويميل الأمريكيون عادة إلى الشعور بأنه إذا ما سارت أمور هونج كونج على ما يرام، فإن مستقبل الصين سيكون كذلك، أما إذا ساءت أحوال هونج كونج، فكيف لنا أن نتوقع أن تنجح الصين. بيد أن هذه النظرة التي تبدو منطقية في الظاهر، يمكن أن تكون وجهًا آخر للتفكير الغربي، الذي لا يصدق على آسيا.
ولكن الصين تحاول المستحيل الآن؛ إذ تحاول استيعاب أكثر المناطق نجاحًا في النظام الرأسمالي القائم على السوق الحرة، ودمجها في أكبر بلد اشتراكي في العالم. وهذه المحاولة من الصين هي دراما عمرها عقدان ظلت الصين تخطط لها. وعندما بدأنا مسيرة السفر إلى هونج كونج في مطلع السبعينيات، كان كل عليم ببواطن الأمور يدرك جيدًا أن القوة الاستعمارية البريطانية لم تعُد مثلما كانت، وأن الأرض الأم تتحكم الآن بذكاء في ركائز اقتصاد هونج كونج؛ إذ تزود الصين المستعمرة بمياه الشرب والطعام والكهرباء، وأغلب الضرورات الأخرى. وقال أحد الرسميين الشيوعيين الصينيين في ملاحظة له عام ١٩٧٥م: «نستطيع أن نرسل جيش التحرير الشعبي، ونحتل هونج كونج في أي وقت نشاء. بيد أننا اخترنا ألَّا نفعل هذا. إننا يقينًا نستطيع الانتظار حتى عام ١٩٩٧م.»
«بينما كان دنج يبصق بين الحين والآخر ألقى محاضرةً عن السيادة الصينية، وكرَّر أنها موضوع لا مفاوضة بشأنه. وتطلَّع دنج إلى ما ستكون عليه الحال بعد خمسة عشر عامًا، وحدد تاريخًا للتسليم: أول يوليو ١٩٩٧م. لم يتردد أبدًا …».
واصلت بكين بعد هذا الافتتاح مناوراتها البارعة لتلحق الهزيمة بلندن مع كل نقطة من نقاط الحوار بشأن مستقبل هونج كونج. وطرح دنج اقتراحه الجسور: «دولة واحدة ونظامان». ووعد بأن الصين الاشتراكية ستحافظ على نظام هونج كونج الرأسمالي وأسلوب حياتها باعتبارها «منطقة إدارة خاصة، وذلك لمدة خمسين عامًا». ولم يمضِ وقت طويل حتى أضحت هذه الصياغة الصينية البارعة وغير المسبوقة وغير المحتملة، ضمن الإعلان المشترك والقانون الأساسي، وهما الاتفاقيتان الرئيسيتان بين الصين وبريطانيا في شأن مستقبل هونج كونج.
ومنذ عقد هاتَين الاتفاقيتَين التاريخيتَين، والغرب يرقب عن كثب وباهتمام شديد، أي بوادر تنمُّ عن حقيقة نوايا الصين ومدى وفائها بهذا الالتزام. ومع حالة الانتعاش التي شهدتها الصين في مطلع التسعينيات، أُصيب كثيرٌ من الغربيين بدوار حين تأكد لهم أن هونج كونج في ظل السيادة الصينية في سبيلها لتحقيق أروع قصص الانتصار، حيث مدينة السوق الحرة والمؤثرات الديموقراطية تغدو مثالًا تحتذيه بحكم الجوار أنحاء أخرى من الصين. ووافق كثير من الخبراء في عامَي ١٩٩٣-١٩٩٤م، على ما انتهى إليه أحد كبار الاقتصاديين المسئول عن أحد بيوت السمسرة الأمريكية الكبرى حين قال: «هونج كونج هي التي تولَّت سلطة الصين، وليس العكس.»
والحكمة التقليدية السائدة على نطاق واسع منذ أن وقَّعت لندن وبكين على القانون الأساسي بشأن هونج كونج هي أن الصين سوف تبتلعها بمشقة، وتتسامح مع قدر من النقد والاتجاهات السياسية وأساليب الحياة والسلوكيات الديموقراطية، مما لا تسمح به داخل الصين، وستلجأ الصين إلى ذلك لأن فيه مصلحتها. وتعرف الصين أنها إذ تبقي على هونج كونج حرة مفتوحة ومؤتمنة، إنما تبقي في الوقت نفسه على مصدرها الرئيسي لتدفق الاستثمارات مفتوحًا أيضًا. ومنذ عام ١٩٨٧م تدفَّقت إلى داخل الصين استثمارات بحوالي ١٣٠ بليون دولار من هونج كونج ومن صينيين فيما وراء البحار؛ يستثمرون عن طريق هونج كونج حوالي نصف إجمالي القيمة من مصادر «أجنبية»، ونعرف أن سبعين مشروعًا من بين المشروعات الرئيسية في الصين طرحت أسهمًا بحوالي ٦ بلايين دولار في أسواق هونج كونج العامة، في نهاية عام ١٩٩٦م. علاوة على ٣٠٠ مشروع آخر، تحاول ذلك في مجال خطوط الأنابيب، وجميع هذه الشركات تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الثقة في مستثمري هونج كونج، وقدرتهم على الاحتفاظ بأسعار أسهمهم مرتفعة.
وإن تدفق رأس المال في الاتجاه الآخر له القدر نفسه من الأهمية؛ إذ إن حوالي ١٨٠٠ شركة صينية من الأرض الأم استثمرت أكثر من ٤٥ بليون دولار في اقتصاد هونج كونج خلال السنوات القليلة الماضية، وأنفقت الشركات الضخمة المتعددة الأنشطة المملوكة للصين قدرًا كبيرًا من احتياطيها من العملات الأجنبية التي تحصل عليها بشق النفس؛ وذلك لشراء أصول في هونج كونج. والمعروف أن بعض هذه الشركات هي عمليًّا أصعب للوزارات الصينية. ومن هذه الشركات إمبراطورية موارد الصين التي تديرها وزارة التجارة الخارجية والتعاون الاقتصادية، وكذلك الأملاك السائلة الصينية في الخارج التي تخضع لسيطرة وزارة الإنشاء والتعمير، وإن المبنى المؤلَّف من سبعين طابقًا، والمخصص لبنك الصين يعتبر أوضح مبنًى تراه العين في مدى الأفق في هونج كونج، وتكلَّف إنشاء هذا المبنى أكثر من بليون دولار، وتبدو جميع أبراج البنوك في المدينة أقزامًا بالقياس إليه. ويعتبر المبنى رسالةً بصريةً تؤكد ثقة الصين في هونج كونج، والتزامها بما تعهدت به إزاءها.
والملاحظ أن بعض استثمارات الصين في الاقتصاد المحلي هي استثمارات في مشروعات أعمال يديرها أبناء وبنات وأقارب كبار الرسميين في بكين. ويؤكد هذا ليس فقط المصلحة القومية العامة للصين، بل وأيضًا المصالح الشخصية، مثلما يؤكد ملاءمة هونج كونج على نحوٍ فريدٍ من متطلبات الصين من أجل التحديث. ويبدو للغرباء أنها ستكون قمة الحماقة من الصين، إذا حاولت عمل أي شيءٍ من شأنه أن يقوض الثقة الدولية في هونج كونج.
وختام هذه الحجة هي فكرة ما سوف تحققه الصين دوليًّا من مكانة ومصداقية (لإنجاز ما يعبر عن مصلحة الصين الخاصة)، ويمكن دعم هذه المكانة لتغدو مكسبًا عظيمًا. وإذا ما سارت الصين على خير وجه فسوف تكون الفرصة متاحةً أمام بكين لتجد صيغة سلمية لإعادة توحيد تايوان، وهذه جائزة أكبر اقتصاديًّا وسياسيًّا.
