الفصل الثامن عشر

نظرة عجلى إلى المستقبل

التنين الأكبر عام ٢٠٢٤م

لكي نوجز ما نعتقد أنه ثاوٍ في المستقبل، ندعو القارئ لكي نلقي معًا نظرة عجلى إلى المستقبل، ونتخيَّل كأننا في عالم عام ٢٠٢٤م، وهو عام التنين في التقويم السنوي الصيني. لم تعُد الصين «سوقًا بازغة»، بل أضحت في صورة أول قوة عظمى حديثة في الألفية الجديدة. ولنتأمل معًا عينات محدودة من الحقائق الجديدة التي ظهرت وتطورت فيما بعد الغد ونهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.

  • ظلت الصين مجالًا للإصلاح الاقتصادي، ولكن دون أن تبرأ من تحولات عنيفة، وتأرجحات للبندول، وبنَت اقتصادًا يقارب الاقتصاد الأمريكي، من حيث إجمالي الحجم، وشهدت السنوات الأولى من القرن بعض الانخفاض في معدلات النمو، وركودًا خطرًا عام ٢٠٠٤م، مما جعل المراهنين على التقدم يتشككون في القول باتصال نمو الصين، ولكن بحلول عام ٢٠٢٤م، كانت الصين قاربت أن تصبح ندًّا للولايات المتحدة، من حيث إجمالي المخرج الاقتصادي، وبات متوقعًا لها في ثلاثينيات القرن ٢١، أن تظهر في صورة أضخم اقتصاد لأمة واحدة في العالم.

  • إن صعود الصين، شأن صعود غالبية القوى العظمى في العهود السابقة، أثار تناقضات حادة وتحديات للترتيبات القائمة للثروة والقوة على الصعيد الكوكبي. أضحت الولايات المتحدة والصين، الآن، القوتَين العظميَين الرائدتَين في القرن الواحد والعشرين. يتمتع البلدان بأعظم قدرٍ من تركز القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية، وأفاد العالم كثيرًا من البلدَين، عندما أضحى التفاعل بينهما إيجابيًّا.

  • كانت المواجهات، لسوء الحظ، أكثر من التعاون خلال الفترة ١٩٩٨–٢٠٠٥م، وأُهدِرَت فرص كثيرة للتقارب بين هذَين المجتمعَين المتكاملَين على نحو فريد، وسادت — خلال الأعوام الأولى من القرن الجديد — روح حرب باردة خبيثة: اقتصادية وسياسية بين الحين والآخر.

  • بعد عام ٢٠٠٥م، بدأ مناخ الحرب الباردة يتلاشى وينتفي داخل الولايات المتحدة، وذلك بفضل تضافر جهود عدد متزايد من الليبراليين في الصين. وتزايد ثقة الغرب في أن الصين لا يبدو أنها ستكون خطرًا استراتيجيًّا يتهدده، كما وضحت أكثر المنافع الاقتصادية لمشروعات الأعمال الأمريكية.

  • أضحت الصين مع عام ٢٠٢٤م أكبر منتج في العالم للغالبية العظمى من السلع المصنعة، وأضخم سوق عالمية لأنواع كثيرة من السلع أيضًا. واحتلَّت السوق الصينية بؤرة اهتمام استراتيجيات كثير من الشركات الأمريكية والعالمية، وعملت هذه السوق كمجال تنافس ناجح ينطوي على رهانات هائلة في صورة حصص للفائزين، ومصدر صراع وفشل لا ينتهيان للخاسرين. ولوحظ أن قدرة الصين على التصنيع الناجح، والاستيلاء على مقادير كبيرة ومهمة من سوقها المحلية غيَّرا، وعلى نحو جذري، خريطة المنافسة العالمية بين الشركات في مجال الأعمال، ابتداءً من الاتصالات اللاسلكية، وحتى السيارات والطائرات. وخلقت التجارة الصينية ملايين الوظائف في الخارج، وأثرت تأثيرًا مذهلًا في مصائر مئات الشركات الكوكبية.

