سيناريوهات للقرن الواحد والعشرين
(١) الإطار السياسي-الاقتصادي العام
وكما أشرنا آنفًا أننا نتنبأ، على المدى البعيد، بخلق واستحداث سوق اجتماعية كونفوشية (الفصل الرابع). وسوف يستلزم هذا خمسة وعشرين عامًا على الأقل لاستكمال المرافق اللازمة لسوق اجتماعية كونفوشية شاملة، على الرغم من أن أشكالها الجنينية واضحة للعيان الآن. وسوف تصبح المنظومات الاقتصادية والسياسية الصينية أكثر فأكثر حرية وحداثة باطِّراد على مدى ربع القرن القادم، وسوف تتطور المنظومتان داخل حدود معينة بوضوح، ولن تنجذب في اتجاه حريات الغرب المكتملة الناضجة.
وفي إطار «الحرية» كما يتصورها الغرب عملية، متصلة، سوف يظهر النظام الاقتصادي كنظام أكثر حرية بالمقارنة مع النظام السياسي. هذا على الرغم من أن الاقتصاد سوف يبقى مزيجًا من السوق الحرة، والسوق المحكومة والقوى التي لا علاقة لها بالسوق. وسوف تصطبغ المنظومة السياسية في هذه الأثناء بصبغة الحداثة في عدد من جوانبها الرئيسية، ولكنها — إجمالًا — ستبقى منظومة نخبوية تسلطية حريصة على الاحتفاظ بأهم دعامات السلطة السياسية والاقتصادية في أيدي القادة لحزب واحد.
«وعلى الرغم من أن الاختيار السياسي، في ظل هذا النظام، سيكون محدودًا وسيجري فرض قيود على حريات موضوعية متنوعة، فإن حدود الإمكانات ستخضع للاختبار مرارًا، وسوف تتحول دائمًا من مجال إلى آخر حسب الظروف، وستزداد باطراد عملية مقاسمة الدولة للسلطة مع المؤسسات الأخرى، وسوف يتطور الاقتصاد في إطار التأكيد المطرد على السوق مع تطور وظيفة الدولة كمسئولة عن التخطيط والحماية».
وهذا النهج ليس جديدًا برمته؛ إذ يمكن للمرء، في إطار الصورة المرسومة، أن يتخيَّل أجزاءً تبدو مألوفةً في كلٍّ من النظامَين الغربي والشرقي: جزءًا من السوق الحرة، وجزء شركات، وجزء تخطيط دولة، وجزءًا ديموقراطيًّا، وجزءًا استبداديًّا مطبوعًا بالخير. وسيكون للسوق الاجتماعية الكونفوشية صدًى قوي مع يابان الستينيات والسبعينيات، وقتما حددت مؤسسات الحكومة وأحكمت قبضتَيها على خطط مشروعات الأعمال والاقتصاد.
وسوف يشبه تدخل الدولة الصينية — من بعض نواحيه — تدخل الديموقراطيات الاشتراكية الأوروبية؛ ذلك أن حكومات بريطانيا قبل تاتشر، وفرنسا في عهد ديجول وميتران، وكذا ألمانيا وسكاندينافيا كانت تؤمن بقدرة الدولة على امتلاك وإدارة الصناعات الرئيسية. وعلى الرغم من أنه من اليسير تأكيد أن الصين سوف تتعلم من أخطاء هذه البلدان الأوروبية، وتقفز إلى نظم تحكمها السوق على طريقة تاتشر، فإن الصين قد تحتاج إلى التزام عملية نقل طويلة الأمد، مثلما حدث في أوروبا على مدى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية للوصول إلى نتائج مماثلة. إذا تأكد أنها صحيحة حقًّا للصين.
وربما تستلهم الصين صورة المستقبل لها من سنغافورة، التي تطبق نظام سوق اجتماعية كونفوشية متقدمة للغاية، وتحظى بإدارة متميزة. وتنعم سنغافورة بمستوى معيشة مرتفع، وتكنولوجيا متقدمة وديموقراطية ذات قاعدة اقتصادية واسعة (حيث حوالي ٨٠ في المائة من البالغين يملكون سكنًا خاصًّا بهم)، وتنعم أيضًا بقوة عمل ماهرة ومتعلمة، وقدرة تنافسية عالمية، ونقاء أخلاقي واجتماعي، وبرامج حكومية ضخمة ولكنها عالية الكفاءة. والبديل عن هذا كله هو دولة الحزب الواحد، وردود أفعال رسمية متطرفة إزاء أي معارضة، وقمع وسائل الإعلام، أو لنقُل بعبارة أخرى إن حاضر سنغافورة مستقبل جذاب للصين.
ويعكف خبراء سنغافورة الآن على تشييد ساحتَين صناعيتَين جديدتَين في الصين ذات كثافة إنتاجية كبيرة، ويبدءون عملهم هذا من الصفر اعتمادًا على مشورة خبراء من سنغافورة لاستشارتهم في كل شيء، ابتداءً من معرفة أفضل طريقة لتوزيع مناطق السكن والصناعة والترويح، وحتى بيان الرعاية الصحية المفيدة للعمال.
ولكن على الرغم من أن غالبية الصينيين يدركون مدى جاذبية النموذج السنغافوري، فإن هذه الخبرة الناجحة تمامًا في مجتمع غالبيته من الصينيين لا يمكن استيرادها بقضها وقضيضها. إن سنغافورة جزيرة في صورة دولة أمة، والتي لا يمكن أن تكرر ظروفها بسهولة. وإذا كان الغربيون لا يملُّون من انتقاد النزعة التسلطية في نظام سنغافورة السياسي، والنظام المفروض قسرًا في المجتمع، فإن كلًّا من الصقور ودعاة الارتباط سوف يبتهجون، إذا كانت «أسوأ» الأحوال بالنسبة للصين في المستقبل، ستكون أن تصبح الصين سنغافورة العملاق، أي مجتمع يحقق نجاحًا هائلًا في الاقتصاد ولا يهدد أحدًا، ويدعم بقوة الكثير من الأهداف والمُثُل العليا الأمريكية.
(٢) السور العظيم يصبح أطلالًا
أصبح واضحًا لدى أكثر المراقبين أن ليس بالإمكان وضع إطار اقتصادي-سياسي جديد بديل، ما لم تتوافر وتترسخ مجموعة قيم جديدة. وليس خطأ تأكيد أن الماركسية والمادية تجاوزتا فترة صلاحياتهما. والملاحظ أن القيم الغربية وثيقة الصلة ببعض مثقفي الحضر، لكنها كانت أيضًا مصدرًا من مصادر التحرر من الأوهام على نطاقٍ واسعٍ تأسيسًا على كيفية إدراك الصينيين للنظام الاجتماعي الأمريكي، والسياسة الأمريكية. ولم يتبقَّ من قيمٍ توافقت في شأنها الآراء سوى السيادة القومية والنزعة المادية المستشرية. وعلى الرغم من فائدة هاتَين القيمتَين، فإنهما لا تصلحان وحدهما أساسًا لتوجيه عملية التلاحم بين الصين وحداثة القرن الواحد والعشرين، وهذا ما تتفق في شأنه آراء الصينيين، ابتداءً من قادة الحكم وحتى المنشقين.
وإذا افترضنا أن الصين فريق من الممثلين يبحث عن مسرحية أخلاقية جدية، فإنه لا يجد — حتى الآن — مسودة نص مقنع قوي وموحد، غير أن الفصول والمشاهد مكتوبة بالفعل، واستلهمت مزيجًا من الأفكار من كونفوشيوس وحتى توفلر، ومن ماو تسي تونج حتى لي كوان يو. وتتداخل هذه الأفكار مع بعضها مثلما تتباعد أيضًا، ولكنها جميعًا تحمل «خصائص صينية»، ومن المرجح أن تكتمل بعد أن تأخذ من هنا ومن هناك في صورة مسودة نهائية.
إن الفكر الكونفوشي، حسب تفسيره الصحيح، يمكن أن يشكِّل أساسًا لنظام اقتصادي يستهدف النمو والربح، ويحقق — كذلك — ملاءمة مهمة وواسعة مع القيم الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية، علاوة على هذا أنه يخلق إمكاناتٍ لسياسةٍ استبداديةٍ يمكن تخفيف حدتها باقتصادات خيرة النوايا، وزعماء أقوياء، ونظم تراتبية هرمية غير رسمية تحدِّد المعايير المتفق عليها للأخلاق والسلوكيات العامة، دون قدرٍ كبيرٍ من المراقبة الديموقراطية. وإذا كانت الكونفوشية عادت ليس فقط على المستوى الرسمي، بل وأيضًا بين صفوف الملايين من العامة، فسبب ذلك أنها تهيئ للناس وسيلة للتلاؤم مع حالة التشوش الأخلاقي والتغير الاجتماعي السريع، وتتميز بأن شريعتها — وهي من ناحية عقيدة دينية، ومن ناحية ثانية قانون أخلاقي، ومن ثالثة طقس اجتماعي، وفلسفة سياسية — شريعة مرنة، يمكن أن يستشهد بها مفكرون ذوو مشارب ودوافع مختلفة.
