النسر والتنين (١)
شبَّه المتشائمون ظهور الصين كقوةٍ عظمى بتصاعد قوة ألمانيا منذ عشرة عقود. وأمكن «حل» تلك المشكلة بخوض حربَين بشعتَين. وسوف يكون من الحكمة التماس وسائل أفضل لإلزام الصين بقواعد وقيود التعاملات الدولية. أما كيف يتحقَّق هذا، فذلك هو السؤال الأكبر الذي يواجه الحياة الأمريكية على مدى جيل كامل.
(١) من السفن الشراعية إلى ميدان «تيان آن مين»
لكي يكون تفكيرنا عقلانيًّا واضحًا عن الصين، ولكي نضع استراتيجية عمل ذكية مع الصين، أو لكي نضع سياسة للولايات المتحدة تجاه الصين، لا بد لنا أن نعرف وأن نفهم أولًا شيئًا عن تجربة الصين التاريخية، وكذلك عن تاريخ تفاعلات الغرب معها. ويكفي أن نعرض، ولو عرضًا، موجزًا سريعًا عن التاريخ البطولي الملحمي للتفاعل بين الشرق والغرب، وبخاصة عن علاقات الولايات المتحدة بالصين؛ إذ إن هذا العرض الموجز له قيمة كبيرة، لفهم السياق الراهن، واستبصار المسار المحتمل مستقبلًا لتطور الأحداث.
نجد أن من بين القضايا المهمة والعديدة في هذا التاريخ حقيقةً مؤدَّاها أن الصين اتجهت، في الغالب الأعم، لتكون على نحو آخر مغاير، سواء لما كان الأمريكيون يريدونه أو لما يخشونه منها. المسألة الثانية هي المدى الذي تحرك فيه البندول، ليحدد طبيعة هذه العلاقة، أو ليكشف عن التحولات المزاجية ودورات التوقعات المسرفة، التي تعقبها خيبة أمل مرة، وردة فعل عنيفة، ولكن مع هذا، ظلَّت العلاقة هي هي ذاتها. والمسألة الثالثة هي مدى عمق الاختلاف بين الخبرة التاريخية والثقافية الصينية وخبرتنا نحن، ومدى حاجاتنا إلى أن نفكر بحذر فيما يمكن أن يتغيَّر واقعيًّا في الصين، وما الذي يمكن أن نعيش معه، وما الذي يمكننا، نحن أنفسنا، أن نتلاءم معه عندما ننشئ اقتصادًا كوكبيًّا، وعلاقة سلمية مع القوة العظمى الأخرى للقرن القادم.
إن الصينيين يحملون ذكرياتٍ تاريخيةً بعيدة، وغالبًا ما يرون الأمريكيين على عكسهم، نسائين للتاريخ. ونحن كذلك فعلًا بدرجة كبيرة جدًّا؛ إذ من أهم الخصائص الثقافية الأمريكية، القدرة على أن نطرح الماضي وراء ظهورنا، وأن نتحرك قدمًا إلى الأمام، بيد أن هذه الخصيصة من شأنها أيضًا أن تجعلنا سذجًا، إلى حدٍّ ما، إزاء الثقافات والمجتمعات الأخرى وكيف تعمل.
ويجد الأمريكيون، أحيانًا، أن من العسير عليهم، وبسبب حالة فقدان الذاكرة الجمعي، تذكر أنه كان هناك وقت بدا خلاله الحديث عن الميزان التجاري مع الصين، ناهيك عن الاستثمارات هناك، حديثًا باطلًا عبثيًّا وغير مشروع عمليًّا، وننسى أن العديد من القضايا التي تشغلنا اليوم سبق طرحها ومراجعتها مراتٍ كثيرةً على مدى القرنَين الماضيَين. وواضح تمامًا أن الواجب يقتضي منا أن نتعلم بعض الدروس ذات الفائدة العميقة من هذا التاريخ الممتد والمتعدد المراحل، والسؤال: هل سنفعل هذا؟
الملاحظ أنه على الرغم من الفكرة الشائعة عن أن الصين «لغز» وكيان «غريب»، فإن الأمريكيين حاولوا جاهدين، وهذا هو الشيء المثير، لكي تكون لهم بها علاقة وثيقة، بل حميمة على مدى الأعوام. وتسبق عمليًّا علاقاتنا مع الصين تاريخ ميلاد الولايات المتحدة. ونذكر أنه عند إعداد وثيقة إعلان الاستقلال، كانت هناك حقبة التجارة مع الصين، عبر السفن الشراعية التي تزخر بها البحار: فالشاي الصيني هو الذي أفرغه الثوريون الأمريكيون، وأغرقوه في مياه خليج بوسطن عام ١٧٧٣م. ولقد كان الحرير والخزف والأثاث المستورد من الصين، هي الفاكهة التي يسيل لها لعاب الأمريكيين من أبناء جيل جورج واشنطن.
إننا لو تخيلنا واحدًا لفَّه سباتٌ عميق منذ تسعينيات القرن الثامن عشر، وأفاق من سُباته اليوم، فلن يدهش أبدًا حين يكتشف أن السلع الصينية تملأ جميع الأرفف الأمريكية، ولن يدهش كذلك إذا عرف أن تجارة الصين اليوم، إنما تسير أساسًا في اتجاهٍ واحد. إن معركة الغرب لفتح أبواب الصين — في اتساقٍ مع الجدل داخل الصين حول كيف يمكن أن أكون «صينيًّا» وحداثيًّا في وقتٍ واحد — إنما هي واحدةٌ من القضايا المستمرة في التاريخ العالمي على مدى النصف الثاني من الألفية الثانية. وحريٌّ أن ندرك جيدًا كيف أن هذه المسائل دار حولها جدلٌ ممتد. كل رجل أعمال يحاول بيع سلع أجنبية إلى الصين، وكل رجل سياسة يحاول التفكير، من خلال سياسة التجارة الخارجية، للتعامل مع الفائض الصيني المحلِّق عاليًا إلى عنان السماء.
وأكثر من هذا، أنه منذ ستينيات القرن الثامن عشر، بدأ القلق يساور رجال الأعمال وواضعي الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية، في شأن تزايد العجز التجاري مع الصين. لقد كانت شهية العالم إلى السلع الصينية هائلة، ولكن الإمبراطور الصيني قيانلونج رفض السماح بدخول كمياتٍ كبيرةٍ من واردات السلع الأجنبية إلى الصين. واستشاط التجار الأجانب غضبًا؛ بسبب القيود التي تحدُّ من نشاطهم، بحيث يقتصر على ميناء واحد فقط، هو ميناء كانتون، حيث يتعيَّن عليهم الالتزام بإجراءاتٍ صارمةٍ فرضها الإمبراطور؛ لتيسير تجارتهم مع الوسطاء الصينيين.
وكان لزامًا على التجَّار الأجانب أن يدفعوا مقابل مشترياتهم فضة، وحيث إنهم لم يبيعوا شيئًا بصعوبةٍ للصينيين، فقد ظهرت مشكلة ميزان المدفوعات الذي ارتفع سريعًا، وأصبح مصدر إزعاج للحكومة البريطانية. وكان أحد الحلول المقدَّمة هو محاولة إقناع الإمبراطور، بأن يفتح أبواب الصين للتجارة الحرة. واختير لورد جورج ماكارتني للسفر إلى الصين، والتحدث باسم الملك جورج الثالث؛ لأداء هذه المهمة عام ١٧٩٣م.
كان ماكارتني دبلوماسيًّا قديرًا، سبق له النجاح في تحقيق أهداف لندن، في مواجهة تحديات الثقافات الأجنبية، مثال ذلك، أنه التقى إمبراطورة روسيا العظمى كاترين في بلاطها، وعمل حاكمًا لجرينادا في البحر الكاريبي، وأيضًا مسئولًا في مدراس بالهند. وكان من أوائل — وإن لم يكن يقينًا آخر — مَن آمنوا بتطبيق نظرية «كلية عالمية» عن المصالح البشرية والمادية تجاه الصين.
وحاول ماكارتني أن يجعل المطالب البريطانية أكثر استساغةً وقبولًا؛ لذلك أحضر معه تشكيلةً كبيرةً من السلع الفنية المتميزة، بريطانية الصنع؛ لتقديمها هدايا، وأحضر معه كذلك عددًا من العلماء والفنانين واللغويين، وأراد بهذا كله أن يعرض على الإمبراطور قيانلونج عجائب العالم الحديث، والتي يمكن أن تكون من إنتاج الصين، إذا هو قبل فقط عددًا محدودًا جدًّا من المقترحات الجوهرية. (وتضمَّنَت هذه المقترحات الحقوق البريطانية للإقامة الدبلوماسية في بكين، وفتح عددٍ من الموانئ الجديدة للتجارة الدولية).
