الفصل العشرون

ميثاق شنغهاي الجديد

(١) أقصى قدر من الفرص وأدنى حدٍّ من الصراع من أجل سياسة «التشابك الدينامي»

كلَّما أسرعنا في وضع نهاية للحرب الباردة كان هذا أفضل … من أجل مشروعات الأعمال الأمريكية، التي ستتمتع بفرص أكبر للوصول إلى السوق الصينية في مناخ يسوده التعاون، بدلًا من سوق تطغى عليها مشاعر العداء والتهديد. إن مجتمع الأعمال والشركات الأمريكي لديه فرصة ليكون شريكًا بالاختيار، من أجل تنمية وتطوير اقتصاد هو الأسرع نموًّا في العالم، وسيكون يومًا ما الأضخم. إننا نستطيع أن نسخر التكامل والتعاون الهائلَين بين نظامَينا الاقتصاديَّين، بيد أن هذه الفرصة مقيدة الآن؛ نظرًا لأن أهم إمكاناتها يجري التضحية بها على مذبح الحرب الباردة التي كان يتعيَّن ألَّا تنشب.

… ومن أجل المصالح العظمى للاقتصاد الأمريكي، علاوة على الربحية الواعدة للشركات، هناك منافع أخرى كثيرةٌ لتعزيز العلاقة مع الصين، وتتراوح هذه المنافع ابتداءً من زيادة فرص العمل داخل البلاد وحتى فائدة الواردات الصينية، التي تعود على المستهلك الأمريكي ومستوى معيشته.

… ومن أجل المصالح السياسية والاستراتيجية الأمريكية، سوف تتهيأ لواشنطن فرصة بالغة العظمة للتأثير إيجابيًّا في الصين بشأن مسائل مهمة للأمن الآسيوي والعالمي في سياق حوار بين قوتَين عظميَين مترابطتَين، بدلًا من أن تكونا في حالة حرب باردة هدفها احتواء الصين الصاعدة. ونحن لدينا الفرصة لكي نؤدي الدور الرائد في تشجيع تنمية الصين كقوة عظمى مسئولة ومعقولة ومتلائمة، حتى وإن لم يكن هذا يسيرًا مع النظام العالمي الناشئ الإيجابي، والذي تجلَّى في السنوات الأخيرة. ودعونا لا نرتكب خطأ إرغام بكين على استنتاج أنها ليست موضع ترحيب في هذا النظام، وأن عليها أن تمضي في طريقها الخاص.

… ومن أجل الشعب الصيني نفسه، إذا كنا نحن الأمريكيين نريد أن نسهم بأي شيء في سبيل الإسراع بتطوير صين أكثر توجهًا نحو السوق، وأكثر ديموقراطية، وحيث يمكن أن يسود يومًا نظام الحريات السياسية وحقوق الإنسان حسب الأسلوب الأمريكي، فإننا لن نحقق هذا موضوعيًّا إلا إذا ارتبطنا على نحوٍ إيجابيٍّ وفاعل مع الصينيين. إن استراتيجية الصقور الداعية إلى العزل والاحتواء سوف تجعل الأمريكيين يعظون برسالة لن توليها الصين أذنًا صاغية، أو سيكون مصيرها الرفض من منبعها. وسيؤدي هذا إلى تقويض وضع أكثر القوى استنارةً وتعاطفًا مع الغرب.

… ومن أجل ما يمكن أن يعمله الشعبان الأمريكي والصيني معًا؛ إذ على الرغم من تباين خلفياتنا الثقافية وتاريخنا؛ فإن شعبَينا تجمعهما أواصر قربى قومية. وعلى الرغم من الخطابات السياسية خلال الأعوام الأخيرة، يبدي الشعب الصيني إعجابه بالحرية والإبداعية في الثقافة وفي أسلوب الحياة الأمريكيين، كما يبدي إعجابه بروحنا الراشدة، ومجتمعنا المفتوح، والكثير من مثلنا العليا. ويبدي الأمريكيون إعجابهم بالصينيين؛ لتراثهم الثقافي وكدهم واجتهادهم وأخلاقهم في العمل، وقدرتهم على تحمُّل الأعباء، مهما كثرت، وتقديم الكثير والكثير من التضحيات، علاوة على رغبتهم في طرح الماضي وراء ظهورهم ودخول العصر الحديث، ولكن هذه الاحتمالات القوية التي تهيئ إمكانًا للتعاون بين الشعبَين، وللعمل معًا لإنجاز مشروعاتٍ تحقق مصالح متبادلة، وتحظى باهتمامٍ متبادل، مصيرها دائمًا الانهيار بسبب سياسة المواجهة.

… ومن أجل مصلحة السلم والرخاء العالميين، فإن عددًا متزايدًا من البلدان يقف على أعتاب انتعاش اقتصادي كوكبي محتمل وواسع النطاق، مما سوف يجعل القرن الواحد والعشرين فترة ستشهد قفزةً نوعيةً في مستويات المعيشة، وتوفر موارد جديدة لحل مشكلات اجتماعية وبيئية مزمنة. ويقول بيتر شوارتز Peter Schwartz «وهو من أهم خبراء وضع نماذج لسيناريوهات المستقبل: نحن على أعتاب ربع قرن من الرخاء والحرية والبيئة الأفضل للعالم أجمع.» ولكنه يشير إلى أن الخطر رقم واحد الذي يتهدد سيناريو الانتعاش الكوكبي الممتد، إنما تفرضه «التوترات بين الصين والولايات المتحدة، والذي يتصاعد إلى مستوى حرب باردة جديدة؛ ليصل إلى حافة حرب ساخنة»؛ لذا كيف نحسم أمر هذه الحرب الباردة، ونتحرك معًا لنقتنص الفرص وأسباب التعاون الكامنة في العلاقة الأمريكية-الصينية؟

الخطوة الأولى بسيطة نظريًّا، وإن بدت عسيرةً سياسيًّا: إذا كنت تريد إنهاء حرب باردة، فما عليك إلا أن تكفَّ عن خوضها! سوف يرفض الأمريكيون النفوذ المتزايد لمدرسة «الصين خطر»، وعلينا — بدلًا من ذلك — أن نبدأ صياغة جديدة للعلاقة على النحو الذي تصورناه لها في أيام الانفراج خلال الماضي القريب. وعلينا أن نؤكد منافعها في الوقت الذي نكون فيه منفتحين وواقعيين إزاء التحديات، ونعزز مصالحنا المشتركة بدلًا من التركيز على خلافاتنا.

وحري بالولايات المتحدة أن تلتمس مشاركة استراتيجية طويلة الأمد مع الصينيين، على نحو ما فعلنا في السبعينيات والثمانينيات، فهذا أفضل من تكتيكات العداء والخصومة المتبعة اليوم. وحري أن تتركز هذه الشراكة خلال القرن الواحد والعشرين على المصالح الاقتصادية وغيرها، بدلًا من المصالح الجيوبوليتيكية في الماضي.

إن العبارات السائدة في الجدل الدائر في شأن سياسة الصين، هي كلمات «ارتباط واشتباك» أو «احتواء» … إلخ. ونحن نعرف أن الشعارات لا تعبر بصدق ونزاهة عن الأفكار الكامنة وراء مدرس الفكرة هذه، ومع هذا، ورغبة في الإيجاز، فإن لنا شعارنا الذي نعبر به عن النهج الأفضل مع الصين، وهو «اشتباك دينامي»، فنحن نعارض بقوة نهج الاحتواء والمواجهة الذي ينادي به الصقور، بيد أننا — حين قلنا إننا نفضل الاشتباك على الاحتواء — فإن نوع الاشتباك الذي تمارسه واشنطن شديد التطرف في مشروطيته؛ مما يحد من إمكانه في أن يضيق — على نحو كبير — الهوة التي تفصل بين الصين والولايات المتحدة.