والملاحظ أن الأديان والمعتقدات الصينية والأجنبية — على اختلاف شاكلتها وألوانها — تحقق رواجًا وذيوعًا في بحثها عن القيم التي يمكنها التصدِّي لمظاهر الأنانية والفساد والتكالب على جَمْع المال. ولقد أعادت دور العبادة جميعها ودون استثناء فتح أبوابها خلال الأعوام الأخيرة، ويؤمُّها ليس كبار السن فقط (على نحو ما كانت عليه الحال في السبعينيات أو الثمانينيات)، بل يؤمُّها كذلك الشباب ومحبو موضات العصر والنخبة المثقفة وطبقة رجال الأعمال. وبدأت تزدهر معتقدات الإسلام والبوذية والطاوية وغيرها من الأديان الشعبية، ولكن المسيحية هي الأسرع انتشارًا. وعلى الرغم من قلق الأمريكيين، الذين يؤكدون أن الصين تقمع بوحشيةٍ المسيحيين من أبناء شعبها، فإن هناك ثلاث كنائس يجري افتتاحها رسميًّا كل يومَين.
وسوف يطرد نمو وانتشار الدين خلال العقود القادمة؛ ذلك أن دور الدين ليس مقصورًا فقط على ملء فراغ أخلاقي، بل إن الحكومة التي سخرت منه يومًا وقالت إنه مخدر للشعوب، ترى اليوم أن الممارسات الدينية السوية — عن طريق تحسين الأخلاقيات الاجتماعية والشخصية — يمكنها أن تدعم وتعزز بناء أمة اشتراكية، ما دامت تعاليم الدين تضمَّنت جرعة من الروح الوطنية. والجدير ذكره أن راعيًا لكنيسة بكين المتحدة قال لأحد زائريه: «الكنيسة المسيحية إذا لم تكن وطنية فهي غير صادقة في عقيدتها الدينية».
وساعد التغير الاقتصادي، والمزيج النشط من التفكير الجديد، على إحداث نقلة أساسية في قيم الأفراد الصينيين، فتحولت من النزعة القدرية أو الجبر إلى الاختيار، ومن الخنوع إلى تأكيد الذات، وظهرت بدايات أولية للتحول من الالتزام فقط إلى الإيمان بالحقوق. وسوف تكتسب هذه النقلة قوة دفع كبيرة خلال العقود التالية، وحيث إن هذا التحول يسير في اتجاهٍ يطابق الاتجاه الأمريكي فليس معنى هذا، ولا توجد شواهد، أن القيم الغربية هي الهدف. إن كلمتَي «الرأسمالية» و«الديموقراطية» لا تزالان تعبِّران عن أسلوب حياة أكثر مما تعبِّران عن فَهْم حقيقي لكيفية تحققهما عمليًّا في حياة الغرب. ولا توجد عادة اجتماعية راسخة تشكل ركيزة للفردية أو الحقوق الشخصية أو التفاني لمبدأ الحرية، هذا على الرغم من أن الممارسة الفردية لهذه الأفكار تحظى بإعجاب واسع بين كثيرين من المثقفين الصينيين.
وربما يكون أيسر علينا في هذا السياق أن نفهم الفكر (إن لم نوافق على النتيجة) الذي عبر عنه مقال ظهر منذ فترة غير طويلة في صحيفة «ديلي بيبولز»: يقول المقال «السبب الرئيسي لأزمة الثقافة الغربية المعاصرة يكمن في التضارب بين العلم والدين؛ إذ لو كانت أخلاقيات الغرب وقيمه في شأن الحياة مرتكزةً على نزعة إنسانية أخرى غير المسيحية، لما ظهر التناقض سالف الذكر. وتمثل الكونفوشية الحل الأمثل؛ ذلك لأنها نزعة إنسانية غير دينية، وتشكِّل أساسًا للأخلاقيات ولقيم الحياة.» ويوضح المقال كيف استطاعت شرق آسيا أن تجريَ تحديثًا سريعًا لمجتمعاتها مع تجنب مظاهر القصور التي يعانيها الغرب. ثم يخلص المقال إلى نتيجة مؤداها: «وحيث إن هذه الثقافة أكثر ملاءمة للحقبة القادمة، فإنها سوف تزدهر كثيرًا خلال القرن الواحد والعشرين، وتحل محل الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة.»
(٣) سياسة ما بعد الشيوعية
«إن نواب المجلس الموصوفين عادة بأنهم كلاب السلطة المدللة، استجوبوا علانية في شأن خط السلطة؛ إذ على الرغم من أن الاقتصاد الجزئي زاخر بالمشكلات (انهيار صناعات الدولة والمخاطر التي تواجه البنوك)، فإن الاقتصاد الكلي في عافية وصحة. وسأل البعض كيف يمكن أن يكون الاقتصاد الجزئي عليلًا ومريضًا؟ هل ثمة ما هو خافٍ غير معروف لنا؟ هل هناك أصداء لنزعة التفاؤل المزيفة التي سادت وقت كارثة القفزة الكبرى إلى الأمام؟».
ويبدي القادة الصينيون، حتى اليوم، اهتمامًا متزايدًا بترسيخ وتأكيد أهمية المساندة الشعبية، بوسائل تعتبر تقليدية في الغرب، ولكنها جديدة في بلد يحرص قادته على الولاء للحزب دون سواه. والجدير ذكره أن عالم اقتصاد في هونج كونج رأى أن أحد البنوك خصَّص قرضًا إضافيًّا للصناعة أثناء الاستعداد لمؤتمر الحزب عام ١٩٩٧م، وقال «أهذا هو المعادل اللينيني للرغبة في افتعال حالة انتعاش قبل الانتخابات؟» وبدأت روح التسامح بين الآراء المختلفة تشيع في مختلف أنحاء المجتمع الصيني، كما تتزايد الآليات الاجتماعية والقانونية لحماية بعض حقوق الفرد. بيد أن هذه الخطوات على طريق تطوير بعض المؤسسات شبه الديموقراطية بديل للموازنة إزاء بعض النتائج المثبطة للنزاعات الصاعدة التقليدية والمحافظة والقومية الجديدة.
وعقد كبار الرسميين في الحزب الشيوعي منتدًى في أواخر عام ١٩٩٦م، لمساندة جيانج زيمين في دعوته إلى «حضارة روحية»، ويمثل البند الأول في جدول الأعمال شجب المؤثرات الأجنبية مثل «المفهوم الغربي عن حقوق الإنسان»، ولكن باستثناء ما ينطوي عليه مفهوم جيانج زيمين عن «الحضارة الروحية» من وضوح في موقفه من الأجانب وتدخُّلاتهم، فإنه يظل دعوى غامضة المضمون لتقاليد الحزب والدولة الاشتراكية، وهو ما تحتاج إليه الصين بصعوبة؛ لكي تتحرَّك قدمًا للأمام.
ويظل النظام السياسي، على الورق، ملتزمًا بالأهداف والمعتقدات الشيوعية، وهو ما لم يعُد يسانده لا المجتمع ولا يجمع عليه أعضاء الحزب البالغ عددهم ٥٦ مليون عضو. إن النظريات القديمة شديدة الوضوح، وعرفها جيدًا الغالبية العظمى من الصينيين، ممن تجاوزت أعمارهم العقد الرابع، ولكن لم تظهر أيديولوجيا جديدة، ولا حتى مبادئ بهدف جَعْل المجتمع يركز كل اهتمامه على مسألة النمو الاقتصادي والوحدة، ومنع جولات جديدة من النزاعات السياسية.
ونحن نتنبَّأ بأن الإصلاح السياسي سيظل مطلبًا حيويًّا لا مناص منه على مدى سنوات عديدة قادمة، ولكن دون التصدي له على نطاق واسع وفي جوانب عدة منه. وسوف يأخذ شكل أزمة ما فيما بين عامَي ٢٠٠٢م و٢٠٠٥م، حتى يبدأ هدم الحواجز التي تحول دون التصدي له. وإن كلمة «انفجار» كلمة وصفية مجازية؛ ذلك لأن ما يجري بالفعل ربما لا يكون مرئيًّا للعالم الخارجي؛ إذ سيكون الأمر نزاعًا بين النخبة — في صورة اقتراع — ومجلس الشعب القومي، أو تحديًا من حكام المقاطعات للسلطات المركزية، أو تقريرًا انشقاقيًّا في أثناء أحد اجتماعات الحزب. والشيء المحتمل أكثر ليس انتفاضةً جماهيريةً تطبق الديموقراطية في الصين، بل خطوة تشبه انهيار الحق المقدس للملوك في أوروبا في العصر الوسيط. وربما تنجح النخبة في الصين، بعد حوالي ثمانية قرون من الماجنا كارتا البريطانية، في مطالبة وإلزام كبار القادة الشيوعيين بقبول نظام رسمي للمشاركة في السلطة، ومراقبتها وتخصيص الموارد، وسوف يكون هذا هو المكافئ الصيني لموقف النبلاء الإنجليز، حين أرغموا الملك جون على الاعتراف ببعض الحقوق والسلطات الصريحة للنبلاء دون الملك.