وكان الإمبراطور قيانلونج في الثمانين من العمر، وربما كان يعاني قليلًا من الشيخوخة، ولكنه عرف أنه في صفقة مع الشيطان، حين رأى واحدًا من الشياطين. إن فتح أبواب الصين، كما اقترح عليه ماكارتني، ربما يؤدي إلى تدمير النظام الإمبراطوري الصيني. وبدلًا من أن يوافق قيانلونج على الاقتراح، رد ماكارتني إلى الملك جورج، حاملًا مذكرة شهيرة، أعلن فيها أن الصين تملك كل ما هي بحاجة إليه، «وليس لها أدنى حاجةٍ إلى مصنوعات بلدكم.» وقال قيانلونج: «وحتى لو كانت سلعكم إبداعًا عبقريًّا، فإنها غير ذات قيمةٍ في نظره. إنها على أحسن الفروض أشياء لتسلية الأطفال»، وليس هناك، على وجه القطع واليقين، سبب يدعو الصين إلى أن تغير نظامها، وتتجه للتلاؤم مع المصالح البريطانية.
وغادر ماكارتني الصين خائبًا، ولكنه — وكما ترسل إدارة كلينتون بعوثها اليوم — كان على يقين من أن الأمر مسألة وقت، حتى تدرك الصين أهمية ومغزى الأفكار والقيم البريطانية. وكتب في مذكراته أن «لا جدوى» من مقاومة الصينيين للأهداف البريطانية، فإن هذا مثل مَن يحاول «أن يوقف تقدُّم المعارف البشرية»، وهذا هو المستحيل. وكان مقتنعًا بأن الصين سوف ترى النور، إن آجلًا أو عاجلًا.
ولعل بعثة ماكارتني كانت وليدة أفكار مدرسة تشبه مدرسة اليوم الداعية إلى التعاون، ولكن أسلوب العمل البريطاني — التالي لهذا — جاء إلى حدٍّ كبيرٍ قريبًا من الفكر الذي تحبذه مدرسة الاحتواء: الأفيون؛ ذلك أن التجار البريطانيين استطاعوا حل مشكلة ما يعانونه من عجز تجاري، عن طريق إدخال الأفيون إلى الصين من أراضي الهند الخاضعة للاستعمار البريطاني. وزادَت تجارة الأفيون زيادة رهيبة من أقل من ٤ آلاف صندوق في سنة ١٧٩٠م، إلى أكثر من عشرة أمثال هذه الكمية خلال العقد الثالث من القرن التاسع عشر. وتدفَّقَت أنهار الفضة إلى البريطانيين، مما أشعل جحيم أزمةٍ اقتصاديةٍ في الصين، وخلال هذه العملية، وجهت تجارة الأفيون ضربةً قاصمةً إلى النظام الإمبراطوري الصيني القديم، وكشفت كيف أنه غير مؤثر وفاسد، مما عجَّل بانهياره.
وواجهت الولايات المتحدة، خلال هذا الموقف الذي زادت حدة الاستقطاب فيه، أول أزمةٍ كبرى لها مع الصين، ذلك أن بحارًا يدعى تيرانوفا يعمل على متن باخرة أمريكية هي الباخرة إميلي، قتل — عن طريق الخطأ — بائعة صينية داخل قارب صغير محاذٍ للسفينة؛ وذلك عندما ألقى بإبريق من الخزف داخل القارب، وأدَّى هذا إلى انقلاب القارب وغرق المرأة. وطالبت السلطات الصينية بمحاكمة تيرانوفا أمام القضاء الصيني، ورفض الأمريكيون الطلب، وتمسكوا بموقفهم. وسرعان ما رد الصينيون على هذا بإيقاف كل الأعمال التجارية مع الأمريكيين. وهنا وافق قبطان الباخرة إميلي (الذي كان على الأرجح يحمل شحنةً من الأفيون) على تسليم تيرانوفا، وحوكم البحار أمام محكمةٍ عاجلة، وأعدم في اليوم التالي.
وزادت الواردات البريطانية من الأفيون زيادة كبيرة، وهنا قرَّر الإمبراطور داوجوانج أن يفرض حظرًا على المخدر، وساد مناخ من التوتر ينذر بصدام حتمي، ودار جدل في بريطانيا عما إذا كانت تمضي في طريقها إلى الحرب لحماية تجارة الأفيون. ونذكر من بين الأصداء الكثيرة، التي ترددت آنذاك، خلال هذا الجدل: أن التجار المحليين بعثوا بواحدٍ من كبار تجار الأفيون يُدعى وليام جاردن، حاملًا معه حوالي ٢٠ ألف دولار؛ ليعود إلى لندن ويقيم مركز ضغط هناك لحسابهم، وكانت مهمته هي إقناع البرلمان والرأي العام بضرورة شن حرب من أجل هذه القضية، وإفساد كل نفوذ للبعثات التبشيرية، التي شككت في أخلاقية تجارة الأفيون.
وانتهى الأمر بأن أرسل البريطانيون الأسطول الحربي، وحشدوا قواتٍ من الهند، واشتعلت الحرب المعروفة باسم حرب الأفيون ١٨٣٩–١٨٤٢م، وهلك الجزء الأكبر من المحاربين الصينيين، وحاصر البريطانيون الموانئ، واحتلوا شنغهاي، وتوقفت تمامًا التجارة الداخلية الصينية، ولم يكن أمام الإمبراطور من خيار سوى الإذعان لسلام ذليل.
وُقِّعت معاهدة نانكنج (١٨٤٢م)، التي انتهت بموجبها الأعمال الحربية، وألزمت المعاهدة الصين بتقديم تعويضاتٍ هائلةٍ إلى بريطانيا، وفتحت خمس مدن للتجَّار البريطانيين، علاوةً على التخلي عن جزيرة هونج كونج.
وتضمَّنَت المعاهدة نصوصًا عقابية كثيرة، علاوةً على أنها استهلَّت قرنًا كاملًا من المعاهدات غير المتكافئة التي وقَّعتها الصين، ومنحت الأجانب (بمن فيهم الأمريكيون) مزايا تجارية وامتيازات خاصة، وحقوقًا متميزة تتجاوز السيادة القومية، مما سمح لهم بإقامة إقطاعاتٍ خاصةٍ بهم داخل المدن الصينية، ولا تخضع للقانون الصيني. والحقيقة أن المواطنين الصينيين هم الذين استعبدتهم هذه الامتيازات في الداخل، على نحو ما تشهد بذلك الحديقة العامة للأوروبيين في شنغهاي، والتي تصدرتها لافتة ظلَّت موجودةً حتى الأربعينيات من القرن العشرين، مكتوب عليها: «غير مسموحٍ بدخول الكلاب والصينيين».
والجدير ذكره أن المسئولين عن صياغة السياسة والفلسفة السياسية للصين اليوم، لا يزالون يرون الصين ضحية للأجانب الشرسين. والحقيقة أن قرنَين من الاستغلال الأجنبي للصين، أقدر على تحديد معنى الغربي في الذهن الصيني، قياسًا إلى العقدين الأخيرين من التجارة والاستثمار النافع للطرفين.
(٢) المبشرون وجنود الشيطان
وتعلَّم الأمريكيون من المبشرين، على اختلاف شاكلتهم، أن يعنوا بمسألة «تخلف» الصين وفقرها الشديد ومعاناتها القاسية، ولكنهم إذ فعلوا هذا، مزجوا بين الحوار بشأن سياسة الصين وحماسة التبشير. واعتقدوا أن واجبهم المطلق يقضي بذلك. إن الموقف الإنجيلي قائم وممتد، وإن كثيرين من رجال الأعمال، ومن بين مهندسي سياسة التعاون، يحدوهم يقين بقدرتنا على تحويل الصينيين إلى رأسماليين وديموقراطيين من نوع جيد (إذ نستخدم التكنولوجيا والسلع الاستهلاكية بدلًا من الكتب المقدسة التي يحملها المبشرون)، ونجد الصقور — في الوقت ذاته — على يقين من أن مسئولية الغرب، هي أن يتصدَّى لاستبداد بكين، ويحرِّر الشعب الصيني.
وسار التاريخ في طريق أخرى غير الطريق التي تصورها هنري لوس؛ إذ انتصرت الرؤية الشيوعية، وتهاوت الرؤية الرأسمالية المسيحية، وأصبح الحوار — بعد ذلك — بشأن الصين، خلال الخمسينيات، ممزوجًا بالحزن والغضب والخوف، وبدا كأن الجهود الأمريكية ضاعت هباءً، وأن المثل العليا الأمريكية مآلها الرفض، ثم بدأت حقبة ماكارثي التي تعقبت السحرة، الذين «خسروا الصين»، وسادها خوفٌ من «الخطر الأصفر».