والمفاجأة الحقيقية هي ذلك الهدوء والحياة الطبيعية اللذان سادا هونج كونج خلال الأشهر الأولى من بسط الصين لسيادتها على الجزيرة. وعلى الرغم من مشاعر السخط التي أبداها كثيرون من سكان الجزيرة عند وصول حوالي خمسة آلاف جندي صيني من جيش التحرير الشعبي في الأول من يوليو ١٩٩٧م، فإن عملية الانتقال والعودة إلى الصين جرت سلسةً هادئة قبل سبتمبر.
وجرى في أواخر الصيف وفي مطلع الربيع من عام ١٩٩٧م اختبار مهم بشأن التزام الصين إزاء هونج كونج، وإبقاء الوضع القائم فيها، وتمثَّل هذا الاختبار في مشكلات اقتصادية محلية ضخَّمتها رهانات متهورة سلبية، فرضتها مضاربات عالمية على العملية، وأدت إلى ما يشبه انهيار عملات وأسواق أسهم جنوب شرق آسيا، واضطرَّت تايلاند وإندونيسيا إلى خفض عملتَيهما بنسبٍ تتراوح بين ١٠ و٤٠ في المائة، وتطلَّع مضاربون عديدون إلى عمل مراهنات على أن هونج كونج لن تستطيع الدفاع عن ارتباطها بالدولار الأمريكي، ولكن سلطات هونج كونج ثابرت وصمدت.
وسئل سي إتش تونج كم من الدولارات على استعداد لإنفاقها دفاعًا عن دولار هونج كونج، من بين ٦٠ مليون دولار هي جملة احتياطيها من العملة الأجنبية، أجاب قائلًا: «أحسب أن السؤال يجب أن يصاغ على نحو آخر: كم من الدولارات يكون المضاربون على استعداد لخسارتها من أجل مهاجمتنا؟».
كذلك الصين، التي يتزايد احتياطيها من العملات الأجنبية بمعدلات متسارعة وكبيرة، تدخلت بهدوء للدفاع عن دولار هونج كونج، ولم يكن لزامًا عليها أن تفعل ذلك من باب المحاجاة النظرية. عملة انخفضت في هونج كونج مما قد يفيد الصين لزيادة الصادرات، ولكن بكين أقرت بأنها إذا تركت دولار هونج كونج يفقد علاقته بالدولار الأمريكي، فإن هذا قد يقوض الثقة في هونج كونج. قد لا تلتزم الصين هذا الموقف دائمًا، وقد لا تكون قادرة على هذا العمل مرة أخرى، إذا ما حاول المضاربون العالميون دفع دولار هونج كونج إلى الانهيار، والحقيقة أن خبراء كثيرين يشكون حتى هذه اللحظة في أن هونج كونج يمكنها أن تواصل الصمود للضغوط، من أجل قطع علاقتها بالدولار الأمريكي وخفض قيمة عملتها. نعم، إن هونج كونج والصين تملكان احتياطات نقد أجنبي بكميات كافية لتتحدى كل الوافدين، ولكن قد يصبح من الحمق الاستراتيجي — عند درجة معينة — الاستمرار في مقاومة إرادة السوق بعناد شديد، ولكن هونج كونج واصلت على مدى ثلاثة أشهر من الأزمة دفاعها عن ارتباط عملتها بالدولار الأمريكي. كما أن الصينيين — التزامًا منهم بكلمتهم — واصلوا الدفاع عن الوضع الاقتصادي القائم لجزيرة هونج كونج.
ولكن الصين بحكم تكوينها الفطري ربما لا تستطيع القناعة بالجلوس هناك دون عمل شيء على المدى الطويل. ثمة قضايا كبرياء وكرامة تجعل من غير الواضح معرفة ما إذا كانت الصين تستطيع حقًّا أن تتقبَّل النقد والعمل المستقل لمجتمع حر، أم أنها ستجد نفسها مضطرةً إلى أن تطيح بعيدًا بكل جوانب النقد وتسحق روح الاستقلال.
(٢) المتاجرة بالبيض الذهبي
ودفع الصقور في الغرب بأن بكين تتلاعب وبشدة بالوضع القائم في هونج كونج، حتى من قبل أن ترتفع راية الصين هناك. ويعتقدون أن بكين شديدة الحساسية، بحيث لن تتسامح مع أي درجة من حرية التعبير أو السياسة الديموقراطية في هونج كونج؛ إذ إن الصين لا بد في نهاية الأمر من أن تقمع النبض الديموقراطي في هونج كونج للحيلولة دون انتشار العدوى، وعمدوا إلى تأويل كل ما فعلته الصين قبل وبعد الأول من يوليو ١٩٩٧م في ضوء هذا التصور.
ويدفع آخرون بأن الأفعال السلبية التي اقترفتها الصين تجاه هونج كونج قليلة إلى أدنى حد، بل ولها ما يبررها. وأوضحت بكين قبل استلام الجزيرة أن فكرتها بشأن الحفاظ على الوضع القائم لا تتضمن السماح بحرية مطلقة للصحافة وللتعبير، أو الاحتفاظ بالمظهر الخارجي لديموقراطية انتخابية محلية.
إن مثل هذه الأحداث، وكثيرًا جدًّا غيرها، هي يقينًا نذير بالمستقبل، ولكنها أحداث أكثر تعقدًا ودهاءً عن كونها مجرد قمع صريح للحقوق المدنية. ويبدو أن الصين تقر المسلمة التي تقول إن المال هو كل شيء في هونج كونج؛ لذلك فإنها ماضية في شراء كامل حصص المعارضة بدلًا من أن تحاول خنقها.
(٣) ديموقراطية خمس الدقائق قبل منتصف الليل
ودار جدال ساخن بشأن أهمية العديد من القضايا الأخرى حال الاستعداد لعودة السلطة الصينية، مثال ذلك أن بكين رفضت الاعتراف بالمجلس التشريعي في هونج كونج، وكان كريس باتن فعالًا في تشكيل هذا المجلس الذي انتُخب أعضاؤه عام ١٩٩٥م، لمدة أربع دورات على مدى أربع سنوات، بحيث تكتمل عام ١٩٩٧م، هذا على الرغم من أن الصين وبريطانيا اتفقتا في السابق على أن يوافق الطرفان على أي انتخابات تمتد نتائجها على مدى سنوات الانتقال. لم توافق الصين على انتخابات المجلس التشريعي في هونج كونج؛ لهذا أعلنت أنها ستشكل مجلسًا تشريعيًّا انتقاليًّا جديدًا بديلًا عنه. وليس لنا أن ندهش إذا عرفنا أن هذا المجلس تشكل بالكامل من أعضاء يرون مستقبل هونج كونج تكفله، على نحو أفضل، سياسة التعاون دون المواجهة مع بكين.
والمَعْلم الثاني على هذه الخارطة هو انتخاب سي. إتش. تونج، أول حاكم صيني لهونج كونج، أو المسئول التنفيذي بلغة البروتوكولات الاستعمارية. وكانت نظرة هونج كونج وبكين والولايات المتحدة إلى تونج أنه رجل يؤمن بالمواطنة العالمية «كوزموبوليتانية»، وقائد جيد التفكير في مجال مجتمع الأعمال. وهكذا، بزغ نجم تونج كأول مرشح له الأولوية قبل عام من انتخابه فعليًّا، ولكن غالبية النقاد خارج هونج كونج آثروا أن يعتبروه رجلًا في جيب بكين، هذا على الرغم من أن أسرته هربت عقب ثورة ١٩٤٩م لتؤسس إمبراطورية سفن للشحن في هونج كونج. والملاحظ عمليًّا أن كل المقالات الأمريكية المهمة التي تناولت موضوع تونج، أبرزت أنه بعد أن تضخَّمت واتسعت أعماله وجد دعمًا في صورة قرض أسهمت موارد الصين الأم في جزء منه.