  • ولكن نمو الصين المطَّرد، كاقتصاد تقوده الصناعة، شكَّل ضغطًا مستمرًّا في اتجاه خفض أجور العمال وأرباح الشركات، في محاولة لتوجيه صناعتها للسوق الكوكبية في أوروبا وشمال أمريكا واليابان. ونتيجةً لذلك، أصبحت سياسة الصين موضوع جدل حاد، بشأن «العولمة» في كل أنحاء العالم، وظهر بين صفوف العالم المتقدم تيار حمائي شرس، يدعو إلى الحد من التجارة مع الصين.

  • على الرغم من أن نصيب الفرد في الصين من الدخل ومن المنتج، لا يزال يمثل كسرة بالمعايير الغربية، فإن الحجم الكلي للصين يهيئ لها سلطة هائلة، للمساومة في الاقتصاد العالمي. تمثل الصين القلب من آسيا، التي تتزايد قوةً وثراء. إنها التجسيد الرائد للتحول الكوكبي في مجال تركز الثروة والسلطة من الغرب إلى الشرق، رمز العالم المتقدم إلى العالم النامي. وإن القوى الاقتصادية الرائدة الآن في العالم لا تضم الصين فقط، بل وأيضًا الهند والبرازيل والمكسيك وإندونيسيا وروسيا، ولكن لا تزال، في هذه الأثناء، الديموقراطيات المتقدمة التقليدية (أمريكا واليابان وألمانيا … إلخ) دولًا قوية وغنية، غير أنها أصبحت أقليةً من حيث إجمالي هيكل المخرج والتجارة وإنتاج الثروة على الصعيد الكوكبي.

  • طور الصينيون لأنفسهم إطارهم الاقتصادي السياسي الأساسي الجديد، الذي يعتمد على عناصر من رأسمالية السوق الحديثة ذات الأسلوب الغربي، ولكنه يجسد نبض الصين الممتد على مدى خمسة آلاف عام هي تاريخها الثقافي، ويعكس كذلك تراث خمسين عامًا من الشيوعية، ولا يزال يحتفظ بقوة كبرى لدولة نشطة قادرة على تغيير مسار الأحداث بقوة، وفرض خططها. وعلى الرغم من الزخارف الخارجية للتغريب، لم يتحول الصينيون لكي يكونوا صورة منا نحن الغربيين: سياسيًّا أو ثقافيًّا.

  • ولكن، رغبة في تطوير هذا الاقتصاد السياسي الصيني الجديد، بدأ إصلاح مهم وتطبيق للديموقراطية داخل المؤسسات الصينية والحزب الشيوعي الصيني. وفي السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، مارس ملاك الأسهم الجدد ضغوطًا داخل نطاق الاقتصاد الصيني، الذي يزداد ازدهارًا، مما اضطر معه القادة الجدد، من أبناء الجيل الحالي، إلى اتخاذ خطوة حاسمة على طريق الإصلاح السياسي، الذي تأخر طويلًا، وحقق ذلك نتائج إيجابية.

  • الصين بلد منفتح أكثر مما اعتاد، ولكنه ليس ديموقراطيًّا بالمعنى الغربي. وتتنافس على السلطة فيه فرق وتيارات كثيرة من أبناء الصفوة، ويمثل هؤلاء — في الغالب — جماعات مصالح ذات قواعد واسعة ومشروعة، ولكنهم لا يزالون — بعامة — يجادلون داخل غرف موصدة. ولا تزال الحكومة المركزية تواصل مهمة التنظيم والتخطيط، وفقًا للمعايير الغربية إلى حدٍّ كبير جدًّا، ولا تزال تعمل بطريقة تسلطية وغامضة.

  • لا تزال الأيديولوجيا قوة مكينة، على الرغم من أن محتوى تلك الأيديولوجيا هو النزعة القومية، والتنمية الاقتصادية هي الأولى، والمبادئ الاشتراكية هي الثانية، وتحظى «الديموقراطية الاقتصادية» بقيمة رفيعة تفوق كثيرًا الحرية الشخصية، حيث تعني الديموقراطية الاقتصادية، لدى الصين، نمو وتطوير الاقتصاد القومي.

