النسر والتنين (٢)
(١) هل هو اقتصاد، يا غبي؟
إن جورج بوش الذي كان عونًا قديمًا للعلاقات مع الصين، ومحاربًا قديمًا في الحرب الباردة، حاول أن يتمسك بمواصلة علاقة استراتيجية بين واشنطن وبكين، على غرار طراز العلاقة التي آثرها كلٌّ من نيكسون وريجان، ولكن النتائج المترتبة على أحداث تيان آن مين فرضت قيودًا قاسية على دفء تلك العلاقة، غير أن بوش واصل التأكيد على أهمية الحوار الإيجابي مع الصين، ويبدو أن ما ساعد على تدعيم موقفه سرعة معدل عودة مشروعات الأعمال إلى الصين، والارتفاع السريع لإحصاءات التجارة والاستثمار، ولكن خلال الحملة الانتخابية في عام ١٩٩٢م أثار منافسه بيل كلينتون من جديد القضية الأخلاقية، ودفع بأن إدارة بوش تخلَّت عن التزامها بحقوق الإنسان لمصلحة الصين، حين استمرَّت في تأكيد قيام علاقة إيجابية في مجال العمال والدبلوماسية، حتى بعد أحداث تيان آن مين، وأضاف أن بوش أذنب إذ دلَّل طغاة بكين.
وما إن وصل إلى المنصب في عام ١٩٩٣م المرشح الذي خاض معركة ملتزمًا فيها بالقاعدة التي تقول: «إنه الاقتصاد يا غبي.» حتى اختار أن يخاطر بتقويض العلاقة الاقتصادية، التي تجدَّدت بعد تيان آن مين، ووضع بكين في قفص الاتهام، ليس فقط بشأن حقوق الإنسان، بل وكال لها كل الاتهامات التي تخطر على البال. والملاحظ أن أول الضغوط على كلينتون، لكي يسير في مسار المواجهة، جاء أولًا وأساسًا من الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي: كان الحزب معنيًّا بمسألة حقوق الإنسان، واحتمالات أن قوة العمل الصينية الرخيصة قد تسرق الوظائف الأمريكية، مما يفرض ضغوطًا على أجور عمال الولايات المتحدة.
ولكن الجمهوريين المحافظين لم يكونوا بعيدين عن هذا؛ إذ بينما كانوا لا يدعون فرصةً تمرُّ دون حث واشنطن على عدم التدخل في حياة الشعب الأمريكي، ظلوا يحثون واشنطن على التدخل في حياة الشعب الصيني. وأرادت حركة حق الحياة أن تستخدم المساعدة والبرامج التجارية الأمريكية كعوامل مساعدة لقلب سياسة الصين كمثالٍ في مجال تنظيم الأسرة، كذلك، فإن الساسة اليمينيين الذين راقَتْهم فكرة وضع السجناء الأمريكيين «المدللين» للعمل، وهم مقيدون في طابور بالسلاسل، هم أنفسهم الذين رفضوا فتح الأسواق الأمريكية لسلع صنعها العمال الصينيون السجناء.
والمعروف أن إدارة كلينتون عمدت في سنواتها الأولى إلى التركيز — ربما فقط — على السياسة الداخلية، ولم يشأ البيت الأبيض التورط في الشئون الخارجية؛ لأنها لا تزال حية في الذاكرة. واتجهت الحركة السياسية بدهاء ومكر إلى الميل مع رياح هذه الضغوط؛ ومن ثم تبنَّت قضاياها وتركت مسألة العلاقة مع الصين تسقط حيثما تكون. وعبَّر عن هذا بإيجاز أحد المراقبين حين قال: «في الدورة الرئاسية الأولى لم يكن البيت الأبيض معنيًّا باستنفاد رأسماله السياسي، بالاهتمام بالموقف السياسي مع الصين، وفي الدورة الرئاسية الثانية رغب في ذلك، ولكن المخاطر تستنفد رأسماله.»
السنوات الأولى من إدارة كلينتون (١٩٩٣–١٩٩٦م) اتسمت بتدهور وسوء العلاقة بين بكين وواشنطن، حيث سادت المناوشات العسكرية، واتباع سياسة حافة الحرب بشأن التجارة أولًا، ثم أخيرًا بشأن تايوان، والإسراف في التهديد بفرض عقوبات اقتصادية على عمليات انتهاك الملكية الفكرية وعلى مبيعات الأسلحة النووية. وشهدت هذه الدورة أيضًا تصاعدًا مطردًا في الرهانات السياسية، بل والعسكرية. وهكذا، فإن أول رئيس أمريكي بعد الحرب الباردة دفع بإهمال العلاقات الأمريكية-الصينية إلى الوراء، وكرَّر التأكيدات ذاتها على مسائل الأخلاق والأيديولوجيات والسياسة التي اتسمت بها الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
وفوجئ الصينيون بذلك، وقال جان شيليانج المسئول عن المركز الصيني للدراسات الدولية: «نحن لم نفعل شيئًا يضر العلاقات الأمريكية-الصينية، ولكن الولايات المتحدة الآن تمارس ضغطًا شديدًا مبالغًا فيه على الصين: أول الأمر حقوق الإنسان، ثم بعد ذلك الاقتصاد. لأي شيءٍ كل هذا؟».
(٢) مشكلة غوريلا تزن ٨٠٠ رطل
إذ ما إن بدأ أفضل مفكري كلينتون وأكثرهم خطرًا يستقرون في مناصبهم عام ١٩٩٣م، حتى كانت الصين تحقِّق أقصى درجة في الانتعاش الاقتصادي، والذي تحقق عقب جولة دنج الجنوبية في العام السابق. وأصبح النمو السريع هو معيار الاقتصاد الصيني، ولكنه الآن يرتفع سريعًا متجاوزًا الخط البياني؛ إذ تجاوز معدل نمو إجمالي الناتج المحلي ١٢ في المائة. وعندما يفكر المرء في القاعدة الكثيفة للصين، ثم يجدها تتضاعف بمعدل نمو سنوي ١٠ في المائة أو أكثر، فإنه يستنتج بسهولةٍ أن الصين سوف تصبح سريعًا جدًّا أقوى اقتصاد في العالم؛ بحيث يتضاءل بجوارها الناتج الأمريكي. وهذه هي النتيجة ذاتها التي توصل إليها البنك الدولي في تقرير مذهل؛ إذ أكد أن الصين أضحت بالفعل ثالث أضخم اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة واليابان، وأنها في طريقها لكي تكون البلد الأول بحلول عام ٢٠٠٣م.
ولكن أرقام النمو التي استخدمها البنك الدولي معيبة، كذلك بالنسبة لجوانب مناهج تطابق أسعار الشراء المستخدمة لحساب التعادل بين اقتصاد الصين واقتصادات الغرب. غير أن دراسة البنك الدولي أكدت بوضوح نقطة مهمة جدًّا: هي أن الصين لن تكون فقط سوقًا أخرى بازغة كبيرة، إنها لن تكون مجرد قصة نجاح أخرى لنمو ضخم، مثلما كانت من قبل النمور الآسيوية الصغرى، مكانًا جيدًا للاستثمار والصناعة وإقامة مشروعات أعمال وتجارة. لا، فالصين هي التنين الأكبر دونهم جميعًا، والصين في طريقها لتصبح، ليس فقط أضخم اقتصاد في العالم، بل وأيضًا قوة عظمى عالمية.
وتغيرت علاقة الولايات المتحدة والصين دائمًا بسبب هذا التصور. والملاحظ، آخر الأمر، أن صعود غالبية القوى العظمى على المسرح العالمي على مدى القرون الخمسة الأخيرة أثار حروبًا وثورات، وأدى إلى إعادة تنظيم شامل للثروة والقوى على النطاق الكوكبي، ولكن صعود الصين بوجه خاص كقوة عظمى جديدة يمثل ظاهرة غير مسبوقة بالكامل، ويثير صعودها تساؤلات عن التفاعلات الاقتصادية وعلاقات القوى على الصعيد الكوكبي، وهي تفاعلات لم يواجهها العالم أبدًا من قبل؛ ومن ثم، فإن وضع سياسة ناجحة للصين ليس بالمهمة السهلة. وعلى الرغم من أنه ليس واضحًا — حتى الآن — أن الفريق العامل مع كلينتون قد فهم إلى أي حدٍّ يمكن أن تصبح الصين يومًا ما قوة عظمى، إلا أنه أدرك أخيرًا شيئًا عن هذا المصير، وبدَت سياساته محاولة مشوشة للإبقاء على الغوريلا الطفل داخل النظام العالمي القائم؛ إذ من دون ذلك يسود خوف من أن ينمو الطفل سريعًا؛ ليبلغ أشده، ويتجاوز وزنه ٨٠٠ رطل، ويفسد استقرار العالم، حين يحدِّد قواعده وشروطه، ويجلس حيثما يريد.
(٣) العلاقات الصينية-الأمريكية في حالة سقوط حر
مع تزايد الحملات العدوانية، بدأ كل جانب يرى أنه لا يفعل إلا ما يقتضيه الواجب: رد فعل إزاء استفزازات الآخر وسلوكه السيئ، وينظم الاستعراض الملائم للقوة الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية؛ ليرسم خطًّا في الرمل، ونورد فيما يلي أمثلة، على سبيل العرض لا الحصر، لنقدم صورة للتدهور المطَّرد للعلاقة خلال النصف الأول من العقد الأخير من القرن العشرين:
-
التزامًا بوعود كلينتون الانتخابية، سعت إدارته إلى «ربط» التقدم في مسألة حقوق الإنسان، بتجديد منح الصين وضع الدولة الأولى بالرعاية في مجال التجارة. وعلى الرغم من أن كلينتون كان يفضل — فعليًّا — وضع الدولة الأولى بالرعاية، إلا أنه كان في حاجة إلى أن يؤمن جانبه بالتظاهر بأنه معنيٌّ كثيرًا بمسألة حقوق الإنسان. وخلق هذا مشهدًا يتكرر سنويًّا داخل الكونجرس وفي وسائل الإعلام لعملية توجيه ضربات عنيفة للصين.