وعلى مدى العقدَين الخامس والسادس من القرن العشرين، عمدت السياسة الرسمية لواشنطن إلى عزل الصين، وقلب نظامها الحاكم الشيوعي. ودعمت الولايات المتحدة، بفعالية ونشاط، شيانج كاي شيك، بعد أن مُنيت قواته الوطنية بهزيمة نكراء، على أيدي الشيوعيين بقيادة ماو عام ١٩٤٩م. خرج شيانج كاي شيك وقواته مطرودين من أرض الصين الأم، وانسحبوا ليقيموا نظامًا تابعًا فوق جزيرة ريفية، كانت تعرف باسم مقاطعة تايوان. وأقسم كاي شيك هناك على أن يستعيد الأرض الأم «الصين الحمراء»، وذلك في خطابٍ له خلال العقد الخامس. وتلقى شيك، لبلوغ طموحه، هذا الدعم السياسي والمالي والعسكري من الحكومات الأمريكية — على التعاقب — ابتداءً من ترومان، وحتى جونسون. وعمدت السياسة الأمريكية، على مدى هذه الحقبة، إلى تقديم دعمٍ بلا حدودٍ لمنطق معوجٍّ ومعقَّد، بزعم أن هذه الجزيرة الصغيرة — تايوان — هي الصين «الحقيقية»، بينما الأرض الأم الشاسعة، التي يبلغ مقدار سكانها قدر تعداد تايوان أكثر من سبعين مرة، فهي بلاد لا وجود لها.
إن الولايات المتحدة لم ترفض فقط الاعتراف بحكومة بكين، بل حاربت للإبقاء على الصين خارج الأمم المتحدة، واستخدمت واشنطن كل وسائلها المتاحة، آنذاك، لمنع حلفاء أمريكا حتى من إقامة علاقات دبلوماسية مع صين ماو.
وإذا كانت الصين غير موجودة في نظر وزارة الخارجية الأمريكية خلال خمسينيات القرن العشرين، فإنها، يقينًا، كانت موجودة في نظر البنتاجون، أي وزارة الدفاع الأمريكية. ولقد كانت الصين بطبيعة الحال مسرحًا مهمًّا ورئيسيًّا للحرب العالمية الثانية، ومن حقنا أن ننظر إلى كلٍّ من الحرب الكورية في مطلع الخمسينيات، وكذلك، وإن كان بدرجة أقل، حرب فيتنام في الستينيات، باعتبارهما حربَين أمريكيتين مع الصين. ولقد كانت هذه الحرب أيضًا جزءًا من الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، على مدى العقدَين الخامس والسادس من القرن العشرين، ورأت واشنطن في الصين الشريك الأصفر لموسكو في شن العدوان؛ من أجل الانتصار العالمي للشيوعية.
(٣) الثورة الثقافية في الصين … وأمريكا
ومع نهاية فوضى الستينيات بدأ بندول التفكير الأمريكي بشأن الصين يتحرك ثانية، ولكن هذه المرة في اتجاه تكوين علاقات أفضل، دفعه إلى هذه الحركة تحالف لم يكن متوقعًا له النجاح بين معسكرَين فكريَّين أمريكيَّين؛ يضم أحد المعسكرَين الليبراليين والراديكاليين: ورثة النزعة المثالية اليسارية في ثلاثينيات القرن، نزع هؤلاء إلى التماس شيء فضيل وباهر في أهداف ثورة الصين وتجاربها الدرامية، أو أنهم، على أقل تقدير، اعتقدوا أنه لم يعُد مستساغًا أكثر من ذلك: أن تغفل أمريكا وجود الصين، خاصةً أن حرب فيتنام الكريهة أثارت الشكوك في صواب السياسة الأمريكية تجاه آسيا بعامة. وتألف المعسكر الثاني من رجال استراتيجية الحرب الباردة، بعد أن أدركوا أن فكرة وجود كتلة شيوعية واحدة ومترابطة، إنما هي أسطورة، وأن الانقسام بين الصين والسوفييت حقيقة مؤكدة؛ ومن ثم بات ممكنًا اللعب «بورقة الصين»، في المعركة العالمية، التي تخوضها أمريكا ضد الاتحاد السوفييتي.
تأثر المعسكران كثيرًا بالاضطرابات والتحولات التي أحدثتها الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى، التي بدأت عام ١٩٦٦م، بقيادة ماو ورفاقه الأشد تطرفًا. أوقعت الثورة الثقافية الصين في حالة من الفوضى والاضطراب الشديدَين، وامتدَّت فيما يشبه حربًا أهلية على مدى الجزء الأكبر من العقد التالي، إلى أن مات ماو عام ١٩٧٦م. لقد كانت حقبة تعصب ماو ناصب العداء بجنون لكل شيء ينتمي إلى التراث الصيني القديم، أو إلى التأثيرات الأجنبية أو الاقتصاد العالمي، وعمد الثائرون إلى تدمير كل هذا. واتخذَت حملات الثورة الثقافية هدفًا لها من كل رموز الثقافة الصينية والغربية، ابتداءً من كونفوشيوس وحتى بيتهوفن، وحاولت استئصال جذور الماضي تمامًا، تمهيدًا لبناء الإنسان المادي الجديد. وأصبح هدفًا مباشرًا لهذه الثورة أي إنسان ربطته أي علاقة بالطبقات الإقطاعية أو الرأسمالية الغربية أو بالأجانب، بل وحتى بالزعماء الشيوعيين المخلصين، الذين اختصهم ماو بالهجوم. وانتهى الأمر بإرسال الكثيرين إلى السجون، وتعرَّض الكثيرون للتعذيب أو القتل، أو أرسلوا للعمل سنوات في وظائف صغيرة، أو جرى نفيهم إلى أقاصي البلاد في الريف؛ للعيش في ظروف بدائية تتهددها المجاعات.
إن من يقارن ما يحدث اليوم من انتهاكات لحقوق الإنسان على يد النظام الصيني الحاكم، بأعمال طغاة فاشيين آخرين من أمثال هتلر وصدام حسين، وهي مقارنة تتردد كثيرًا على ألسنة المتحذلقين في وسائل الإعلام الأمريكية، إنما ينسى تمامًا سياق الأحداث، إنه ينسى المدى الذي قطعته الصين؛ لكي تجتاز الأيام السوداء للثورة الثقافية، وإلى أي مدًى أضحت الحياة اليوم للإنسان الصيني المتوسط أكثر استرخاءً وحرية في الشارع العام.
كذلك الحال بالنسبة لمن يزعمون أن سلوك بكين غير المسئول الآن، يشكل خطرًا يتهدد استقرار العالم، إنما يغفلون — هم أيضًا — السياق؛ إذ كم كان خطر الصين سافرًا وملموسًا أيام كانت ملايين البشر تزحف موجاتٍ حاملةً كتاب ماو الأحمر، وتغني شعارات مؤيدة لنضال الجيش والحرب الشعبية والثورة العالمية. وكان هذا أيضًا هو الوقت الذي صعَّدت فيه بكين دعمها السري لأنصار ماو في أنحاء العالم، وزوَّدتهم بالسلاح لشن حرب عصابات ضد العديد من حكومات جنوب شرق آسيا. وأكثر من هذا، أن بكين لوَّحت بسلاحها النووي في تصعيد لبرنامج التجارب النووية. ورفضت الاشتراك في محادثات الحد من الأسلحة النووية، باعتبارها مؤامرة إمبريالية.
وامتدت آثار الثورة الثقافية إلى كثير من بلدان آسيا، مثال ذلك أن عمَّت الاضطرابات هونج كونج، واضطرت اليابان إلى إغلاق جامعاتها عامًا كاملًا؛ نظرًا لأن فرقًا من الطلاب اليابانيين تأثروا بأحداث الصين، واشتبكوا في معارك ضارية مع الشرطة، وبين بعضهم البعض، في ساحات الجامعات وفي شوارع طوكيو.
وعلى الرغم من أن الثورة الثقافية كانت من أحلك الساعات في تاريخ الصين، فإن كثيرين من الشباب الأمريكي فتنَتْهم رومانسيتها، ونادرًا ما أدركوا الحقيقة الخافية وراء مشاهد قرية بوتمكين في الصين، التي كانت مقصد الزوار الأجانب. قدمت الصين للعالم رؤية طوباوية وروحًا عن المساواة الراديكالية، وتضمن الكتاب الأحمر، الذي يحمل غلافه صورة ماو، ويلوح به الثائرون، جميع أنواع الأفكار التي تأسر الطلاب المتشددين، وهي أفكار عن الكوميونات أو القرى الجماعية والحياة الجماعية وعن النساء، وقد شاركْنَ في رفع نصف أعمدة السماء. وتضمَّن الكتاب أيضًا الحديث عن أصالة «حق التمرد». وإذا كانت الفكرة السائدة في واشنطن هي عدم الاعتراف بوجود «الصين الحمراء»؛ حيث يسكن ربع سكان العالم، فقد بدت فكرة عقيمة وعبثية لجيل تالٍ، رأى أن غالبية أفكار وسياسات الجيل السابق، هي آثار عقيمة وعبثية.
وحيث إننا من أبناء هذا الجيل، ومن المشاركين في الحماس الأمريكي الشديد، الذي أحاط باكتشافنا للصين في الستينيات، فقد عرفنا وجربنا بداية الإفاقة من الوهم والإحباط، عندما تأكد لنا أن رؤيتنا عن الصين لا تعكس الحقيقة، التي لمسناها وشاهدناها في أثناء زيارتنا للصين، ومن خلال ما كشفت عنه الأعوام التالية من عمليات فهم واستبصار ومفاجآت كاشفة. لقد كنا مثلما كان المبشرون خلال القرن التاسع عشر أو الإنجيليون الأمريكيون المحدثون: تمنَّينا، بصدق وإصرار، أن تكون الصين شيئًا آخر غير الصورة التي ظهرت بها.