ويعتقد تونج، شأن كثيرين من أبناء مجتمع الأعمال في هونج كونج، أن هونج كونج أصبحت «مسيَّسة للغاية». إن هونج كونج معنية أساسًا بالعمل وجني الأموال، وأن تكون جسرًا بين الصين والغرب، وحريٌّ ألَّا تكون مدينة مواجهة في الصراع من أجل تغيير النظام السياسي الصيني. ودعم تونج عامدًا، وكما يتهمه خصومه، رغبة الصين في الحد من بعض الحريات السياسية، والتي حظيت بها أخيرًا هونج كونج في أثناء إدارة باتن.
ونذكر ما لاحظه كثير من الكتاب الصينيين من أن بريطانيا لم تكن معنية أبدًا بمسألة الديموقراطية لمصلحة هونج كونج، على مدى حكمها الاستعماري للجزيرة الذي امتد ١٥٠ عامًا؛ إذ لو أن البريطانيين يعتزُّون حقًّا بهذه الحريات، فإن السؤال: لماذا انتظروا الأيام الأخيرة التي يتلاشى فيها حكمهم، لكي يمنحوا عندها تلك الحريات للمواطنين الصينيين سكان هونج كونج؟ إن أحد الأسباب التي من أجلها قدم دنج هسياو بنج اقتراحه بالحفاظ على الوضع القائم في هونج كونج خلال الثمانينيات، هو أن المدينة، وعلى الرغم من أنها مركز للتجارة الحرة والأسواق الحرة، كانت خاضعة لحكم استعماري لم يقدم أي ديموقراطية مباشرة لمواطنيها البالغ عددهم ستة ملايين نسمة. هذا علاوة على أن الحكم البريطاني عمد إلى حل غالبية المشكلات كلها على حدة، خلف الأبواب المغلقة لأبناء النخبة، ومثل هذا النظام يتسق مع النظام الصيني.
(٤) شراء أسهم الشركات
ويرى بعض المراقبين لأحداث هونج كونج بما أن الحرية السياسية قد تقلصت وأضحت دون توقعات. أي من المواطنين. إن مؤشرًا أكثر جدية وخطرًا يبرز للعيان، وهو عما إذا كانت الصين تحض سلطات هونج كونج على اتخاذ قرارات اقتصادية لمصلحة بكين، ويمكن أن يتضمن هذا استثمار قدر أكبر من احتياطات هونج كونج في سوق سندات الحكومة الصينية كمثال، أو منح وضع ضرائبي مميز للشركات الصينية العاملة في هونج كونج، أو تراخي القواعد المحاسبية لأسواق الأوراق المالية لمصلحة الشركات الصينية. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن هونج كونج تستطيع أن تحيا من دون صحافة مستقلة نشطة، ولكنها لا تستطيع أن تزدهر اقتصاديًّا إذا ما خضع إطار عملياتها لتسوية مجحفة لها.
يمثل لاري يونج النموذج الذي يطمح إليه الأمريكيون؛ إذ تتوافر فيه كل الخصائص اللازمة لمنظم المشروعات الصيني: على درجة عالية من التعليم (خريج ستانفورد)، صانع صفقات رهيب، وإنسان يعترف باستقلاله عن بكين، ويقول إنه يريد فقط أن يحقق لشركته نجاحًا كبيرًا. ويعيش يونج حياة رجال أعمال هونج كونج، من أبناء تايوان، عاشق لسباق الخيل ومقامر لامع. ويقول إنه كسب ذات مرة ٥ ملايين دولار؛ نتيجة رهان خاطئ قيمته خمسون ألف دولار، إذ راهن على مائة مقابل طلقة واحدة.
وأصبحت شركة سيتيك باسيفيك تحت قيادة يونج أفضل الشركات الصينية إدارةً ونجاحًا في هونج كونج. وحقَّقت مكاسب تزيد على ٨٠٠ مليون دولار عام ١٩٩٦م وحده. وارتفعت أسعار أسهمها بنسبة ٧٠ في المائة. فما الخطأ في مكافأة مديرها التنفيذي بأعلى راتبٍ لأعضاء مجالس الإدارات في هونج كونج (٢٦ مليون دولار في السنة)؟ مع منحه كمية ضخمة من الأسهم العادية؟ أليس هذا هو الأسلوب الأمريكي؟ نعم، هو على وجه الإطلاق والتحديد، ولكن بعض الأسئلة تتتابع في تثاقل، مع أين حصل لاري يونج على ١٫٢٤ بليون دولار من رأس المال الشخصي، ليشتري أسهمًا قيمتها ١٫٦٤ بليون دولار؟ لا أحد يعرف، وهل هذا مهم؟ لا أحد على يقين، حقًّا ثارت شائعاتٌ تقول إن هناك في بكين أسئلةً وانتقاداتٍ مهمة حول كيفية إتمام هذه الصفقة.
في هذه الأثناء تحولت الشركات الصينية الواحدة تلو الأخرى إلى شريك في إحدى مؤسسات هونج كونج التقليدية، عن طريق الاستحواذ على الأسهم، وغالبًا ما حصلت على الأسهم بأسعار فيها خصومات كبيرة. وتعتبر هذه الصفقات من ناحية، بوادر لالتزام الصين إزاء هونج كونج، مثلما هي علامات ثقة فيها أيضًا، ذلك أن كل صفقة تربط مصالح الصين المادية برباط أوثق بالأداء الناجح لشركة هونج كونج. وكما صرحت كلمة هيئة التحرير في مجلة «وول ستريت جورنال»، فإن هذه الاستثمارات بعيدة كل البعد عن عمليات التأميم الفجة التي حدثت في الماضي في أي بلدٍ يسيطر عليه الحزب الشيوعي.
وعلى الرغم من هذا، نجد كل عملية شراء جديدة للأسهم مقترنة بحالة من القلق المثير للانزعاج، ترى ما الخطة السياسية الخافية وراء الاستثمارات المالية للصين؟ هل ستعمل هذه الشركات على نحو مغاير بتأثير هيكل الملكية؟ هل سيصبح الاقتصاد المحلي خلية فساد؛ نظرًا لأن المال يصل من ملاك جدد غير معروفين، ويسعون إلى استخدام الشركات لأغراض عديدة غير مكشوفة؟ هل ستشعر كل شركة بأنها مرغمة على عمل مزايدة لمصلحة الصين، سواء طمعًا في مكافأة تتمثل في مشاركة على مشروعات أعمال مربحة، أو خوفًا من تجميدها؟
وفي ربيع عام ١٩٩٧م، ولم يكن قد مضى على الانتقال سوى بضعة شهور ظلت سوق الأسهم في هونج كونج مرتفعة باطراد، وانتعشت سوق العقارات، وأعرب ٨٠ في المائة من السكان المحليين عن ثقتهم في المستقبل. وحظي سي. إتش. تونج بنسبة أعلى من المرافعة لم يحظَ بها كريس باتن على الإطلاق. والجدير ذكره أن الأسهم الممتازة لمشروعات بكين، وهي الذراع التجارية لجهاز الحكم المحلي في بكين، تجاوزت حدود الاكتتاب بمعامل ١٣٠٠ إلى ١. وأكد شنج في ضوء هذه الخلفية: «لقد كان من السابق لأوانه أن تعرض وسائل الإعلام الأمريكية صورة مستقبل هونج كونج ضمن سيناريو قائم ركيزته القمع وحجب الحريات.» وكانت المسألة مسألة وقت فقط لكي توقف الولايات المتحدة تنبؤاتها الحزينة الجنائزية، كأنها تشيِّع هونج كونج. واختتم كلمته بقوله: «إنها لم تَمُت بعد؛ ولهذا أرجوكم لا تقتلوها».
