الماضي والمستقبل وحديث مع دنج هسياو بنج
إن من يعرف العدو ويعرف نفسه. سوف تمتد حياته ليخوض مائة اشتباك. وإن من لا يعرف العدو ولكنه يعرف نفسه، قد ينتصر أحيانًا وينهزم أحيانًا أخرى. ومن لا يعرف نفسه ولا عدوه، سوف يمنى بالهزيمة دائمًا في كل اشتباك.
نسمع كثيرًا أن الولايات المتحدة تريد الاشتباك مع الصين، ولكنني لست على يقين ما إذا كان الاشتباك يعني حربًا أم يعني ارتباطًا للزواج. إذا أردتم الحرب ضدنا فأحرى بكم أن تحيطونا علمًا، ولكن إذا أردتم الارتباط بنا، فإننا أيضًا نرحب بذلك؛ لأن الفتيات الأمريكيات جميلات ولن نرفض أبدًا.
الصين عام ١٩٧٨م: شاع دفء شمس الأفكار الجديدة والإصلاح الاقتصادي، وبدأ جليد النزعة الماوية يذوب بعد شتاء طويل قارص: مات ماو، عاد دنج هسياو بنج توًّا إلى فريق زعامة الصين، وعلى الرغم من أنه لم يصبح بعدُ صاحب سلطات كاملة، إلا أنه يكشف عن ثقة. جلس دان بورشتاين ليبدأ حديثًا معه.
أبدى دنج ملاحظة؛ إذ قال: «أنت في الخامسة والعشرين من العمر، وأنا حانت لي ثلاث فرص لأرتكب أخطاءً مثلك.» اشتُهر عنه أنه صريح كاشف للحقائق ببساطة، ولا يخلو حديثه من توابل تنم عن حدة ذكاء وبصيرة، فيبدو حديثه حريفًا شأن مطبخ مقاطعته سيكوان. أوجز في وصفه لعهد ماو الذي أفل توًّا، ولكنه لا يزال حذرًا. ويعرف الجميع أنه وأسرته كانوا من بين الضحايا الذين اضطهدتهم الثورة الثقافية. ويعرف الجميع كذلك أنه شرع الآن في هندسة الإصلاحات التي كانت النقيض الكامل لسياسات الثورة الثقافية، ويعرف الجميع أيضًا أنه كان المرشح ليصبح أول إمبراطور سوف يسمح بهدم العزلة التي يفرضها السور العظيم على الصين، ويفتح أبواب الإمبراطورية على مصاريعها للاقتصاد العالمي.
ومع هذا، كان دنج لا يزال حريصًا على الحفاظ على القدر القائم المزعزع من السلم السياسي، الذي سمح له أن يحبط مناورات بقايا المتشددين من أنصار ماو الباقين في السلطة. واستخدم واحدة من صياغات ماو الكلاسيكية لاستكشاف الجانب الطيب وسط هذه التجربة المروعة؛ ووصف الثورة الثقافية بأن بها: «سبعين في المائة إيجابًا وثلاثين في المائة سلبًا.»
ولكن كيف يمكن لشيء مدمر بهذه القسوة ونقول إنه «سبعون في المائة إيجابيات؟» واعترف دنج في إجابته بالفجيعة التي ألمت بالصين بسبب الثورة الثقافية، وتحدث عن «منفعة» واحدة ملموسة للشعب الصيني: قبلوا شيئًا انقلب إلى مأساة هائلة، وتعلموا أن يكونوا نقديين في تفكيرهم، وسوف يرفضون أن يقودهم أحد إلى المجهول ثانية.