لقد كانت الثورة الثقافية بطبيعتها مدمرةً لذاتها؛ ولهذا دفعت الصين إلى حافة المجاعة والانهيار الاقتصادي. وحري أن نفهم جيدًا هذه الخلفية أيضًا، عندما يواجه الأجانب ما قد يبدو لهم هواجس متسلطة لا مبرر لها، فيما يتعلق بدور القيادة الراهنة من أجل الحفاظ على النظام والاستقرار، إن ما حدث ليس من أحداث الماضي البعيد في الصين القديمة، بل منذ جيلٍ واحدٍ فقط، وقد ترك أثره عميقًا في ذاكرة كل صيني تجاوز الأربعين من العمر.
(٤) اللعب بورقة الصين
ظل ماو طوال فترة حكمه معنيًّا، ليس فقط بأعدائه المحليين، بل وكذلك بأعدائه في الخارج، بدرجة قد تصل في الغالب إلى حد كراهية الأجانب. وظلت بكين طوال الخمسينيات والستينيات — وبخاصة خلال المراحل الأولى من الثورة الثقافية — توجه خطابات شديدة اللهجة ضد الولايات المتحدة الإمبريالية (هذا على الرغم من أن ماو وصف أمريكا بأنها ليست سوى «نمر من ورق»، ولكن غضبه الأعظم والأشد تحول تجاه عدو تصوره أكثر خطرًا؛ ألا وهو «الإمبرياليون السوفييت»).
لم يكن ماو يشعر بالحماس تجاه موسكو، التي ساندت فريقًا معارضًا خلال الأيام الأولى من الحركة الثورية الصينية، والتي كشفت عن ضيقها بأيديولوجيا ماو ذات القاعدة الزراعية، وقنعت بالدعم الظاهري الفاتر للصين خلال الحرب الأهلية. ولكن ساند السوفييت بقوة إعادة بناء الصين في مطلع الخمسينيات، بَيد أن الفترة منذ أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات، شهدت تبادلًا متزايدًا للخطابات اللاذعة بين موسكو وبكين، التي دارت حول النظرية الشيوعية. وحاول ماو جاهدًا استئصال النفوذ السوفييتي، وأن يؤكد استقلال الصين الكامل، وعمد — في سبيل ذلك — إلى طرد آلافٍ من المستشارين والمهندسين السوفييت، الذين كانوا يعملون داخل الصين في مشروعات بناء السدود ومحطات القوى والجسور والطرق والمستشفيات والمباني العامة. وتصاعدت في الستينيات حرب الكلمات، وتحولت إلى فعل: إذ وجه السوفييت صواريخهم صوب الصين، ووزعت الدولتان قواتٍ ضخمة على طول الحدود المشتركة بينهما. وفي عام ١٩٦٩م وقعت بالفعل صدامات بين الجنود السوفييت والصينيين، في صورة مناوشات حدودية في شمال الصين.
وأصبح ماو على يقينٍ من أن الاتحاد السوفييتي يحاصر الصين عسكريًّا، ويهدف إلى تحطيم ثورتها. وربما انطوت نظرته على مسٍّ من جنون العظمة والاضطهاد، ولكنها كانت ترتكز على أساسٍ واضحٍ مكين. ونورد هنا ما قاله كيسنجر في مذكراته: «إن عدد الفرق السوفييتية المرابطة على الحدود الصينية زاد من ٢١ فرقة عام ١٩٦٩م، إلى ٣٣ فرقة عام ١٩٧١م، ثم إلى ٤٥ عام ١٩٧٣م.» وإن هذه خلفية حاسمة لكي نفهم ما حدث من إعادة توزيع غير محتمل للقوات الاستراتيجية، مما جعل الولايات المتحدة والصين تتقاربان ثانية في مطلع السبعينيات. وأبدى ماو أول إشارة لهذا حين اقترح في إلماحةٍ واضحةٍ لصديقه القديم إدجار سنو بأنه على استعداد لأن يرحب بزيارة يقوم بها ريتشارد نيكسون إلى الصين، سواء أكان زائرًا أم رئيسًا.
واستطاع وزير الخارجية هنري كيسنجر أن يلتقط الخيط فورًا، بخبطة جريئة تكشف عن عبقريته في الجغرافيا السياسية، واستطاع أن يهرب من مرافقيه والعيون المحيطة به، في أثناء رحلة له في باكستان عام ١٩٧١م؛ إذ اختفى عن الأنظار ليقوم برحلة سرية إلى بكين. فهم كيسنجر عمق التطاحن الصيني-السوفييتي، وأدرك كذلك إلى أي مدًى يرى ماو الموقف عاجلًا وملحًّا، ورأى في هذه الأزمة فرصةً سانحةً للولايات المتحدة كي تلعب «بورقة الصين»، وتوقف المد السوفييتي الصاعد في العدوان والتوسع على الصعيد الدولي.
لقد كان القانون الأمريكي يحظر بوضوح زيارة الأمريكيين للصين خلال تلك الأيام، وإن حدث أن سافر إلى هناك أفرادٌ معدودون على مراحل متباعدة، ثم رحلوا وقد تحملوا عبء المخاطرة بما قد يواجهونه من اضطهاد. وكان أكثرهم من المتعاطفين، سياسيًّا، مع نظرة بكين إلى العالم (بل نذكر أن وزارة الخارجية ظلت حتى السبعينيات، تطبع عبارات تحذر من السفر إلى الصين على الصفحات الداخلية لجوازات السفر الأمريكية)، ولكن فجأة تغير كل شيء؛ دارت عجلة الأحداث سريعًا دورات مثيرة جدًّا في دبلوماسية كرة الطاولة «البنج بونج»: إذ سافر فريق من لاعبي كرة الطاولة في جولة إلى اليابان عام ١٩٧١م، وتلقى، وهو هناك، دعوة شفاهية لزيارة بكين. وسافر في العام التالي فريق صيني إلى الولايات المتحدة، في رحلة بلغت ذروتها في صورة زيارة عامة وحارة إلى البيت الأبيض. وحدثت أشياء أخرى كثيرة، احتلَّت لأول مرة العناوين الرئيسية للأحداث؛ لأنها حطمت جدار العزلة المصطنع، الفاصل بين الأمريكيين والصينيين منذ العام ١٩٤٩م.
وفي العام ١٩٧٢م، قام الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارةٍ رسمية غير متوقعة لبكين. وتمثل زيارتا نيكسون وكيسنجر بداية اتصالات مباشرة بين زعيمَين أمريكيَّين ونظيريهما الصينيين، ماو تسي تونج، زعيم الحزب الشيوعي، وشو آين لاي رئيس الوزراء آنذاك. وبلغت هذه البداية الأولى للنشاط الدبلوماسي ذروتها في صورة معاهدة سلام غير معلنة تقضي بإنهاء الحرب الطويلة غير المعلنة بين الولايات المتحدة والصين. وصدر بيان شنغهاي الرسمي، ولعله صيغ بكلمات هي الأكثر رشاقة في لغة الاتفاقات بين قوتَين عظميَين في التاريخ الدبلوماسي الحديث. وأكد البيان، بقوة، أن الولايات المتحدة تؤيد فكرة صين واحدة. وكان واضحًا أن الصين الواحدة التي ستكون محور الاهتمام الدبلوماسي للولايات المتحدة، هي جمهورية الصين الشعبية، وليست تايوان. وهكذا بدأت عملية الاعتراف الأمريكي بالصين، وتطبيع العلاقات بين البلدين.
(٥) الاتجار مع العدو
واحتلَّت الصدارة والقلب في هذه اللعبة شديدة العمق قضايا الخطر السوفييتي وجميع المسائل المعلقة، مثل الصواريخ النووية، وتوزيع القوات العسكرية والحروب بالوكالة، ابتداءً من فيتنام وحتى أفغانستان. وتناول الحديث دائمًا مسائل الاقتصاد واحتمالات علاقات العمل بين الولايات المتحدة والصين، بَيْد أنها كانت موضوعات ثانوية خلال المراحل الأولى من التقارب بين البلدَين. ويسترجع الكاتب توماس فريدمان صاحب العمود الصحافي ذكرى هذه الأيام فيكتب قائلًا:
عندما التقى كيسنجر وشو آين لاي رئيس وزراء الصين، لأول مرة، في السبعينيات، لترتيب العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، اعتاد كيسنجر أن يقول، على سبيل الفكاهة، إن رجال الأعمال الأمريكيين لم يفتئوا يضايقونه بأحلامهم في أن يبيعوا «بليون زوج من الملابس الداخلية» للصينيين … ها ها ها، ويعلو ضحك رجلَي الاستراتيجية الكبيرَين وهما جالسان فوق مقعدَيهما الوثيرَين. يا لها من دعابة! أمريكا تبيع سلعًا للصين الشيوعية، ولكن الفكاهة الكبرى هي أن تبيع الصين الشيوعية سلعًا لأمريكا، يا لها من صورة هزلية «مثيرة»!