ونحن نتوقع أن يمارس رجال الأعمال التايوانيون والآباء المواطنون ضغطًا مشتركًا لتجنب استفزاز بكين، مع قدر من الرغبة من جانب الصين في أن تغمض عينيها عن بعض مظاهر الديموقراطية المحلية. ونظن أن هذا من شأنه أن يحجب الصراع، وبذا تمضي عملية استعادة هونج كونج في سلام. بيد أننا لا ننفي تحديدًا، بل في الحقيقة نتوقع تمامًا، أن تقوم الصين ببعض المبادرات المهمة والفعالة ضد مَن لا يريدون أن يفهموا الرسالة إلا على نحو مغاير. وهنا قد تلجأ الصين إلى ما تعنيه الحكمة القديمة «اقتل الكتكوت، يفزع القرد»، ولكن كيف وعلى أي نحو سيجري هذا … هل في صورة اعتقالات واسعة في أثناء تظاهرات، أو غلق صحف، أو محاولة اتهام أنصار الديموقراطية بالخيانة. هذا ما سوف نراه.
ولكن الخطر الأكثر واقعية واحتمالًا بالنسبة لمستقبل هونج كونج لن يكون مصدره حجب الحريات المدنية فيها، كما أننا لا نتوقَّع أن جيش التحرير الشعبي سوف يدخلها ويحتلها ويقضي على أسلوب الحياة فيها. وحدث قبل عودة هونج كونج أن أعرب بعض الاقتصاديين المحليين عن قلقهم من أن هونج كونج بدأت بالفعل تفقد قدرتها التنافسية في بعض الصناعات، وتحولت إلى مراكز آسيوية أخرى، وأبدى كثيرون من رجال الأعمال في الصين الأم، في شن جين وجوانجو وشنغهاي، غيرتهم من وضع هونج كونج المتميز، واعتقد هؤلاء أن بلدانهم يمكنها أن تنتج كل ما تستطيع أن تنتجه هونج كونج. والحقيقة أن القدر الأعظم من مميزات هونج كونج الصناعية والمصرفية والمالية أصحابها نازحون من شنغهاي، نقلوا مهاراتهم معهم إثر هروبهم من الصين بعد عام ١٩٤٩م. وواضح أن جيانج زيمين وكثيرين من رفاقه الذين حشدهم حول الحكومة المركزية من شنغهاي؛ يأملون في أن يجعلوا تلك المدينة مركز الأعمال والمال المهيمن في شرق آسيا، وأن تفكيرهم في هذا البديل هو الذي جعلهم أقل استعدادًا لبذل جهد فائض؛ للحفاظ على ميزان القوى الدقيق الذي يشكل أساس نجاح هونج كونج. وسبق أن نقلت مجلة «ذي وول ستريت جورنال» عن أحد كبار الرسميين في شنغهاي قوله: «لن تستطيع شنغهاي أن تلحق بهونج كونج فورًا، ولكن شنغهاي ستكون المدينة التجارية رقم واحد في الصين، وهذا هو ما قررته أعلى المستويات.»
ونحن نرى أن هونج كونج سوف تتحول حتمًا إلى مدينة ضخمة هي مزيج من اثنين: تجمع بين خصائص هونج كونج وشن جين وجوانجو، وقد تفقد هونج كونج في هذا المزيج بعض أوجه امتيازها، على الرغم من أنها ستبقى مركزًا مزدهرًا للتجارة والمال طوال القرن الواحد والعشرين. وسوف تصبح شنغهاي — أخيرًا — أهم مراكز الأعمال في آسيا، ولكن ذلك سيحدث بعد سنواتٍ طوال. وقد يتحول مصير هونج كونج لكي تصبح واحدةً من بين المدن الصينية الساحلية العديدة الكبيرة النشطة والمهمة، وإن كانت في التاريخ مدينة غنية ذات طابع محلي مميز.
(٥) تايوان: نظرة مضادة
ستظل تايوان النقطة الحرجة في العلاقات الصينية-الأمريكية، كما ستظل مسألة مهمة في سياسة الصين بشكل عام، لكل الأسباب التي ناقشناها في الجزء الأول. ونحن نريد، دون الحاجة إلى مراجعة جميع التعقيدات التي تنطوي عليها هذه المسألة، أن نقول إن مسألة تايوان قد تكون خلال السنوات الخمس القادمة أقل إثارة للخلاف والسجال، مما كانت عليه خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
إن استعراض الصين لعضلاتها في عامَي ١٩٩٥-١٩٩٦م أثار انزعاج الولايات المتحدة. وذهب الظن إلى أنها جزءٌ من نمط جديد لنوايا صينية عدوانية وتوسعية. ونحن الأمريكيين — على الطرف الآخر من المحيط الباسيفيكي — نرى أن الصين أخفقت وأحرجت نفسها بما أجرته من مناورات، ووجهته من تهديدات ضد تايوان.
ولكن وجهة النظر في آسيا مغايرة لذلك، وبخاصة في تايوان؛ إذ على الرغم من أن تصرفات الصين بدت خرقاء، فإنها حقَّقت النتيجة المرجوة، وضعت بكين لي تنج-هوي رئيس تايوان في مكانه وحجمه، وأضعفت الحركة التايوانية الوليدة الداعية إلى الاستقلال. وقد لا تشعر الصين أنها في حاجة إلى تكرار هذا الموقف ثانية، خاصة إذا ما واصل زعماء تايوان التزامهم «حسن السلوك»، ولم يعطوا الصين ذريعة للرد ضد سلوك استفزازي. والملاحظ أنه على الرغم من أن بكين مستمرة في تنديدها بالنظام الحاكم في تايوان، فإن الجوهر الاقتصادي للعلاقة مع تايوان يزداد عمقًا.
ولقد تعرَّض جيانج زيمين، كما أفادت التقارير، إلى نقد شديد من جانب الجيش الصيني؛ لأنه لم يردَّ بقوة أكبر إزاء أول أنباء وردت عن عزم لي تنج-هوي زيارة الولايات المتحدة، ونراه اليوم يؤكد عزمه على الانضمام إلى المتشددين إزاء هذه القضية، وتعبئة الأمة لمساندة موقف عسكري حربي. ولعله لن يعود إلى ذلك ثانيةً بعد أن أكد حماسته وعزمه في السابق.
وترى بكين أن لي تنج-هوي يواصل «الصيد في المياه العكرة»، ملتمسًا سبلًا ليؤكد أن تايوان لها ذاتية خاصة بها، وأن إدارته لها شرعية تبررها، ولكن حزب الكومنتانج، الذي يرأسه لي، يعارض نظريًّا الاستقلال، ويفضِّل تاريخيًّا «الصين الواحدة»، ولكن القوى الأخرى حول لي أكثر صراحةً في التزامها بالاستقلال، وتمثل الخطر الأعظم الذي يتهدد الوضع القائم. وإذا حدث أن بدأت هذه القوى تحرز مكاسب مهمة ثانية، فإن الصين يقينًا سوف ترد بضربة عسكرية.
إنها مشكلة شديدة الحساسية بحيث يمكن أن تتفجر في أي لحظة، ويتوقع خبراء كثيرون أن يستمر التوتر والجدال الثلاثي الأطراف بين بكين وتايبيه وواشنطن. بيد أننا نذهب مذهبًا مناقضًا؛ إذ نتكهن بحدوث خفض متواضع لمسألة تايوان خلال السنوات القادمة، وهنا ستحدث عودة إلى الوضع القائم قبل عام ١٩٩٥م، مصحوبًا بتزايد مشروعات الأعمال والتجارة والاستثمار عبر المضيق. وهو الوضع الذي تميَّزَت به العلاقات بين تايوان والصين، وليس مقترنًا بسجالات سياسية أو تهديدات عسكرية. ونتوقع أن تسهم تايوان بنصيب متزايد من الاستثمار «الأجنبي» الذي تحتاج إليه الصين. وربما تستأنف وبحماسٍ المحادثات السياسية التي جرت في السابق على مستوًى عالٍ بين تايبيه وبكين.