ولكن استخدام وضع الدولة الأولى بالرعاية ناديًا لتوجيه الضربات إلى الصين لم يبدُ فعالًا؛ إذ بعد جولة أو جولتين من هذه الحوارات تشبث الصينيون بموقفهم ولم يتزحزحوا عنه، وامتنعوا عن تقديم ولو تنازلات مظهرية لواشنطن بشأن مسألة إطلاق سراح المنشقين، وتحسين معاملة المسجونين السياسيين، وغير ذلك من قضايا حقوق الإنسان.
ووجد كلينتون نفسه في مأزق حرج؛ فالاقتصاد الصيني في انتعاش مستمر، وطالبت مشروعات الأعمال الكبرى ضمانات رئاسية بشأن استمرار وضع الدولة الأولى بالرعاية كوسيلة للحفاظ على استمرار النمو التجاري، ولكن كلينتون اكتشف أن ليس بالإمكان خداع الصين أو إرهابها بالكلام، بحيث تقدم له ولو قصاصاتٍ من البراهين التي يحتاج إليها، لكي يثبت صدق ما زعمه، من أن ربط وضع الدولة الأولى بالرعاية بتقدم حقوق الإنسان يخلق النتيجة المرجوة بالفعل، واضطر — نتيجة لهذا — إلى أن يفكَّ الارتباط بين وضع الدولة الأولى بالرعاية ومسألة حقوق الإنسان. ووصولًا إلى هذا، تحرك في الاتجاه الصحيح من أجل الحفاظ على العلاقة الاقتصادية. وهكذا عرَّض نفسه لانتقاداتٍ قاسيةٍ من قِبَل القوى السياسية المحلية، التي تتزايد قوتها وحاول استرضاءها في البداية.
-
تخلَّى كلينتون عن التقليد الرئاسي، بأن يضع طابعه الرسمي، الذي يؤكد موافقته على العلاقة؛ إذ رفض القيام شخصيًّا بزيارة الصين خلال فترة رئاسته الأولى، بل ورفض إرسال نائبه آل جور حتى بداية تاريخ الفترة الرئاسية الثانية، ولكن توجَّه إلى الصين عددٌ قليلٌ من كبار ممثلي الإدارة، ولم يقصد أيٌّ منهم عملًا إيجابيًّا سوى رون براون السكرتير التجاري، الذي قام بجولات في الصين عكست حماسه؛ لكي يفيد من إدارته لتعزيز فرص مشروعات الأعمال الأمريكية في الخارج.
والجدير ملاحظته أن وارين كريستوفر وزير الخارجية، زار دمشق تسعًا وعشرين مرة خلال فترة رئاسة كلينتون الأولى. ويزيد هذا بسبع وعشرين عن عدد زياراته إلى بكين. وذهب إلى دمشق ليقنع رئيس سوريا بالانضمام إلى عملية السلام في الشرق الأوسط، وليس للحديث عن حقوق الإنسان.
-
جون شاتوك، وهو من كبار موظفي الخارجية الأمريكية، غيَّر مسار رحلته لزيارة الصين من زيارةٍ رسميةٍ إلى مقابلة المنشق وي جنشنج عام ١٩٩٤م. بعد هذا ألمحت الإدارة الأمريكية بتأييدها للدلاي لاما — الزعيم الديني المقيم في المنفى، ويمثِّل تجسيدًا لقضية استقلال التبت — إذ رحبت واشنطن بلقائه، والتقاط صور له مع الرئيس كلينتون. وبينما كان الأمريكيون مقتنعين بأن هذه اللقاءات الرمزية تنطوي على دلالةٍ أخلاقيةٍ سامية، رأى فيها الصينيون استفزازًا متعمدًا، وهو ما يعادل رغبة الصينيين في عقد لقاءات مع زعماء الميليشيا الأمريكيين الذين يرفضون الاعتراف بسيادة الحكومة الفيدرالية.
-
أصبحت قضية المنشقِّ الصيني هاري وو Wu قضية كبرى في عام ١٩٩٥م، تعبِّر عن الفارق بين عقيدتَي البلدَين إزاء مسألة حقوق الإنسان، والمعروف أن وو وثق إساءة معاملة المسجونين السياسيين، الذين تتكتَّم عليهم السلطات الصينية. وعمد وو إلى مغادرة الصين وأصبح مواطنًا أمريكيًّا، وحاول في عام ١٩٩٥م العودة إلى الصين، عازمًا على إعداد المزيد من الوثائق عن إساءة المسجونين في مجالات العمل، وأن ينشر موضوعات، مثل: الصين تستخدم أجساد المسجونين مصادر للأعضاء المزمع زراعتها، ولكن قُبض على وو بعد عبوره أبعد منطقة عبور صينية، وتبيَّن أنه سافر باسمٍ مزيف، واتهمته السلطات بالتجسس والتخريب وارتكاب أعمال خيانة.
ورأت إدارة كلينتون أن قضية وو هي قضية مواطن أمريكي متهم زورًا بجرائم غير صحيحة، وأنه سيمثل أمام محكمة «كنغرية»، أي لا تراعي مبادئ القانون. ورأى الصينيون في قضية وو أنها تتعلق بشخص مثير للمشكلات، ولا بد من إيقافه. واحتلَّت حرب الأعصاب بشأن مسألة وو عناوين الصحف لعدة أسابيع، وأخيرًا، وبعد أن وافق على اعترافٍ مختلقٍ وضعَته السلطات على متن طائرةٍ وأعادته إلى الولايات المتحدة. وتنكَّر وو بعد ذلك لاعترافه، وادَّعى الجانب الأمريكي أنه حقق انتصارًا، ولكن الصينيين، إذ اعتقلوا هاري وو وأودعوه السجن، وانتزعوا منه الاعتراف، واعتقدوا أنهم حققوا غرضهم، وأوصلوا رسالتهم للجمهور الذي استهدفوه، وهو جمهور المنشقين الصينيين في الداخل وفي الخارج.
-
هدَّدت واشنطن في مناسباتٍ عديدةٍ بفرض عقوبةٍ اقتصاديةٍ ضد الصين، وكادت تطبِّقها بالفعل مرتَين خلال عامَيْ ١٩٩٥-١٩٩٦م، ضد ما أسمته سرقات الصين للبرمجيات. ودارت مفاوضات لمدة إحدى عشرة ساعة، ووافقت الصين على إسدال ستار على الانتهاكات الفاضحة (مصانع مملوكة للدولة قلَّدت آلاف الأقراص المدمجة- الموسيقية وأقراصًا مدمجة للكمبيوتر)، وحالت دون اشتعال حروبٍ تجاريةٍ واسعة النطاق بشأن الملكية الفكرية. ونشبت نزاعات تجارية أخرى مرات ومرات بشأن المنسوجات الصينية، التي تتدفَّق على الأسواق الأمريكية، وسجلت الولايات المتحدة ستين حالة إغراقٍ ضد الصين خلال الفترة من ١٩٩٠م إلى ١٩٩٦م.
-
هدَّدت واشنطن أيضًا بفرض عقوباتٍ على مبيعات الأسلحة الصينية، خاصة مبيعات المعدات ذات العلاقة بالتجهيزات النووية لباكستان. وأكدت سلطات الاستخبارات الأمريكية أن الصين وراء عديدٍ من المبيعات لإيران ولبلدان أخرى تعتبرها الولايات المتحدة بلدانًا معادية، ولكن الملاحظ بالنسبة لهذه المسائل التي هي على أعلى قدرٍ من الأهمية للأمن الأمريكي والعالمي، أن إدارة كلينتون آثرت أن تتجنَّب الضغط على الصينيين، مما قضى على أي خيط باقٍ يفيد وجود اتساقٍ منطقي في السياسة الأمريكية تجاه الصين.
-
تعلَّم الصينيون مبكرًا من التهديدات الأمريكية بفرض العقوبات أو غيرها من المناورات، وأعلن الصينيون — على الملأ — أنهم سوف يثأرون من الولايات المتحدة بأن يغلقوا سوقهم أمام سلع أمريكية معينة، إذا ما فرضت واشنطن عقوباتٍ على الصين. وكان لدى بكين أسلوبها الخاص «للربط» بين الأمرَين: مثال ذلك أنه في حالتَين بارزتَين حدثتا خلال هذه الفترة بشأن العلاقة السياسية (إحداهما خاصة بشركتَيْ كريزلر ومرسيدس بنز، والثانية خاصة بشركتَيْ بوينج وإيرباص)؛ إذ فكرت الصين في عقد صفقات مع الشركات الأوروبية المنافسة بدلًا من الشركة الأمريكية. وأشار الصينيون في العلن إلى أنه مُنحت العقود لأسبابٍ تتعلق بالتجارة ومشروعات الأعمال دون غيرها. وقدَّمت الصين تفسيراتٍ مقبولةً إلى السائلين، ولكن توقيت صدور الإعلان عن هذه العقود ترك رسالةً صامتةً واضحة: طرفان يمكنهما اللعب في لعبة دجاجة التجارة العالمية، وكما أسر إلينا دبلوماسي صيني رفيع المستوى:
«نستطيع جميعًا أن ندفع بأن الاقتصاد والسياسة منفصلان. هما كذلك بدرجة ما، وهما الآن أكثر استقلالًا أحدهما عن الآخر — في الصين — عما كان مألوفًا في السابق، ولكن الاقتصاد والسياسة مرتبطان كلًّا منهما بالآخر، خاصة في بلدٍ مثل الصين. وإنه لَمن المستحيل على الشركات الأمريكية أن تنجح إذا لم تلتزم الولايات المتحدة سياسةً ملائمةً مع الصين.»