وكشفت لنا خبراتنا، في مطلع سنوات التجارة بين الولايات المتحدة والصين، عن بعض أسباب ضحكهما، ولكنها كشفت كذلك عن الرغبة الحبيسة لدى الأمريكيين لإقامة مشروعات مع الصين.
وتلقَّى عددٌ كبيرٌ من مسئولي ثلاث شركات أمريكية دعوة لزيارة سوق كانتون التجاري في خريف ١٩٧١م. ولكن عقب زيارة نيكسون، وبعد أن شاعت فكرة أن الولايات المتحدة ربما تقيم علاقات تجارية مع الصين، بدأت الدعوات تترى وتصادف ترحيبًا شديدًا. وبحلول عام ١٩٧٣م، كانت هناك ١٠٦ شركات أمريكية مشاركة في معرض كانتون، من بينها شركات وستنجهاوس ومونسانتو وكوكاكولا آسيا والبنك الوطني الأول في شيكاغو.
ولكن لم تكن الصين — أول الأمر — مستعدة لمشروعات الأعمال الكبرى؛ إذ ركز معرض كانتون أساسًا على المشروعات الصغيرة، أكثر مما ركز على المشروعات العصرية الكبرى. وسرَت شائعةٌ تقول إن بعض ممثلي بارنوم وبيلي جاءوا لرغبتهم الملحة في شراء حيوان الباندا، ولكن الصينيين لم يعرضوا سوى السمكة الذهبية. وكانت أهم الصفقات وأكبرها هي صفقات السجاجيد والسلال والمنسوجات، وعقد هذه الصفقاتِ مستوردون ووسطاء صغار، وليسَت الشركات المتعددة الجنسية؛ إذ واجه الجميع قيودًا تشبه تلك القيود التي واجهها لورد ماكارتني منذ قرنَين مضيا: الصفقات التجارية ومشروعات الأعمال تجري فقط في مدينة كانتون، ومن خلال واحد فقط من احتكارات التجارة الحكومية الاثنتي عشرة.
ولم تختفِ مظنة السخرية التي تزعم أن رجال الأعمال أدوات في دراما سياسية أكبر؛ إذ كانت الشعارات القارصة للثورة الثقافية لا تزال موجودةً وراء مظاهر زخرفية، زينت بها أبواب غرف فندق تونج مانج في كانتون. ولقد كان توماس فريدمان على صوابٍ في استنتاجه، بشأن لقاءات كيسنجر وشواين لاي: العلاقة محورها شيء واحد: الاتحاد السوفييتي. لقد كانت الولايات المتحدة والصين تصوغان شراكة استراتيجية لعمل موازنة مقابل الدب الروسي، إنها لم تكن شراكة من أجل بليون زوج من الملابس الداخلية.
واليوم، لا تجد بنوك الاستثمار الأمريكية، ورجال الأعمال وقتًا كافيًا لتأمل حقيقة أن كل شيء يفعلونه اليوم، إنما كان محظورًا ومحرمًا داخل الصين منذ جيلٍ واحدٍ مضى: إذ ربما كان الصينيون يرونه نوعًا من التخريب الاقتصادي والسياسي الأجنبي، وربما صنفته الولايات المتحدة أيضًا من بين ما يخضع للمتابعة، طبقًا للنصوص الراهنة للقانون التجاري، الذي يحظر على الأمريكيين عقد صفقات تجارية مع الصين.
(٦) دنج هسياو بنج يرتدي قبعة رعاة البقر
بعد سبعة عشر عامًا من البيان المشترك لشنغهاي في عام ١٩٧٢م، وحتى أحداث ١٩٨٩م غير المسبوقة، كان المنطق الاستراتيجي الملزم، وليد المعارضة المشتركة للاتحاد السوفييتي، هو العنصر الأساسي في أي مشكلة طارئة في العلاقات الصينية-الأمريكية. قبلت الولايات المتحدة بترحيب عضوية الصين؛ ومن ثم استأنفت كل بلدان العالم، أو أقامت علاقاتٍ جديدةً مع بكين. وتدنَّت العلاقات الأمريكية مع تايوان تدريجيًّا، بينما تصاعدت العلاقات مع الصين، حتى أضحت تطبيعًا كاملًا عام ١٩٧٩م. وثارت خلافات عديدة بشأن استمرار مبيعات الأسلحة الأمريكية لتايوان، وضلوعها معها في أعمالٍ أخرى، ولكن كانت تُحسَم هذه الخلافات باتفاقات وتفاهمات جديدة، يحفز إليها إيمان مشترك بأهمية قيام علاقة قوية صينية-أمريكية؛ لتكون أداة كبح التوسع السوفييتي.
وتُوفِّي شو آين لاي في يناير ١٩٧٦م، وتوفِّي من بعده ماو تسي تونج في سبتمبر من العام نفسه. وأثار موت الاثنين شكوكًا ومؤثرات سياسية داخلية غير مسبوقة. وألقي القبض على جيانج قنج زوجة ماو وعلى ثلاثة من رفاقها المتطرفين، ويعرفون معًا باسم عصابة الأربعة، وعُزلوا من جميع مناصبهم، كما عُزل كثيرون آخرون من كبار الشخصيات اليسارية في الثورة الثقافية. وعاد دنج هيساو بنج، الضحية الأولى لحملة التطهير، التي قادتها الثورة الثقافية، إلى السلطة عام ١٩٧٨م، وبدأ قيادته للصين في مسارها الجديد؛ ليعكس اتجاه سياسات الماضي اللاعقلانية، ويعمل على تطبيق نظام اقتصادي رشيد من أجل تحديث الصين.
أدى هذا إلى دعم العلاقات الصينية-الأمريكية آنذاك، ولم تعُد الصين الآن مجرد شريكٍ في الحلف الجيوستراتيجي ضد الاتحاد السوفييتي — إذ تقف الصين مع الولايات المتحدة في انتقادها غزو موسكو لأفغانستان وغزو السوفييت وفيتنام لكمبوديا — بل تقف شريكًا أيضًا في الانقلاب على نهج ماو، وعلى أسلوب الكوميونات، ثم تهيئة فرصٍ مغريةٍ لمشروعات الأعمال والتجارة؛ من أجل مشاركةٍ أجنبيةٍ تدعم حافز التحديث الضخم.
ووجد مجتمع الأعمال الأمريكي سبيله إلى ذلك، عبر الفرجة التي فتحها نيكسون في بوابة الصين. ومع ازدهار إصلاحات دنج، أصبح الباب مفتوحًا على مصراعَيه، وأصبح بإمكان الأمريكيين أن يقيموا مشروعاتٍ كبيرةً ومهمة.
وبرز دنج هسياو بنج زعيمًا لا يُبارى للصين، ورأى فيه الأمريكيون شخصية جذابة وأسطورية؛ إذ استطاع أن يواجه نظام التطهير السياسي الصارم الشرس ثلاث مرات، وتصدَّى لغضب رجال الثورة الثقافية، وظل باقيًا على قيد الحياة، ولكن أن يعود إلى القمة في نهاية الأمر، ويستهل قيادته للصين على طريق اقتصاد السوق الحديث، فهذه قصة بطولة حقيقية على غرار الأسلوب الأمريكي.
لم يكن دنج مثل ماو المنعزل مرهوب الجانب، بل كان له جانبه الإنساني الذي يمكن أن يجد صدًى مقبولًا في نفوس الأمريكيين، كان يحب ويجيد لعبة الورق المعروفة باسم البريدج، وبينما كان طالبًا يدرس في فرنسا، أحب الكعك المعروف باسم «الكرواسان»، ولازمه هذا الحب مدى الحياة. واشتهر عنه حب الدعابة الفكهة.
وقام دنج في عام ١٩٧٩م بجولة في أمريكا، اقترنَت بالتطبيع الرسمي الكامل للعلاقات الأمريكية-الصينية. وكانت جولته هذه بمنزلة ملتقًى جامع بين البلدَين. وكان من دواعي سرور وسائل الإعلام الصينية والأمريكية على السواء، أن عاش دنج، بحماس تجربته الأمريكية، ارتدى قبعة رعاة البقر في تكساس، وشارك في مباراة الروديو لرعاة البقر هناك، وتناول طعامهم على طريقة الباربكيو، واعتاد، أينما ذهب، أن يشجِّع ويحثَّ وسائل الإعلام الصينية المرافقة له، أن ترسل إلى الوطن صورًا، توضِّح مدى التقدم التكنولوجي الأمريكي، وضخامة المباني، وارتفاع مستوى معيشة العمال الأمريكيين.