إن الاشتباك، حسب الأسلوب الأمريكي، يمثل قائمة طويلة من كلمات الشرط وجوابه: «إذا غيَّر الصينيون من سلوكهم، إذن سوف نعطيهم الجزرة، وإذا لم يفعلوا سوف نضربهم بالعصا.» وهذا يعني نظامًا مدمرًا يستخدم للعلاج من أجل تعديل السلوك، ولكن ثمة مشكلة كبرى: وهي أن المريض (أي الصين) لم يقتنع بعدُ بالمشاركة في العملية، وممعن في الابتعاد أكثر فأكثر. حقًّا ينتقد الصقور دعاة الاشتباك لأنهم يذعنون للصين، وأن الصينيين، في الوقت ذاته، يزدرون صيغة واشنطن عن الاشتباك. ونذكر هنا ما قاله وانج جيزي Wang Jisi، وهو من كبار الصينيين المتابعين لأمريكا، «الاشتباك ليس إيماءة ودية، بل محاولة لإغراق الصين بمظاهر النفوذ الأيديولوجي والثقافي والسياسي والاقتصادي للولايات المتحدة.»

ونحن لا نعني بعبارة «الاشتباك الدينامي» التزام طريق أحادية الاتجاه لإغراق الصين بفيضان الآراء والقيم الأمريكية، بل نعني الالتزام بحوار متبادل وأصيل. ولا نقصد نظامًا مبيتًا هدفه التحكم في السلوك، بل رغبة صادقة من جانب الولايات المتحدة بأن تأخذ هي الخطوات الأولى، لإعادة بناء الثقة والتعاون النشط، بدلًا من الانتظار إلى حين تغير جميع السلوكيات الصينية السلبية. ويعني الاشتباك الدينامي فَهْم أن من أهم وأبرز وأعظم أحداث العصر إيجابية في تاريخ العالم إحراز مكان في الصين، وأننا نحن في الولايات المتحدة نود أن نكون جزءًا منها؛ ندعمها ونسهم معها ونفيد منها.

ويعني الاشتباك الدينامي الانخراط بعمق في كل فرصة تتيحها الصين للمشاركة في بناء البلاد اقتصاديًّا وتحديثها، وأن الأمريكيين في حاجةٍ إلى أن يكون على أرض الواقع مشاركون في كل ما هو جديد في الصين، مهما كثر وعلى قدر الاستطاعة. ويتعين أن نحقق هذا من خلال الحكومة ومشروعات الأعمال، وعلاقات التبادل بين العلماء الأكاديميين والخبراء والعلاقات بين الشعبين. وثمة قدر كبير من هذا النشاط متحقق بالفعل، ولكن يتعين مضاعفته وتعميقه والاحتفاء به علانية، بدلًا من أن يجري في الظل أو إخفائه خوفًا من أن يهاجمه أحد الصقور، متهمًا أي مشروع مهم بأنه تدليل للدكتاتور.

وقد يكون من المبالغة مطالبة أمريكا بوضع مشروع مثل «مشروع مارشال» للصين، وليس هذا هو ما يحتاج إليه الصينيون، ولا ما يريدونه. ومع هذا يمكن لواشنطن، بالتعاون مع القطاع الخاص، أن تقدم للصين مساعدات سخية: مالية وتقانية وغيرها. ويجب أن تكون هذه المشاركة بين القطاعَين العام والخاص مع الصينيين مشاركة قوية حية؛ لتوفر فرصة حقيقية لكي يتعلم الطرفان أحدهما من الآخر، وأن نعلم قيمنا على سبيل المثال. والحقيقة أننا ما لم نرغب وإلى أن نريد أن نكون على رباط وثيق على أرض الواقع في داخل الصين، لن نستطيع أن نعقد الأمل في أن أيًّا من الأفكار العظمى عن الصين والديموقراطية سوف تضرب بجذور عميقة هناك.

ونحن نفضل فصل السياسة عن التجارة قدر الاستطاعة: ففي عالم الاقتصاد الكوكبي الحديث لا معنى للإبقاء على التجارة رهينة الاهتمامات السياسية إلا في حالات التطرف الشديد. وإذا كان الصقور يجاهدون لوضع الصين في صورة دكتاتورية متطرفة وغربة أخلاقية، فإن الصين في حقيقة وضعها ليست كذلك الآن. ونحن نعتقد أن أفضل أمل في أن يكون للمثل العليا وللقيم الأمريكية دور في الصين، إنما يتحقق من خلال اشتباك كامل وعميق وواسع على أرض الصين، تقوم به الشركات والمؤسسات الأمريكية. وحري ألَّا نفرض قيودًا على التجارة والاستثمار بسبب خلافات سياسية، بل العكس؛ إذ ينبغي أن نرى في هذا ترياقًا لمظاهر السمية الكامنة داخل هذه الخلافات.

إن ضلوع الشركات الأمريكية في التجارة والاستثمار، وكذلك المشاركة المؤسسية عن طريق الجامعات ومراكز الفكر الأمريكية، وأيضًا منظمات السياسة العامة والصحافيين والوكالات الحكومية، كل هذا من شأنه أن يقلِّل، إلى أدنى حد، من خلافاتنا حين نتصدى للجوانب العملية للعلاقة. ويمكن لهؤلاء جميعًا أن يعرضوا على الصينيين نموذجًا للعمل مغايرًا تمامًا في الاقتصاد السياسي، مما قد يكون له أثره العميق في تطور الصين على المدى البعيد. بيد أننا نسرف في إطراء التكافل الاقتصادي، باعتباره علاجًا شاملًا لكل الأدواء، ولكنه، يقينًا يبدد الأخطار غير الجدية والنزعة التبشيرية على أيدي مَن لا يعون حقيقة المسئولية إلى شعبٍ قرَّرنا ألَّا نتاجر معه، لا لشيء سوى أننا نعارض سياسته أو قِيَمه.

(٢) نقاط الانطلاق

بدأت إدارة كلينتون في الفترة الأخيرة تبذل جهودًا من أجل استعادة الوضع الطبيعي والسوي للعلاقات بين واشنطن وبكين، ومن أجل الدفاع عن منح الصين حق الدولة الأكثر رعاية. والملاحظ هنا أن الإدارة وصلت إلى منتصف الطريق في خط التفكير الذي أسلفناه. والجدير ذكره أن هذه الجهود تصادف تأييدًا من جانب رجال الأعمال الأمريكيين وأصوات أخرى كثيرة، تدعو إلى تحكيم العقل على اختلاف المشارب السياسية. بيد أن الإدارة مترددة في عزمها على المضي قدمًا في هذا الاتجاه، وسبب ذلك الانتقادات الواضحة من جانب اليمين واليسار، سواء داخل الكونغرس أو في المجتمع الأمريكي؛ إذ يحاول الطرفان دفع السياسة الأمريكية في اتجاه ممعن أكثر في المواجهة.

ونحن على وعي شديد بالصعاب التي تواجه تغيير هذا المزيج، خاصة أن السياسة التي نقترحها تعارض الاتجاه الذي سار فيه البندول الأمريكي، خلال الفترة المتأخرة، ولكن نزعتنا الواقعية في شأن هذا الموقف هي الأساس الذي نبني عليه تنبؤنا، الذي يقضي بأن الحرب الباردة التي تشتعل لتهدأ، ثم تشتعل من جديد مع الصين، سوف تستمر على مدى سنوات عديدة قادمة، ونتمنى ألَّا نشهد هذا الواقع المشئوم، وقد وجد سبيله إلى التحقق، ولكن للأسف أنه بات أكثر احتمالًا؛ لأن الصينيين يواصلون رفضهم تغيير سلوكياتهم، مما يفيدهم أكثر لكسب الأصدقاء وللتأثير في الفكر في الخارج. لقد أمكن كبح جماح بعض مظاهر الغلو الصارخة، في بندول الصينيين، الذي بدوره، ينذر بخطر التأرجح في اتجاه المزيد من النزعة الوطنية الجديدة، وعلاوة على هذا أن الصين، حتى اليوم، لم تكشف إلا عن قدر ضئيل من الفهم العميق لسياستنا، وإن ما تفهمه فعلًا تسخر أو تستاء منه في غالب الأحيان. وعلى الرغم من أن جيانج زيمين قد يكون بإمكانه أن يتلو خطبة بلدة جيتسبرج١ بالإنجليزية من الذاكرة، إلا أنه يصرُّ على أن دور الصين في تحرير عبيد التبت يشبه دور لينكولن وتحرير العبيد الأفروأمريكيين، وهذا كلام يصعب على أي أمريكي أن يستسيغه أو يقبله.