-
عندما تحدَّث النقاد عن مظاهر سلبية تتعلَّق بالبيئة وبحقوق الإنسان، أذعنت الولايات المتحدة لهذا النقد، ورفضت تزويد بكين بالمساعدات التكنولوجية، وأوقفت ضمانات قروض وتأمينات خاصة بشركات أمريكية قدَّمت عطاءاتٍ لإنجاز مشروعٍ للصين خاصٍّ بإقامة سد الجنادل على نهر يانجتسي، الذي يعتبر أهمَّ مشروعٍ لتوليد الطاقة لتغذية اقتصادٍ تصنيعي يعاني جوعًا شديدًا للطاقة.
-
استخدمَت الولايات المتحدة سلطاتها لتحول دون بكين وتحقيق رغبتها القدسية في العبور إلى العالم الحديث؛ ونعني بذلك فرصة استضافة الأولمبياد العالمية في صيف عام ٢٠٠٠م، ومرة أخرى لجأت الولايات المتحدة إلى سجلاتها عن حقوق الإنسان، واعتبرت ذلك هو القضية المحورية.
-
نظرًا لأن بكين توَّاقة إلى استضافة أحداثٍ أخرى عالمية الطابع، بعد حرمانها من الأولمبياد، فقد قبلت استضافة مؤتمر الأمم المتحدة المعني بشئون المرأة في عام ١٩٩٥م، ولكن معالجتها الفجَّة والعقيمة للحدث أثارَت انتقادات واسعة في العالم. لقد بذلت السلطات الصينية كل ما في وسعها للحيلولة دون أن يغدو المؤتمر ساحة لقاء للمتظاهرين وللمشاركين غير الرسميين، ورفضت التعاون مع آلاف النساء والمنظمات من مختلف أنحاء العالم، ممن لديهن تقليد معروف على مدى السنوات الماضية، وهو عقد لقاءات موازية للاجتماع الرسمي. وشرعت السلطات في البحث عن المحرضين ومثيري الشغب، وتتبعتهم. وكان مفهومًا لدى الأمريكيين أن السيدة الأولى هيلاري كلينتون حين فكرت وقررت التوجه إلى بكين وإلقاء خطاب أمام المؤتمر، فإنها سوف تتخذ المنبر وسيلةً لانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، وكذا عدم احترام السلطات لحقوق المرأة في بلدان أخرى، وهو ما تعبِّر عنه نساء وفدْنَ من هذه البلدان، وتجمعْنَ في بكين، ولكن الصين — التي لم يَزُرها كلينتون زيارةً رسمية — رأت في هذا الحديث إهانةً متعمدة.
-
كانت الصين، في الأصل، حريصةً على الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، ولكن الولايات المتحدة تحرَّكت — بدعم أوروبي — للحيلولة دون انضمام بكين إلا بعد أن تعترف بكين، وفاءً لأغراض منظمة التجارة العالمية، أن الصين بلد «متقدم»، والمعروف في دهاليز البيروقراطية لمنظمة التجارة العالمية، أن البلد المتقدم يفقد أفضليات اقتصادية معينة، ويتعيَّن عليه أن يفتح المزيد من أسواقه سريعًا للمنافسة الأجنبية. ولكن الصين، التي لا ترغب في التخلِّي عن المزايا التي يتمتَّع بها الاقتصاد النامي، شجبت منطق واشنطن الفاسد؛ لأنه يساوي بين واقع الصين الاقتصادي؛ حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي أقل من ١٠٠٠ دولار في السنة، وبين المعدلات الأمريكية والأوروبية التي تزيد عنها بأكثر من عشرين مثلًا. وتقول الولايات المتحدة — رسميًّا الآن — إنها تعمل من أجل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، ونسأل ما نوع منظمة التجارة العالمية في القرن الواحد والعشرين، التي لا تضمُّ الصين بين أعضائها؟ النتائج بينة، وسوف تكون أكثر وضوحًا.
-
المنظمات الأمريكية الكبرى للقطاع الخاص شدَّدت حملتها ضد السياسات الصينية، ودعَت إلى مقاطعة السلع التي ينتجها العمال السجناء الصينيون، وشرعت في إجراء تحقيقاتٍ عن الفظائع التي تقع داخل دور الأيتام، وضغطَت في اتجاه استقلال التبت، هذا غير قضايا أخرى كثيرة. وحيث إن الصينيين ليس لديهم فَهْم واضح لطبيعة تنوُّع الآراء داخل أمريكا، وكيف يعمل فعلًا قطاعٌ خاص في مجتمعٍ ديموقراطي، فإنهم اعتادوا تجميع كل هذه المبادرات والمواقف، والنظر إليها جملة دون تمييز باعتبارها جهدًا من قبل واشنطن لتقويض العلاقة ومهاجمة الصين. وأكثر من هذا، فإن الغالبية العظمى من هذه الجهود تجد دعمًا ومساندةً من عديدين من أعضاء الكونجرس، مما يضفي ثقةً ومصداقيةً على نظرة الصين، وأنها جهود تعكس سياسات رسمية أمريكية.
-
بعد أن استعرضت الصين عضلاتها العسكرية في منتصف التسعينيات، وقامت بعددٍ من المغامرات المتوسطة قرب سواحل الجزر المتنازع عليها وغيرها، بدأ المثقفون الأمريكيون وخبراء السياسة الخارجية ينظرون ثانيةً إلى الصين باعتبارها تتحوَّل إلى قوةٍ عظمى، تمثِّل خطرًا اقتصاديًّا وعسكريًّا معًا. وأصبح الموضوع المفضَّل لدى وسائل الإعلام في مطلع عام ١٩٩٥م، هو الدعوة إلى احتواء الصين التي تتزايد قوتها باطِّراد. مثال ذلك أن مجلة تايم أعلنت أن الصين بلدٌ لا يعرف حدودًا لأطماعه التوسعية، وأن قادة الصين قُساة القلوب، قادرون على فعل أي شيء، وأن احتواء هذا البلد المستأسد لا بد أن يبدأ مبكرًا قبل فوات الأوان.
-
إن مجرد ذكر الاحتواء — وهي كلمةٌ من تاريخ الحرب الباردة التي شنَّتها السياسة الأمريكية ضد الاتحاد السوفييتي — كان يثير ثائرة بكين، ورد محرِّرو وسائل الإعلام في الصين الصاع صاعَين على مجلتَي تايم والإيكونومست وغيرهما من المجلات ووسائل الإعلام، التي تروج لفكرة الاحتواء. ولم تكن استجابات الصين أكثر اتساقًا من السياسة الأمريكية. ودفع البعض بأن لا أحد في حاجةٍ إلى احتواء الصين؛ لأن الصين لا تهدد أحدًا. ودفع آخرون بأن لا أحد يمكنه أن يحتوي الصين، أو يحول دونها وصنع مصيرها.
والملاحظ في بكين أن كل ما هو أمريكي يفوح برائحة المؤامرة؛ لإلحاق الضرر بمصالح الصين، ويعتقد كبار العسكريين الصينيين والمؤسسات السياسية الصينية أن الولايات المتحدة تتآمر بجد ونشاط لتقويض الصين سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، وكما عبَّر عن هذا بإيجازٍ هنري كيسنجر في شهادته أمام الكونجرس في يوليو ١٩٩٥م: «إن العلاقات الصينية-الأمريكية في حالة سقوط حر.»
إن جميع الأحداث والمسائل المذكورة آنفًا جرحَت العلاقة، وضاعفَت من الإحساس بالخطر في كلتا العاصمتَين، ولكن- ما دفع الموقف إلى الأزمة وألقى كميات كبيرة من الملح فوق الجروح، هو مسألة تايوان.
(٤) سياسة حافة الحرب في مضايق تايوان
مثلما كانت تايوان نقطة تحول في مراحل عديدة في الماضي، كذلك كانت السياسة الخاصة بتايوان هي لب التطاحنات بين الولايات المتحدة والصين في عامَيْ ١٩٩٥-١٩٩٦م. لقد وجهت واشنطن ضربةً في الصميم إلى بكين؛ إذ سمحت لرئيس تايوان لي تنج-هوي بالقيام بزيارة خاصة للولايات المتحدة، وكان الهدف من الزيارة، في الظاهر، هو أن يلقي لي خطابًا أمام جامعة كورنيل، التي التحق بها ذات يوم، ولكن وراء هذا الهدف «الخاص» الحميد من زيارة لي للكلية الأم، التي تخرَّج منها وعمل فيها لفترةٍ محدودة، تكمن مكائد جيوبوليتيكية كبرى وقضايا سياسية عميقة، وصراعات سياسية بالغة السخونة، شملت واشنطن وبكين وتايبيه وهونج كونج وطوكيو.
وكما يعرف كل مراقب خبير بالصين، كانت تايوان دائمًا قضية بالغة الحساسية في بكين؛ إنها المحك للتعبير عن قوة النزعة القومية والوطنية والقوة العسكرية. واحتلَّت خلال فترة الانتقال من دنج هسياو بنج مكانًا خاصًّا في جدول الأعمال الصيني، وحرص الجيش على البقاء بعيدًا — إلى حدٍّ ما — عن الجدل الدائر في الداخل بشأن الإصلاح الاقتصادي والسياسة، ولكن تايوان قصة أخرى؛ إذ بالنسبة لهذه القضية يصرُّ جيل العسكريين المخضرمين أن تكون لهم كلمة مسموعة، وموقفهم هنا واضح؛ إن تايوان هي المعادلة لقضية «الأمومة» الأمريكية، ولن يسمح كبار القادة العسكريين بأن تفرِّط الصين أو تقلِّل من التزامها بإعادة ضم تايوان إلى الوطن الأم يومًا ما.