وأرضى هذا غرور الأمريكيين. ها هو شيوعي صيني، بدا أنه يفهم إنجازات النظام الرأسمالي الأمريكي، وراغب في محاكاته، ولكن ما لم يدركه الأمريكيون على الأرجح، أن حماس دنج، إزاء ما رآه في أمريكا، كان مشروطًا بالصراع الذي كان يقوده في بكين. إنه لم يكن بالضرورة مفتونًا تمامًا بالأسلوب الأمريكي، على الرغم من أنه فهم فضائله، ولعل الأرجح أنه رأى فرصةً لكي يستخدم الإنجازات الأمريكية لمصلحته. ربما رأى أن يحفز حركة الإصلاح الاقتصادي الصيني، بأن يجعل الولايات المتحدة تعرض على شعبه صورةً للبلد الحديث وكيف يكون. إنه إذ يبين لهم مدى تخلفهم؛ فقد يجعلهم هذا يفيقون من سباتهم، ليدركوا حقيقة الكارثة التي عانوا منها بسبب الثورة الثقافية، ومدى الوقت الذي أضاعوه. لعله أراد أن يوحيَ إلى شعبه أن يعملوا بجدٍّ من أجل التحديث؛ وبذا يمكن له أن يحقق المنافع الإضافية للاستثمار، ونقل التكنولوجيا وغير ذلك من أنواع المساعدة من الأمريكيين المعنيين باستثمار السوق الصينية. وإنه في جميع الأحوال، يمكنه أن يحمي الصين من الخط السوفييتي، الذي لا يزال يتهدَّده بفضل مظلة أمريكية، ربما تشتمل على تعاون عسكري واستراتيجي رفيع المستوى.
تميز دنج بنزعته العملية «البراجماتية» الصريحة، وحماسه لإجراء إصلاحٍ اقتصادي، وجعله هذا شخصية يمكن للأمريكيين أن يقيموا معه علاقات أعمال وتجارة. والملاحظ أنه حين وصلت بكين طليعة المراسلين الدائمين من مؤسسات الأخبار الأمريكية، وجدوا أن دنج، دائمًا وأبدًا، شخصية جديرة بأن يقتبس عنها وتتصف بالصراحة. ونال حظوة شخصية الغلاف لمجلة تايم مرتَين في عام ١٩٧٨م، ثم في عام ١٩٨٥م، ولكن دنج لم يكن مبرأً من الأخطاء في عيون الأمريكيين؛ ذلك أن كل مراقب للصين عرف أنه كان يتملص بسهولة من دعمه للديموقراطية، لقد استخدم الديموقراطية لفضح خصومه السياسيين، وتعزيز موقعه هو، ثم يعود ليغلق تلك الفرجة المحدودة، حين تزايله الحاجة إليها.
وواجه المسئولون عن السياسة الخارجية في الولايات المتحدة ظرفًا عصيبًا؛ من أجل التوفيق بين دنج الإصلاحي وغزوه لأراضي فيتنام عام ١٩٧٩م، فور انتهاء زيارته للولايات المتحدة. لقد كان هجوم الصين على مناطق الحدود الشمالية لفيتنام يعني الثأر من توسع هانوي العدواني داخل كمبوديا، وتزايد عمليات التمييز ضد العرق الصيني في فيتنام. بَيْد أن الأمريكيين المهيئين بوجه عام، لتقديم دعم صامت لدور الصين من أجل فتح جبهة ثانية ضد القوات السوفييتية الفيتنامية، أخفقوا في إدراك منطق دنج، وهو أن الصين تغزو فيتنام «دفاعًا عن النفس». (ظهر آنذاك فيلم كارتون يشبه دنج بليندون جونسون. والرسالة هي: أول الأمر ارتديت قبعة رعاة البقر وأكلت طعامه: شواء الباربكيو، ثم حدث ما جعلك تشعر بأنك مضطر لغزو فيتنام)، ولكن توافق الآراء الاستراتيجي، الذي يقضي بضمان علاقة قوية بين الولايات المتحدة والصين جبَّ كل هذه الاتهامات. وهكذا نجد أن جميع الرؤساء، ابتداءً من نيكسون وحتى بوش، يؤمنون بفكرة تعزيز العلاقة الدافئة مع بكين؛ ضمانًا للصين كورقة لعب ضد الروس، واعتبار هذه العلاقة عنصرًا رئيسيًّا لسياسة استراتيجية.
وإذا كان جيمي كارتر اشتهر بتوجيه القوى من أجل «حقوق الإنسان»، فإنه ومجلس وزرائه ومستشاريه، كانوا ملتزمين بدعم التطبيع والارتقاء بالعلاقات. وهكذا نجد، كمثال، ميشيل أوكسنبرج أخصائي شئون الصين، وكان يعمل آنذاك ضمن هيئة مجلس الأمن القومي، يذكر أن «كل واحد كان يدعم هذا الموقف.» وبالمثل، فإن رونالد ريجان، المعروف بنزوعه القوي من أجل السوق الحرة، «وشكوكه الفطرية» في شعب كان ولا يزال يصف نفسه بأنه شيوعي، فإنه باشر عملية توسع هائلة في العلاقة على جميع الصعد، ابتداءً من التعاون العسكري، وحتى مشروعات الأعمال والعلوم. ودعم الرأي العام الأمريكي أيضًا، وبقوة، إقامة علاقات أفضل مع الصين. وأصبحنا نجد على لسان جميع المشاهير الأمريكيين، وعلى اختلاف أنماطهم، من شيرلي ماكلين إلى إسحق شترت وبيج بيرد، قصصًا عن خبراتهم في الصين، وهو ما فعلته الغالبية العظمى من الأعداد المتزايدة من السائحين الأمريكيين العاديين.
وبحلول عام ١٩٨١م، بلغت التجارة الأمريكية-الصينية حجمًا مهمًّا: ٥٫٦ بليون دولار في السنة. ويشخص لنا السيناتور هنري جاكسون، عن ولاية واشنطن (والمعروف أحيانًا باسم سيناتور بوينج) توافق المصالح الاستراتيجية والاقتصادية في العلاقات مع الصين. وهكذا لم يَعُد الأمر مقصورًا على أن الأمريكيين بإمكانهم أن يلعبوا بورقة الصين ضد موسكو، بل وأيضًا شركات مثل شركة بوينج، يمكنها أن تبيع أعدادًا كبيرة من الطائرات. وكان أعضاء مجلس الشيوخ من الولايات الزراعية أكثر حماسًا من أجل زيادة مبيعات القمح الأمريكي وغيره من السلع الزراعية، وكما لحظ كل زعيم من الزعماء السياسيين والاقتصاديين رفيعي المستوى، ممن زاروا الصين خلال تلك الحقبة: «أنهم يحتاجون إلى كل شيء»؛ ليحققوا أهدافهم في التحديث، وأراد الأمريكيون كذلك أن يبيعوا لهم، والنتيجة أن انتعشت تجارة الصين على مدى العقد التاسع.
(٧) ١٩٨٩: قصة ميدانين
ثم حل عام ١٩٨٩م المشئوم، الذي شهد حادثَين مثيرَين، كان يمكن لهما أن يغيرا طبيعة انطلاقة الأعوام السبعة عشر من العلاقات الصينية-الأمريكية، أولهما مذبحة ميدان تيان آن مين (السلام السماوي) في بكين، وثانيهما سقوط حائط برلين.
ففي ٤ يونيو ١٩٨٩م، حُشد الجيش الصيني لطرد الطلاب المتظاهرين ومؤيديهم من ميدان تيان آن مين. وجاء القرار باستخدام العنف ضد الطلاب بعد عدة أسابيع، احتل خلالها الطلاب الميدان الشهير، وقد تزايدت أعدادهم باطِّراد، حتى بلغوا مليون نسمة، وهذا هو الميدان الذي شهد العديد من أكثر معارك الصين حسمًا، في الصراع على السلطة السياسية.
والحادث في سياق تاريخ الصين، ما كان له أن يصدم الأمريكيين، بيد أنه صدمهم، وعلى مستويات عديدة. حشد هائل وعنيف من المحتجين على نقيض صورة تحديث وإصلاح ومقرطة الصين، وهي الصورة التي اعتادها الأمريكيون تدريجيًّا. وكان الحادث صدمةً لهم على وجه الدقة والتحديد؛ لأنه كشف على أي نحوٍ تحولت الصين إلى النقيض. وأفادت المعلومات المتوافرة عن أن الطلاب الصينيين في الميدان، كانوا يصدرون، بشكل منتظم، بيانات تعبر عن آرائهم ورؤيتهم إلى العالم، واستطاعت وكالة سي. إن. إن وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية، أن تغطي الأحداث في واقعها الحي، وتكشف أعماقها على مدى الأسابيع، إلى أن قُطع التيار الكهربائي، وعزلت سي. إن. إن قُبَيل ساعاتٍ من تحرك القوات المسلحة.
لم يكن الأمريكيون مغتبطين فقط، بل ومتحمسين لما يجري داخل الصين قبل أحداث تيان آن مين، وظهر أن جاو جيانج، الذي يحظى برعاية دنج هسياو بنج، هو الذي يشرف على القطاع الأكبر من عملية الإصلاح، وبدا في عيون الأجانب الإنسان الأقدر تكنوقراطيًّا، الذي يسعى لتحقيق صورة الصين الحديثة والليبرالية والمتقدمة تكنولوجيًّا؛ لتغدوَ بحقٍّ مجتمعًا ينتمي إلى القرن الواحد والعشرين، وبدا أن العملية بوضعها هذا، ترضي توقعات الأمريكيين بشأن الدائرة الفعالة لاقتصادات السوق والسياسات الديموقراطية، ذلك أن التقدُّم في الإصلاح الاقتصادي يخلق طبقةً وسطى ومجتمعًا كبيرًا من الاستهلاكيين وأصحاب المصلحة في انتعاش الاقتصاد، وهذا من شأنه أن يفضي إلى إصلاح سياسي ومقرطة المجتمع، والذي يؤدي بالتالي إلى مزيدٍ من النمو الاقتصادي.