(٦) التبت: تايوان الثانية
وكانت التبت موضوعًا لفيلمَين كبيرَين أنتجتهما هوليوود عام ١٩٩٧م: الأول تحت عنوان «كوندون» والثاني «سبع سنوات في التبت»، وتعتزم هوليوود إنتاج مزيد من الأفلام عن التبت عام ١٩٩٨م (هذا علاوة على فيض من الكتب عن القضية ذاتها). والملاحظ أن هذا الإنتاج الغريب في غزارته، الذي أنتجته هوليوود، خلق كمًّا هائلًا من الحجج المثيرة للعاطفة، دعمًا لوجهة النظر القائلة: إن دور الصين في التبت هو دور الغازي والمحتل والمدمر للتراث الديني والثقافي للتبت، وإن الدلاي لاما هو الزعيم الطبيعي والتقليدي والشرعي للتبت، وينبغي تحريره من نير بكين. واقتفت هذه الأفلام الخطى الثقافية لكتاب «الأفق المفقود» وغيره من كتب صورت التبت في صورة «شانجري-لا»، أي المكان المقدس ذي الخصائص الفردوسية. ويتضمَّن هذا المعنى حجة مفادها أن هذا الموقع الأمامي للأرض والأقرب إلى السماء، دمرته يد الشيوعية الصينية التي لا ترحم.
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الأمريكيين لا يعرفون سوى النزر اليسير عن أراضي التبت التي تحتل موقعًا بعيدًا على جبال الهيملايا، فإنهم يعتقدون أنهم يعرفون ما يكفي لإثارة غضبهم إزاء أسلوب معاملة الصين للدلاي لاما، وللبوذيين في التبت. ويبدو أن استقلال التبت عن الصين هو الحل الملائم والبسيط في نظر الأمريكيين والأوروبيين، الذين سحرتهم جميعًا ديانة وثقافة التبت، بل وكذلك الحال عند كثيرين غيرهم من أصدقاء الدلاي لاما في الهند (مركز حكومته في المنفى)، وكذلك في اليابان وفي بعض بلدان آسيوية أخرى تضم مجتمعات بوذية مهمة.
لقد كانت التبت ذات أهمية عظمى في الاستراتيجية الجيوبوليتيكية للصين؛ إذ إنها تفيد كعازل خاصة ضد الهند. والمعروف أن بين الصين والهند تاريخًا من التوتر اشتمل أيضًا على حرب الحدود الجبلية في مطلع الستينيات وفترة طويلة، بعد ذلك، اعتقدت خلالها الصين أن الهند دولة تابعة للاتحاد السوفييتي، وأن موسكو تستخدمها «لمحاصرة الصين». وإن صين اليوم، وهي تتحول لتصبح مجتمعًا حديثًا موجهًا نحو السوق، يمكنها يقينًا أن تعمل وتنجح من دون القيد الاقتصادي الذي تمثله التبت، وهي منطقة شديدة التخلف. وإن القلق القديم من أن التبت المستقلة يمكن استخدامها لمحاصرة أو مهاجمة الصين؛ قلقٌ ليس له ما يبرِّره كثيرًا اليوم، خاصة بعد أن وضعت كلٌّ من روسيا والهند وغيرهما من بلدان المنطقة مهمة التحديث وبناء الاقتصاد على قمة الأولويات القومية. إذن لماذا لا تريد الصين أن تذعن حيال موضوع التبت؟
- أولًا: بسبب قدسية حدود الصين والتي تعتبرها بكين نسبًا طبيعيًّا إلى الأم، شأنها شأن تايوان.
- ثانيًا: يسود بكين اعتقاد عام بأن أي حركة في اتجاه استقلال التبت يمكن أن تثير الكثير من المشكلات ذاتها في المناطق القلقة، ابتداءً من سنكيانج Xinjiang وحتى تايوان. وهكذا تتحول هذه المسألة إلى قوة إثارة للفوضى والتفكك، وهو ما يخشاه زعماء الصين.
- ثالثًا: يصدق الزعماء الصينيون قصتهم التي يحكونها، إنهم يعتقدون أنهم عملوا على تحسين معيشة جماهير شعب التبت، قوضوا بذلك أركان المجتمع العبودي القديم الخاضع لسيطرة اللاما أو الزعماء الروحيين. ويظهر الدلاي لاما للزعماء الصينيين في صورة مخادع تتمثل كل قوته في المساندة الأجنبية، ويتأكد هذا لهم خاصة كبار الزعماء الدينيين الآخرين (مثل البانشن لاما Panchen Lama المقيم في التبت) وقفوا إلى جانب بكين أو على الأقل دخلوا في تواطؤ ضمني.
وطبعي أن مسألة الحرية الدينية، خاصة بالنسبة لشعب يبدو مسالمًا ونبيلًا مثل البوذيين أهل التبت، إنما هي مسألة جديرة بأن تأسر الخيال العام في الغرب، كما لم يحدث بالنسبة لأي قضية اقتصادية أو جيوبوليتيكية عادية. علاوة على هذا فإن وسائل الإعلام في الغرب ترى في الدلاي لاما زعيمًا من وزن وثقل نيلسون مانديلا أو فاكلاف هافيل: شخص تستطيع أن تفهم من خلاله قضية شعبه. وقال ناقد أمريكي بارز للسياسة الصينية: إن مساندة هوليوود للدلاي لاما ستجعل مسألة التبت مسألة بالغة الأهمية في العلاقات الصينية-الأمريكية، بل ستفوق أهمية حقوق الإنسان بعامة أو الخلافات التجارية أو الملكية الفكرية، أو أي موضوع آخر في جدول أعمال واشنطن. الموقف من التبت يعني موقفًا مع قضية تحظى باهتمام الأمريكيين.
وإزاء هذه القضية التي أصبحت تحظى باهتمام أعداد كبيرة من الأمريكيين، بعد أن كانت مسألة مبهمة، وجد بيل كلينتون نفسه مرغمًا على أن يقدم مجاملة سريعة تتمثل في مكالمة هاتفية خاطفة مع الدلاي لاما، في أثناء لقاء في واشنطن بين اللاما وآل جور نائب الرئيس في ربيع عام ١٩٩٧م. وحدث هذا على الرغم من تحذيرات الصين من أنه حتى لو تمت زيارة عرضية للرئيس، فسوف يقوض هذا العلاقة الجديدة التي يحاول كلينتون تأسيسها مع بكين. وأسر جيانج زيمين ذات مرة لأحد كبار الرسميين الأمريكيين قائلًا: «من غير المعقول أن يجعل الأمريكيون من هذا الموضوع قضية، بينما لا يتجاوز عدد سكان التبت أربعة ملايين بين ١٫٢ بليون صيني.» وإن مثل هذا التفكير تحديدًا يوضح طبيعة الاختلاف والتناقض المنهجي في أسلوبَي الأمريكيين والصينيين للنظر إلى العالم.
ونحن نتنبأ بأن تصبح التبت قضية تزداد سخونة سياسية باطراد، وأن تواصل بكين تشدُّدها على الرغم من تزايد النقد العام، ولكن الخاتمة المثيرة لهذه الدراما ستكون في القرن الواحد والعشرين، عندما تبدأ قيادة الصين التالية لجيانج زيمين مهمتها لعمل إصلاح سياسي جاد، وتبدأ إقامة مؤسسات سياسية جديدة؛ إذ في ظل هذه الأوضاع يصبح ممكنًا تأسيس فيدرالية صينية فضفاضة، خاصة بالنسبة لمناطق مثل التبت وهونج كونج وتايوان وسنكيانج. هنا يمكن وضع السياسات لتنفيذها والتفاوض على حلول وسط تسمح للدلاي لاما بالعودة إلى لاهاسا، قُبَيل نهاية حياته كزعيم روحي للتبت التي لا تزال جزءًا من الدولة الصينية الفيدرالية، ويشكل هذا الوضع ضمانًا حقيقيًّا للحرية الدينية.