بيد أننا نعتقد أن ثمة وصفات لسياسة تعزز الانخراط مع الصين، وتساعد على التئام جروح الماضي القريب، وتحسم أمر هذه الحرب الباردة وتجعل البلدَين يسيران مرة أخرى على طريق علاقات دينامية صحية، ولكن ليسمح لنا القارئ أن نكرر، مرة أخرى، بعض المبادئ الأساسية الشاملة، التي يمكن أن توجه العلاقات الأمريكية-الصينية:

  • السياق الذي نختار أن نرى في إطاره الصين، ينبغي أن يكون سياق التحدي لا التهديد، وحري أن التحدي موجه لقدرتنا الإبداعية وروحنا التجديدية ومواردنا الأمريكية الوفيرة: كيف نضاعف إلى أقصى حدٍّ الفرص الواضحة في العلاقات مع الصين، وأن نقلل من الصراعات إلى أدنى حد؟

  • الولايات المتحدة لا يمكنها أن تجعل الصين على شاكلتها هي، وأن تعمل على استحداث صين معقولة ومسئولة في سلوكها على الصعيد الكوكبي، وأن تكون متجهة إلى السوق في ممارساتها الاقتصادية، وتتحرك في اتجاه المزيد من الديموقراطية وسيادة القانون في سياساتها الداخلية. ويجب علينا أن نعتمد، أولًا وأساسًا، على عملية صينية أصيلة للإصلاح والتحديث والتحول الاجتماعي، وهو ما يجري بالفعل الآن في الصين. ويجب أن تهدف السياسة الأمريكية إلى مساندة وتعزيز هذه التوجهات الإيجابية، وليس أن تحدد هي جدول أعمال الصين. وإن أفضل وسيلة للمساهمة في التطورات الإيجابية التي تجري في الصين، هي بالنسبة للولايات المتحدة أن تصبح مشروعات الأعمال والمؤسسات الأمريكية من مكونات ومن أصحاب المصلحة المساهمين في الاقتصاد الصيني، وفي عملية التنمية.

  • ومنعًا للإحباط، يجب أن تكون توقعات الولايات المتحدة متواضعةً فيما يتعلق بكيفية ومدى تأثيرها في الصين، ويصدق الشيء ذاته على توقعاتنا في شأن كم التحول السياسي، الذي يمكن أن يحدث على المديَيْن القصير والمتوسط.

  • يجب، ونحن نتعامل مع الصينيين، ألَّا نتخلى عن التزامنا بالقيم والمعتقدات الأمريكية، ومع هذا يجب تفادي أداء دور المبشرين. حري أن نطامن من حماستنا بفضل فهم الثقافة الصينية، التي هي في جوهرها ذات طبيعة غير غربية. نحن في حاجة إلى أن نستمع إلى النظرة الصينية وأن نحترمها ونتعلم منها. نعم يمكن، إذا رغبنا، أن نبشر بقيمنا ومعتقداتنا، ويمكن أن نلتمس فرصًا لهما لكي يكون لهما وجودهما داخل سوق الأفكار الصينية البازغة، ولنا أن نحاول أن نجد جمهورًا يدعمهما في الصين. وحريٌّ أن نستجيب بحرارة لكل مَن يسألنا المساعدة، خاصة أولئك الراغبين في المجيء إلى أمريكا للدراسة والتعليم من خبرتنا، ولكن يجب ألَّا نحاول فرض معتقداتنا قسرًا على شعب لا يقبلنا، أو لا يزال غير مستعد لها.

  • على الرغم من أننا نقترح التزام سياسةٍ تعتمد على أعلى قدرٍ من الاشتباك والدعم مع الصين، إلا أنه يجب أن نعلم أن أي مبادرة لتحسين العلاقات لن تكون عمياء، أو غير نقدية إزاء الجانب المظلم لما يجري هناك. إن انتهاكات حقوق الإنسان أمر واقع، شأنها شأن المشكلات السياسية والاجتماعية الضخمة، كذلك فإن احتمال أن تكون الصين عاملًا لإثارة القلاقل في آسيا أو أن تشكل على المدى البعيد خطرًا استراتيجيًّا؛ احتمال واقعي أيضًا. وسوف يزعم منتقدونا أننا نحاول إغفال هذه الأمور الحاسمة، ولكن أبدًا بكل تأكيد، وإنما على العكس نحن نؤكد أن النقد الأمريكي البنَّاء والحوار الصريح سيكونان أكثر فعالية حين يرانا الآخرون شركاء ومساهمين في البناء داخل العملية الصينية، ولسنا معارضين من الخارج. ونعتقد أن نفوذ الولايات المتحدة أضعف من أن يؤثر في الصين لتغيير أسلوبها، ونحن نريد أن نرى الولايات المتحدة تحقق لنفسها نفوذًا أكبر عن طريق الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة، وتراكم رأسمالها السياسي والمساعي الحميدة.

  • وإذا كنا نؤمن بضرورة بحث القضايا المثيرة للقلق في سياقها (ذلك لأن الجوانب السلبية في الصين توازنها وترجح عليها جوانب إيجابية)، فإننا نعتقد أيضًا بضرورة رصدها باستمرار.

وحري أن نكون مهيئين لتغيير السياسة الأمريكية، إذا ما تحول الواقع السياسي في الصين وأصبح ضربًا من الدكتاتورية المحلية والعدوان الخارجي والهيمنة على نحو ما يتنبأ الصقور.

(٣) ما القوة؟ ما الضعف؟ ما النفوذ؟

ولكن ألن تظهر أمريكا في صورة الضعف إذا ما اتخذت الخطوة الأولى؟ أليس الصينيون يحترمون القوة قبل أي شيءٍ آخر؟ أليس الاشتباك الدينامي وصفةً لكي نفقد نفوذنا ودورنا الفاعل بالنسبة لبكين؟ الحقيقة أننا لا نملك نفوذًا فيما نخشى أن نخسره. إن الصين لم تُبدِ أي إشارة إلا نادرًا، خلال السنوات الأخيرة، تنم عن رغبتها في أن تنصت إلى المطالب الأمريكية، ناهيك عن الاستجابة لها. ونجد أن صناع السياسة في واشنطن وقد اختلط عليهم الأمر، عندما يكون مطلوبًا بيان الفرق بين «القوة» و«الضعف» تجاه الصين.