(٤) الحزب الشيوعي
قد يدهش المحللون السياسيون اليابانيون؛ إذ يرى المفكرون الصينيون في الحزب الليبرالي الديموقراطي الحاكم في اليابان، منذ زمن طويل، نموذجًا لهم يحتذونه، ولكن هيمنة الحزب الليبرالي الياباني تحطمت الآن، وأصبح قادته أضعف من أن يحققوا أي تغير ذي قيمة، فضلًا عن أن الحزب شوهت صورته الفضيحة، وتهرأت روابطه التي كانت وثيقةً ذات يوم بجماهير الناخبين اليابانيين، ولكن الستينيات والسبعينيات والثمانينيات قصة أخرى، وهذا التاريخ هو ما يفكر فيه المثقفون ومراكز الفكر في الصين، عندما يرون أن الحزب الليبرالي الديموقراطي يمثِّل، على أقل تقدير، نموذجًا للحزب الشيوعي الصيني.
ويقول أحد المفكرين الصينيين، الذي كتب دراسة لم تُنشَر في شأن كيفية إصلاح الحزب الشيوعي: «أنا لا أستطيع أن أتصور الصين تعمل بنظام الحزبَين، مثل الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري في أمريكا، ولكنَّ شيئًا يشبه الحزب الديموقراطي في اليابان يمكن أن يلائم الوضع في الصين.»
لقد كان الحزب الليبرالي الديموقراطي في جوهره حكومة حزب واحد بقيت في السلطة لأكثر من ثلاثة عقود. وتوجد في اليابان — بطبيعة الحال — أحزاب أخرى، ولكن الحزب الليبرالي الديموقراطي هيمن على سياسة اليابان، وتولَّى إدارة مجالات الشراكة والتفاعل بين مشروعات الأعمال والعمال وبين الحكومة، ودارت جميع الحوارات والخلافات والتعديلات السياسية داخل غرف الحزب المغلقة، حيث يجري بحثها وترتيبها. وعملت الفرق المنظمة من داخل الحزب، وأخذت تتنافس مع بعضها من أجل السيطرة على جهاز الحزب، ولكن كل هذا حدث داخل سياق حزب واحد، الذي تبدَّى في صورة موحدة أمام الجماهير اليابانية. نعم كان الفساد مرضًا معديًا ولكن أمكن إخفاؤه، وأدى الحزب الليبرالي الديموقراطي دوره، وبنى اليابان الحديثة بكفاءة يندر أن نجد مثيلًا لها في حكومات العالم الحديث.
وتنتشر في آسيا نظم الحزب الواحد، حتى في البلدان المتقدمة اقتصاديًّا، والتي تسودها ديموقراطية سياسية في بعض نواحي حياتها. مثال ذلك أن الحزب الحاكم في سنغافورة قطع أشواطًا طويلة للحفاظ، ولو على عضو واحد معارض خارج البرلمان، حتى وإن كانت المعارضة شديدة الضعف. وبينما يواجه الآن لي تنج هوي ممثل الكومنتانج في تايوان تحديات من أحزاب عديدة، فإنه وريث الحزب الوحيد الذي حكم تايوان منذ هرب شانج كان شيك إلى تايوان عام ١٩٤٩م.
ونحن نتنبَّأ بأن يبدأ الإصلاح السياسي في الصين بعد عام ٢٠٠٢م؛ بحيث يفضي إلى العديد من التغيرات الحاسمة في هيكل الحزب الشيوعي:
-
إذ سيتمُّ رسميًّا التخلص من أجزاء كثيرة من البرنامج التقليدي للحزب الشيوعي، ويُتبنى برنامج جديد متميز يتصدَّى لحاجات الصين للتنمية والتحديث والديموقراطية الاقتصادية. وسوف يوضح البرنامج الجديد للحزب المقصود من معنى صيني ومعنى حديث، وسوف يصوغ الأهداف ومنهج نظام السوق الاجتماعية الكونفوشية، حتى وإن لم تجرِ الصياغة بهذه الكلمات.
-
سيجري إسقاط كلمة «شيوعي» من اسم الحزب من أجل التعبير عن شكل من أشكال التنمية الاقتصادية ذات طابع أكثر قومية.
-
ستغير القواعد والطرق التنظيمية للحزب بغية التخلص من المبدأ التقليدي الخاص «بالمركزية الديموقراطية»، وإنجاز شكل أكثر فعالية لديموقراطية مستدامة داخل الحزب تسمح بالحوار المفتوح الحر. وسيؤدي هذا إلى نشوء فرق منظمة داخل الحزب الواحد، وتوجهها النخبة دون شك، ولكنها ستكون أقدر مما هي اليوم على الاستجابة لمتطلبات واحتياجات جماهير الناخبين في الصين على اختلاف مشاربهم.
(٥) مؤسسات وتنظيمات جديدة
في موازاة عملية إصلاح الحزب الحاكم، سوف تجري عملية تطوير بعض المؤسسات السياسية الجديدة التي يحتاج إليها الآن بإلحاحٍ ونهمٍ مجتمعٌ ضخم ومعقد مثل مجتمع الصين:
-
ربما يمكن السماح لبعض الأحزاب السياسية الجديدة والواقعية، بأداء دور محدود في تسيير شئون الحكم على المستوى القومي. ويوجد بالفعل الآن من الناحية الرسمية «مؤتمر الشعب الصيني الاستشاري»، وهو هيئة «استشارية» مؤلفة من أحزاب مختلفة منذ أيام جبهة الصين المتحدة قبل خمسين عامًا. وأعطى زيمين إشارة بيدَيه لبعض هذه الفرق، مما يهيئ إمكانات لبعض هذه الأحزاب أن يكون لها صوتٌ أقوى (وإن ظل ضعيفًا).
-
سوف يُعمل بنظام الانتخابات المباشرة لتشمل مستويات أكثر من السياسة المحلية؛ إذ جرت المنافسات الانتخابية خلال السنوات الماضية لشغل المناصب القيادية على مستوى القرية، وامتدت أخيرًا إلى الدرجة الثانية من السلم السياسي الصيني، وهي المدينة. وربما في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبدأ انتخابات شعبية مباشرة لشغل مناصب أهم عند مستوى العواصم والمقاطعات كمثال؛ لتحل محل الأسلوب الحالي حيث يتولى التعيين في هذه المناصب رسميون موفدون من بكين. والجدير ذكره أن تيان تيون Tian Tiyun نائب رئيس المجلس الشعبي القومي، ويعتبر من أكثر القادة الصينيين ليبراليةً داخل المكتب السياسي، أدلى بأحاديث عديدة خلال العامَين الماضيَين، دعا فيها إلى تطبيق نظام الانتخابات المباشرة بين مرشحين عديدين. وطالب بألَّا يقتصر هذا النظام على المجلس الشعبي القومي وحده، وإنما يشمل الهيئات النيابية الأخرى، بل ويشمل أعلى المناصب الحكومية في الدولة. وكشف — مع قدر من الاستخفاف — عن أن هناك بعضًا ممن لا يؤيدون هذه الفكرة، ولكن لنعرف أن هذا هو على وجه الدقة والتحديد ما تستلزمه الديموقراطية. وربما استُحدث نوع ما من نظام الانتخاب المباشر ليشمل المناصب القومية، بما في ذلك منصبا رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء، ولكن نظام الاختيار من بين المرشحين على المستوى القومي سوف يخضع لرقابة شديدة في أثناء المعركة الانتخابية، مثلما هي الحال في انتخابات اليابان.
-
وسوف تواصل مؤسسات الدولة الرسمية، مثل المجلس الشعبي القومي، عملية تحقيق مزيد من الاستقلال عن قيادة الحزب، وهو ما سوف يتحقق مع تقاعد الجيل الراهن من القابضين على السلطة. وسوف تتحقق بالفعل — في الواقع العملي — سيادة القانون التي يعرب قادة اليوم عن تقديرهم وإجلالهم لها، ولكن كلامًا! وسوف يتجلى هذا واضحًا ليس فقط في التشريعات المكتوبة — والمعروف أن الصين سنَّت عددًا كبيرًا من القوانين خلال السنوات العشرين الماضية — ولكن من خلال هيئات قضائية أكثر استقلالًا وقادرة على التزام موقف مبرأ من مظاهر الانحياز، أكثر مما عليه الحال اليوم. وسيظل الجهاز التنفيذي — رئيس الدولة ومجلس الدولة والمكتب السياسي — هو الأقوى من أي جهاز آخر. بيد أن مجلس الشعب القومي والقضاء سيكون لهما دور أكثر فعالية مع توافر البدايات الأولى للمراقبة والموازنة.