(٧) اليابان تلعب بورقة الصين
ثمة سؤال محوري بشأن الحقبة القادمة للباسيفيكي، وهو طبيعة العلاقة التي ستعمل اليابان على تطويرها مع الصين. فاليابان هي القوة الاقتصادية العظمى الموجودة الآن في آسيا، ويعتبر اقتصادها أكبر من اقتصاد الصين بسبعة أمثال، بل إن قدراتها العسكرية أكثر تقدمًا في بعض النواحي، ولكن كل عاقل في اليابان يعرف أن المسألة هي مسألة وقت فقط، حتى تلحق الصين باليابان من حيث إجمالي الحجم الاقتصادي، وسوف تتجاوز اليابان من حيث قدرة النار العسكرية.
ويفترض الصقور ودعاة الارتباط الأمريكيون أن هناك تطابقًا أساسيًّا بين المصالح الأمريكية واليابانية؛ ومن ثم يأملون، بل يتوقعون، أن اليابان سوف يكون لها دورٌ مهم للموازنة مع قوة الصين في آسيا، وللمشاركة في النضال دفاعًا عن القيم السياسية والاقتصادية الأمريكية. وسوف تجد الولايات المتحدة، يقينًا، عونًا مهمًّا إذا شارك اليابانيون الأمريكيين سياستهم تجاه الصين، ولكن، وكما سبق أن وضح لنا ونحن نناقش «أسطورة الحلفاء» في الفصل الخامس، فإن هذا لا يزيد على كونه أضغاث أحلام.
إن قائمة القضايا في العلاقات الصينية-اليابانية طويلة ومعقدة. ويقول تقرير لمراسل كبير في آسيا «عسير عليك أن تجري محادثة مع واحد من كبار صناع السياسة اليابانية لمدة تصل إلى ثلاثين دقيقة، دون أن تتحوَّل المحادثة إلى موضوع الصين.»
«إن أسباب القلق في اليابان تمثِّل سلسلة طويلة الحلقات: إن اشتعال حرب أهلية في الصين قد تدفع عشرات الملايين إلى الهرب بالقوارب إلى اليابان، وإن اطراد ثورة صناعية في الصين يمكن أن يرفع أسعار النفط في العالم بنسبة كبيرة، ويتسبب في انبعاث أمطار حمضية وغير ذلك من الملوثات؛ لتصل عبر البحر إلى اليابان. وإن المغامرات الصينية ضد تايوان أو في بحر الصين الجنوبي يمكن أن تتدخل وتؤثر في النفط — شريان حياة اليابان — ومن ثم تصيب النظم الاقتصادية بالشلل في آسيا. وإن الصين ذات النزعة القومية المتصاعدة يمكن أن تستولي على جزر يابانية، وتحدث مواجهة عسكرية مع اليابان».
ويمكن أن تضيف القائمة الكثير والكثير مما يتعلق بقضايا عن دور الصين بالنسبة لمستقبل كوريا. وكيف ستؤثر العلاقات الوثيقة بين الصين وجنوب شرق آسيا في الاستثمارات الضخمة لليابان، وفي علاقتها التجارية في تلك البلدان.
وهناك القضايا التي خلفها التاريخ: سلوك اليابان في أثناء الحرب في الصين، حسب العبارة التي يفضلها اليوم السياسيون في الحديث عن هذه التجربة، وما تقوله الكتب الدراسية في اليابان عن هذا الموضوع؛ إذ إن هذا كله له دور شديد الحساسية ويتضخم بسهولة من خلال تعقيدات المفاوضات السياسية والتجارية التي تجري بالفعل، ويؤثر كذلك في التفكير الاستراتيجي لطرفَين بشأن مستقبل العلاقات بينهما، ولكن على الرغم من هذا التاريخ السياسي والعسكري المليء بالمشكلات، فإن اليابان اليوم هي أكبر مصدِّر في العالم إلى الصين، وهي واحدة من البلدان القليلة القادرة على الاحتفاظ بفائض تجاري ثابت مع الصين. ويفهم رجال الأعمال اليابانيون يقينًا الدلالات التجارية لسوق الصين، ولكن، على الرغم من هذا كله، فإن الكثيرين في اليابان يضمرون مشاعر متناقضة تجاه الصين؛ إذ كانت الشركات اليابانية، حتى عهد قريب، متقاعسة على نحو مثير عن الاستثمار في الصين، وعن نقل الصناعة اليابانية المحلية إلى المراكز الصينية منخفضة الكلفة. وقاوم التنفيذيون اليابانيون المقامرة الكاملة والمفتوحة في السوق الصينية لأسباب كثيرة؛ أولًا: لم يرحب البعض لأن كثيرين في الصين يكظمون ضغائن قديمة منذ أيام الحرب (أو أنهم على الأقل يحاولون تحصيل منافع أكبر من اليابان مقابل تلك الجراح). ثانيًا: إن بعض رجال الأعمال اليابانيين ينظرون في تعالٍ إلى الصينيين، ويتشككون في أخلاقياتهم وكفاءتهم واستقامتهم في العمل. ثالثًا: إن كثيرين من اليابانيين، الذين يعرفون جيدًا تاريخ الصين المضطرب، غير مقتنعين بأن الصين ستظل منفتحةً ومستقرةً زمنًا طويلًا. رابعًا: قاوم البعض نقل التكنولوجيا وهو ما تصرُّ عليه السلطات الصينية كجزء من استثمارات المشروعات المشتركة (وفي هذا الصدد، وجد الصينيون أن الأمريكيين أكثر تجاوبًا ورغبة في نقل التكنولوجيا وتدريب المديرين الصينيين في الولايات المتحدة؛ ولهذا أبدوا استعدادًا لعقد صفقات أفضل للشراكة مع الشركات الأمريكية).
وعندما أصبح ارتفاع الين غير محتمل، غيَّر المخططون اليابانيون اتجاههم، وشرعوا في نقل عملية التصنيع إلى الشاطئ البعيد، ولكنهم حتى في هذه الحالة لم تدفعهم غرائزهم الأولى إلى الاتجاه عبر البحر إلى الصين القريبة، بل إلى بلدان أكثر وداعة جائعة إلى التنمية الاقتصادية، وشاكرة لكل جهد في هذا المجال (ونعني تايلاند وماليزيا)، أو إلى أمريكا وأوروبا؛ حيث بلغت الضغوط السياسية أقصاها لخفض الفائض التجاري الياباني عن طريق التصنيع المحلي.
وبدأت اليابان تغيير تصوراتها عشية مأساة ميدان تيان آن مين، في الرابع من يونيو ١٩٨٩م؛ إذ تغيرت الأسباب حين عمد أغلب الأمريكيين إلى حجب عملياتهم أو خطط استثماراتهم السريعة؛ نتيجة إدانة واشنطن لسياسات الصين بالنسبة لحقوق الإنسان. ونظرًا لأن حكومة اليابان، وكذا شركاتها لم يدُر بخلدهم يومًا فرض أخلاق أو أيديولوجيا على مشروعات التجارة والأعمال على نحو ما يفعل الأمريكيون، فقد بدا من الملائم والمريح لهم البقاء في الصين، بينما جمع الأمريكيون حاجياتهم ورحلوا. وهكذا اقتنص اليابانيون الفرصة وتميزوا على الأمريكيين في السباق نحو الصين.