  • أصاب الصين بالفعل كل ما تنبأ به المثقفون الغربيون، وعبروا عنه في صورة سيناريو كارثي، ولكنه كان أقل دمارًا وتأثيرًا مما تصوروا: تفجرت بين الحين والآخر التناقضات الاجتماعية بين الأغنياء الجدد والفقراء الجدد، وأثارت الشغب جيوش العمال المهاجرين، وانهارت المشروعات المملوكة للدولة وقد أفلست، وانتزعت أقاليم لنفسها السلطة التي كانت في السابق حكرًا على المركز، وثارت موجات عداء ضد الأجانب، تهدد بطرد المستثمرين الأجانب من الصين، وثبت أحيانًا فشل مشروعات البنية الأساسية الخاضعة لسياسة تخطيط مبالغ فيها، كما فشلت، وبصورة مخجلة، جهود الجميع من القمة إلى القاعدة لإنشاء مدن جديدة، وصناعات وأسواق مال جديدة، ووقعت كوارث إيكولوجية على نطاق واسع، ومع هذا ظل الدافع قويًّا جدًّا من أجل تحقيق تقدم اقتصادي، ما مكن المركز من الحفاظ على تماسك الصين أمة واحدة.

  • على الرغم مما تملكه الصين من موارد طاقة غنية واقتصاد زراعي كثيف تقليديًّا، فإنها أصبحت معتمدة اعتمادًا كبيرًا على واردات النفط والغذاء. وإن حاجتها إلى أن تكون جزءًا فاعلًا نشطًا في منظومة التجارة الكوكبية، قيدت البعض من السياسيين في بكين ذوي النزعات القومية، وكراهية الأجانب بصورة تفوق سواهم، ولكن هذا الوضع شجع، أيضًا، زعماء الصين ممن يبذلون جهودًا، ليقوموا بدور شركاء في التجارة العالمية بعضهم ضد بعض. ورسخت الصين، من جديد، زعامتها لحركة «عدم الانحياز» القديمة، وعمدت إلى إنشاء روابط وثيقة مع بلدان آسيا والشرق الأوسط الغنية بالنفط؛ ليكون ذلك حصنًا حاميًا ضد الاعتماد الزائد على الغرب.

  • ربما لم يصبح الصينيون أغنياء جدًّا من حيث «نصيب الفرد»، غير أن المدن الساحلية مثل شنغهاي وجوانجو وبكين أصبحت حواضر مزدهرة، تضارع في تقدمها وحداثتها أي حاضرة أخرى في آسيا. وتعتبر المدن الداخلية مثل ووهان وشنجدو Chengdu وشونكنج Chong Qing بمنزلة نقاط التقاء، ومراكز تقاطع على شبكة اقتصاد الصين المتقدم. وجاء هذا نتيجة لسياسات بدأت في التسعينيات، تهدف إلى توجيه الاستثمار إلى مناطق الداخل حتى القاصية منها، بعد أن كان الاستثمار في السابق محصورًا — أساسًا — في مناطق الساحل. وأصبحت الصين الآن زاخرةً بجزر تنعم بالرخاء: مدن وأقاليم تماثل في حجمها حجم كل الاقتصادات الآسيوية، مثل كوريا وتايلاند.
  • رسملة السوق لبورصة شنغهاي (سوق الأوراق المالية) تقتفي أثر بورصة نيويورك، ولكنها فاقت لندن وهونج كونج وطوكيو. ونقرأ قائمة «فورشن» عن أكبر ٥٠٠ شركة عالمية، ونجد أن حوالي مائةٍ منها متمركزة في الصين، أو قريبة جدًّا من الصين، ونطالع كذلك قائمة «فوربس Forbes» عن أغنى أثرياء العالم الأفراد، ونجد من بينهم، ليس فقط ثروات الأسر الصينية المهاجرة فيما وراء البحار، كما كانت الحال في العقود السابقة، بل نجد كثيرين من الجدد داخل الصين وعلى حواف الصين.
  • التزامًا بالنهج الصعب والناجح الذي اتبعته الصين مع هونج كونج عام ١٩٩٧م، أصبحت تايوان الآن، أيضًا، جزءًا متحدًا داخل الصين الفيدرالية. وأضافت تايوان شريحة جديدة إلى إجمالي الناتج المحلي، مثلما أضافت موارد بشرية مهمة تتمثل في كادر الإدارة، الذي يعتبر ضرورة لتطوير الصناعات والخدمات المتقدمة.