وسوف يثبت الزمن إذا ما كان على صواب في هذه الجزئية الساخرة وغير المباشرة التي ترتكز في جوهرها على منطق صيني. ويبدو أن المال هو الذي يمثل حتى الآن خطته ونبوءته، ولكن الزمن الأكبر للاختبار الصيني لا يزال ممتدًّا في المستقبل، علاوة على هذا، فإن المسألة تغيرت على نحو ربما لم يكن دنج يتصوره، لم تعد المسألة هي ما إذا كانت هناك قوًى ستجر الصين إلى الخلف لتسقط في هاوية العقيدة الماوية الجامدة، فهذا سيناريو بعيد الاحتمال. ولعل الأصح، السؤال عما إذا كانت الصين يمكنها أن تتجنب عثرات الغلو الوطني، ومعاداة الأجانب، وعملية إصلاح صماء، وغلق الأبواب التي فتحها دنج؟
جرى هذا الحديث عام ١٩٧٨م مع دنج، بينما كانت الولايات المتحدة تقترب أكثر على طريق تطبيع العلاقات مع الصين. وكانت قضية الساعة آنذاك تتعلق بالهجرة، حيث ظهرت أصوات داخل إدارة كارتر وداخل الكونجرس، تطالب بكين بالسماح للصينيين الساخطين بمغادرة البلاد بحرية.
وقال دنج: إنه يرى أن صناع السياسة الأمريكيين يتدخلون دون داعٍ في شئون الصين، كما أنهم قصار نظر إزاء مصالحهم الاستراتيجية. إن الصين إذا فتحت الباب وتركت كل صيني يريد الهجرة ليغادر البلاد بحرية، ستجد أمريكا نفسها استقبلت ما بين مائة أو مائتَيْ مليون مهاجر صيني يلتمسون اللجوء، وسوف يجتاح سيل المهاجرين اليابان وجنوب شرق آسيا، هل هذا هو ما تريده الولايات المتحدة؟
ويعتقد دنج أن القيادة الصينية إنما تعمل فعليًّا على حماية مصالح أمريكا؛ إذ تتجاهل ضغط أمريكا السياسي، وتبقي على كل صيني داخل بلاده، فهذه هي السبيل للحفاظ على الاستقرار الإقليمي والعالمي على السواء.
إن القضية التي لمسها دنج تتجاوز كثيرًا مسألة الهجرة. وإخاله يرى أن الأمريكيين يرغبون، بفطرتهم، في التأكيد على أن تتبنَّى الصين قيمهم دون اعتبار لما إذا كانت الديموقراطية، بالأسلوب الأمريكي أو الرأسمالي، ملائمة للآخرين أم لا. أو حتى ما إذا كانت الديموقراطية — بالأسلوب الأمريكي — إذا ما طبقت في الصين ستكون من مصلحة أمريكا ذاتها.
إن الأمريكيين إذ يعيشون في بلد يسوده السلم والاستقرار في الولايات المتحدة، ليست لديهم قدرة كبيرة على فهم المخاوف القائمة في بلدان أخرى، خشية فقدان الاستقرار والنظام، ولكن يشعر الصينيون بشيء مختلف تمامًا إزاء هذه المسألة. إن تاريخهم اعترَته فترات قاسية أليمة، ما بين دويلات متحاربة ونظم عسكرية تعيش على الحروب وانهيار للسلطة المركزية. كما تعرَّضوا للغزوات كلما ضعفت البنية القومية للمجتمع، وعانوا هيمنة السياسة الشيوعية وما جرَّته من صراعات سياسية كارثية ومعارك مستمرة بين الفرق المتصارعة، بل وداخل النواة الصلبة من المؤمنين الصادقين.
ولهذا، فإنهم يلتمسون الاهتداء إلى طريق صينية متفردة، وليس هذا لمجرد الرغبة في توجيه المسيرة على طول هذه الطريق (وهو ما يرغب فيه أيضًا الحزب الشيوعي باعتباره القائد للمجتمع). ولعل الأصوب أنهم يؤمنون بضرورة استحداث وتطوير المزيج الخاص بهم هم من النزعة التسلطية والقومية وحلول السوق؛ لأن هذه هي سبيل الصين الوحيدة للنجاح.
وفي رأينا، أن الولايات المتحدة يجب أن تكون مهيأة للفهم وللعمل مع الصين على هذا الأساس. إننا إذا ما نظرنا في ضوء الاستراتيجيات السياسية واستراتيجيات مشروعات الأعمال، نجد أنه قد أزف الوقت لكي تطرح أمريكا جانبًا أحلامها وآمالها ومخاوفها، فيما يتعلق بالصين التي يتخيلون، وأن يتصالحوا ويوفقوا سياساتهم مع صين الواقع والحقيقة.