حدثت هذه الواقعة الفاصلة قبل شهور قليلة من ثقب بالونة الاقتصاد الياباني المزدهر في الثمانينيات. وأحدثت التوترات الاقتصادية في اليابان بعد ذلك تغيرًا أساسيًّا في نظامها الاقتصادي الداخلي، مما جعل شركاتها أكثر عدوانية في بحثها عن فرص جديدة وتكلفة أقل خارج البلاد. وبدت الصين حينئذٍ الحد الطبيعي لتحقيق هذَين الهدفَين.
وبدا أن الشركات اليابانية، حتى وإن شعر الصينيون إزاءها بالاستياء، هي الأكثر ملاءمةً في الغالب من الشركات الأمريكية المناظرة للوصول إلى أعمق مستويات الأعمال في الصين. ذلك أن آفاقها الزمنية للربحية أطول مدًى، كما أن هيئاتها التنفيذية تبقى فترات أطول، وراغبة أكثر من غيرها في العمل في المناطق النائية، حيث توجد الأسواق الصينية الفعلية. حقًّا أن الثقافات ليست متماثلة ولا متناغمة، ولكن القدر الأكبر من ثقافة الصين مفهوم لدى رجل الأعمال الياباني العادي، أكثر مما هو مفهوم لدى نظيره الأمريكي.
وتجارة اليابان هي واحدة من الإجابات عن سؤال يسأله المخططون الاقتصاديون اليابانيون لأنفسهم: كيف يمكن لليابان أن تنعش اقتصادها من جديد؟ لقد زاد الحديث باطراد عن الصين داخل وزارة الخارجية اليابانية، وداخل أروقة إدارة الشركات. ومثلما كانت الولايات المتحدة في تصور اليابان هي المسألة الاستراتيجية الأولى على مدى الأعوام الخمسين الماضية، كذلك الآن نجد خطة اليابان تتحوَّل إلى الصين لخمسين عامًا قادمة.
وكلما اقتربت اليابان أكثر وأكثر من الصين اقتصاديًّا، وجدت نفسها واقعة في مآزق متعددة، مثال: إن الولايات المتحدة لا تكفُّ عن الضغط على طوكيو لكي يكون لها دور أكبر في شئون حفظ السلام والأمن الدوليين، هذا بينما ترى بكين في كل خطوة يابانية في هذا الاتجاه تهديدًا موجهًا إلى الصين، وبادرة جديدة على أن اليابان لم تغير نزعتها العسكرية وأساليبها الإمبريالية القديمة. ومن المتوقع في المستقبل القريب أن تظل هذه المسألة مصدر توتر دائم لليابان، وسوف يكون لزامًا على صُنَّاع السياسة اليابانيين — على المدى الطويل — عمل بعض الاختيارات الأساسية، من ذلك بيان ما إذا كانوا يعتقدون أن مستقبلهم تمتد جذوره جغرافيًّا وطبيعيًّا في آسيا والشراكة مع الصين، أم في عالم افتراضي مؤلَّف من الثالوث المتقدم مع شمال أمريكا وأوروبا.
ونعتقد أن الخيار لن يكون إما أبيض وإما أسود، وإما كل شيء لي أو للآخر. وكلما تعمَّقت مصالح مشروعات الأعمال اليابانية أكثر وأكثر في الصين، واجهت وزارة الخارجية اليابانية تحديًا مثل الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم، وتحاول الاهتداء إلى سياسة ترابط لا تضر في النهاية بمصالح الأمن الياباني؛ بسبب صين مهيمنة، وعدوانية تربَّت ونشأت وترعرعت على الاستثمار والتكنولوجيا اليابانية.
ولكن قد يكون لزامًا على اليابان أن «تشاحن»؛ إذ ليس من المرجح في رأينا أن اليابان ستجد نفسها في موقف المزايدة الأمريكية في آسيا. وإنما على الأرجح أن يكون الميل الطبيعي لطوكيو في اتجاه بكين، حيث تتمثَّل أكبر وأعظم مصالحها الاقتصادية، وهذا من شأنه أن يعقد، وعلى نحو هائل، مهمة صناعة السياسة في واشنطن، مثلما يعقد تحديات مشروعات الأعمال التي تواجه الشركات الأمريكية، وهي تحاول أن تدخل منافسة ناجحة في آسيا.
(٨) غذاء لإثارة الفكر: بعد تحديث جيش الصين
صدرت أخيرًا كتب عديدة عن العلاقات الأمريكية-الصينية، عمد فيها مؤلفوها إلى وصف سيناريوهات لإثارة الفكر، والتي ترجح نشوب نزاعات مسلحة وغير ذلك من مواجهات، على عكس ما نرجحه نحن، بيد أنها جديرة بأن نعرضها في إيجاز:
-
يتكرر أسلوب السبعينيات من حيث نقص النفط على الصعيد العالمي وزيادة الأسعار، مع استيعاب الصين لكميات ضخمة من النفط؛ ومن ثم ارتفاع الأسعار عالميًّا.
-
حاجة الصين لتوسيع نطاق إنتاجها من الطاقة النووية، وهي البديل عن النفط الأكثر فعالية من حيث الكلفة، وطبعي أن تترتب على هذا اعتبارات بيئية وعسكرية خطرة عالميًّا.
-
يمكن أن تتشكَّل مجموعة جديدة من العلاقات العسكرية بين الصين والبلدان المنتجة للنفط في الشرق الأوسط (عمليًّا الآن يعتبر الشرق الأوسط السوق الأولى للصين لمبيعات الأسلحة، ناهيك عن البلدان المتاخمة أو القريبة من الصين).
-
أن تنشب معارك إقليمية شرسة بشأن جزر سبراتليز Spratlys وغيرها في مناطق بحر الصين الجنوبي الغنية بالنفط، وأيضًا بشأن طرق الملاحة البحرية في شرق آسيا.
ويرى كنت كولدر أن المعادلة الخطرة التي تتكشف في الصين تشبه الآتي: الاقتصادات المزدهرة تستلزم المزيد والمزيد من الطاقة. وأن الصين وغيرها من البلدان بدأت الآن فقط تشهد نمو صناعات مهمة للسيارات وبناء الطرق، وسوف تضيف هذه الصناعات كميات ضخمة من الطلب على الطاقة في آسيا. ومع اطراد نمو اقتصادات آسيا وتحولها إلى اقتصادات غنية — وفي مسيس الحاجة إلى الطاقة — ستبدأ تخصيص نسب كبيرة من ميزانياتها لسباق التسلح، الذي تراه ضروريًّا للسيطرة على مصادر الطاقة.
وإن سبعة فقط من هذه الاقتصادات — الصين وتايوان وشمال وجنوب كوريا واليابان وروسيا وفيتنام — لديها جيوش يبلغ إجمالي عددها سبعة ملايين رجل. وإن ستة من هذه البلدان تملك الآن بالفعل تكنولوجيا نووية، أو هي توشك أن تصبح قادرةً على تطوير أسلحة نووية، ويلاحظ كولدر:
«باتت واضحة للعيان الآن مشكلة الاستقرار الآسيوي التي تزداد مع كل برميل نفط تستورده الصين، ويتمثل الخطر في أن تحاول الصين حماية طرق إمدادها بالنفط، وأن تدافع عن سيادتها التاريخية في البحار المتاخمة، ويتهدَّد هذا الخطر بلدانًا أخرى في آسيا وخاصة اليابان. وتزعم الصين أن ٨٠ في المائة من بحر الصين الجنوبي مياه إقليمية لها، وتعلم أن ٧٠ في المائة من إمدادات اليابان من النفط تمرُّ عبر هذا الطريق».