-
وسوف يتولى العمد وحكام الأقاليم تعيين مجالس استشارية أكثر نشاطًا، وسوف يكون للنخبة، بفضل هذه المجالس، صوت غير أعضاء الحزب، علاوة على توافر أسلوب للمشاركة في السياسة وشئون الحكم. ومثلما حدث في أوروبا إبان الثورات البرجوازية، ومثلما هو حادث الآن في هونج كونج، ستنعقد المجالس على مستويات رسمية متباينة، وتضم ممثلين عن مختلف المهن وجماعات المصالح.
-
بدأت تظهر إلى الوجود جماعات المصالح، وجماعات تجارية، وغيرها من اتحادات طوعية، ويبلغ عدد هذه المنظمات غير الحكومية ذات التعريفات الفضفاضة حوالي ٨٠ ألفًا، وتضم اتحادات ومؤسسات وجمعيات وغرفًا تجارية. وتتميز بقدرٍ من الاستقلال الذاتي المتزايد باطراد، وإن كانت لا تشبه في كثير أو قليل المنظمات المناظرة لها في الولايات المتحدة. وتعتبر الحكومة بعض هذه المنظمات بمنزلة منظمات اجتماعية تساعد على صوغ حلول لمشكلات طارئة، وتجميع الموارد اللازمة لإنجاز هذه الحلول، خاصة أن أكثرها يتلقى دعمًا ماليًّا من الخارج. ولنحاول إلقاء نظرة سريعة على شريحة منها: إن نمو الطبقة الوسطى ينتج عنه بعض الظواهر، من بينها جماعات حماية المستهلك. وقد تلقت رابطة المستهلكين في الصين حوالي ٢٠٠ ألف شكوى رسمية عام ١٩٩٦م، هي شكاوى أفراد ضد شركات وأجهزة حكومية محلية، وتشتمل الشكاوى على مسائل عديدة ومتنوعة ابتداءً من سوء صناعة المنتجات، وحتى توقف خدمات المحليات. والجدير ذكره أن الأجانب ليسوا براءً من هذه الشكاوى؛ ذلك أن جيوبهم الواسعة جعلتهم أهدافًا مرصودة، وسبق أن حذر خافيير دي لاكروا Xavier De Lacroix رئيس إدارة الأزمات في مؤسسة العلاقات العامة في بكين؛ إذ قال: «يجب أن تكون الشركات الأجنبية واضحةً لا تشوبها شائبة، وأن مشروعاتها في الصين يمكن أن تؤثر فيها جماعات المصالح بالطريقة ذاتها التي تحدث في بقية أنحاء العالم.»
-
مشروعات الأعمال لها مصالحها وشئونها الخاصة، ولها مطالبات متزايدة تستحق لفت الأنظار. وعلى الرغم من أن تشكيلها لم يتم في استقلال تام، إلا أن العديد من روابط الإدارة والاتحادات التجارية ونوادي منظمي المشروعات وغيرها، يمكن أن تصبح قُوًى مهمة في المستقبل. وإن من أهم التطورات التي حدثت في السنوات الأخيرة افتتاح بنك جديد في عام ١٩٩٥م، ملتزم بتقديم قروض لمنظمي المشروعات الخاصة.
-
على مستوًى تنظيمي آخر سوف يُعترف بالمشروعات الكبرى مثل المشروعات المملوكة للدولة، بل ومشروعات أصغر كثيرًا مثل مشروعات المدن والقرى، باعتبار أنها أنواع جديدة لمشروعات حكومية من حيث الأمر الواقع، ولكنها سريعة الاستجابة لمصالح ومتطلبات مالكي الأسهم. وسيصدق هذا بوجه خاص على مشروعات المدن والقرى، التي هي في الأساس مشروعات جماعية ريفية لا تولِّد أرباحها دخلًا فقط لمصلحة المواطنين المحليين، بل وتوفر أيضًا الأساس لتحسين المرافق ومؤسسات الاتصالات اللاسلكية والتعليم والرعاية الصحية وغيرها من المطالب المحلية.
-
أخيرًا ستُسمع أصوات لأصحاب الأعمال الأفراد عبر قنوات عدة، وسيكونون ممثلين لدى المجلس الشعبي القومي والمجالس والهيئات التشريعية المحلية، وفي المقاطعات على سبيل المثال، أو يكونون مستشارين لدى الهيئات الحكومية على مختلف المستويات.
والملاحظ أن هذه المؤسسات والمنظمات والإصلاحات الجديدة تجمع بينها فكرة مشتركة: إعطاء الشعب صوتًا أكبر فأكبر على نحو تدريجي بطيء، مع التأكيد باستمرار على المسئولية والنظام والاستقرار. وسوف يأتي هذا كله استجابة والتزامًا لنهج سياسي يفضي إلى الانفتاح والشفافية، ولكن ليس مرجحًا أن يفضي إلى ديموقراطية مباشرة، على الأقل خلال العقدَين القادمَين. وسوف يظلُّ قائمًا فريق من نمط المكتب السياسي يحتكر السلطة السياسية القومية في المستقبل، ولكن أعضاء هذا المكتب السياسي ستكون لديهم جماهير أكثر يسمعون منهم عند تحديد الخط السياسي، وجماهير أخرى أكبر وأكبر يوضِّحون لهم، ويتحدثون إليهم من أجل إنجازه.
(٦) نحو فيدرالية صينية
إن تنازل المركز عن المزيد والمزيد من سلطاته إلى الأقاليم والمحليات، سيكون من أهم جوانب صيغة الإصلاح السياسي و«المقرطة» في الصين، وسيشتمل هذا أيضًا على الكيفية التي سيلتزم بها النظام لملاينة أي دوافع انشقاقية.
وإن اقتنعت بكين بفضائل تطبيق نظام فيدرالي لمواجهة مشكلات التطور الإقليمي غير المتساوي، والخصائص المتميزة لأقاليم بذاتها. وسوف يكون الإطار ملائمًا لحل العديد من المشكلات الحاسمة، بما في ذلك أسلوب السماح بقدر أعظم من الاستقلال الذاتي للبوذيين في التبت، وللمسلمين في سنكيانج، وللمناطق الغنية في جواندونج وعلى الساحل، وغيرها من المناطق التي تضيق بخضوعها للسلطة المركزية. ونتوقع أن يبدأ تطبيق بعض عناصر الفيدرالية مع الموجة الأولى للإصلاح السياسي، ولكن الأمر سوف يستغرق على الأقل ربع قرن حتى يظهر نظام فيدرالي حقيقي، وما إن يحدث هذا حتى تكون الصين مهيأةً لاستعادة تايوان سلميًّا، وستكون تايوان كذلك مهيأةً لهذا الزواج الجديد مرة أخرى.
(٧) الشركة الصينية الجديدة
تطوُّر الاقتصاد ومشروعات الأعمال سيغير الصين بشكل مباشر أكثر مما تغيرها السياسة. وإذا شاء القارئ أن يتصور تقديرًا لمدى وحجم الشركات الصينية الناشئة، فليس عليه إلا أن يتأمل خطة إعلام مدينة شنغهاي لتأسيس العديد من المشروعات العملاقة، التي تندرج ضمن أكبر خمسمائة مؤسسة في العالم بحلول العام ٢٠٠٠م. ويخططون، علاوة على هذا، لتأسيس مشروعَين أو ثلاثة مشروعات فائقة الضخامة، والتي تبلغ المبيعات السنوية لكلٍّ منها ما يساوي ١٢ بليون دولار، وخمسة عشر مشروعًا أخرى تبلغ قيمة مبيعاتها السنوية ٦٠٠ مليون دولار.
من المؤكَّد أن قضايا الإدارة بالنسبة لهذه المؤسسات ستكون مسألةً استثنائيةً وغير معهودة، ولكن بينما ستعمل هذه الشركات من أجل الربح، سيكون اتجاه إداراتها مسألة سياسية في الصميم. ولنتأمل آراء واحد من أبرز رؤساء الشركات المملوكة للدولة وهو من أبناء الحضر، ومن أكثر الرؤساء خبرة وقدرة إبداعية، فيقول إن الصين لن تتبنى أبدًا الأسلوب الغربي لرأسمالية سوق الجملة. ومع هذا فإنه يخشى أن تكون هناك حالة افتتان مبالغ فيها لقدرات السوق، دون اعتبار كافٍ للخصائص «المميزة» وللمؤسسات، وهو ما يتعين امتزاجها جميعًا مع اقتصاد السوق؛ لتكون سياسة رأسمالية السوق صالحة للعمل في الصين؛ إذ لو أننا اعتمدنا فقط على السوق، فلن نلحق أبدًا بالغرب في التكنولوجيا والاقتصاد الحديث. نحن في الصين في حاجةٍ إلى «تنظيم» السوق؛ بحيث يعمل بأكثر الوسائل إبداعية وأسرعها، وسوف يتعين علينا كذلك أن نتسامح مع بعض مظاهر قصور السوق، رغبة في الحفاظ على الشعور بالإنصاف والمساواة في الصين.