والمعروف أنه منذ قطعت واشنطن علاقاتها مع تايوان، وأقامت علاقات مع الصين في أواخر السبعينيات، بدا أن رفض واشنطن منح زعماء تايوان تأشيرة دخول، إنما هو أسلوب سياسي غير مكلف لبيان الولاء لمبدأ «صين واحدة». وكانت واشنطن تسمح لرجال الأعمال الأمريكيين بأن يقيموا علاقات استثمار وتجارة مكثفة داخل تايوان، كما كانت الصين تتسامح إزاء مبيعات السلاح الأمريكي إلى تايوان، طبعًا في إطار حدود صارمة، ولكن المقابل لتساهل الصين إزاء هذه التورطات الأمريكية الموضوعية مع حكومة تايبيه؛ هو إصرار على أن تلتزم واشنطن بالمسائل البروتوكولية (مثل إصدار تأشيرات الدخول) لضمان عدم الاعتراف بتايوان.
ويعرف المطلعون على بواطن الأمور أن رفض واشنطن السماح لزعماء تايوان بزيارة الولايات المتحدة، يمكن فَهْمه على أنه دعم أمريكي ضمني لوجهة نظر الصين بالنسبة للموضوع: تايوان ليسَت سوى مقاطعةٍ صينية، وليس للشخصيات الرسمية بها أي مشروعية سياسية، وليس لتايوان — يقينًا — الحق في التماس قبولها ككيان أو بلد مستقل، كذلك فإن جميع المسائل المتعلقة بوضع تايوان السياسي، ومستقبلها وعودتها في النهاية إلى البلد الأم، إنما هي مسائل يقرِّرها الصينيون دون تدخُّل خارجي.
واستطاعت الحكومات الأمريكية على مدى ستة عشر عامًا أن تحافظ على استمرار هذه الرقصة، حتى بعد ظهور اقتصاد تايوان كواحدٍ من أهم اقتصادات العالم، وبعد أن أصبح هيكلها السياسي ليبراليًّا، وطوَّرت جماهير موالية للاستقلال. والجدير ذكره أن الرأي السائد في واشنطن، قبل عصر كلينتون ونيوت جنجريتش، أن العلاقات الطيبة مع بكين أهم من استثارة حنق الرأي العام الصيني؛ بسبب رمزية السماح لزعيم تايواني بزيارة الولايات المتحدة.
وحاول، على مدى سنوات، سياسيون من تايوان، وبالتنسيق مع مجتمع لهم من المساندين الأمريكيين (يتركز أكثرهم بين أعضاء الجناح اليميني للجمهوريين) التحايل من أجل تقديم دعوة رسمية لزعيم رفيع المستوى، أو حتى القيام بزيارة خاصة، أو أي شيء يمكن استخدامه كذريعةٍ بشأن مشروعية وَضْع تايوان، أو استخدامه كسابقةٍ لإرغام الولايات المتحدة على إعادة التفكير في مواقفها من بكين، واتخاذ موقف جديد من تايبيه.
وكان لي تنج وي، داخل عالم تايوان السياسي المركب، يحاول تعزيز قبضته على السلطة، في الوقت الذي يستعد فيه للمنافسة في أول انتخابات رئاسية ديموقراطية تشهدها الجزيرة، ولكي ينجح كان في حاجةٍ إلى أن يمايز نفسه عن اتجاهَين آخرَين؛ أحدهما هو الكومنتانج القديم (تلامذة شيانج كاي شيك، وسلالة من هربوا من الوطن الأم إلى تايوان)، والاتجاه الثاني حركة صغيرة ولكنها متنامية بين المثقفين والطبقة الوسطى البازغة التي تؤيد الاستقلال التام لتايوان. ورأى لي في الفكرة الجريئة الداعية إلى إرغام أمريكا على السماح له بالزيارة؛ فرصةً للالتفاف حول المؤيدين صراحةً للاستقلال، وإثبات كفاءته كزعيمٍ لتايوان والمعبِّر عن مستقبلها.
ولكن الانتصار المذهل للجمهوريين في الكونجرس في نوفمبر ١٩٩٦م، قيَّد فرص بيل كلينتون وأدَّى إلى ارتفاع نجم نيوت جنجريتش، المؤيد لتايوان، عاليًا كسلطة في الكونجرس ومتحدث باسمه، فقد انضم — نتيجة للانتخابات — أكثر من ٧٠ جمهوريًّا جديدًا إلى الكونجرس، معروف عن بعضهم انحيازهم إلى تايوان، وإن كانت الأكثرية ليست على دراية بالقضية. غير أنهم كانوا — بوجه عام — على يقين من أنهم معارضون لسياسة بيل كلينتون، بما في ذلك وضع الدولة الأولى بالرعاية بالنسبة للصين.
والملاحظ أن هؤلاء الجمهوريين الشعبيين لم يعبئوا كثيرًا بواقع أن إدارة كلينتون كانت، خلال السنتَين الأوليَين لها، أكثر تشددًا مع بكين من الإدارة الأمريكية الجمهورية في عهدَي جورج بوش، ورونالد ريجان. ولقد خرج الجمهوريون — شركاء جنجريتش — عن كثيرٍ من التقاليد الجمهورية؛ إذ تراجعوا عن دورهم التاريخي كرسل مشروعات الأعمال الكبرى، وأصبحوا مدافعين عن أبناء الطبقة الوسطى وعن التحالف المسيحي، ورأوا أن توجيه لكمةٍ مؤذيةٍ إلى الصين في العينَين ليس أمرًا سهلًا فقط، بل هو السياسة الجيدة.
وشرع مجتمع رجال الأعمال يلحُّ على الجمهوريين أن يُخفِّفوا الوطء، فيما يتعلَّق بقضية تايوان، وفاءً للمصالح الأمريكية في مجال التجارة والاستثمار في الصين، ولكن نيوت وشركاه لهم آراء أخرى؛ لقد كان جنجريتش فارسًا يقود حملة تحدٍّ استفزازي ضد بكين حول مسألة تايوان. وعلى الرغم من ادِّعائه بأنه دارس متميز للتاريخ، إلا أنه على ما يبدو يعرف القليل عن تاريخ الصين. وأعلن في حديث صحافي شهير أن على الصين أن تفيق وتقبل استقلال تايوان كحقيقةٍ واقعة. ولم يكن هذا الرأي من السياسة في شيء، حتى إن هنري كيسنجر، الذي طلب منه جنجريتش أن يعمل معلمًا له في شئون السياسة الخارجية، اضطر إلى أن يؤدِّب تلميذه.
وبينما بدأت عملية الترحيب بزيارة لي تنج-هوي تأخذ زخمًا جديدًا داخل الكونجرس عام ١٩٩٥م، أكد وارين كريستوفر وزير الخارجية للرسميين الصينيين أن البيت الأبيض سوف يوقف جهود جماعة الضغط (اللوبي) الموالية لتايوان، والذي يبذل جهودًا لمنح لي تأشيرة دخول، ولكن كريستوفر أخطأ في فَهْم حماس أعضاء الكونجرس اﻟ ١٠٤ المنتخبين حديثًا؛ إذ بعد بضعة أسابيع وافق الكونجرس على قرار يؤيد حق لي في القيام بزيارة خاصة. وهكذا وجدت الإدارة نفسها معزولةً غير قادرةٍ على المخاطرة بمنع الزيارة؛ فقد كانت تنتظرها معارك أخرى كثيرة بينها وبين الكونجرس بشأن الصين، والتي ستكون قضية كبرى.
أخيرًا أبلغت إدارة كلينتون الصينيين أن زيارة لي عملٌ لا بد منه؛ للتلاؤم مع الضغط الجمهوري، وأسرَّ مسئول كبير في الخارجية بقوله: «حاولنا أن نوضِّح لهم أنه في ظل نظامٍ ديموقراطي ليس للرئيس سلطة التحكم في كل مسألة عارضة، نحن لم نَقُل لهم إننا سوف نمنع لي من الزيارة، وإنما قلنا فقط سوف «نقاوم» أي زيارة، ولكنهم أخذوا الكلام على محمل أننا سوف نمنعها، ولم يكن هذا هو المعنى المراد مما قلناه لهم، ولا ريب في أنهم سوف يتعلَّمون أن الديموقراطية الأمريكية عملية غير محكومة الحركات.»
ولم تقتنع بكين بهذا التفسير، وارتابت القيادة هناك من أن كل ما يجري في واشنطن إنما هو جزء من مؤامرة معادية للصين. وكما أفادت صحيفة «وول ستريت» في هذا الصدد «لا يستطيع كثيرٌ من الزعماء الصينيين أن يتصوَّروا أن بلدًا قويًّا ومتقدمًا مثل الولايات المتحدة ليست له استراتيجية تجاه الصين.» أو أنها سوف تسمح للمعارضة بأن تفسد هذه الاستراتيجية.
وكان أول رد فعل من جانب بكين محدودًا، ولكن العسكريين المتشددين أوضحوا لجيانج زيمين أن هذه المسألة من النوع الذي لا بد له أن يُظهر فيها حماسًا، إذا أراد أن يستأثر بحبهم كخليفةٍ مبرز للزعيم دنج هسياو بنج. ورُسم خطٌّ على الرمل في بكين يحدد ما بين بكين وواشنطن، وأصبح على جيانج أن يبرهن لشعبه أنه قادر على التصدي للولايات المتحدة.
وسرعان ما صوَّرت بكين تأشيرة دخول لي بأنها جريمة أمريكية شائنة، وصدر سيل جارف من الشجب والتنديد، واستدعت الصين سفيرها وألغَت المفاوضات الثنائية، كما أوقفت التعاون على جبهات عديدة، وبدأت تستعدُّ للرد على ما تصوَّرَته غدرًا أمريكيًّا بأسلوبٍ رأت واشنطن أنه يستحق الشجب؛ إذ قامت الصين بإجراء تجارب عسكرية قرب شاطئ تايوان، تضمَّنت إطلاق قذائف حية من المدافع حول الموانئ والمدن التايوانية القريبة.