  • تطور مكون من مكونات الدرجة الثالثة من التقانة العليا المتقدمة في داخل كلٍّ من المنظومة الاقتصادية للصين، وأيضًا داخل مساحتها الجغرافية، مثلما حدث في الجنوب، حيث المنطقة التي شهدت نموًّا زائدًا ومرتفعًا، ولكن القسط الأكبر من النمو الاقتصادي تحقَّق من خلال الصناعات التقليدية ذات الإنتاج الكبير. وابتعدت السلطات الصينية أدنى مسافة ممكنة عن محاولاتها في الماضي لتقييد تدفُّق المعارف والمعلومات. ولم تكفَّ السلطات عن التفكير بلغة الموجة الثانية الصناعية للقرن العشرين، مركزة على إقامة صناعات كبيرة ومشروعات ضخمة للبنية الأساسية، في الوقت الذي تنظم فيه البلاد كدولة — أمة ذات حدود، والحقيقة أنه في الوقت الذي تشارك فيه الصين الاقتصاد الكوكبي «الشبكي» الجديد وتجني من فوائده، إذا بها قوة تشد العالم إلى الخلف في اتجاه السياسات التقليدية للدول-الأمم.

  • التناقض بين الثقل الكوكبي المتزايد للصين ومتوسط مستوى المعيشة المنخفض نسبيًّا فيها، ساعد على استدامة صورة عن الذات «الفقيرة المتخلفة المستغلة من الأجانب». وتستخدم قيادة بكين سياسات النزعة الشعبية المحلية لاتباع استراتيجيات حمائية وميركانتيلية جديدة ووطنية جديدة. ودأبت الصين دائمًا على استخدام قدرتها الاقتصادية المتزايدة، وقدرتها على فتح أو غلق أسواقها للآخرين، كقوة دعم لها من أجل فرض مطالب لها على الأجانب، ولتعزيز مستوى المعيشة بالداخل. وبدا أن هذه النزعة القومية الاقتصادية معدية في آسيا وفي كل أنحاء العالم.

  • بعد ثلاثين عامًا من التكوين الرأسمالي الشاق والكثيف، المرتكز على معدلات ادخار عالية للغاية، بدأت الصين في الظهور كقوة تصدير مهمة لرأس المال. وهكذا نجد أن فورة التسعينيات لاندفاع المستثمرين الأجانب إلى داخل الصين، انعكست الآن في صورة توسع للشركات المتمركزة في الصين؛ لتنتشر في كل أنحاء آسيا والعالم.

  • أصبحت العلاقات الصينية-الروسية قضية جديدة مثيرة لدى الصقور الأمريكيين خلال السنوات الأولى من القرن الجديد: سمعنا الكثير مما يثير الذعر، بشأن شبح تحالف صيني-روسي جديد. حيث يقايض الروس الأسلحة المتقدمة بالسلع الاستهلاكية والمواد الخام، ولم يتم عمليًّا أي حلف حقيقي بين موسكو وبكين، ولم يتجاوز الأمر حدود علاقات تجارية صحية مع بزوغ بكين كقوة اقتصادية كبرى في أقصى الشرق من روسيا.

  • تحقق «حلم الصين» القديم لمئات الملايين: لقد امتلكوا بيوتًا وشققًا للسكنى، وكانت المرافق مشروعًا ضخمًا أنجزته الصين خلال هذه الفترة؛ اعتمادًا على استثمار أجنبي كبير، علاوة على التكنولوجيا والخبرة الفنية. وشُيدت المطارات وبُنيت الطرق السريعة وشبكات توليد القوى، مما كان يمثل ضرورة في البلاد، ولكن القسط الأكبر من حالة الانتعاش الاقتصادي المستمرة، يرجع إلى عمليات تشييد المباني الجيدة لجماهير الصينيين، الذين ظلوا طوال حياتهم محرومين من الخدمات الجيدة. وسددت الصين تكاليف هذا كله بفضل معدلات ادخار الأسر الرائدة في العالم: ذلك أن الإسكان الحديث أنعش الاقتصاد الاستهلاكي في الصين تمامًا، مثلما حدث في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. وأفادت ملكية البيت كأداة اجتماعية تحفز الكثيرين ليصبحوا ملاكًا للأسهم في المجتمع، ولتعزيز الاستقرار والانسجام الاجتماعي، وهذا هو ما حدث أيضًا في سنغافورة منذ عهد قريب.