ويتساءل هذا المفكر من أبناء الجيل الرابع عن معامل الارتباط بين الديموقراطية والتطور الاقتصادي:
الديموقراطية ليست لازمة لدفع وتعزيز النمو الاقتصادي. قد يظن الأمريكيون أن هناك نموذجًا واحدًا، بينما هناك الكثير. إن الصين مجتمع زراعي في الأساس، وليست مجتمعًا تجاريًّا مثل أوروبا، والشعب الزراعي لا يحب المخاطرة: إنهم حريصون على التقليد أو الروتين وترك مسئولية التطورات الرئيسية للإمبراطور؛ يتولى الإمبراطور بناء السدود على سبيل المثال، وإذا حقق هذا قيل إنه إمبراطور عظيم، والصينيون في مسيس الحاجة إلى إمبراطور عادل حكيم، ولقد تعاملوا مع ماو ومع دنج على هذا النحو.
ولهذا سيتعين على الشركات أن تخدم مصالح الأمة، وليس فقط مصالح حفنة من الملاك؛ ومن ثم فإن الوصفة التي تحدد معالم التنفيذ هي «مزيد من الجماعية وقليل من الفردية.»
(٨) مسألة الملكية
إحدى الغرائب في الصين المعاصرة المناقشات المتكررة والطويلة لمسألة «الملكية». وبينما يتحرك الاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة في اتجاه السوق، ويسمح بمجال لقطاع نشط ومتزايد غير مملوك للدولة، يتكرر السؤال: «من المالك الحقيقي والعملي للأصول؟» وإذا ما بدأ مشروع جديد على أيدي أبناء بلدة أو جمعية تعاونية أو مكتب تابع للدولة. وحقق نجاحًا مذهلًا، يبرز السؤال: من المستفيد؟ وكيف تسهم الإدارة في المشروعات المملوكة للدولة بعد إعادة هيكلتها؟
وتحاول الصين بكل وسيلة ممكنة تجنب التخصيص الصريح المباشر، ونقل ملكية الأصول إلى فرد أو منظمي مشروعات أفراد، ولكن سيجري بالضرورة استخدام «بعض تدابير السوق»؛ لإرغام المشروعات المملوكة للدولة على المناقشة فيما بين بعضها بشكل أكثر مباشرة. ومن المحتمل الربط بين التعويض والأداء، كما يمكن السماح بدخول صغار ملاك الأسهم (من المواطنين والأجانب) في حالات كثيرة؛ لخفض الاعتمادية المالية على الدولة.
وإن إحدى الوسائل المؤدية إلى نجاح قوى السوق قد تكون السماح بعمليات الدمج بين المشروعات المملوكة للدولة أو البيع أو الإفلاس، وهذا ما يحدث بالفعل الآن؛ إذ يوجد الآن في شنغهاي وحدها أكثر من ٦٠٠ حالة دمج، على الرغم من أن غالبيتها تضمنت شركات صغيرة. ونتوقع أن تواصل الحكومة وتكثف جهودها السابقة على أساس تجريبي: تشذيب الترهل الذي أصاب المشروعات المملوكة للدولة عن طريق إعادة الهيكلة، بحيث تبقى الوحدات القوية القادرة على جذب الاستثمار الأصلي والمشروعات المشتركة، بينما ما تبقى من مشروعات متعثرة فتُدمج أو يُسمح لها بالإفلاس، ويتم هذا أيضًا بنتائج ناجحة. وربما يكون العقد الأول من القرن العشرين هو الحقبة الذهبية في الصين لعمليات الدمج والبيع والإصدارات العامة الأولية، حيث سيتم، خلال هذه الفترة، إعادة هيكلة وإعادة رسملة المشروعات المملوكة للدولة.
وسوف يسمح في حالات أخرى كثيرة، للبنوك الكبرى المملوكة للدولة، بأن تحول ديونها الميتة إلى أسهم؛ إذ قد يهيئ هذا للبنوك فرصة أداء دور نشط في العمليات الاقتصادية تمامًا، مثلما يفعل الدائنون إزاء قروضهم الميتة في الولايات المتحدة. وإذا كان لا بد من اتخاذ اختيارات صعبة وتدابير قاسية للحفاظ على المشروعات المملوكة للدولة في أداء دورها، فقد يكون من الأفضل سياسيًّا أن يكون البنك لا الحكومة هو المحرك الأول، حتى وإن كانت البنوك الكبرى مملوكة في النهاية للحكومة.
والملاحظ في بعض الحالات، أن القوى العاملة في المشروعات المملوكة للدولة صغيرة العدد، أو أن تكون الخسائر الاقتصادية في هذه المشروعات ميئوسًا منها، أو أن المديرين فيها ليسوا موضع رضًا سياسي. هنا يمكن لبكين أن تمسك الثور من قرنَيه وتغلق المشروع. وتم إيقاف أكثر من ألفَيْ شركة عن العمل خلال السنة الأولى من صدور قانون الإفلاس، الذي صدر أخيرًا جدًّا. ويأتي القانون متطابقًا مع القواعد العامة التي تسمح بالحماية من الإفلاس، بعد أن تكون الشركة مُنيت بخسائر على مدى ثلاث سنوات متوالية، وأضحت عاجزةً عن سداد أقساط الدين لمدة سنتين.
ويرى رجل الاقتصاد فان جانج أن بكين على مدى عشرة أعوام إلى خمسة عشر عامًا، من الآن، ربما تخفض ملكيتها في المشروعات المملوكة للدولة، حيث تبقي على النواة الأساسية والتي يبلغ عددها حوالي الألف مشروع. وهي المشروعات الأضخم والأهم من الناحية الاستراتيجية. وعلى الرغم من أن عدد المشروعات البالغ عددها الآن ١١٨ ألفًا، فإنها ستمثل، مع هذا، حوالي ٢٠ في المائة من إجمالي المخرج الصناعي. وأيًّا كان المسار الذي ستتخذه الصين ستبقى الدولة متحكمةً في عددٍ كبيرٍ جدًّا على طول الساحة الاقتصادية.
وستقع في هذه الأثناء تحولات مهمة، ولعل من أهمها زيادة برامج الضمان الاجتماعي والتقاعد للعمال، التي بدأ تمويلها الآن فقط لأول مرة. وستكون من الموارد الأساسية لرأس المال الاستثماري في المستقبل. وسوف تساعد هذه البرامج على خلق مدخرات مؤسسية وأوعية استثمارية، ليست غريبة عما بدأنا نشاهده في الولايات المتحدة: نوع من رأسمالية صندوق معاشات التقاعد.
وعلى الرغم من أن بكين، وكذا سلطات المقاطعات والأقاليم، شرعت في استبعاد التخطيط المركزي والإدارة المركزية للاقتصاد الجزئي، فإنه ستكون لهم قيادة عملية التنمية؛ إذ إن الدولة الصينية سيكون لها دور نشط وفعال في الإدارة الشاملة للبنية الأساسية الاقتصادية، ابتداءً من الإقناع المعنوي، وحتى الاستقطاعات الضريبية، ومن اللوائح والقوانين المنظمة وحتى الحملات السياسية.
وسوف تظل ملكية القدر الأعظم من الأصول في الصين، وعلى مدى عقود قادمة، ملكية لوحدات جمعية، وسيكون منظمو المشروعات الأفراد قادرين على تأسيس شركات قيمة، وسيكون لدى الصين عدد غفير من أصحاب الملايين ومجموعة من أصحاب البلايين، ولكن الجزء الأساسي من الأصول سيكون مملوكًا للدولة، أو لعمال المشروعات، أو لمجتمع محيط بالمشروع، أو جامعة، أو وحدة من وحدات الجيش، أو أي مؤسسة تعاونية أخرى. وبمرور الزمن سوف يتقاعد الجيل الرابع من أبناء الصين ليمسك بالزمام أبناء الجيل الخامس، وهنا ستكون أصول المعاشات والمدخرات الضخمة للصين قد تطوَّرت وأضحت مجتمعًا مستثمرًا مؤسسيًّا هائل الحجم والقدرات، وله حصص في محافظ الأوراق المالية التي كونتها وكالات الدولة وشركات تديرها الدولة.