كنا في بكين آنذاك؛ ولهذا لم يكن بوسعنا أن نسمع محاضرات في كل مكان عن قضية تايوان، وذهبنا للقاء شخصية رسمية رفيعة المستوى في وزارة الخارجية، وكان من المفترض أن يتركز الحديث على التفاعلات طويلة المدى بين الصين من جانب، واليابان وروسيا وبلدان أخرى من جانب آخر، ولكن اللقاء تحول إلى خطاب بلاغي رنان على مدى تسعين دقيقة، يدور حول الغدر الأمريكي بالنسبة لقضية تايوان.
أوضحنا أن الصين ليست وحدها المتفردة بهذا الموقف، وأن إدارة كلينتون منحَت تأشيرةً لزعيم الشين مين، جيري آدامز (المشتبه في تورطه في أعمال إرهابية للجيش الأحمر الأيرلندي)، هذا على الرغم من معارضة بريطانيا، ولكن كل جهدٍ نبذله لتوضيح منطق الموقف الأمريكي يقابل بالرفض الصريح. وقيل لنا مثلما أن الرئيس الأمريكي حاول استرضاء الكونجرس، كذلك فإن الزعماء الصينيين لهم أن يستجيبوا بالمثل إزاء رجالهم، الذين أرادوا أن تكون استجابتنا إزاء موقف الولايات المتحدة قويةً عنيفة.
وحضرنا غداءً في أحد مراكز الفكر المرتبط بجيش التحرير الشعبي، وقال قائد متقاعد أثناء تناول الغداء، كلمات ذكرتنا بشعارات الثورة الثقافية:
«حاولت أمريكا دائمًا تقويض وتخريب الصين، ولكنها فشلت في كل مرة؛ أولًا أنتم ساندتم شيانج كاي شيك، ولكنه هرب من الصين، ثم دعمتم نظام الحكم في تايوان لمدة سنوات، بعد ذلك هاجمتم الصين في كوريا، وها أنتم الآن تعودون إلى الفعلة ذاتها، ولكنكم ستفشلون ثانية.»
والملاحظ أن المثقفين الصينيين والمنشورات الصينية، التي كانت حتى عهد قريب جدًّا راغبة في مناقشة جدارة سياسية تايوان الاقتصادية وكيف يمكن تطبيق منهجها في الصين، أصحبوا هم أنفسهم يتحدثون بصوت عالٍ، قائلين إذا كانت تايوان حقَّقت أي نجاح، فإنما ذلك لأن الولايات المتحدة استخدمتها «قاعدة للهجوم على الصين»، ولأن «المخابرات المركزية الأمريكية تآمرت مع شيانج كاي شيك ليسرق ذهب الصين». ويسود زعم الآن بأن «الإمبرياليين الأجانب» لا يزالون على النهج الاستعماري نفسه ويحاولون، من بين خطايا كثيرة، منع الصين من أن تعمل ما لن تتراجع عنه؛ ألا وهو تحرير تايوان.
والحقيقة أن العلاقات بين الصين وتايوان كانت بالفعل جيدة تمامًا في تلك اللحظة عام ١٩٩٥م، أو كانت في غالبية المجالات، ولا تزال، جيدة حتى يومنا هذا: كان يُجرى آنذاك حوارٌ رفيع المستوى غير مسبوق بين زعماء من الصين وتايوان، وبدأت تنتعش علاقات اقتصادية عبر المضيق. ويمكن القول حسب النهج المادي الجدلي — الذي تعلموه من فلسفة ماو — إن زعماء الصين اليوم آثروا توجيه الضربة الرئيسية بشأن مسألة تايوان إلى واشنطن، بدلًا من تايبيه، وذلك حتى لا يحرموا أنفسهم من المنافع الناجمة عن العلاقة الاقتصادية المتنامية عبر مضيق تايوان.
واستمرت حرب الكلمات مع الولايات المتحدة بشأن تايوان في صورة أزمة، لمدة تزيد على عام. ومع انقضاء حملتين انتخابيتين مختلفتين بشأن تايوان، فقد صعَّدت الصين من رهانها، وأجرت المزيد من المناورات العسكرية، والتي حملت رسائل ضمنية إلى قُوى استقلال تايوان: مَن هو السيد صاحب القرار بالنسبة لمصير تايوان؟
(٥) الصين التي تقول لا
بحلول عام ١٩٩٦م، كان مناخ الحرب الباردة يدفع المثقفين في كِلا المجتمعَين إلى استخدام عبارات متطرفة؛ ففي كتاب يحمل عنوان: «الصين التي تقول لا»، دق ثلاثة صحافيين وأستاذ جامعي ماكينة حساب النقد عن طريق عرض نظرة مثيرة للذعر، ولكنها تحظى بقدرٍ كبير من الرواج عن العلاقات الأمريكية-الصينية. قال أحد المؤلِّفين ويدعى سونج كيانج، البالغ من العمر واحدًا وثلاثين عامًا، ويعمل صحافيًّا: «من الحقائق المعروفة جيدًا أن الولايات المتحدة تريد تدمير حلم الصين بأن تصبح قوةً كبرى اقتصادية.» وتراوحت النقاط التي عرضها سونج ورفاقه من المؤلفين ما بين الاستفزاز الفكري إلى إثارة السخرية: لقد بدأت المخابرات المركزية الأمريكية تشن حملة لتقويض الاستقرار الاجتماعي في الصين، وتشتمل هذه الجهود على توزيع كراسات تشجِّع شباب الصين على ممارسة الجنس. وأكثر من هذا أن برامج التليفزيون تعدُّها الصينية الأمريكية كوني شونج جزءًا من هذه المؤامرة … وأن السياسة الخارجية الصينية شديدة الضعف، ويتعين على الصين أن تلتزم نهجًا أكثر تشددًا مع الغرب. وحري بشباب الصين أن يكونوا قوميين أكثر من زعمائهم الذين تحكمهم قيود: إذ يتعيَّن عليهم الاستعداد لانتزاع تايوان بالقوة … وشكلت الولايات المتحدة «النادي المناهض للصين»، وتحشد آخرين بمن فيهم يابانيون وفيتناميون لمعارضة مزاعم الصين إزاء تايوان والجزر الصغيرة … وإن شركة موتورولا وغيرها من الشركات الأمريكية أرسلت إلى الصين تكنولوجيا من الدرجة الثالثة، بينما شرعت هوليوود في عملية غزو ثقافي — عن طريق السينما — تحبذ العنف والفردية. إن الولايات المتحدة ليس لها الحق في أن تعظ الصين بشأن حقوق الإنسان؛ ذلك أن الأمريكيين ينتهكون حقوق الإنسان على نحوٍ أسوأ … ابتداءً من ضرب رودني كنج، وحتى استخدام العنف ضد المهاجرين الإسبان غير الشرعيين المقيمين في كاليفورنيا.
واستشعر الرسميون الصينيون حرجًا إزاء الحجج الفجة التي تضمنها هذا الكتاب، الذي أفرخ كتبًا أخرى مثل «الصين لا تزال تقول لا»، الصين سوف تقول لا دائمًا، وعشرات من الكتب التي تحمل عناوين مماثلة. وأصرُّوا جميعًا على عدم قبول الحجج الواردة فيها ولكن المراقبين المحنكين، الذين يفهمون الصين جيدًا، يعرفون أن عبارة «الصين يمكن أن تقول لا» هي صورة متطرفة وشديدة الحساسية، لتيار واحد من الفكر يعبِّر عنه أساسًا الشباب والأكاديميون والصحافيون قليلو الخبرة، ولكن صدرت أيضًا كتب أخرى تعبِّر عن وجهات نظر أكثر إيجابية عن الولايات المتحدة، من ذلك كتاب مشهور «الدراسة في أمريكا» تأليف قيان ننج، ابن وزير خارجية الصين.
ولكن غالبية الكتب الصادرة اليوم في الصين — في هذه الأيام — تحمل مشاعر ألم وطني ذات وزنٍ كبيرٍ بشأن موضوع الولايات المتحدة، وكيف تتعامل مع الصين؛ مثل ذلك الكتاب «الصين الكبرى»، وهو كتاب مرجعي مؤلَّف من مقالاتٍ بقلم عددٍ من كبار العلماء الصينيين السياسيين وباحثين عسكريين. يصوِّر الكتاب العسكرية الأمريكية كأنها تعمل بجدٍّ ونشاطٍ من أجل شن حرب ضد الصين، بهدف شق صفوفها وتدميرها. وأجرى مركز بحوث شباب الصين، وهو مركز شبه رسمي، استفتاءً أفاد بأن مؤلفي كتاب «الصين يمكن أن تقول لا» ليسوا بعيدين عن التعبير عن آراء جيلهم، وأن حوالَي ٩٠ في المائة من الشباب يؤمنون بأن الولايات المتحدة تسعى من أجل الهيمنة على الصين، ويعتقد ٨٦ في المائة أن حجة أمريكا بشأن حقوق الإنسان إنما تنطوي على نوايا «ماكرة خبيثة» إزاء الصين، ويمكن أن تكون هذه الأرقام مبالغًا فيها، ولكنها ليست بعيدةً عن الخط السائد في ضوء الآراء المنحرفة التي سمعناها في لقاءاتنا.