  • هل هذه رسالة تعبر عن قوة، عندما تستنفد قضية قرصنة شرائط الفيديو والأقراص المدمجة جهد وطاقة كبار موظفي الولايات المتحدة، ويتهيَّئون لشن حرب تجارية بخصوص هذا الموضوع، بينما نجد مجموعةً أخرى من الموظفين الرسميين يتنازلون عن اتهامات (هي صحيحة يقينًا) بأن مؤسسات صينية باعت معدات تقانية راقية تخصُّ الأسلحة النووية إلى باكستان؟

  • هل إرسال وحدات من الأسطول إلى مضيق تايوان عمل من أعمال القوة؟ ما معنى هذا إذا كان معروفًا جيدًا أن مؤسسات الدفاع والمخابرات الأمريكية تشكُّ في أن الإدارة سوف تتدخل بالفعل عسكريًّا، يومًا ما، ضد الصين؟

  • هل من القوة أن تهدد بفرض عقوبات اقتصادية ثم لا تفعل؟ وماذا لو أن الولايات المتحدة فرضت فعلًا العقوبات، واتضح أخيرًا أنها أضرت بالمصالح الأمريكية أكثر مما أضرت بالمصالح الصينية؟ هل هذه قوة؟

  • هل من القوة في شيء أن نستخدم موضوع الدولة الأكثر رعاية، عندما يكون الحرمان من هذه الميزة يعني الإضرار بذات الناس الذين يجب أن نساعدهم: منظمو المشروعات في هونج كونج ومدن الصين الساحلية وتايوان، والمستهلكون الأمريكيون الذين يفيدون من انخفاض كلفة المنتجات الاستهلاكية، وأولئك الباحثون عن وظائف في قطاع متوسع للتصدير؟

إن أمريكا قوية اقتصاديًّا وعسكريًّا على نحو يفوق الخيال، بينما الصين ستظل ضعيفة نسبيًّا في هذَين المجالَين، وعلى مدى سنوات. وكما سبق أن قال هارولد براون Harold Brown وزير الدفاع الأمريكي الأسبق: «الصين ليس لها وزن الآن … هذا ما يعزوه إليها الصحافيون، إنها ليست من فئة الولايات المتحدة اقتصاديًّا أو عسكريًّا أو تقانيًّا أو حتى في الشئون الدولية.» ويذهب براون إلى أن الصين يمكن أن «تبدأ في الاقتراب» من القوة الأمريكية بعد عقدَين. ونحن نرى أن رأيه هذا متفائل جدًّا. إن الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة على الساحة الآن، معروف عنها مرونتها وديناميتها وقدرتها على التكيف؛ ومن ثم يمكنها يقينًا أن تنخرط وبعمق مع الصين، وأن ترى إذا ما كان هذا الانخراط سوف يحقق أم لا الثمار المرجوَّة خلال السنوات القليلة القادمة. وإذا لم يحدث، أي إذا ما ثبت خطأً رأينا، وظهرت الصين بدلًا من ذلك بالصورة التي تصورها عنها الصقور على مدى عشر سنوات من الآن، فسوف يكون لا يزال هنا متسع من الوقت، كافٍ تمامًا لتغيير مسارنا.

ونحن أميل إلى ذلك المثل السائر الذي قاله رونالد ريجان في تعامله مع ميخائيل جورباتشوف في شأن موقف الاتحاد السوفييتي من الأسلحة النووية، إذ قال: «ثق ولكن تحقق.» ويمكن قول شيء مماثل عن قصورنا للاشتباك الدينامي، لنا أن نمد أيدينا حاملة غصن زيتون إلى الصين اقتصاديًّا، ولنا أن نتوقَّف مؤقتًا عن التهديدات التجارية باستمرار لدعم الانتقادات السياسية الأمريكية ضد بكين، ولنا أن نصبح شريكًا أفضل وصديقًا أفضل مع الصين في محاولاتها للتصدي وحسم تناقضاتها وتحدياتها الداخلية وما أكثرها وأضخمها، ولكن ينبغي ألَّا نفكر في تقليل الوجود الدفاعي الأمريكي في المنطقة الآسيوية في المحيط الهادي؛ إذ سوف تواجه الولايات المتحدة مستقبلًا ضغوطًا عامة (من الصين ومن بلدان آسيوية أخرى بل ومن الجبهة الداخلية)، من أجل التخلي عن دورها في حفظ السلم وتوازن القوى وتعزيز الاستقرار في آسيا. ونحن نأمل في أن تقاوم واشنطن هذا الضغط، وأن تحتفظ بهذه الورقة التي هي الورقة الأهم والأعظم بين جميع أوراق اللعب.

ونحن نؤمن إيمانًا جازمًا بأن استعداد أمريكا عسكريًّا من أهم وأعظم قوى حفظ الاستقرار في عالم يتزايد تعقدًا، بل ويزداد عداءً أحيانًا. وسبق أن أكدنا أن نفقات الصين العسكرية تزداد، وأن برامجها للتسلح — التي يتحدث عنها ويتذرع بها الصقور — لا تمثل تهديدًا أو خطرًا كبيرًا ضد آسيا أو الولايات المتحدة، ولكن نظرتنا تفترض مسبقًا أن تظل أمريكا قوية عسكريًّا، وأن تبقى في آسيا، وأن تقود العالم في البحوث والتطوير في المجال العسكري. وإذا ما فقدنا هذا الحد فسوف تتغير المعادلة بسرعةٍ مذهلة.

(٤) مبادرات واستراتيجيات وتكتيكات محددة

حتى نكون أكثر تحديدًا لنظرتنا إلى الاشتباك الدينامي، ونكسو عظامها لحمًا، نقدم فيما يلي ثماني عشرة مبادرة واستراتيجية وتكتيكًا، نود أن نرى الولايات المتحدة ملتزمة بها في علاقتها مع الصين خلال الأعوام القادمة:

  • (١)
    أن يزور بيل كلينتون الصين،٢ وحريٌّ أن يكفَّ كلينتون عن إبداء القلق في شأن آثار سياسة الصين الإيجابية في الحملة المستمرة من أجل الديموقراطية. وإنما عليه أن يقدم على المخاطرة السياسية (وحرارتها إذا لزم الأمر)، ويواصل النهج الدبلوماسي ليبدأ عملية جديدة لإعادة تطبيع العلاقات الأمريكية-الصينية. ويعرف كلينتون رهانات مشروعات الأعمال والاقتصاد الأمريكي، ويعرف الخير الذي يمكن أن يتحقق لهما من ذلك. وهو دون الناس جميعًا، يعرف أن بإمكانك أن تتكلم مع من لا توافقهم على آرائهم، وأن الحوار لا يعني المصادقة على ما قيل. إن باستطاعته أن ينهي هذه الحرب الباردة إذا شاء، بقدرته هو على التصرف.

    علاوة على هذا، أحرى به أن يفيد من حصانة منبر الرئيس ليلقن الكونجرس وصناع السياسة درسًا عن منافع العلاقة الحسنة ومخاطر المماداة في الحرب الباردة.

    وبينما نسطر هذا الكتاب، يضع كلينتون في جدول أعماله احتمال زيارة الصين في ربيع عام ١٩٩٨م، عقب لقاء القمة الناجح بينه وبين جيانج زيمين في أواخر عام ١٩٩٧م. ومن الأهمية بمكان أن يقوم بزيارته لبكين ولا تعوقه عنها حيل الداخل لتعطيل المرحلة الثانية من التقارب مع الصين. أو لنَقُل بعبارة أخرى، إن كلينتون في حاجة إلى زيارة الصين وتحقيق نجاح موضوعي مهم للزيارة، على الرغم من أن الديموقراطيين في أمريكا سوف يحشدون جهودهم ضدها.

  • (٢)

    إعادة بناء حوار نشط على مستوى القيادة: إن دعوتنا ليست مقصورةً على تبادل الزيارات بين قادة الدولتَين على سبيل المجاملات الموسمية، وإن كان هذا يمكن أن يكون البداية، بل دعوة لحوار منتظم ونشط من نوع الحوارات التي يعقدها الرؤساء الأمريكيون، عادة، مع قادة البلدان الكبرى الأخرى. وحري أن تعقبها زيارات متبادلة منتظمة بين رسميين حكوميين على جميع المستويات، بمن فيهم العسكريون.

  • (٣)

    الفصل الواضح والصريح بين التجارة والسياسة: بناء قدر من الثقة والائتمان في العلاقات الأمريكية-الصينية، عن طريق مد التعامل على أساس وضع الدولة الأكثر رعاية دون انقطاع. والمعروف أن وضع الدولة الأكثر رعاية، يعني فقط رغبة من جانب الولايات المتحدة في إقامة علاقة تجارية طبيعية مع بلد ما، وإن أغلب دول العالم، حتى البلدان التي على رأسها حكومات تثير الاحتقار، تحظى بوضع الدولة الأكثر رعاية بشكل دائم. وهذا ما يجب أن تتمتع به الصين أيضًا.