  • أصبحت الصين الآن قوة الهيمنة الرئيسية في آسيا، وإن ظلَّت ترفض الاعتراف بهذا الواقع. وحاولت اليابان سنوات أن تتودد للغرب، ولكنها أخيرًا انزلقت أكثر فأكثر داخل شرك الاقتصاد الصيني والمجال الآسيوي. ويمكن القول الآن: إن جميع الشركات تقريبًا في كل أنحاء آسيا تزدهر أو تفشل تأسيسًا على علاقتها بالصين. ويحرص أبناء النخبة الحاكمة في كل عواصم آسيا تقريبًا على التوافق مع الصين أو ملاينتها أو التهدئة، حسبما تقضي الضرورة، خاصة بعد أن شاهدوا في أكثر من مناسبة، خلال مطلع القرن الواحد والعشرين، كيف أثبتت الصين استعدادها لاستخدم القوة ضد جيرانها.

  • توافقت المصالح الصينية-اليابانية، وأضحت نقطة الارتكاز بالنسبة لأكثر من عشرة نظم اقتصادية آسيوية «للنمور الآسيوية الصغيرة» تربطها بالصين آلاف الخيوط. وشهدت هذه الحقبة أيضًا كيف أن المجتمعات المحلية الصينية المقيمة فيما وراء البحار أصبحت هي والشركات تمثل جزءًا متكاملًا من القصة. وهكذا تحول القرن الواحد والعشرون ليصبح «قرن آسيا» كما تنبَّأ كثيرون.

(١) نظرة إلى الوراء من عام ٢٠٢٤م

إذا تطلع المؤرخون الغربيون إلى الوراء من موقع التميز عام ٢٠٢٤م، ربما يخلصون إلى أن صعود الصين وصعود آسيا المتمركزة حول الصين، لم يؤكد الصورة التي كانت متوقعة في مرحلة سابقة عن «نحن» ضد «هم»، وكل شيءٍ أو لا شيء، والخير مقابل الشر، أو إما حرب وإما سلام. نعم زخرت العملية بحالات استقطاب ومواجهة، وحرب اقتصادية باردة، بل ونزاع عسكري ذي دلالة. حقًّا أن تكيف العالم مع دخول بليون ونصف البليون نسمة من الصين إلى ساحة الاقتصاد العالمي كان عملية معقدة، بل كان في بعض الأحيان صدمة للغرباء، مثلما كان أيضًا للصينيين أنفسهم.

ولعل من الإنصاف القول: إن نمو الصين اختبر بقسوة حدود المرونة والمطواعية في النظام العالمي للألفية الجديدة: لقد تولد ما سمَّاه جوزيف شومبيتر Josef Schumpeter «وابل التدمير الإبداعي»؛ إذ أدى إلى تفاقم الكثير من التحديات الصعبة التي واجهها بالفعل صناع السياسة الأمريكيون — وغيرهم في العالم المتقدم — وتولدت عنها تحديات أخرى جديدة؛ إذ من ناحية، نادرًا ما جاءت العملية على غرار الصورة التي تخيَّلها في التسعينيات المثقفون السذج، الذين رأوا في الصين أساسًا سوقًا عملاقة للسلع الغربية، وساحة لجني أرباح للشركات الغربية. حقًّا انقلب تصورهم للصين كمجتمع ما إن يعبَّ بنهم شراب الكوكاكولا، الذي ظل زمنًا طويلًا محرومًا منه، حتى يتخلق خط مباشر يربطه بالديموقراطية الليبرالية على الأسلوب الأمريكي؛ إذ حدث العكس وقدمت الصين معيارًا جديدًا لبلدان العالم النامي الأخرى، وأوضحت كيف يمكن تعايش درجة عالية من النزعة الاستهلاكية، ودرجة عالية من التسلطية.

ونجد، من ناحية أخرى، أن الصين أثبتت خطأ صقور الفترة الأخيرة من القرن العشرين: إنها لم تتطوَّر لتصبح قوة عدوانية سافرة في العالم، بل أسهمت في النظام العالمي بأكثر مما أسهمت في تحدياتها له.