وبدا القمع العنيف في ميدان تيان آن مين صدمة إزاء النظام في نظر المؤمنين بهذا المنطق؛ إذ تتابعت الأحداث على النحو التالي: استدعاء الجيش للهجوم على مَن يطالبون بالديموقراطية وسيادة القانون. ووضح أن دنج هسياو بنج هو مهندس عملية القمع، كذلك فإن جاو جيانج انتهى به الأمر بتجريده من سلطاته ووضعه رهن الإقامة الجبرية في منزله؛ لأنه كان متعاطفًا مع المتظاهرين. وتوقفت إصلاحات كثيرة عقب أحداث تيان آن مين؛ لهذا كله شعر الأمريكيون بالصدمة والمرارة وخيبة الأمل، وعدم الثقة في القيادة الصينية. وردَّت واشنطن على هذا بالشجب والاستنكار، وحدَّدت عقوباتٍ ضد التجارة والاستثمار، وجاء الآن دور بكين، لكي تشعر بالخيبة والمرارة وتزايد عدم الثقة.
كان قرار استدعاء الجيش إلى ميدان تيان آن مين بالنسبة لكلٍّ من دنج وكبار القادة الصينيين، مجرد دعوة لحفظ النظام والسيطرة على الموقف. وطبيعي أنهم كانوا يدركون أنهم الأقوى سلطةً وإمكانًا، بيد أنهم أيضًا كانت تشغلهم الحاجة إلى الحفاظ على سلطتهم، للعمل من أجل خير الأمة؛ ولهذا اعتقدوا أنهم في حاجةٍ إلى الاستقرار لمواصلة عمليات الإصلاح الاقتصادي، وكانوا مقتنعين بأنهم إذا ما ساوموا أو أبدَوْا ضعفًا، فقد تعمُّ الفوضى وتضطرب الأوضاع بغير حدود.
والمعروف أن أنصار النظم الشمولية يرغبون، دائمًا، في اعتبار أقل مظهر من مظاهر المعارضة، خطوة أولى نحو الفوضى، ولكن في حالة ميدان تيان آن مين، ربما كانت السلطات الصينية أكثر صوابًا مما يريد الديموقراطيون في الغرب أن يعترفوا. وفي الذكرى السابعة لحادث ٤ يونيو، اعترفت تشاي لنج، وهي واحدةٌ من أبرز الشباب الثائر وقت الحادث، خلال حديث صحافي معها، أنها هي وفريقًا تابعًا لها حاولوا، عن عمد، الاستفزاز لكي يتدخَّل الجيش، ويحدث سفك دماء، بهدف إثارة الشعب لإسقاط النظام.
والجدير ذكره، أن جميع قادة الحزب الشيوعي الصيني كانوا مؤمنين تمامًا في العام ١٩٨٩م، ولا يزالون مؤمنين بذلك حتى اليوم، أنه لو لم يتحركوا ويسحقوا التمرد بحسم، لواجهت الصين حالةً من عدم الاستقرار، ولانتهى بها الأمر إلى الطريق ذاته، الذي سار إليه الاتحاد السوفييتي. ترى، هل يريد الأمريكيون هذه النتيجة فقط باسم حرية التعبير لطلابٍ غير ناضجين وديماغوجيين؟ ويرى الصينيون أن فشل الرسميين الأمريكيين في الاعتراف بهذا. وبموضوعاتٍ تاريخيةٍ أخرى، أكبر شأنًا، علاوة على عمليات السحب المنظمة للاستثمارات الأمريكية بعد تيان آن مين، كل هذا يعيد إلى ذاكرة الصينيين ما كانوا يؤمنون به دائمًا: الغرب، والأمريكيون بخاصة، لا يمكن الثقة فيهم.
لقد كان يوم الرابع من يونيو نقطة تحولٍ في علاقة الصين والولايات المتحدة، ولكن الأحداث التي وقعت بعد خمسة شهور في ميدان آخر — يبعد عشرة آلاف ميل — ربما كانت أعمقَ وأكثرَ تأثيرًا؛ إذ مع سقوط جدار برلين في ميدان بوتسدام، في نوفمبر ١٩٨٩م، بات واضحًا للجميع، أن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قد انتهَت إلى غير رجعة. وهكذا بدا كأن ورقة الصين لم يعُد لها قيمة في نظر واشنطن للتعامل مع روسيا، التي عمَّها الفوضى وعدم الاستقرار، لقد كانت الورقة، يقينًا، ذات قيمة كبرى، وقت التعامل مع الاتحاد السوفييتي المستقر والعدواني والمسلح نوويًّا.
وبدت النتيجة الطبيعية لهذا صادقة في الصين؛ إذ أصبح بإمكان بكين وموسكو الآن أن يعملا على تدفئة علاقاتهما، وقد تحرَّرت من العقبات العسكرية والأيديولوجية التي نغصت عليهما، منذ أن تصدَّعت العلاقات الصينية-السوفييتية في أواخر الخمسينيات. ومثلما أن واشنطن لم تعُد في حاجةٍ إلى ورقة الصين، كذلك بكين لم تعُد في حاجةٍ إلى ورقة أمريكية ضد الروس، وهكذا بدأت التسعينيات وقد استشعرت كلٌّ من واشنطن وبكين قدرًا عميقًا من عدم الثقة المتبادلة، عشية ميدان تيان آن مين. وتساقط الغراء الذي كان عامل تثبيتٍ استراتيجي، للقلق المشترك إزاء الخطر السوفييتي، والذي جعل العلاقة بينهما تستمرُّ قويةً على مدى عقدَين.
(٨) المجد لمن يغتني
أدرك دنج هسياو بنج بعد أحداث تيان آن مين، أن الغرب لن يوفِّر للصين كل ما تحتاج إليه من استثماراتٍ وتكنولوجيا. وإذ برهن الأمريكيون على أنهم متقلبون أو أنهم (كأمةٍ من البراجماتيين) مشدودون — على نحوٍ يثير الدهشة — بأحاديث عن مبادئ حقوق الإنسان، بدلًا من الاهتمام بمصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية، فإن تحديث الصين لن يتوقَّف لهذا السبب.
هناك من ناحية قضايا القومية والكبرياء والكرامة. وتحدَّث دنج هسياو بنج إلى ريتشارد نيكسون عقب فرض العقوبات، إثر أحداث تيان آن مين وأبلغه بالآتي: «لا تتوقع أبدًا أن الصين سوف تتوسل إلى الولايات المتحدة؛ لكي ترفع عنها العقوبات، إن الصينيين لن يفعلوا ذلك أبدًا، حتى لو استمرَّت العقوبات مائة عام.» ولكن من ناحيةٍ أخرى، كانت هناك بدائل؛ إذ أدرك دنج ورفاقه أن بإمكانهم أن يفتحوا الباب على مصراعَيه للمستثمرين الذين يفهمون واقع البلاد على نحو أفضل: «الصينيون فيما وراء البحار» من هونج كونج وماكاو وتايوان، وحتى من جنوب شرق آسيا.
وعلى الرغم من أن هؤلاء، أبناء العرق الصيني، من أصحاب البلايين والملايين كانوا من اللاجئين بوجه عام (أو أبناء لاجئين)، منذ ثورة ماو، فإنهم كذلك يؤمنون بأهمية الاستقرار، وكانوا في الأساس غير متعاطفين مع الطلاب، الذين تظاهروا في ميدان تيان آن مين. إن أكثرهم عصاميون، ليس لهم حظٌّ من التعليم، وقد نشئوا فقراء، وقضوا سنوات شبابهم يعملون ثماني عشرة ساعة في اليوم، واستطاعوا إقامة إمبراطوريات أعمال أوتوقراطية، وحققوا هذا في بلدان أو في نظم سياسية ثقافاتها المحلية تنطوي على قدرٍ ضئيلٍ من الديموقراطية، ويرى هؤلاء الرجال أن مصالحهم الذاتية مع الصين وحكومتها في بكين؛ حيث سياسة التحديث وضعت بالفعل شركاتِهم الناجحة في مركز عملية النمو، داخل الاقتصاد الكوكبي.
ولأسبابٍ عديدة وجيهة جدًّا، ضاعف الصينيون المقيمون فيما وراء البحار من استثماراتهم في الصين بعد العام ١٩٨٩م، وكانت شركاتهم تملك فائضًا هائلًا من السيولة، بفضل حالة الانتعاش الضخمة في اقتصادات هونج كونج وتايوان وجنوب شرق آسيا. من الطبيعي أن هذه التدفقات النقدية الهائلة لا يمكن استثمارها بالكامل في اقتصاداتهم المحلية، بل كان لا بد من تصديرها. لقد ظل الصينيون — فيما وراء البحار — يستثمرون لسنواتٍ طويلةٍ أموالهم في أمريكا وفي الغرب بعامة؛ خوفًا من مخاطر الاستثمار في الصين، ولكنهم الآن شاهدوا أن أفضل فرص للاستثمار سانحة في الصين.