  • (٤)

    تأييد عضوية الصين في منظمة التجارة الدولية: إن الدول التجارية الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، تواقة لأن تنضم الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وهكذا يمكن استخدام وتطبيق نظم وقواعد التحكيم متعددة الأطراف، الخاصة بهيئة التجارة العالمية لحل النزاعات التجارية، بدلًا من الاعتماد على ولع واشنطن باستخدام العقوبات أحادية الجانب، ولكن الصين لا تريد إقحامها في قواعد غير مهيأة للالتزام والوفاء بها. وإن الحل الوسط الملائم، سوف يتضمن مجموعة من الشروط يمكن للصين الالتزام بها، مع جدول يحدد مراحل لتحول الصين إلى وضع «البلد المتقدم».

    وثمة عدد من القضايا المثيرة للجدل من بينها أن الصين تدأب على تفضيل التوجيهات الوزارية الداخلية، فيما يتعلق بمشروعات الأعمال، بدلًا من الالتزام بمعايير منظمة التجارة العالمية في شأن الشفافية الكاملة، ونشر جميع اللوائح والقوانين ذات الصلة. أو، بدلًا من هذا، فالمعروف أن قواعد منظمة التجارة العالمية تسمح لبعض البلدان أن تحمي بعض الصناعات، التي لا تزال في مراحلها الأولى من المنافسة الخارجية، وتريد الصين حماية القطاعات الأساسية مثل قطاعات صناعة السيارات، حتى على الرغم من أن بقية العالم في حاجةٍ ملحةٍ إلى المشاركة فيها. ونعتقد بالنسبة لهذه المسائل أن النقطة الحاسمة هي أن نجعل الصين تقبل، من حيث المبدأ، قواعد ولوائح منظمة التجارة العالمية، مع تحديد جدول زمني للوفاء بها.

  • (٥)

    استخدام ثقل واشنطن العالمي لتوسيع دور الصين في المشاركة في صنع وتحديد القوانين والقواعد الدولية: وحري أن تكون واشنطن هي الرائدة، لكي يكون للصين تمثيل ما في قمة الدول السبع، وتكون رائدة لمبادرات خاصة بالقيادات العالمية المماثلة. لقد دخلت روسيا فعلًا فيما يسمَّى الآن مجموعة الدول الثماني، فلماذا نقول لا للصين؟ خاصة أن لقاءات القمة هذه من المفترض أنها تركز على المسائل الاقتصادية، ونحسب أن الصن في هذا المضمار، هي صاحبة دور أكبر وأهم من روسيا. والملاحظ خلال الفترة الأخيرة، أن روسيا كانت أحد أسباب عدم الاستقرار الاقتصادي، بينما كانت الصين صخرةً مستقرة، وهذا مؤشر آخر يؤكد ضرورة أن تصبح مجموعة الثماني هي مجموعة الدول التسع.

  • (٦)
    تعزيز رأس المال السياسي لواشنطن والحفاظ عليه؛ لاستخدامه مع بكين في شأن المسائل الملحة للغاية المتعلقة بالمصلحة القومية: ينبغي على الطرف الأمريكي أن يتوقف عن حروبه مع بكين بحرص وحذر، وإذا كان لا بد من التهديد بالعقوبات أو غيرها، فإنه يتعين أن يقترن هذا بأقصى قدرٍ من النتيجة المرجوة، عندما يكون استخدامها لازمًا … ثم يكون استخدامها لتأكيد مصداقيتنا، التي هي الآن موضع شك في الصين. وينبغي ألَّا تكون محورًا للنزاعات التجارية بين الصين وواشنطن، وحري أن تتولى هذه المسائل المنظمات الثنائية متعددة الأطراف، المختصة بالتحكيم في النزاعات التجارية، مثل منظمة التجارة العالمية. وعلى أي حال، يجب أن تكون الهيئات الحكومية الأمريكية حذرة أشد الحذر إزاء تكرار التهديد بتوقيع عقوبات اقتصادية، وطبيعة الظروف والملابسات عند التهديد. وسبق أن أوضح جيفري جارتن Jeffrey Garten النائب السابق لوزير التجارة، والمختص بالتجارة الدولية، أن حمى التهديد بالعقوبات سوف تخرج عن السيطرة، إذا ما لم يكفَّ الكونجرس عن التدخل بهذه الوسيلة في النظم السياسية للبلدان الأخرى. ويعتقد جارتن أن العقوبات يكون لها أكبر الأثر حين تكون متعددة الأطراف، ويستشهد بجهود الولايات المتحدة لإعاقة مبيعات القمر الاصطناعي التجاري للصين، وذلك لأسباب سياسية: إن كل ما حدث هو أن الشركات غير الأمريكية هي التي أنجزت المبيعات.
  • (٧)

    لنضغط على الصين بقوة، فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي والعالمي: حقًّا، مثل مبيعات الصين من المواد النووية لباكستان، وعناصر للحرب الكيماوية لإيران. وسوء استعمال التكنولوجيا الأمريكية ذات الاستعمال المزدوج المباعة للصين، هذه قضايا حاسمة، والتي يجب على واشنطن أن تتخذ إزاءها موقفًا للضغط على بكين بقوة، ويمكن عن طريق إعادة بناء قدر من الرأس مال السياسي والثقة مع الصينيين، وعن طريق إثارة عشرات من الاختلافات الأقل أهمية، ولكنها قاسية، وإحالتها إلى هيئات أخرى. هنا ستكون واشنطن قادرةً على استخدام المناقشات على مستوى القمة مع الصينيين؛ للتحرك جديًّا في شأن البنود الأهم في جدول الأعمال.

  • (٨)

    لنستثمر في مجالات تنمية الصين: حري بالجانب الأكبر من الهيئات والوكالات ذات الصلة في واشنطن، أن تعمل مع الصينيين لتحديد المناطق التي يمكن للولايات المتحدة أن تنشئ فيها شراكات عامة، خاصة للاستثمار، وتزويدها بالخبرة اللازمة لحل مشكلات محددة في الصين، ومن بين هذه المجالات: البنية الأساسية، وتوليد القوى، والاتصالات اللاسلكية، وتنمية وتطوير المناطق الداخلية النائية، ورأس المال المشترك لمشروعات الأعمال الخاصة الصغيرة وتنظيم المشروعات. ولقد أنجزت واشنطن بالفعل بعض أنواع من هذه الاستثمارات، عن طريق التمويل بالنسبة لروسيا وبلدان شرق أوروبا، وحري إنشاء برنامج استثمار مماثل خاص بالصين، المهم إثبات أن الولايات المتحدة جزء من الحلول المرجوة لمشكلات الصين، وليست جزءًا من مشكلاتها.