والغريب أن مناهج الأجانب والوطنيين المتطرفين على الجانبَين تجمعهما رابطة واحدة، ليس فقط من حيث النزعة النقدية بعضهم تجاه بعض، بل وأيضًا من حيث آراؤهم بشأن سياسة التجارة. مثال ذلك أن أحد مؤلفي كتاب «الصين يمكن أن تقول لا» اتخذ عنوانًا لأحد الفصول «لن أركب طائرة بوينج». ويدعو المؤلفون إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية التي انتشرت في الصين، ابتداءً من طائرات البوينج وحتى شراب الكوكاكولا. ويسعَون من أجل تخليص بلدهم من الآثار الثقافية والروابط السياسية التي تتطور حين تقيم الصين مشروعات أعمال وتجارة مع الأمريكيين. ويعترف اثنان من المؤلفين بأنه ذات يوم «استهوتهما أساليب وحياة الغرب، ولكنهما يعتقدان الآن أن على الصينيين — بل وجميع الآسيويين — أن «يقولوا لا» للأشياء الأمريكية؛ تعبيرًا عن «إحساسهم بالخسارة والاشمئزاز إزاء هذا النفوذ الغربي الطاغي».
ونجد روزنتال في مجلة «تايمز» يلتزم النهج ذاته، إلى حد كبير، ولكن من الجانب الآخر المقابل. إنه هو الآخر يؤمن بأن نقول لا لمنتجات التصدير، لمنتجات الصين التي تدخل الأسواق الأمريكية. وحري بمن يقومون بأعمال التسويق في أوقات العطلات أن ينبذوا الرفوف المليئة بلعب أطفال مصنوعة في الصين، داخل محلات التجارة الأمريكية، ويقولوها صريحة للتجار لن نشتري. ويشير روزنتال إلى حجة هاري وو، ويرى أن من العار أن تفيد الشركات الصينية من تصدير بضائع عيد الميلاد إلى السوق الأمريكية، بينما تتخذ الحكومة الصينية إجراءاتٍ صارمة في حق المسيحيين وغيرهم ممن يلتمسون الحرية في بلدهم.
وحاول زعماء كلٍّ من البلدين أن يمارسوا ضغطًا شديدًا على شروط التجارة، وأخذ كل طرف يلوح بفرض عقوبات وغير ذلك من أدوات الحرب التجارية في محاولة للاستفادة، وأن يجني ربحًا أكثر من الآخر، وسعى بعض المتطرفين في كلٍّ من البلدَين إلى اتباع سياسة مواجهة تجارية أكثر شمولًا: سياسة تفضي إلى توقف التجارة تمامًا. وعندما حشدت الصين مدفعيتها في اتجاه تايوان، وأرسل الرئيس الأمريكي حاملات الطائرات إلى المنطقة، في تلازم مع حوار مرسل عن كيف تستطيع صواريخ الصين أن تضرب لوس أنجلوس، وكيف يتعين على واشنطن أن تحتوي الصين، بدا واضحًا أن العلاقات تدهورت إلى الحضيض، وبدأت الحرب الباردة الجديدة.
بل إن احتمال حرب ساخنة لا يمكن إلغاؤه تمامًا «الصين صديق أم عدو؟» هكذا أعلن غلاف مجلة نيوزويك في ذلك الأسبوع، وأضافت إلى العنوان صورة تنذر بالشؤم لجندي صيني بملابس الحرب كاملة، يحدِّق بناظرَيه إلى الأمريكيين عبر منظاره المكبر.
(٦) اليمين واليسار
كانت «موضة» مناهضة الصين في منتصف التسعينيات مشتركةً بين الحزبَين، ذلك أن القوى على الجانبين، اليمين واليسار، وجدت من الملائم أن تكون سياسة الصين مادةً للحماس والإثارة السياسية. ويبدو من هذا كأن السياسة الأمريكية لا يمكن أن تعمل من دون المبدأ المنظم لها، وهو وجود عدوٍّ مشترك؛ ومن ثم الحاجة إلى شن حربٍ صليبية ضده.
لنتأمل العددَين الخاصَّين عن الصين من مجلة «نيو ريببليك» من اليسار الفكري، والصحيفة الأسبوعية «ذي ويكلي ستاندارد» المعبرة عن اليمين، وقد صدر العددان في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، وهو وقت وفاة دنج هسياو بنج في فبراير ١٩٩٧م. والملاحظ أن غالبية وسائل الإعلام الأمريكية رأت في رحيل دنج عن المسرح فرصةً لإعادة النظر في الإنجازات الكبرى للإصلاح الاقتصادي الصيني، الذي قاده ابتداءً من عام ١٩٧١م. هذا على الرغم من أن جميع المعلِّقين وازنوا بين قصة النمو الإعجازي هذا بمقابلها؛ إذ أعادوا إلى الذاكرة تراث دنج الملطخ بالدماء في ميدان تيان آن مين تكريسًا لرئاسته. ولكنَّ الصحيفتين «ذي نيو ريببليك» و«ويكلي ستاندارد» ظنَّتا أن قد حان الوقت المناسب لإطلاق صيحةٍ عاليةٍ تدعو إلى السلاح ضد الصين، وضد الأمريكيين من دعاة التوفيق والتهدئة.
مثال ذلك ما قالته «ذي ويكلي ستاندارد» في افتتاحيتها: «إن سياسات النظام الصيني هي الخطر الداهم … للنظام السلمي»، وصدرت عشرات المقالات المتشددة ضد الصين كمقالات رئيسية، وساهم فيها كتاب عديدون ابتداءً من جيس هلمز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وحتى ريتشارد برنشتين وروس إتش مونرو مؤلفا كتاب «الصراع القادم مع الصين»، والذي أصبح إنجيل مدرسة الخطر الصيني. ونقرأ إحدى هذه المقالات التي كتبها ميشيل ليدين من معهد المشروع الأمريكي، ونجده يؤكد فيها بحماسٍ شديدٍ أن الحرب الصليبية ضد الاستبداد الصيني هي «أداة الاختبار للسياسة الخارجية الأمريكية». ويستعيد ليدين لغة الحربَين العالميتين في القرن العشرين، ويعلن أن التصدي بصلابةٍ ضد الصين هو المحك الأخلاقي الأخير «لإرادة وحكمة الغرب». وقال: «إن الصين هي آخر النظم الدكتاتورية في القرن العشرين الذي اشتهر بحكام دكتاتوريين شريرين، وإذا أخفقنا في هذا التحدي الأخير، فسوف يحيط الشك بكل انتصاراتنا السابقة.»
وأصدرت «ذي نيو ريببليك» عددًا خاصًّا عن الصين، تضمَّن افتتاحية بعنوان «الاشتباك المدمر»، وفيها لعب على كلماتٍ انتقدت «الاشتباك البناء»، وعبر عن رفض حقبة دنج هسياو بنج باعتبارها «تحديث الاستبداد»، واستمرارًا للسياسات الشيوعية ممتزجة بالفاشية الاقتصادية، وقال الكاتب وكأنه يردِّد كلمة صدقٍ لا خلاف حولها: «الحقيقة الأهم عن الصين هي أنها تنفذ برنامجًا للعسكرة الشاملة … والمسألة فقط بضعة عقود، حتى تصبح الصين القوة العظمى العسكرية الثانية على سطح الأرض» … وما النتيجة؟ إذا كان لا بد من الاشتباك مع الصين أصلًا، «فإن الولايات المتحدة باسم قيمها ومصالحها يتعين عليها أن تشتبك مع الصين عدوانيًّا».
أو لنتأمَّل حديث نيوت جنجريتش المتحدث باسم الجمهوريين، وكذا حديث ريتشارد جيفارت زعيم الأقلية الديموقراطية: كلاهما ينتقد سياسة عصر كلينتون. وأبديا اهتمامًا باستخدام الليونة المزعومة في سياسة كلينتون في مواجهة الخطر الصيني، لتكون موضوع حملة أثناء انتخابات الكونجرس عام ١٩٩٨م، وحملة انتخابات الرئاسة عام ٢٠٠٠م.
ويتطلَّع الصقور الجمهوريون بحنانٍ إلى الماضي في الثمانينيات والنجاح العظيم الذي حققه رونالد ريجان في التزامه — دون انحراف — بالدفاع عن الحرية، وكذا شعبية حربه الصليبية ضد «إمبراطورية الشر» للاتحاد السوفييتي. ويتساءلون أين يمكن أن نجد في التسعينيات قضيةً عن الحرية على نفس المستوى؟ أين يمكن للمرء أن يجد إمبراطورية شر جديدة يملؤها الخوف؟ إن الصين هي الإجابة الواضحة.
ويتطلَّع اليسار أيضًا إلى الماضي بحنان وأفكاره في الثمانينيات. وذلك عندما ألقى ديك جيفارت خطابًا في عام ١٩٩٧م عن سياسة الصين أمام النادي الاقتصادي في ديترويت، وطرح أكثر المزاعم تطرفًا وبطلانًا؛ إذ قال إن «استرقاق العمال» الصيني هو الذي تسبَّب في القدر الأكبر من عجز ميزاننا التجاري. وصرح بأن صندوق النقد الدولي غير أخلاقي في موقفه من أسس حقوق الإنسان، وهو أيضًا خطر على العمال الأمريكيين. والملاحظ أنه في تفكيره هذا يكرر قضايا الحمائية التي استخدمها ضد اليابانيين، عندما خاض حملة انتخابات الرئاسة عام ١٩٨٨م.
ولنتأمل بعد ذلك مقولة السياسة تجمع الرفاق الغرباء، التي نادى بها المحافظون ذوو النفوذ الثقافي من أمثال جاري باوير من العاملين السابقين في إدارة ريجان. إنه يأمل في «تشكيل رابطة مشتركة مع أنصار حقوق الإنسان، ودعاة الحمائية التجارية من أهل اليسار». ويلحظ ألبرت هونت من وول ستريت جورنال، أن هؤلاء، ممن لا يحظون بتأييد المفكرين اليمينيين. ويتولى باوير إدارة مجلس بحوث الأسرة، وهو أحد مراكز الفكر اليمينية المسيحية، والذي أسرته قضايا مثل قضية الإجهاض. وتراه شديد الحماس في هجومه على سياسة الصين المتشددة في تنظيم الأسرة، بما في ذلك من حوافز وعقوبات، هدفها أن تقتصر الأسرة على طفل واحد، وأن ملايين حالات الإجهاض تُجرى سنويًّا في الصين.