(٩) الحجم مقابل السرعة
أحد مظاهر التعقد في العلاقات الأمريكية-الصينية خلال الجيل الثاني؛ نابعٌ من اختلاف حالات القوة والضعف للبلدين، والتي تتجلى على مائدة المنافسة والتعاون على الصعيد العالمي. ولم يناقش البَلدان فيما بينهما أو مع أنفسهما حالات الضعف والقوة إلا نادرًا. ويوافق كلٌّ بوجه عام على أن الولايات المتحدة هي المجتمع الذي يقود العالم في إنتاج تكنولوجيا البرمجيات الجديدة، على سبيل المثال، وأن قوة العمل المنضبطة والمتعلمة والرخيصة في الصين ميزة أساسية من أجل تطوير الصناعات التحويلية. وثمة أسئلة واقعية تتمثل في معرفة أي القيم التي تسبغها على مظاهر اختلاف القوة والضعف، وإلى أي مدًى وعلى أي نحوٍ سوف تتغير سريعًا هذه القيم؟ وحري أن نجيب عن الأسئلة في ضوء افتراضات متباينة عن تطور «الاقتصاد الجديد»، وعولمة مشروعات الأعمال، وصعود عصر المعلومات.
الصين قوية بالفعل، وتزداد قوة يومًا بعد يوم في عديد من المجالات الصناعية التقليدية المتنوعة، والتي كانت الولايات المتحدة تقود العالم فيها ذات يوم، ولكن إذا كانت الصناعة الضخمة تمثِّل استراتيجية تنمية اقتصادية جيدة للصين، فإن أنواع أصول القوى المستمدة منها — ضخامة عدد السكان ووفرة العمل الرخيص وثراء الموارد الطبيعية — مآلها كما يرى بعض الخبراء النابهين (خاصة في الغرب، وكذلك في آسيا) أن تفقد تدريجيًّا — في المستقبل — علاقتها الوثيقة بالرخاء والثروة وقيادة العالم.
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن الولايات المتحدة، وإن كانت قد فقدت كثيرًا، خلال السنوات القليلة الماضية، قوتها الصناعية التي أهلتها في السابق لقيادة العالم، فإن عددًا كبيرًا من المعنيين بالمستقبل الاقتصادي، والذين يصطنعون نماذج للقرن الواحد والعشرين، يؤكدون أن الولايات المتحدة لديها البديل. ويتمثل هذا البديل في أهم الأصول حساسية وأساسية لتوليه الثروة والقوة مستقبلًا: قطاع تكنولوجيا متقدمة مزدهرة وجامعات ومراكز أبحاث رائعة. ومشروعات أعمال خدمية غاية في التقدم. وأسواق مال نشطة. وبنية أساسية اقتصادية اجتماعية تنشر المعلومات على نطاق واسع، وتلغي الحواجز الحاكمة، وتشجع التجارة الحرة والأسواق المفتوحة. وتعزِّز وتعلي من قيمة التجديد الإبداعي والمعارف والحرية الخلاقة والنظم المرنة، وتؤكد الطابع الاستهلاكي للسلع والخدمات، وتعزز سرعة اتخاذ القرار.
ولا غرابة في أن الصين من حيث هي سوق «ناشئة»، لا تزال متخلفة وضعيفة في جميع هذه المجالات، وأكثر من هذا، أن ليس من المرجح بعد أن تقطع الصين شوطًا كبيرًا على طريق التغيير، أن تحدد نفسها حول هذه القيم. ويعتقد الصينيون، شأن كثيرين غيرهم في آسيا، أن بإمكانهم الحصول على ما يكفي حاجتهم التكنولوجية والاقتصادية؛ لكي يكونوا أهلًا للمنافسة الناجحة خلال القرن الواحد والعشرين، دون أن يعملوا — وبشكل موضوعي كبير — على توسيع نطاق الحرية الفردية أو حرية مشروعات الأعمال، خاصة دون التوسع ليكونوا على مستوى ما هو متحقق في الولايات المتحدة. وإن الصينيين ليسوا نوعًا آخر مغايرًا لشعوب سنغافورة أو اليابان أو غيرهما من بلدان آسيا، الذين ينشدون أن تبلغ بلادهم المستوى الأمريكي، الذي حاز إعجابهم في مجالات التقدم التكنولوجي والإبداع والابتكار، ولكن قليلين منهم — على الأرجح — هم الذين سيعيدون تحرير عقودهم الاجتماعية لكي يصلوا في النهاية إلى ما يرونه نتائج مروعة للديموقراطية المفرطة في أمريكا: جرائم العنف، أخلاق العمل، الاعتمادية على الإعانات الاجتماعية، الفوضى الجنسية والفسق العام، انهيار المؤسسات، عدم الاحترام لقادة الحكم والمجتمع، وشعب كاد أن يصبح بغير سلطة تحكمه.
والجدير ذكره أن الصينيين منذ بداية عملية الإصلاح في أواخر السبعينيات لا يكفُّون عن القول لكل من يستمع إليهم، إن هدفهم النهائي هو بناء مجتمع يجسد القسمات الإيجابية للمجتمعات الغربية دون السلبية. ونجد الصينيين واضحين غاية الوضوح في بياناتهم الرسمية (وكذا في ٩٩ في المائة من تعليقاتهم غير الرسمية)، فيما يتعلق بأنهم غير راغبين في إعادة بناء مجتمعهم على صورة مجتمعات الغرب، ولكن المستقبل الذي ينشدونه هو مزيج من الشرق والغرب: رأسمالية واشتراكية، تقليدي وجديد، واقتصاد يعمل بقوة دفع السوق مع التخطيط المركزي، وهذا هو المقصود من العبارة التي تتردَّد كثيرًا وتقول «اقتصاد سوق ذو خصائص صينية».
ويقول بعض رجال الاقتصاد والفكر في الصين: إن أعلى المستويات تدعم منذ أواخر الثمانينيات الوصول إلى حلٍّ لمشكلات الاشتراكية الصينية، عن طريق عملية التخصيص الجذرية وسرعة إطلاق قوى السوق بكامل طاقتها، ولكن إذا كان هذا هو الهدف دائمًا في الماضي، فإنه ليس كذلك الآن؛ إذ من المشكوك فيه أن السوق — بالأسلوب الغربي — تجاوزت مجرد كونها نظرية أكاديمية للمناقشة الأكاديمية الخاطفة، داخل قدس أقداس السلطة الصينية. ويؤمن أكثر العارفين الصينيين أن الزلزال الذي أصاب روسيا بسبب العلاج بالصدمات، والتخصيص الجذري المتطرف؛ كارثة لا يمكن التهوين من شأنها؛ ومن ثم فإنهم عازفون عن تكرار التجربة في الصين.
ولكن جاو اليوم أصبح مكروهًا بطبيعة الحال، وكذلك الموجة الثالثة على الأقل في الأوساط الرسمية. ويحاول جيانج زيمين، وهو ذروة الرجل الصناعي الشيوعي صاحب الموجة الثانية، أن يؤكد تلاحم الصين الضخمة لتكون أكبر وحدة في العالم تمثل تنظيم الموجة الثانية. ويتحدث زعماء الصين عن بناء صناعة سيارات جديدة، وإنعاش جميع الصناعات التحويلية العالمية، ويقول أحد كبار رجال الاقتصاد الصينيين: اكتشفنا أن ليس بالإمكان تخطي المراحل، إننا نستطيع أن نتحرك هنا وهناك سريعًا لتجسيد التكنولوجيا المتقدمة، ولكننا ونحن في بلد يتجاوز تعداده بليون نسمة، خاصة أن الغالبية العظمى منهم زراعيون، ليس بإمكاننا أن نظهر فجأةً بين يوم وليلة كاقتصاد قائم على قاعدة تكنولوجية متقدمة، أو لنَقُل — ببساطة — نحن في حاجة إلى تصنيع البلاد.
ويخشى توفلر من أن القوى المتخلفة للموجة الثانية في الصين قد تدمِّر إمكاناتها للموجة الثالثة، ويقول: «أي محاولة اليوم لبناء اقتصاد صناعي للإنتاج الكبير الخاص بالموجة الثانية، إنما هي وصفة للسير على طريق الكارثة، اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وبيئيًّا وفي كل المجالات الأخرى.» ولكن القيادة الوطنية في بكين تراهن بقوة على إقامة اقتصاد الموجة الثانية، وإذا نجحت فسوف يمثل هذا جانبًا رئيسيًّا لميزة الصين التنافسية في العالم، ويمكن أن يصبح كعب أخيل أو نقطة الضعف ومقتل الصين.