  • (٩)

    أن ننشئ برامج أو نوسعها لرعاية المزيد من الدارسين الصينيين في الولايات المتحدة، وتدريب المزيد من الصينيين على الجوانب الرئيسية والأساسية في نظمنا. ثمة مبادرات جيدة كثيرة يجري إعدادها في هذه المجالات، وهناك مَن يحظى برعاية فرق مثل اللجنة القومية المعنية بشئون العلاقات الأمريكية-الصينية، ومجلس الأعمال الأمريكي-الصيني، علاوة على رعاية تكفلها شركات خاصة واتحادات مهنية وجامعات ومؤسسات، وينبغي التوسع في ذلك كثيرًا. وحري كذلك بحكومة الولايات المتحدة أن تتجاوز دعمها الحالي المحدود، عن طريق برامج مؤسسة فولبرايت للوصول إلى تأسيس مظلة دائمة وممولة بالكامل، في صورة مؤسسة تقدم بسخاء لأفضل وألمع الصينيين الفرصة للتعلم، والتدرب على أسلوب العمل الأمريكي في مجالات عدة، ابتداءً من القانون وحتى أسواق الأوراق المالية، ومن تخطيط معاشات التقاعد وحتى تنظيم البيئة. إن هناك عشرات الآلاف من الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة، ولكن أغلبهم يعيشون بصورة أو بأخرى على نفقتهم الخاصة، وليسوا جزءًا من برنامج مخصص لهم. وحريٌّ بنا أن نيسر الأمر على المهنيين والتكنوقراط الصينيين الراغبين في أن نوفر لهم الخبرة الأمريكية، عن طريق زيارة الولايات المتحدة والتعلم فيها. حقًّا ليس يسيرًا تحقيق ذلك الآن، وأكثر من هذا أن الوفود رفيعة المستوى من الوزارات الصينية، يجدون مشكلات للحصول على تأشيرات الدخول والرعاية، وحق المشاركين في القطاع الخاص لتعليمهم في مجالات اهتمامهم. وحري كذلك أن ننشط لزيادة التبادل في مجالات العلوم والتكنولوجيا والزراعة والتعليم والنشر والفنون الجميلة والرياضة والصحافة والشئون العسكرية وغير ذلك. هذا هو الجهد الذي يشكل أرضية أساسية عامة، والذي يمكن أن يسهم كثيرًا من أجل إضفاء طابع الديموقراطية على الصين. إنه أفضل من نقد الصين علانية بلا نهاية؛ لأنها ليست ديموقراطية بما فيه الكفاية.

  • (١٠)
    تعميق الزيارات الرسمية المتبادلة مع الصين: إن بعض المؤسسات الأمريكية بالغة الأهمية تشارك بنشاط مع الصين، مثال ذلك أن مؤسسة الاحتياطي الفيدرالي Federal Reserve، ولجنة البورصة والسندات تعملان معًا، على نحوٍ وثيق، مع المؤسسات المناظرة لها في الصين لمساعدة الصين على تطوير نظامها المالي وقواعد التنظيم والتحكم. بيد أن الكثير من هذه البرامج بالغة الأهمية، والقائمة على أساس التبادل الثنائي، انتهت أو قيدت خلال السنوات الأخيرة. ويجب، بدلًا من ذلك، أن نوسع ونعمق انخراط المؤسسات الحكومية الأمريكية في هذه اللحظة الحاسمة، التي يبدأ فيها تشكيل المؤسسات الصينية الوليدة: مثل أسواق الأوراق المالية والمحاكم وضوابط التحكم البيئي.
  • (١١)

    تأكيد مشاركة اتحاد الاستثمارات الخاصة فيما وراء البحار ووكالة التنمية التجارية في الصين: إن هاتَين المؤسستَين الرئيسيتَين الحكوميتَين المسئولتَين عن دعم مشروعات الأعمال حظر عليهما الكونجرس العمل في الصين. وتقدِّم الأولى — اتحاد الاستثمارات — تأمينًا ضد المخاطر السياسية للشركات الأمريكية، وتقوم الثانية بتمويل دراسات الجدوى. وحري أن تعمل المؤسستان في تضافر مع الشركات الأمريكية في الصين، وأن تكونا نشطتَين على نطاق واسع يمكنهما من المنافسة مع الشركات المناظرة الأوروبية واليابانية.

  • (١٢)
    إقامة علاقات متبادلة منتظمة وعميقة بين أعضاء الكونجرس الأمريكي ورجال التشريع — مجلس الشعب القومي — في الصين. يتعين بذل الجهود لجذب عدد أكبر ممن ينتقدون الولايات المتحدة من الصينيين، ودعوتهم إلى زيارة الولايات المتحدة، ومشاهدة حقائق الحياة بأنفسهم، وأن نتيح لهم فرصة عرض آرائهم ليعرفها مباشرة قادة الصين. لقد أفادت زيارة نيوت جنجريتش Newt Gingrich للصين عام ١٩٩٧م؛ إذ سمع الصينيون منه مباشرة أسباب قلقه في شأن مستقبل تايوان وهونج كونج وحدود الحرية الدينية للمسيحيين الصينيين، وعاد جنجريتش عازمًا على تأييد إدارة كلينتون، لمد فترة العمل بوضع الدولة الأكثر رعاية.
  • (١٣)

    عقد مجلس برلماني مشترك يضم فريقَين من البلدَين من «الحكماء رجالًا ونساءً»: إن عملية تضييق الخلافات بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن تُثري كثيرًا، إذا ما حاول كبار المفكرين في البلدَين العمل معًا من أجل صوغ حلول مشتركة للمشكلات المشتركة، ووصولًا إلى هذا الغرض نقترح إنشاء مجلس صيني-أمريكي مشترك، مؤلَّف من شخصيات بارزة من البلدَين. وسوف يضم المجلس فرقًا دائمة من لجان: التجارة والسياسة والأمن على سبيل المثال هم «الحكماء». وسوف يكون هدف المجلس إجراء اتصالات صريحة ومفتوحة، ولكن يمكنه أيضًا أن يتولى مهمة بحث ومناقشة مشكلات محددة، وتقديم توصيات واقعية لحسمها. وما إن يتم الوصول إلى توافق في الآراء في شأن المشكلات المعروضة، تصدر تقارير مشتركة لنشرها علانية.

    وحري أن يكون تأسيس المجلس المشترك على غرار عملية رائدة، تحققت بنجاح على أيدي بعض المشاركين الأساسيين في هذا الحقل المهم، ونعني به اللجنة القومية المعنية بشئون العلاقات الصينية-الأمريكية ونظيرتها في الصين؛ إذ كرست هذه اللجنة حوارًا متبادلًا في شأن قضايا الحكم مع قادة محليين وقوميين، وأيضًا مجلس الأعمال الصيني-الأمريكي، الذي حقَّق خبرات إيجابية، من خلال المناقشات المشتركة للمسائل المتعلقة بمشروعات الأعمال. وهناك، ثالثًا، مجلس العلاقات الخارجية الذي عمل مع رابطة الشعب الصيني للشئون الخارجية في نشاط مماثل، ونذكر أيضًا اللجان الرسمية المشتركة المعنية بشئون الاقتصاد والتجارة والعلم والتكنولوجيا، ولكن أعمالها توقفت منذ تسع سنوات عشية أحداث ميدان تيان آن مين؛ إذ ينبغي دعم هذه الجهود والارتقاء بها، وتوسيع نطاق تبادل الرأي والخبرات.

    إن كلًّا من المجتمعَين محظوظ؛ إذ لديه فريق «مراقبين» يتحلون بالقدرة والخبرة لمتابعة الآخر، في مجالات الحكم والمعاهد الأكاديمية والمؤسسات ومراكز الفكر وعالم الأعمال والقانون والمال. وبالتأكيد فإن الإفادة بهم كمصدر نشط سوف يحقق لنا أقصى قدر من الفرص للتحرك قدمًا إلى الأمام على طريق دعم العلاقات، ولخفض المنازعات إلى أدنى حدٍّ ممكن. صفوة القول: إن هذا سوف يكفل إنجاز عملية «التشابك الدينامي».

  • (١٤)

    أن تتخلى واشنطن عن عملية إظهار أنها مسئولة عن تحديد حقوق الإنسان وغيرها من الأولويات السياسية المحلية في الصين: حيث إن الصين، كما هو واضح، لا تستجيب لهذا الطراز من الضغوط، فلنعترف بأنه غير منتجٍ مهما كان. وحري ألَّا تورط الولايات المتحدة نفسها على المستوى الحكومي إلا في قضايا حقوق الإنسان ذات الأهمية البالغة. ونعتقد أن الدبلوماسية الهادئة مع الصينيين أفضل من الضغوط الصريحة المسرفة، ولكن الدبلوماسية الهادئة لا تؤتي أثرها إلا في سياق مناخ إيجابي يسود العلاقات.