والحقيقة أن الوصفة التي يطرحها كولدر من مقومات مثيرة للانفجار وصفة مروعة، ونحن أميل إلى الحد من الخوف من وقوع الأسوأ. وسبب ذلك أننا نتوقع أن تتكشف هذه الاتجاهات تدريجيًّا على مدى ما بين عشر إلى ثلاثين سنة قادمة، حيث يتوافر وقت كافٍ للملاءمة والتكيف، إن برامج الطاقة النووية سوف تتوسع وتنتشر، على الرغم من كل المخاطر المترتبة عليها. وسوف يتعلم الصينيون وغيرهم من الآسيويين استخدام الطاقة بكفاءة وفعالية على نحو ما تعلم اليابانيون، خلال العشرين عامًا الماضية. (إن اليابان التي لا تملك نفطًا محليًّا تتحدث عنه، تستورد الآن أقل من الولايات المتحدة على أساس وحدة المنتج الاقتصادي؛ إذ إنها تتمتع بمصادر طاقة غنية). وسوف تُكتشف احتياطات نفط جديدة في الأراضي الصينية وفي أماكن أخرى، هذا علاوة على تطور تكنولوجيا الطاقة البديلة.
ونحن نميل إلى الاتفاق مع لي كوان يو حاكم سنغافورة في طريقته التي صاغ بها إطارًا يجمع ما بين تزايد القوة العسكرية للصين مع أدنى حدٍّ من الانتشار بهذه القوة. وسبق أن حدد الإطار العام لهذا السيناريو فيما يلي:
«بحلول عام ٢٠٢٥م استطاعت الصين أن تنهض وترقى بقواتها المسلحة، ولكنها لا تزال تفتقر إلى أسلحة عالية التقانة من نوع أسلحة الأسطول الأمريكي السابع. وإن مجمعاتها الصناعية العسكرية والبحوث والتطوير متخلفة كثيرًا من مثيلاتها في أمريكا واليابان. وعلى الرغم من أن الصين تعرف أن أي زيادة مهمة في قدرتها على استعراض قوتها العسكرية خارج حدودها سوف تثير قلق جيرانها، فإنها لا تستطيع مقاومة الإغراء بشأن شراء أسلحة روسية، مقابل مواد غذائية ومنسوجات وأحذية، أو أن تستأجر علماء أسلحة «روسا»، وتقلب ستالين على جنبيه في قبره. إن هذه الأسلحة شجعت على عقد اتفاقات بشأن ترتيبات المشاركة في حصص النفط مع بلدان «الآسيان» التي كانت تطالب بجزر سبراتلي».
أو لنقُل بعبارة أخرى إن آسيا لن تكون منطقة حرب مستمرة، ولا فردوسًا اقتصاديًّا حرًّا ومتحررًا من استخدام القوة العسكرية. وإنما على العكس ستعيش القارة في سلام، ولكنه سلام قائم على استعراض العضلات مع بعض شروطه التي تحددها الصين، والبعض الآخر تفرضه سياسة توازن القوى، التي تضع في اعتبارها قوة أمريكا أيضًا.
ويعرض هنتنجتون لأسباب تربوية عرضًا مفصلًا لكيفية احتمال نشوب حرب بين الحضارات عام ٢٠١٠م، حيث تكون بؤر الاهتمام في هذه الحرب منصبة على المواجهة بين الصين والولايات المتحدة. ويرى مثلما يرى كولدر أن الطرق البحرية للنفط في بحر الصين الجنوبي ستكون السبب الأول الذي ستنطلق منه الجولة الثانية للنزاع العالمي. ويرى أن الحرب العالمية — التي يحدثنا عنها — سوف تبدأ بسبب تحرك من جانب الصين؛ لتأكيد سيطرتها الكاملة على بحر الصين الجنوبي. وستقود فيتنام، بمساندة من الولايات المتحدة، المقاومة ضد هيمنة الصين. ونورد فيما يلي بعض النقاط البارزة في سيناريو عام ٢٠١٠م الذي عرضه هنتنجتون:
-
عندما تغزو الصين فيتنام تلتمس هانوي مساعدة الولايات المتحدة. توافق واشنطن وتطالب بفرض عقوبات اقتصادية ضد الصين، وترسل قوة ضاربة محمولة.
-
يحاول رئيس وزراء اليابان التفاوض من أجل وقف إطلاق النار، ولكنه يفشل. ومع تصاعد الحرب تتجاهل الولايات المتحدة الخط الذي تفرضه اليابان على استخدام قواعدها في عمليات عسكرية ضد الصين. وهنا يتحرك اليابانيون لعزل القواعد الأمريكية.
-
الغواصات والطائرات الصينية وكذلك الصواريخ المعدة للانطلاق من أراضي الصين الأم، وكذلك من تايوان التي تم ضمها، تنزل دمارًا خطيرًا بسفن ومنشآت الولايات المتحدة في شرق آسيا. وبعد أن أحرز الصينيون هذه النجاحات العسكرية، بدأ الأمريكيون يتشككون في مبررات وكلفة التورط في هذه الحرب. وتأملت اليابان اتجاه الريح؛ ومن ثم غيرت وضعها من محايد إلى مشارك في حرب ضد عدو مشترك. قررت واشنطن سحب جميع قواتها وتقيم حصارًا حول اليابان.
-
وانحرفت قوات أخرى كذلك، المناضلون الإسلاميون المتشددون يسيطرون على بلدان الخليج ويمنعون النفط عن الغرب، وتعجز الهند عن التقدم في حرب مع باكستان وإيران المسلمتين، وتعاني أوروبا ضربات من صواريخ متمركزة في الجزائر والصرب، وتخشى أوروبا من أن تفرض شرق آسيا هيمنة كاملة؛ لذلك تعزز قواتها في سيبيريا، التي تواجه بدورها غزوًا صينيًّا ناجحًا يشمل كل المنطقة التي كانت في السابق تمثل الشرق الأقصى الروسي.
كيف يمكن أن تنتهي مثل هذه الحرب؟ البدائل هي دمار نووي متبادل، أو وقف الحرب بناءً على مفاوضات إثر إجهاض أهداف الأطراف جميعها، أو تتقدَّم القوات الروسية والغربية إلى ميدان تيان آن مين.
ولكن هنتنجتون إذ يقدم تلك الصورة المثيرة للانزعاج، ويعرض صورة لسيناريو غير متوقع الحدوث في المستقبل، لا يعني أنه يتنبأ به بل يقصد الحيلولة دون نشوب هذا النزاع أو أي نزاع آخر مماثل «في صورة حرب بين الحضارات».
وإذا كنا نجد في فرضية هنتنجتون ضوءًا كاشفًا، فإننا نعتقد أنها فرضية بالغة التطرف، وسكونية إلى أقصى حد، في فصله بين الحضارات. نعم ستقع نزاعات ضخمة في المستقبل، ولكننا لا نعتقد أن قمة خطوط النزاع ستصل إلى حرب نووية أو عالمية ثالثة. إن نشوب حرب واسعة النطاق، ساخنة، سواء نووية أو تقليدية يمكن أن تحدث، بطبيعة الحال، كناتج ثانوي لعملية تكيف عالمية فاشلة مع صعود الصين كقوة عالمية، ولكننا نرى أن هذا بعيد الاحتمال.
إننا نتوقع أن نشوب «صدام حضاري» بين الولايات المتحدة والصين، وكذلك بين الغرب وآسيا، مسألة أكثر تعقدًا ومرونة ودينامية، وأكثر قابلية للتغير من الصورة التي قدمها هنتنجتون. إن الصين ليست فقط بصدد إعادة تأكيد جذورها كحضارة عظمى، متمركزة حول قيم كونفوشية — على الرغم من أن هذا هو ما يجري إلى حدٍّ ما الآن في الصين — وإنما الصين كذلك تستوعب الكثير والكثير جدًّا من الغرب وتبدع الجديد الكثير. ونحن في هذه النقطة نتفق مع المضاربين على صعود الصين: إن التوجه بحكم الضرورة نحو التنمية الاقتصادية، والمصالح والاحتمالات الجديدة، التي ستتولد عن الحداثة والرخاء، كل هذا سيؤكد فعاليته القوية لكبح جماح أسوأ الدوافع العسكرية والسياسية للصين.