(١٠) الترابطية: رؤية لصورة صين المستقبل
ولعلنا ندفع بأن هذا التناقض على وجه التحديد ليس من المرجح أن يؤدي إلى انفصام عرى الصين وتفككها، ونكاد نقول: إنه لا توجد حركة انفصالية في العالم اعتمدت على الاختلافات الاقتصادية وحدها. وحيثما نجد بلدنا تفكك، يَبِن واضحًا أن العوامل النشطة في ذلك كانت هي الفوارق العرقية أو الدينية أو الإثنية أو اللغوية، ولا ريب في أن التفاوتات الاقتصادية تؤدي إلى تفاقم تلك العوامل وتضخيمها. وإذا تأملنا الثورات الانفعالية التي اشتعلت في البوسنة أو الشيشان أو شمال أيرلندا أو كويبك أو غيرها، نجد أن دور الاقتصاد فيها كان ثانويًّا على أحسن الفروض.
ويحكي هوانج عن فترة مضت منذ سنوات قليلة، عندما وقع صفقة هو وفريق معه من الشباب الصيني الطموح فائق البراعة في عقد الصفقات؛ إذ يقول: إنهم وقعوا «صفقة» مع شركاء أجانب عديدين من ماكدونالد وحتى جنرال إليكتريك، وسألناه هل لا تزال هناك رغبة لدى أبناء كانتون في جواندونج للانشقاق وتشكيل دولة — أمة خاصة بهم؟ نعرف أن جواندونج تحتل المرتبة الرابعة عشرة بين بلدان العالم من حيث السكان، وسيكون إجمالي الناتج المحلي حوالي حجم نظيره في نيوزيلندا، وستكون الثالثة على مستوى القمة بين دول العالم، إذا قيمناها على أساس إجمالي المخرج الاقتصادي.
ويقول هوانج: «مثل هذه الفكرة قد تبدو منطقية تمامًا لدى الأمريكيين، بيد أننا في الحقيقة لا نفكر فيها إطلاقًا، ولا نسمع عنها في مقاطعة جواندونج، نحن نستورد أيدي عاملة من المناطق الأفقر في الصين، ونستخدم رأسمالنا للاستثمار في المناطق الأخرى من الصين، ونبيع كل منتجاتنا في كل أنحاء الصين، ونحصل على القوى المحركة والموارد عبر حدود المقاطعات؛ ومن ثم فإن مصلحتنا تقضي بأن نكون جزءًا من الصين الكبرى.»
ولكن العمدة بو يرسم صورة مختلفة، وحيث إنه أحد من عملوا بشكل شخصي على إغراء حوالي ٢٥٠٠ شركة أجنبية لكي تأتي وتعمل في المنطقة، فقد قال لنا: «رؤيتي أن أهيئ البيئة اللازمة لبلد متقدم بأسعار بلد نامٍ. يمكن لداليان أن تتحرك في هذا الاتجاه فقط؛ لأنها نتاج اقتصاد قوي وسياسات وطنية» إن الصين ككيان وطني هي في نظر بو تشيلاي ليست حاجزًا بل مصدر رئيسي للميزة التنافسية. إن بكين هي التي تشيد البنية الأساسية وتكفل الدفاع المشترك، وتمثل المصلحة الجماعية في المفاوضات السياسية والتجارية الدولية، وتوفر الغراء الثقافي الرمزي الذي يحكم تلاحم الأنحاء المختلفة للبلاد ببعضها.
وإن إحدى الوسائل لفهم هذه العملية للتنمية الاقتصادية هي أن نفكر في الجغرافية الاقتصادية للصين، باعتبارها نوعًا من التشييد باستخدام طريقة الدعامات والعوارض، فثمة تسع دعامات — ولنُسمِّها مناطق اقتصادية إقليمية — تحتل كل دعامة مكانها الذي يدعم ثلاث «ممالك» اقتصادية، وحيث إن كل مملكة عند مستواها الخاص من التنمية، فإنه يتعين أن تتحرك السياسات القومية تأسيسًا على كلٍّ من احتياجات التنمية والجغرافيا.
وبينما يقف كل مستوًى من هذه المستويات الثلاثة وحده بدرجة ما، وسوف ينمو كلٌّ منها بمعدلات مختلفة، فإنه لا أحد منها بمعزل عن الآخر. وهذا هو ما تغفله معادلة التناقص يساوي التشظي: أي تغفل العدد الهائل من عوارض البناء التي تربط تلك «العمد» والأقاليم ببعضها مثل الحكم، والاستثمار المتبادل فيما بين القوميات والتجارة والأنهار والسكك الحديدية والطرق السريعة والمطارات. والأهم من هذا كله، الحاجة المتبادلة والرؤية المشتركة لمعنى أن تنتمي إلى صين قوية موحَّدة.
ولا ريب في أن أي حكومة ترغب في البقاء في السلطة، لا بد لها أن تواصل رفع مستوى معيشة الشعب الصيني، وتحقيق ذلك يستلزم وضع سياسات مختلفة لكل منطقة حسب ظروفها، بما في ذلك اختلاف مستويات اتجاه الدولة: فالسياسات الاقتصادية في «المناطق الخلفية» ربما تستلزم أن تكون خاضعة لتوجيه الدولة، مع استثمار مكثف في مشروعات البنية الأساسية، والتنمية الصناعية، ووسائل التعامل مع عملية النزوح الحتمي للفلاحين وسكان الريف. وإذا أردنا الإفادة من ميزة الضرورة كفضيلة، فسوف يكون بالإمكان ترك المناطق الساحلية لوسائلها الخاصة على اعتبار أن هذه المناطق، حتى إن انخفضت الاستثمارات فيها، فهي تسير بشكلٍ أساسي على طريق التنمية.
وسيواصل المتشائمون النظر إلى تناقص السلطة ويقولون: إن صراع المصالح سيؤدي بالصين إلى التفكك، ونحن نختلف معهم: إن الحركة الواضحة في اتجاه التكامل الاقتصادي الداخلي لا تحول دون نزعة الانفصال الإقليمية، ولكن مع مرونة واضحة من جانب المركز، تصبح هذه النزعة الانفصالية أقل احتمالًا. وإذا تأملنا رؤية الصين لنفسها من حيث قدرتها على التلاؤم مع التغيرات حتى الآن، وثقافتها، ونفسية شعبها، نجد أنفسنا إزاء حالة يمكنها أن تمتص بشكل جيد الكثير من الصدمات، وأن تتماسك في تلاحم. ونحن نعتقد أنه ستنشأ حالة توافق جديد بين العقول وتلاقٍ (مع الزمن) بين مطالب القواعد من العامة، والضرورات الملحة من القمة إلى القاعدة، مما يجبر الهيكل الهرمي القديم القائم على الأمر والتحكم إلى التسليم بعملية مرنة على نحو أكثر وضوحًا واكتمالًا. وسوف يدرك قادة الصين، عن يقين، أن الدولة أحادية البعد، المغالية في مركزيتها، والتراتبية، والبيروقراطية في تصلب لا يمكنها أن تؤدي دورها، ويتعين إبدالها ببيئة أقل مركزية وأكثر التزامًا بالبيئة الشبكية، وأكثر قبولًا للعلاقات المتغايرة.
وإن هذه الشبكة المتطورة والمتباينة اقتصاديًّا، سوف تسهم في خلق فضاء للمنابر السياسية المختلفة، ولأنواع مختلفة من التجارب على مستويات مختلفة من الاستقلال الذاتي والديموقراطية السياسية، ودرجات مختلفة لتأثيرات السوق. صفوة القول: إن حالة من التكافل والاعتمادية المتبادلة سوف تهيئ المسرح للمؤسسات السياسية الفيدرالية في المستقبل.
ولعل أفضل كلمة مجازية لفهم الاقتصاد السياسي المتطور في الصين كلمة مستعارة من مجال التكنولوجيا، وهي «التوصيلية أو الترابطية» أي قابلية التوصيل بين الأطراف المختلفة؛ إذ تبدو مقاطعات الصين ومناطقها أشبه بأجهزة كمبيوتر منفصلة، ولكلٍّ منها نظام تشغيل مستقل، ولكنها الآن، شأن كل شيء آخر في الصين، مترابطة ببعضها في شكل شبكة فعالة. وبحلول عام ٢٠٢٤م ستصبح بنية الصين أكثر مرونة وفيدرالية وتكيفية، وأقدر على التصدي لتحديات المنافسة الكوكبية في القرن الواحد والعشرين. إنها ستكون مملكة فضفاضة.
وستظل بطبيعة الحال أيضًا المملكة الوسطى.
(١١) سد الجنادل الثلاثة: دراسة في السياسة البيئية
وألهمت الجنادل أيضًا المهندسين والمخططين الذين راودتهم أحلام ترويض الفيضانات المدمرة، وكذا الحكام الذين أسرهم خيلاء الآثار العظيمة في تراث السور العظيم والقناة الكبرى. ويعتبر صن يات-صن صاحب الفضل في أنه أول من اقترح إقامة سدٍّ في عام ١٩١٩م، وبدأ التخطيط الرسمي في عهد شيانج كاي شيك منذ عام ١٩٣٢م، ويعتبر ماو تسي تونج بطله الحديث، بل إنه نظم قصيدة للشروع في الصورة المعدلة للمشروع عام ١٩٥٦م.