وتأكَّد أن الاقتصاد العالمي والبنية السياسية للقرن الواحد والعشرين يتصفان بالضخامة والمرونة والدينامية، والقدرة على التكيف الذاتي لاستيعاب الصين ذات القدرة والمكانة، وكذا آسيا التي اغتنت مع مراكز القوة العالمية الكبرى الأخرى. وثبت أخيرًا صدق التحذير الذي أطلقه نابليون منذ مائتَي عام، حين قال عندما يفيق التنين الصيني من غفوته سوف يهز العالم. لقد ثارت الصين على نفسها، وتغيرت بالكامل، وهزت العالم، ولكنها جاهدت لكي تحقق هذا دون إثارة كوارث محلية أو دولية. ولعل السيناريو الممعن في تشاؤمه وتصور الصين والغرب سيصبحان عدوَّين يشتبكان في حروب اقتصادية بل وعسكرية، هذا السيناريو أمكن تفاديه. ويرجع هذا جزئيًّا على الأقل إلى القادة السياسيين في آسيا والولايات المتحدة؛ إذ أنصتوا حقًّا لقادة مشروعات الأعمال وغيرهم المنخرطين في بناء العلاقات بين الشعوب على أرض الواقع.

ويقال إن العالم في جملته ينقل نقطة ارتكازه من السياسة إلى النظم الاقتصادية، وإن رجال الأعمال اليوم في كثيرٍ من أنحاء العالم هم الأقوى في أغلب الأحيان، وبإمكانهم تقديم الخير أفضل وربما أسرع من رجال السياسة. وإذا صح هذا، فإن تجار الصين ورؤساء الشركات الأجنبية صاحبة المشروعات في الصين، وكذلك نظراءهم في الطبقة المتنامية من منظمي المشروعات الصينيين والمديرين ورجال الأعمال، سوف يؤكدون أنهم نوعٌ جديد من الأبطال الاقتصاديين: إنهم سوف يستخدمون الدعامات القوية للمنافع الاقتصادية المشتركة لإبطال مفعول القدرة التفجيرية الخطرة لمنظومات السياسة والأيديولوجيا والمعتقدات المتناقضة.

ولنا أن نعقد الأمل أيضًا في أن يتجه القادة وصناع القرار في بلدان كثيرة إلى القراءة والتفكير فيما تضمنته كتب ومقالات وأوراق أبحاث وحوارات كثيرة ومهمة، والتي حاولت أن تعبر — بطريقة مسرحية — المحاذير التي تنطوي عليها العلاقات الصينية-الأمريكية. ويمكن أن يسهم هؤلاء في إقناع الطرفَين للتفكير بإمعانٍ وتروٍّ وحذرٍ بشأن البدائل الكثيرة الأفضل، بدلًا عن مسار التصادم الراهن. وتعتمد رؤيتنا المستقبلية على نقطة ارتكاز أساسية، وهي أنه إذا ما حاول المؤرخون من أبناء جيل أطفالنا التطلع إلى الوراء من نقطة التميز التي تحققت عام ٢٠٢٤م، فإنهم سوف يخلصون إلى أن أسوأ الأخطار التي كانت متوقعةً نتيجة حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين، أمكن تجنبها والالتفاف حولها؛ لأن المواطنين أصحاب المصلحة في كلٍّ من البلدين أصبحوا واعين بتلك الأخطار، وعملوا على تفاديها في الوقت المناسب.

وعلى الرغم من إمكان تجنب الكارثة المحتملة، فإن هؤلاء المؤرخين أنفسهم سوف يلاحظون — عن يقين — أن الاقتصاد السياسي العالمي للقرن الواحد والعشرين تغير جذريًّا نتيجة صعود الصين، وأكثر من هذا، أن الأطر العامة للحياة الكوكبية في حقبة ما بعد الحداثة سوف تتأثر بعمق نتيجة مسار الصين، مثلما ستتأثر بأسلوب مشروعات الأعمال الدولية ومجتمعات المال والسياسة في الاستجابة إلى هذا المسار. إن الثروات التنافسية للشركات، ومستويات المعيشة للبلاد، والمذاهب السياسية والفلسفية للمجتمعات، وكذا حياة الملايين من الشعوب، سوف تختلف جميعها اختلافًا عميقًا بسبب الكيفية التي تطورت بها الصين، والكيفية التي تفاعل بها الأمريكيون مع تلك العملية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