  • (١٥)

    تشجيع المواطنين والمنظمات الخاصة في الولايات المتحدة على الإفصاح عن آرائهم: ينبغي على الحكومة الأمريكية أن تلتزم — إزاء العملية السياسية المحلية في الصين — موقفًا أقل نزوعًا إلى التدخل، ولكن المواطنين الأفراد يجب عدم إلزامهم بما يتعين عليهم اتباعه، وإنما العكس تمامًا. إن ديموقراطيتنا الأمريكية النابضة بالحياة تملك كل الأسباب التي تجعل الجامعات ترحب بالمنشقين الصينيين، وتجعل منظمات حقوق الإنسان ترصد الموقف في الصين، وإذا ما رغبت إحدى الجامعات الأمريكية الخاصة في دعوة زعيم تايوان للقيام بزيارة خاصة، يلقي أثناءها خطابًا في حرم الجامعة، فذلك حقها بامتياز في إطار الديموقراطية. والمعروف أن الموظفين الرسميين في بكين في حاجة دائمة إلى أن يعرفوا أسلوب العمل الديموقراطي، والفارق بين السياسة الرسمية للحكومة وحرية التعبير الشخصي عن الأفكار. ويمكن، بل يتعيَّن عدم كبت الآراء الشخصية للأمريكيين في السياسة والأيديولوجيا والأخلاق والفنون إرضاءً للصين، حتى لو تعلَّق الأمر بمسائل حساسة مثل تايوان أو التبت، ويجب أن يفهم الصينيون هذا الواقع في حياتنا.

  • (١٦)

    تطوير أعماق الخبرة الصينية في أجهزة الحكم والأكاديميات ومؤسسات الأعمال الأمريكية: شهدت واشنطن خلال الأشهر الأولى من إدارة كلينتون الثانية عام ١٩٩٧م فراغًا يثير الحرج؛ إذ إن أيًّا من كبار مستشاري كلينتون لا يعرف أكثر من معلومات سطحية عن الصين، ولم يكن هناك أحدٌ من بين كبار العاملين في البيت الأبيض باستطاعته أن يقرأ أو يكتب الصينية، ولم يكن هناك أحدٌ قريبًا من وزير الخارجية معنيًّا وعلى اطِّلاعٍ بالصين. وإن أهم خبيرَين بالمفاوضات التجارية ومسئولَين عن الصين تركا الشعبة التجارية فجأةً للعمل في القطاع الخاص. وطبعي أن واشنطن لا يسعها أن تصنع سياسةً جيدةً عن الصين، من دون أن يكون لديها، على الأقل، عددٌ من الخبراء، وإن أحد الأسباب التي يسَّرت أخيرًا على القوى المتطرفة وغير المسئولة الهيمنة على الجدل الدائر، هو أن الوسط الرشيد لا يعرف، فيما يبدو، ما الذي يريد أن يقوله، ولا كيف يدافع عن القضية، التي تهدف إلى خَلْق علاقات أفضل. إن الصين هي المجال العالمي الجديد لنشاط الأعمال والسياسة، ويتعيَّن على رجال أعمال المستقبل وصناع السياسة الرسميين في أمريكا، أن يكونوا على أهبة الاستعداد لتحدياتها اللغوية والثقافية؛ إذ إن عدد الصينيين الذين يدرسون الإنجليزية الآن، عشرة أضعاف الأمريكيين الذين يدرسون الصينية. حقًّا إنها لميزةٌ كبرى للأمريكيين، أن تنتشر الإنجليزية كلغةٍ دولية في مجال المال والأعمال بيد أننا لو شئنا أن يكون تواصلنا فاعلًا ومؤثرًا، فلا بديل عن معرفة لغة الصين وثقافتها.

  • (١٧)

    أن نحاول تفادي المواجهة في شأن تايوان: لقد خفَّت حدة التوترات التي اشتدَّت بسبب تايوان منذ عامَين أو ثلاثة أعوام مضت، على نحو ما تشهد دائرة الأحداث الأخيرة. ويمكن أن تسهم واشنطن باطِّراد في تخفيف التوتر، عن طريق اتِّباع عددٍ محدودٍ من المبادئ العامة:

    • الاعتراف بأن هذه قضية تصلح لها السياسة الواقعية: إذ في مقابل ما تؤكده بكين على أنه مطلبها الأهم — سياسة «الصين الواحدة» — فإن تايوان يمكن أن تزدهر اقتصاديًّا، وأن تحظى بحكم ذاتي واقعي، ولكننا نصل إلى نتائج عكسية، إذا ما حاولنا فرض دفعات من الأخلاق الأمريكية أو أن نستخدم قضية تايوان للتعبير عن استياء أمريكي. إن مثل هذه التصرفات تفسد الوضع القائم الذي يخدم المصالح الصينية، مثلما خدمت غالبية القوى في تايوان، وكذا الولايات المتحدة على مدى عقدَين.

    • تشجيع الحوار بين بكين وتايبيه: إن قضية تايوان مسألة يتعين على الصين وتايوان حسمها معًا، وليس الأمر مرهونًا بقرار أو حل تتخذه الولايات المتحدة.

    • فرض قيود على قادة تايوان، وحثهم على عدم اتخاذ إجراءات استفزازية تجعل المواجهة أمرًا مرجحًا.

    • أن نوضِّح للصين أن الولايات المتحدة تصرُّ على تسوية سلمية لمسألة تايوان، وأنها سوف تعارض تهديدات الصين، أو الأعمال العسكرية ضد تايوان. إن الولايات المتحدة يمكنها، وينبغي عليها، أن تواصل دعمها لدفاع تايوان، ولكن حريٌّ بها أن تعمل هذا مع تفهم الصين ضمنيًّا، وتأكيد واشنطن الكامل لسياسة صين واحدة، والحفاظ على علاقات طيبة مع بكين.

    • العمل من أجل الوصول إلى حلٍّ دائم، عندما يكون الوقت ملائمًا لذلك تمامًا سياسيًّا، وسبق أن اقترح مورتون أبراموفيتز Morton Abramowitz كدبلوماسي ومعني بشئون آسيا: «لنستمر في إحالة مسألة تايوان إلى المستقبل» إلى أن تتهيأ مستويات اقتصادية ونظم سياسية متناغمة، ويسود مناخ أفضل بوجه عام؛ إذ سوف يساعد هذا على تطوير حلٍّ للمدى الطويل.
  • (١٨)
    لندرس صن تسو Sun Tzu. يتعين على صناع القرار في أمريكا أن يتعلموا كيف يفكرون في شأن آسيا على أساس استراتيجي أبعد مدًى، ويجب أن نعمل، أيضًا، مع حلفائنا لتطوير نُهُج متعددة الأطراف في التعامل مع الصين. ومن الحمق أن نفترض أن حلفاء أمريكا — من الأوروبيين والسياسيين — سوف يساندون، تلقائيًّا، أهدافنا السياسية بالنسبة للصين. إننا نمعن في الخيال؛ إذ نتصور أنهم سوف يتبعوننا تبعية عمياء لتنفيذ خططنا، التي يخالفنا في شأنها الكثيرون، ولكننا إذا عملنا معًا لاستحداث سياسة في شأن الصين، فسوف تتهيَّأ فرصة أعظم لتلقِّي دعمهم ومساندتهم، وهذا جانب جوهري في العملية، حتى وإن خاطرنا بتخفيف حدة موقف الولايات المتحدة، علاوة على أن حلفاءنا يمكن أن يساعدونا على وضع أهداف أكثر واقعية؛ ومن ثم يكونون أكثر استعدادًا للمساعدة على تنفيذها.