والجدير ذكره أن الأمريكيين كأفراد، لهم آراء كثيرة متباينة بشأن الدلالات الدينية والأخلاقية لسياسة تنظيم الأسرة في الصين، ولكن تقييد نمو أكثر أمم العالم كثافة سكانية هو، دون شك، عمل فاضل، إذا ما أردنا تعزيز النمو الاقتصادي في الصين، وتحسين فرصها لتطبيق الديموقراطية في المجتمع، وجَعْلها أقدر على أداء دورٍ مستقر ومعتدل في العالم (ناهيك عن دعم الاستخدام الأكثر رشادًا للموارد الطبيعية). إن سياسات الصين، في هذا الصدد، تخدم مصالح الصينيين، ومصالح أمريكا كذلك، والعالم أجمع. ولكن الملاحظ في المناخ الراهن، أن نزعة التطرف الأخلاقية والأيديولوجية عند جاري باوير إنما تُعيد إلى الحياة القول المأثور القديم، عن أن السياسة تجمع بين رفاق غرباء. إن حركته، التي تنبني على عقيدة بروتستانتية، ترتبط الآن بموقف الكنيسة الكاثوليكية المناهض للصين، وموقف اتحاد العمل الأمريكي وأعضاء الكونجرس، ابتداءً من بيل باكسون من نيويورك، وحتى ديك أرمي من تكساس، وهؤلاء جميعًا يعارضون منح الصين حق الدولة الأولى بالرعاية، ويعارضون التوسع في التجارة مع الصين.
وفي مواجهة تصاعد النقد من جانب اليمين واليسار على السواء، اضطر كلينتون إلى التخلي عن خطته لالتماس منح الصين وضع الدولة الأولى بالرعاية بشكلٍ دائم عام ١٩٩٧م، وهو حلٌّ كان بإمكانه أن يخلص هذه القضية من الكثير من مشاهدها المسرحية السياسية السنوية. وقال أحد الرسميين في البيت الأبيض «إننا لم نرَ شيئًا كهذا أبدًا»، في إشارة منه إلى تحالف الجناح اليميني من الجمهوريين والجناح اليساري من الديموقراطيين، لضرب أي توافق بين كلينتون والصين. وأضاف المتحدث قائلًا: «هذا إسفين حقيقي يتركنا فقط مع الديموقراطيين المعتدلين والجمهوريين المعتدلين».
وهكذا أصبح الخوف من الصين وانتقاد الموقف «اللين» من جانب إدارة كلينتون؛ موضوعَين لحملة انتخابات الرئاسة المقبلة، وهي أيضًا موضوع لأولئك الباحثين دومًا عن عدوٍّ خارجي. ونجد أن فكرة توجيه ضربات عنيفة للصين الآن، تجمع بين كلٍّ من جيس هيلمز وتيد كنيدي، وتجمع بين بعض كبار المنتجين والنجوم في هوليوود والتحالف المسيحي، وتجمع أيضًا بين المحررين من أقصى اليمين لموضوعات «الأحداث الإنسانية» وكتاب الأعمدة الليبراليين المشهورين من أمثال أنتوني لويس وماري ماك جروي.
وشرعت منشورات الجناح اليميني، في أكثر من محاولة للتلميح بالخوف من «الخطر الأصفر»، تشير إلى زعماء بكين وتصفهم ثانية بعبارة الشيوعيين الصينيين. هذا بينما نجد رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ يقول: إنه سيعود إلى تسمية الأمة الصينية باسم الصين الحمراء. وتفضِّل وسائل إعلام الجناح اليميني مناقشة معالجة الصين لقضية التبت والمنشقين باستثارة صور الزعماء الصينيين وتقديمهم، باعتبارهم فاشيين جددًا من طراز نازي.
وإن مثل هذه الأصوات تستثير الانتباه على نطاق واسع؛ لأنه لا توجد قيادة قوية تذكر الأمريكيين بالمنافع والفرص التي توفرها العلاقات مع الصين، أو التقدم الذي أحرزته الصين في عديدٍ من القضايا الكبرى المهمة. إن إدارة كلينتون التي قضت سنوات دورتها الأولى القليلة في ترديد الحجج ذاتها، التي تجري على لسان الناقدين، لم تغير قدرًا قليلًا من توجهها إلا حديثًا جدًّا، عندما بدأ الرئيس في الحديث مؤيدًا المزيد من العلاقات الإيجابية مع الصين. وتحدَّث كلينتون بشأن زيارته للصين عام ١٩٩٨م حديثًا بليغًا عن الصين، عرض فيه تعريفًا إيجابيًّا وبناءً للمصالح الأمريكية، حين تكون العلاقات في وضع أفضل. ولكنه كان لا يزال موصومًا بفضيحته الشخصية، علاوة على الظلال المستمرة لارتباط الصين بفضائح الحملة الانتخابية عام ١٩٩٦م، وجعل هذا كله مصداقيته بشأن هذه المسألة موضع شك دائم.
(٧) شاي أم قهوة؟
التفاعل بين مجتمعينا المركبين والمتشابكين ليس أبيض دائمًا ولا أسود دائمًا. ونحن نعرف الآن، على سبيل المثال، أنه على الرغم من أن علاقتنا مع الصين كانت تتدهور هاوية إلى القاع، فإن آلة انتخاب كلينتون-جور اتجهت إلى رفع رصيدها لحملتها الانتخابية عام ١٩٩٦م عن طريق الصينيين والتايوانيين، وغيرهم من الآسيويين والأمريكيين الآسيويين المعنيين بتحسين العلاقات الأمريكية-الصينية. وحتى على الرغم من أن الإعلام الرسمي في بكين كان يندد بقوة مستخدمًا أقسى الكلمات ضد كلينتون، إلا أن المسئولين عن مصنع صيني للبيرة، وجدوا من المفيد أن يدفعوا ثمن فرصة لعقد لقاء بين المديرين التنفيذيين للشركة، وأنصار كلينتون، واستخدام الصور التي تضم المجموعة المشتركة في الإعلان والدعاية.
وأنكرت حكومة الصين تورُّطها رسميًّا في حملة التبرعات من أجل كلينتون، وأنكرت إدارة كلينتون أن سياستها إزاء الصين تأثرت بالتبرعات الكثيرة التي تلقتها. ونحن نعرف الآن أن اللجنة الوطنية الديموقراطية ألحت عليها، وتلقت مساهمات من أفراد ومن شركات لهم مصالح مهمة مع الصين في مشروعات أعمالهم، ولعل الطرفين لهما وسائلهما المحدودة والتقنية لإصدار إنكارات مستساغة فعلًا لكل ما يراه المرء حقيقة واضحة. ومع هذا، فإن فناجين شراب القهوة سيئة السمعة للبيت الأبيض، وغيرها من تقانيات زيادة الرصيد تؤلف فصلًا جديدًا وآسرًا في تاريخ العلاقات الأمريكية-الصينية.
ولنتفق معًا بداية، على أننا لا نقر خرق قوانين تمويل الحملات الانتخابية. وعلى الرغم من أننا نجد كل النظام الأمريكي لتمويل الحملات الانتخابية نظامًا فاسدًا وخطرًا، قياسًا إلى المصلحة القومية، إلا أننا نعتقد بأنه إذا نص القانون على عدم قبول تبرعات أجنبية للمساهمة في الحملات الانتخابية، إذن يكون من الخطأ أن ينتهك القانون كبار الرسميين في الحكومة. ولكن بعد أن قلنا هذا، نجد لزامًا علينا أن نقدم عديدًا من الوسائل وثيقة الصلة لتأمل فضيحة «دونورجيت»، ونتجاوز النظرة الثقافية الزائفة لهذا الموضوع.
أولًا: يعترف الأمريكيون بأنهم صُدموا … نعم صُدموا! لاحتمال أن يكون الصينيون حاولوا التأثير في عمليتنا السياسية، ولكنهم سوف يستيقظون على حقيقة أن سياستنا مع الصين زاخرة بعمليات تدخل أيضًا. إن الأمريكيين يشجعون المنشقين الصينيين، ويوفرون الملاذ الآمن للناقدين السياسيين، الذين ينتقدون نظام الحكم في بكين، ويمولون قوى المعارضة لأسباب عديدة للغاية. ويقدم الأمريكيون منحًا مالية أو يمنعونها من أجل التأثير في السياسات الصينية، في مجال تنظيم النسل والبيئة وغير ذلك من قضايا. ولا ريب في أن الجدل الدائر سنويًّا بشأن حق الدولة الأولى بالرعاية، وكل أسلوب التفكير السائد برمته، والذي يعني في التطبيق العملي «إذ قبلتم خططنا من أجل تغيير نظامكم السياسي، سوف نيسِّر لكم الدخول إلى سوقنا للتجارة.» وهذا، دون شك، تدخل واضح في السياسة الداخلية للصين.
ويمكن أن تسمى جميع هذه الجهود تشابكًا بناءً، إذا كان هذا التعبير المخفف مقبولًا، بَيْد أنها هي، في أساسها، تدخلات في العمليات السياسية الصينية، هدفها مكافأة الموالين للأفكار الأمريكية، ومعاقبة من هم دونهم. وحيث إن الصين لا تقوم على أساس نظام تعدد الأحزاب، ودورات لحملات انتخابية للوظائف القومية، فإن الأمريكيين لا يستطيعون التدخل في هذا الشكل المحدد من السياسة. بيد أن الحكومة الأمريكية استخدمت أسلحة متباينة لهذا الغرض تحديدًا، على مدى سنوات، مثال ذلك في الحملات الانتخابية، ابتداءً من أمريكا اللاتينية وحتى أوروبا واليابان.