وتم وضع حجر الأساس رسميًّا عام ١٩٩٤م، وتجري الآن عملية تشييد أضخم مشروع عرفه العالم لتوليد القوى الهيدروليكية، والذي يولد طاقة تماثل خمسة عشر ضعف ما تولده محطة القوى النووية المعيارية، وسوف يكتمل المشروع حسب الجدول المحدد له العام ٢٠٠٩م، وسوف يحقق السد فوائد هائلة من حيث توليد الطاقة الكهربائية، وتوفير ملاحة نهرية داخلية على قدر عالٍ من الكفاءة والفعالية، علاوة على وضع نهاية لكوارث دورات الفيضان العالية.
ولكن هل سيكتمل يومًا؟ نحن لا نشك في قدرة الصين على أن تنجز المشروع بالكامل طالما أن الهندسة والتشييد قادران، ولكن إذا بدا السر تعبيرًا مجازيًّا عن كل عملية الانتقال الاقتصادي والسياسي التي تحاول إنجازها الصين، فسوف تثور هنا شكوك مهمة.
إن مشروع الجنادل الثلاثة تعبير متميز لفهم تطور المسار السياسي في الصين؛ إنه يكذب تلك الصورة لدى جمهرة الغرباء عن بلد يترجم إرادة الحزب إلى عمل تنجزه الحكومة والناس في طاعة عمياء؛ إذ إن مئات المؤسسات الحكومية والأجهزة البيروقراطية والهيئات الأكاديمية، شاركت المرة تلو الأخرى في دراسات تفصيلية تتعلَّق بجميع جوانب المشروع الضخم منذ منتصف الخمسينيات؛ ولكن حدث أن توقف التخطيط مرات متتالية، ولكن ليس فقط بسبب الثورة الثقافية وما أحدثته من فوضى وصراع أيديولوجي، بل وأيضًا بسبب الحوار الذي امتدَّ طويلًا في شأن جدوى المشروع وأثره السياسي والبيئي. إن الشيء المؤكد أنه مع إنجاز المشروع كاملًا، سوف يخلق خزانًا طوله ٤٠٠ ميل، ويغرق حوالي ١٥٠ ألف آكر (وتضم ١٦٠ بلدة وستة عشر موقعًا أثريًّا)، ويستلزم إعادة توطين ١٫٣ مليون نسمة.
وسرعان ما عاد الجدل مرة أخرى ولكن بصوت أعلى مما كان في الماضي، وبلغت المعارضة ذروتها عام ١٩٩٢م، عندما عرضت الحكومة المشروع لأخذ موافقة مقررة مسبقًا من مؤتمر الشعب القومي، ولكن حدث العكس؛ إذ أعرب أعضاء كثيرون عن خيبة أملهم؛ إذ لم يسمح لهم بالاطلاع على التقارير التي تنتقد المشروع، وطالبوا بعرضه من جديد للمناقشة، وحين طلب منهم المسئولون الصمت انفجر أحد الأعضاء صارخًا: «لقد انتهك المجلس لائحته.» وبعد أن عاد الهدوء وبدأ الاقتراع كان ثلث الأعضاء ما بين رافضين أو ممتنعين.
وكانت جماعات البيئة وحقوق الإنسان الدولية أعلى الأصوات في إدانة المشروع، ووصفه عمال السيارات المتحدون بقولهم: «إن قناة الحب الصينية وتشرنوبيل وجزيرة الأميال الثلاثة اجتمعت في واحد.» وقال عنه نادي سييرا: «الكابوس البيئي الاقتصادي السياسي»، ورمز عالمي «للتنمية غير المستدامة»، وأعربت مراقبة حقوق الإنسان/آسيا عن انزعاجها إزاء تقارير عن «السخرة»، ووصفت جهود إعادة التوطين بأنها «قسر صارخ»، وكانت نتيجة هذه الإدانة المعنوية، علاوة على الشكوك المالية والتقنية والبيئية التي أثارها الخبراء في الصين وفي العالم، أن سحب البنك الدولي موافقته على تمويل المشروع.
وعلى الرغم من التباين بين هذا الكلام وما يذهب إليه أنصار البيئة الغربيون، بل والمشتغلون بقضايا حقوق الإنسان، فإن موقف قيان يبدو صائبًا في سياق حكومة تحاول تحقيق قول مأثور عن دنج، وهو أن «التنمية هي النظرية الوحيدة». وحين يكون بلد ما فقيرًا مثل الصين، وفيضانات اليانجتسي تقتل بشكل متوافر الآلاف، وتدمر ملايين الأفدنة من أراضٍ زراعية متميزة، إذن هناك منطق لا محيص عنه، بل وضرورة ملحة توجب إنجاز المشروعات التي من شأنها أن تساعد مئات الملايين، حتى وإن لم يقتنع بها مليون أو ما يقرب من هذا العدد، وإن خبرة الصين في الماضي مع المشروعات الضخمة — القناة العظمى، وجسر نهر يانجتسي، والمصاطب اللانهائية على جوانب التلال — تؤكد أن هذه المشروعات كان لها ثمنها، ولكنها حققت منافع أكبر بكثير ومؤكدة لكل ذي عينَين. والجدير ذكره أن مشروعات التنمية الضخمة في الصين تسهم في تحقيق الخير الكثير، وتتجاوز إن لم تماثل بناء خط السكك الحديدية الممتد عبر القارة في الولايات المتحدة، وتحويل مجاري الأنهار الأمريكية، وكذا تحويل مجاري الوديان الضيقة إلى مشروعات لتوليد طاقة كهرومائية ومشروعات للري والترفيه. فهل ننكر الآن على الصين التطوير الذي أنجزه الغرب لنفسه؟
ونحن نعتقد أن الحكومة لن تتراجع رسميًّا، حقًّا أن المجرى الرئيسي للنهر تمت إعاقته بنجاح، ولا يزال لي بنج «الأب الأول لمشروع السد» يحتل مركز السلطة، ولا تزال الحكومة تهلل للمشروع، كأنه الأثر الباقي المعبر عن الصين الجديدة القوية. وانعقد حفل في موقع السد في نوفمبر عام ١٩٩٧م، وأعلن فيه جيانج زيمين أن النجاح الذي تحقَّق خلال المرحلة الأولى من المشروع خير برهان على تفوق النظام الاشتراكي، ولكن الجدل في شأن أمن السد وأثره في البيئة لا يزال يتصاعد مثلما سوف تتصاعد الكلفة مع الزمن (مثال ذلك بينما تنفق الحكومة الآن من الموازنة ٥ آلاف دولار لإعادة توطين شخص واحد، فإن هذا الرقم ربما يتضاعف بسهولة عندما يقترب السد من الاكتمال).
ونعتقد أن هنا تسنح فرصة لاتخاذ قرار إيجابي: ففي عام ٢٠٠٣م ستكون محطة توليد القوى الكهربائية الأولى بدأت تعمل … ولكن ستكون المياه ارتفعت فقط إلى نهاية المرحلة الأولى (من بين ثلاث مراحل)، وهنا ستبدأ مرحلة فاصلة، وهذه هي فترة عمل رصد وتقييم شاملَين. ولن يكون قد أُعيد توطين سوى بضع مئات الآلاف من الأشخاص، وليس كل العدد المتوقع وقدره نصف مليون نسمة. وخلال هذه الفترة يكون قد وصل إلى السلطة قادة غير مرتبطين شخصيًّا بالمشروع، وسوف تنجم عن البطء الاقتصادي إشكالية تتعلق بالكلفة اللازمة للوصول بالمشروع إلى الاستخدام الكامل، ولكن عددًا من المشروعات الهيدروليكية الصغيرة ستكون تحت الإنشاء فوق الروافد الرئيسية عند أعلى نهر يانجتسي، ومهيأة للعمل والتشغيل، وستكون كلفة هذه السدود أقل ولكنها ستنتج قدرًا أكبر من الكهرباء، وتهيئ إمكانات أكبر للإفادة من التحكم في الفيضان. وهكذا تكون السلطة حققت هدفها من ترويض نهر اليانجتسي، ويمكن خفض النطاق الكامل المخطط له بالنسبة للمشروع في صورته الكاملة. وسيتحوَّل ديناصور الموجة الثانية إلى ما يشبه تنينًا للمرحلة الثالثة. وطبعي أنه خلال عملية تحاشي أسوأ الأخطاء البيئية والاستثمارية المحتملة، تكون العملية السياسية أيضًا قد كشفت عما يمكن أن نسمِّيَه «الأسلوب الصيني»، ويكون قد أثبت نجاحه.