وواجه مستثمرو هونج كونج صعوبة من نوع خاص، ذلك أن شركاتهم كانت في حاجة ملحة للغاية إلى العمالة الصينية الرخيصة، بعد أن أصبح هيكل الكلفة في هونج كونج شديد الارتفاع، وأدركوا أنهم إذا نقلوا عملياتهم الإنتاجية القائمة على عمالةٍ كثيفةٍ عبر الحدود إلى داخل الصين، فإنهم سوف يحققون الوفورات اللازمة في كلفة الإنتاج، مما يساعدهم على الاستمرار في المنافسة. ووضح كذلك أن هذه النقلة سوف تقدمهم في صورة المشاركين، الذين يقدمون يد العون في بناء الاقتصاد الصيني، مع ضمان حماية سياسية جيدة ضد أي مخاطر محتملة بعد عام ١٩٩٧م. وربما يسهم هذا في إفادة مشروعات أعمالهم، في التحول إلى الاندماج داخل الاقتصاد البازغ «للصين العظمى».
وهكذا اتجهت غالبية الصناعات ذات الإنتاج الكبير في هونج كونج إلى فَتْح منافذ لها في الصين، خلال أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وانتقلت عمليات التصنيع إلى الصين، بينما بقيَت في هونج كونج أعمال التصميم والتسويق والوظائف التجارية.
وهكذا، فإن التدفق الهائل من هونج كونج ومن رأس المال الصيني المقيم فيما وراء البحار إلى داخل الصين، تحوَّل إلى منجم غني، وتحقَّق هذا في أسطع صورة، في مقاطعة جواندونج، وفي المناطق الاقتصادية الخاصة مثل شين جين، وتقع هذه على الحدود مع هونج كونج، وأقيمت كشكلٍ تجريبي لتكون نظامًا تجاريًّا منفتحًا، ويسكنها شبابٌ صيني شغوف لكي يتعلم ويبحث عن الفرصة. وتَحقَّقَ للصين انتعاشٌ مذهل، بفضل الجمع بين الحرية الاقتصادية في الجنوب، واستثارة غرائز تنظيم المشروعات لدى أبناء كانتون، وتدفق أموال الصينيين فيما وراء البحار.
وخلال الشطر الأول من عام ١٩٩٢م، اتجه دنج هسياو بنج للعمل على تكثيف حالة الانتعاش، وقام بجولةٍ بين المقاطعات مقتفيًا في هذا أثر ماو من قبله، والأباطرة الصينيين منذ مطلع التاريخ المكتوب. كان دنج قد ناهز التاسعة والثمانين من العمر. ولعل هذه الرحلة إلى الجنوب، كانت نقطة البداية للحملة الكبرى والأخيرة في حياته. ولا شك في أن مثل هذه الحملة تعتبر أمرًا لافتًا للنظر، بالنسبة لرجلٍ مثله، اعترف صراحةً بأنه يعرف النزر اليسير عن الاقتصاد الحديث. وأفضت هذه الحملة إلى تعاظم مفاجئ في النمو الاقتصادي، وفي خَلْق الثروة — على نحوٍ غير مسبوق — في تاريخ الصين.
كان الجنوب هو المكان الذي شهد أعظم نمو، وكذلك الذي تجلَّت منه أقوى صدمةٍ منظوميةٍ للاشتراكية الصينية، وحظيَت مقاطعة جواندونج بثروةٍ وانتعاشٍ فريدَين نتيجةً لذلك. بَيْد أن العملية كانت مثار جدلٍ شديد؛ ذلك أن الشماليين في بكين أبدَوْا قلقًا وانتقادًا متزايدَين إزاء ما يجري في الجنوب. غير أن دنج هسياو بنج لم يكن كذلك، ذلك أنه التزم خطًّا متشددًا إزاء المسائل السياسية، أما الاقتصاد فهو شيء آخر؛ إذ كان متقبلًا للسياسات المنفتحة وللتجديد، واعتاد النظر نظرة تقدير إلى فائدة بعض قوى السوق. وكان من رأي دنج أن السيطرة السياسية من جانب السلطة ضرورة، وأن أفضل شيء أن يدعمها نموٌّ اقتصاديٌّ متزايد.
اعتاد دنج الظهور في المحافل العامة، وأن يؤكد، بوضوح وبشكل عملي، دعمه ومساندته للمناهج الجديدة، واستطاع بذلك أن يجعل من جولته التفتيشية في الجنوب قوة دفع مطلقة، تدعمها السلطة لحركة الإصلاح الاقتصادي. وأخذ يردِّد حكمة صينية قديمة مع تغيير في كلماتها: «المجد لمن يغتني»؛ إذ لو استطاع أكبر عدد من الصينيين أن يصبحوا أغنياء، فإن هذا سوف يزيد ثراء الأمة، وهو على طريق التحديث والرخاء. ودعا في كل محطة وقف عندها، كأنه كان يعرف أنه يحارب آخر معاركه، إلى مزيدٍ من الانفتاح للتجارة وللاستثمار الأجنبيَّين، بهدف التحوُّل بسرعةٍ أكبر في اتجاه السوق، ولكي تتعلَّم كل الصين من الجنوب.
وفتحت رحلة دنج أبواب الصين على مصاريعها، على نحوٍ غير مسبوق في تاريخها. وبينما كان دنج يزداد ضعفًا وعجزًا منذ العام ١٩٩٢م وحتى العام ١٩٩٤م، كانت الصين تزداد نموًّا وانتعاشًا اقتصاديًّا، فاق كل ما كان في السابق.
(٩) غواية سوق الصين
ومع اطِّراد حالة الانتعاش في الصين، بدأَت تتوارى أحداث تيان آن مين، لتحتلَّ موقعًا ثانويًّا في عقول رجال الأعمال، وصناع السياسة الأمريكيين. وعلى الرغم من أن بكين لم تتراجع عن موقفها، فإن عوامل الزمن والفرص أوهنت الاعتراضات الأمريكية، التي تتخوَّف من الاستثمار في الصين. وفجأة، أضحَت الصين اللعبة الكوكبية العظمى، والمكان الأكثر استثارةً للأسواق البازغة، والمركز المختار للنمو الكوكبي، وبات مستحيلًا على الأمريكيين أن يقفوا بمنأًى عنها، وهكذا فعلوا ما توقَّعه منهم دنج؛ إذ انكبوا متدافعين.
وشهدت السنوات الأولى من التسعينيات كيف أن كل شركة أمريكية أو غربية مهمة، تسابق لتقتنص حصة من السوق. وكانت الشركات الصينية قادرةً على إقامة أكثر من ١٠٠ ألف مشروع مشترك مع شركاء أجانب، خلال العامَين التاليَين لرحلة دنج إلى الجنوب. وانتشرت صناديق الصين للاستثمار في وول ستريت، وفي كل آسيا، واشتعلت حرب المزايدة لمصلحة الموهبة الصينية، وبدأت بنوك الاستثمار الأجنبية ومكاتب السمسرة تؤجر شبابًا صينيين يُجيدون اللغة الإنجليزية، مقابل ٥٠٠ ألف إلى مليون دولار في السنة.
والجدير ملاحظته، أن خلال عام ١٩٩٣م فقط، أفرغ المستثمرون الأجانب أكثر من ٢٠ بليون دولار داخل الصين، مما يزيد كثيرًا جدًّا عما كان في السنوات السابقة، وتضاعف هذا الرقم تقريبًا خلال عام ١٩٩٤م. وبحلول العام ١٩٩٦م أكدت اثنتا عشرة شركة أمريكية ثقتها، واهتمامها المثير بالصين، وهو ما تجلَّى في استثمار كلٍّ منها أكثر من ١٠٠ مليون دولار. وتتضمَّن القائمة التي تحتلُّ صدارتها شركة موتورولا وشركات آركو وكوكاكولا وأمكو وفورد والتكنولوجيات المتحدة، وبيبسي كولا، وآتي أند تي، ولوسنت، وجي إي، وجنرال موتورز، وهيولت-باكارد، وآي بي إم.
وطبيعي أن حالة الانتعاش التي عاشَتْها الصين خلال الأعوام من ١٩٩٢–١٩٩٤م لم تكن مستدامة، وأنتجت حصتها من العقارات الوهمية والمضاربات غير المشروعة على الأسهم، علاوةً على سنواتٍ عديدة من التضخم. وهنا عمدت السلطات الصينية إلى إحكام قبضتها على النمر الذي أطلقته؛ ومن ثم خففت من حركته، وذلك بفرض سياسات نقدية حازمة، وإجراءات تقشفية. ومع الوقت أثرت أحداث الأزمة المالية الآسيوية؛ إذ بدأ معدل النمو في الصين ينكمش، وشرعت بكين في اتخاذ إجراءات لحماية السوق المحلية، وتوقف هنا الاندفاع المسعور للذهب الغربي، وأصبح الأجانب والصينيون — على السواء — أكثر واقعيةً بشأن كم النقد الذي يمكن تحريكه بسرعة معينة.