(٥) نحو مشاركة تعترف بالاختلافات

ميثاق شنغهاي لعام ٢٠٠٢

منذ ستٍّ وعشرين سنة، كانت الصين والولايات المتحدة قادرتَين على أن يطرحا جانبًا عقدَين من الذم والخوف المتبادلَين، وتناسي حربَين بالوكالة في كوريا وفيتنام، وذلك بغية الوصول إلى تفاهم جديد. وتضمنت الوسائل المستخدمة لتحقيق هذا التحول التاريخي مجموعة من الإشارات الدرامية والشخصية (لقاءات نيكسون-ماو)، علاوة على وثيقة متميزة في صياغتها الحذرة وطابعها غير الرسمي، وما انطوت عليه من غموض. ولعل الميزة الأهمَّ ما أبدَتْه من عزم على الاعتراف بأن الاختلافات الأساسية ليس من شأنها أن تخفي أن هناك أهدافًا مشتركة بين الطرفين، وأرست هذه الوثيقة — التي سميت بيان شنغهاي — حجر الأساس لعملية تطبيع مذهلة في سرعتها وسلاستها للعلاقات بين القوتَين، اللتَين وضعتا، عن عمد، جدار فصل بينهما زمنًا طويلًا.

ولكننا، ونحن مع فجر قرن جديد، نرانا ننزلق إلى الوراء، كأن ستارًا من البامبو يفسد شفافية الفكر. إن اتجاه أمريكا إزاء الصين، ينزع إلى «التوعد» و«التشدُّد»، وأكثر من هذا، أن عبارات مهجورة مثل «الصين الحمراء» عادت إلى الظهور في مفردات أعضاء الكونجرس. ولا ريب في أن المزاج الصيني بات حساسًا مغيظًا، ويكشف في أغلب الأحيان عن استياء وغلو.

وسوف تمضي هذه الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة لتصل إلى منتهاها. وطبعي أن التحولات في كلٍّ من البلدَين، سوف تعجِّل بنهاية الفترة المسرفة في سلبيتها. ونعتقد أنه في الوقت المناسب ستتجدَّد الجهود من أجل إصلاح اقتصادي أكثر موضوعية، علاوةً على قدرٍ أكبر من الشهية ﻟﻠ «مقرطة» السياسية. وسوف يؤدي هذا، يقينًا، إلى تغيير كل من الواقع الصيني وإدراكنا له.

ونعتقد كذلك أن الأمريكيين سوف يدركون، في نهاية المطاف، أن الصين ليسَت الخطر الهائل الذي حدثنا عنه الصقور، وسوف يعترف الأمريكيون بأن سياسة المواجهة وعدم التعاون، لم تحقق النتائج المرجوة منها، وفاء للمصالح الأمريكية، ونتوقع أن مجال الأعمال سوف يلحُّ على واشنطن حتى يقنعها بتغيير نظرتها، والتحول ثانية إلى المشاركة البنَّاءة، ولكن إعادة ترسيخ فكرة الشراكة الأمريكية-الصينية سوف تستلزم بعض الجهد، بما في ذلك صياغة بعض المبادئ، التي تهتدي بها هذه الشراكة وتحول دون سقوطنا ثانية ضحية لاختلافاتنا الراسخة، التي لن تختفي سريعًا أبدًا.

ووصولًا إلى هذه الغاية، نقترح توقيع وثيقة جديدة في ٢٧ فبراير ٢٠٠٢م بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة عشرة لبيان شنغهاي. ولعل أنسب الصيغ سوف تفيد في آنٍ واحدٍ الإحساس بالتواصل وإنعاش التزامنا المتبادل بعلاقات أكثر نضجًا، وكلمة معاهدة تعطي صورة رسمية للغاية، وكذلك عبارة بيان مشترك، وأحسب أننا في حاجةٍ إلى ميثاق جديد: ميثاق شنغهاي.

والإعداد لهذا الميثاق مفيد للغاية؛ إذ سيهيئ لأي إدارةٍ موجودة حينئذٍ في السلطة فرصة صياغة سياسة واضحة ومتسقة وممثلة للحزبَين وهادفة. وسوف يدعم الميثاق الأهمية التي نوليها للعلاقة المشتركة، بينما يشير في الوقت ذاته، إلى أن أمريكا لا تعتزم فرض قيمها قسرًا على الصين، ولا أن تتخلى عنها. ويمكن أن يعبر هذا الميثاق عن أسباب القلق الجادة لدى الأمريكيين في شأن حقوق الإنسان والبيئة والانتشار النووي، وغير ذلك من القضايا الساخنة والملحة. وسوف يؤكد الميثاق في الوقت ذاته على أننا، بوجه عام، لن نتخذ خلافاتنا السياسية معيارًا أو أساسًا للحكم على نجاح أو فشل العلاقة، ولا لفرض شروط اقتصادية لإنفاذها.

إن المكسب الأعظم لكلتا الأمتَين، سيكون إعادة بناء علاقة تعتمد المصلحة المتبادلة، وتوفر حسًّا جديدًا بالالتزام بصون هذه التبادلية. والملاحظ في أمريكا أن كثيرين جدًّا من صناع السياسة وقادة الفكر تمادوا إلى حد اعتبار الصين «إمبراطورية الشر» القادمة. ويوجد في الصين كثيرون جدًّا من صناع السياسة وقادة الرأي تمادوا في إغفالهم صواب الانتقادات الخارجية في شأن حقوق الإنسان، وغير ذلك من موضوعات، ويدعمون في الوقت ذاته أساطير عن النقاء الثقافي، وتسامي الكرامة القومية ونزعة الهيمنة الأمريكية.

وحري أن يشير ميثاق شنغهاي الجديد إلى أن العلاقة خاصة جدًّا، بحيث تستلزم ارتباطًا مطردًا على مستوى القمة، مما يهيئ إمكانًا لحل غالبية القضايا عن طريق آليات وثيقة الصلة ثنائية ومتعددة الأطراف، بدلًا من النظر إليها باعتبارها تهديداتٍ للسيادة أو للمثل العليا. ويجب أن يوضح الميثاق أن الولايات المتحدة والصين سوف تقع بينهما خلافات حادة، وتنشأ مصالح متباينة طوال فترة زمنية ممتدة قادمة، ولكن لا بد أن يلزم الميثاق الطرفين باحترام هذه الاختلافات وبحثها في سياقها. وحريٌّ أن تتبنَّى كلٌّ من واشنطن وبكين نهجًا مسئولًا إحداهما تجاه الأخرى، وتجاه المجتمع الدولي، لتأكيد وتعزيز العناصر الإيجابية للعلاقة، ومن أجل التفاوض لحل المشكلات بنية صادقة.

ولعل ما هو أهم من دقة الكلمات الواردة في ميثاق شنغهاي، أن التطورات الدبلوماسية وإدارات شئون الدولة اللازمة للوصول إلى هذا الميثاق، سوف تشير إلى أن الطرفَين قد ابتعدا عن الهُوَّة التي انزلقا إليها مع نهاية القرن العشرين. وسوف يقول الميثاق للعالم: إن القوتَين العظميَين للقرن الجديد ستدخلان العصر الجديد يحدوهما الأمل والثقة، ليُسهما معًا من أجل الوفاء بوعد عظيم: السلام والرخاء والانتعاش الاقتصادي الكوكبي.

١  خطبة ألقاها إبراهام لنكولن بتاريخ ١٩ نوفمبر ١٨٦٣م بمناسبة تدشين مقبرة عسكرية قومية بأرض معركة جيتسبرج، وهي من أشهر الخطب الحديثة، وتطرق فيها لنكولن إلى الدور الذي لعبه هؤلاء المقاتلون في المعركة المقدسة من أجل تحرير العبيد.
٢  ذهب بيل كلينتون إلى الصين فعلًا في يونيو ۱۹۹۸م، بعد صدور هذا الكتاب بثلاثة أشهر، وحققت الزيارة نتائج إيجابية. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