وحيث إنه لا يوجد في الصين نظام انتخابي لكي تحاول واشنطن التلاعب به، فإنها تلجأ إلى الوسيلة الأخرى الفضلى: ذلك أن أمريكا تحاول، بالنقود وحرية دخول السوق وغير ذلك من وسائل، أن تصوغ سياسة الصين في اتجاه مُواتٍ لما يراه القائمون على هذا الجهد في واشنطن، أنه يلبي مصالحنا القومية. وتفيد التقارير أن المنح القومية من أجل الديموقراطية، والتي تمول فيدراليًّا، أنفقت في عام ١٩٩٦م ما قدره مليونا دولار على الجهود من أجل مقرطة الصين. ودرس الصحافي دافيد ماستيو هذه المسألة، واستنتج أن الأمريكيين يفعلون باستمرار الأشياء نفسها التي يتهمون الصينيين بفعلها، ولكن مع فارق واحد أساسي: «واقع الأمر أن الصينيين مقامرون رخاص الثمن حين يزجون بأنوفهم في مشروعات أعمال غيرهم، ويذهب ماستيو في تقريره أن أربعة برامج فقط ممولة فيدراليًّا، من بينها صوت أمريكا أنفقت ١٦ مليون دولار عام ١٩٩٦م، في محاولةٍ للتأثير في السياسة في واشنطن، بينما يقف الصينيون متهمين بأنهم حاولوا تقديم هبةٍ تافهةٍ تصل إلى ما بين ٣ و٤ ملايين إلى الديموقراطيين».
والشيء الجديد في فضيحة دونورجيت أن اثنين يلعبان الآن هذه اللعبة — على الرغم من أن الصينيين لا يزالون قليلي الخبرة في هذا الشأن. ولكن إزاء زهوة الانتصار الأمريكي في الحرب الباردة، وما اتسمت به بدرجة عالية من الحنق الأخلاقي، افترض الناقدون أن بإمكان الأمريكيين، وعن حق، التدخل في الشئون الصينية: نحن في نهاية الأمر نعمل من أجل الديموقراطية، ومن أجل خير الشعب الصيني، وإذا ما تدخلنا في شئونهم فهذا لأسباب فاضلة وأخلاقية، ولكنهم حين يتدخلون في شئوننا، فذلك لأسبابٍ غير أخلاقية وشريرة؛ إذ هدفهم إفساد نظامنا وتضليل قادتنا من أجل الرضا بعدوانهم.
ومهما كان رأينا في فضيحة دونورجيت، فإن الحقيقة تفيد بأننا اعتدنا عليها، ونقول هنا ما لحظه الكاتبان المستقبليان ألفن توفلر وهيدي توفلر:
«المفهوم القائل بأن التمويل الأجنبي غير ملائمٍ بالضرورة، مفهوم قائم على تصوراتٍ باليةٍ عن كلٍّ من السيادة والوطنية؛ إنه قائم على فكرة أن الدول تحظى بسيادة مطلقة، وأن الأمم منظومات مغلقة، ولكن هذا كله يتهاوى ونحن ندخل في الاقتصاد الكوكبي … لقد حان الوقت لكي نعترف بأن السياسة، شأنها شأن الاقتصاد والمعلومات، في سبيلها لأن تكون متعدية القوميات.»
والجدير ذكره، أن القائمة الطويلة من أسماء العائلات وأباطرة مشروعات الأعمال من تايلاند، وحتى تايوان هم مجموعة توصف باسم الرياضيين، وتحدد أنهم هم المانحون لحملة كلينتون. ويجسد هؤلاء قصص نجاح الرأسمالية في آسيا، ويمثلون — على الأقل — عددًا مهمًّا من بين القوى التي تريد الولايات المتحدة أن ترعاها، وتكفل لها الأمان؛ لذلك فإن من المهم أن نتبيَّن حقيقة تفكيرهم بشأن الصين، ولماذا أولًا وقبل كل شيء، كانوا معنيين بمحاولة التأثير في سياسة البيت الأبيض.
وفي عام ١٩٩٥م، وقبل عام من تفجر فضيحة دونورجيت، وكذلك قبل أن يسمع كثيرون في الولايات المتحدة عن جماعة ليبو، جلسنا مع رئيسها نائب هونج كونج المدعو جي. بي. لي لمناقشة الحالة في الصين. كانت جماعة ليبو تعمل آنذاك في الصين في مجال عدد متنوع من المشروعات العقارية ومشروعات محطات قوى: من بينها بناء مدينة صغيرة من العدم، لتصبح مدينة كاملة بكل مرافقها الصناعية والسكنية، وموقع العمل هذا في فوجيان، وهو على بعد رحلة قصيرة بالقارب من تايوان.
وعلى الرغم من أن التوترات بين واشنطن وبكين بلغت حد الأزمة بشأن تايوان، إلا أن لي بدا هادئًا مسترخيًا إزاء المسألة، وقال: «في النهاية، سيتم عقد المزيد والمزيد من العقود بين تايوان والصين. ويمكن القول من الناحية الاقتصادية، إنه لا رجعة للصين.» ثم قدَّم لي التقييم الشامل التالي:
«الصين مخاطرة كبيرة بالنسبة لنا، ولكنها مخاطرة مقبولة؛ إنها مخاطرة متوسطة المدى من أجل مكسب طويل المدى. ونحن نتوقع مقدمًا معدلات عائد ما بين ٢٥ و٣٥ في المائة في السنة على استثماراتنا في الصين. ونحن لسنا سذجًا؛ إذ إننا نعرف أن الصينيين يمكنهم أن يوصدوا الأبواب دوننا، ويوقفوا هذه المشروعات، بيد أننا لا نظن أنهم سيفعلون ذلك.
إنهم راغبون فعلًا في تطبيق سيادة القانون، ولكن هذا يحتاج إلى وقت. وإذا قدمت مشروعات الأعمال والحكومات الأجنبية إسهامات إيجابية، فإنهم سوف يساعدون الصين على التحول في اتجاه إيجابي، ولكن إذا عادوا وعاندوا الصين وعملوا على تأكيد مخاوف بكين من أن جميع الأجانب هدفهم الهيمنة على الصين، فإن هذا سيؤدي إلى رد فعل سلبي».
وكانت الرسالة من لي وكذلك من كثيرين من كبار الرأسماليين الناجحين في هونج كونج، وفي جميع أنحاء جنوب شرق آسيا، هي أنهم قلقون أشد القلق بشأن مستقبل آسيا، إذا ما ناصبت الولايات المتحدة الصين العداء، وبالغوا في عدائهم أكثر مما هم يشعرون إزاء «خطر صيني» يتهدد بلادهم ومصالحهم.
وتلقى نيوت جنجريتش، الذي كان قد نصب نفسه مدافعًا عن حريات هونج كونج في عام ١٩٩٧م، رسالة مماثلة من حلفائه، بأن يحثَّ الكونجرس على ألَّا يمد وضع الدولة الأولى بالرعاية مع الصين لأكثر من ستة أشهر بدلًا من عام كامل. وحجته في هذا أن الصين إذا حصرناها في فترة أقصر لوضع الدولة الأولى بالرعاية، سيكون لزامًا عليها أن تكون أكثر حذرًا فيما يتعلَّق بأسلوبها في معالجة عملية انتقال هونج كونج إليها. وجاءته الإجابة أن شكرًا، على لسان زعيم هونج كونج الديموقراطي مارتن لي، وكذلك من كريس باتن آخر حاكم بريطاني للجزيرة، والناقد المشهور لبكين. والملاحظ أنه على الرغم من أسباب القلق لدى كلٍّ من لي وباتن إزاء سلوك الصين، فإنهما أوضحا لجنجريتش أن حياة هونج كونج رهن وضع الدولة الأولى بالرعاية، وأن الناس من جميع الفرق السياسية تقريبًا، في هونج كونج، وفي كل أنحاء المنطقة يفضلون أن يمتد وضع الدولة الأولى بالرعاية بالنسبة للصين. وأضاف أن أفضل التوقعات المنتظرة للتعامل الحميد مع هونج كونج، وهي تحت ظل الحكم الصيني، إنما سوف تتأتى حين تكون بكين ناجحةً اقتصاديًّا، كذلك فإن أفضل التوقعات المحتملة للديموقراطية في الصين، تتمثل في نطاق تحقق سياسات ليبرالية الطابع، تتهيأ بفضل الازدهار وليس بسبب عقلية خلق المتاعب الناجمة عن الكساد بتأثيرات خارجية. وسبق أن صرح جنجريتش في لحظة صدق وإخلاص: «قد يكون ثمة تجاوز للحقيقة بالنسبة لنا، إذا قيل إن هونج كونج تفيدنا أكثر مما يعنينا شعب هونج كونج نفسه.»
ولحظ ناقد حماسة جنجريتش وغيره من أعضاء الكونجرس في عام ١٩٩٧م، ورغبتهم في استخدام وضع الدولة الأولى بالرعاية، كمنتدًى لمعاقبة الصين على سياستها بشأن هونج كونج. وشبه هذا الناقد مثل هذا السلوك بالأسلوب الذي كان متبعًا قديمًا مع فيتنام، وهو إحراق القرية بغية إنقاذها.
وطبعًا من الممكن أن يكون السياسيون الأمريكيون، الذين ينظرون إلى الصين وإلى المنطقة عن بعد، ومن منظور مستقبلي، أكثر صوابًا في رؤيتهم ممن يعيشون هناك. وأخيرًا، فإن كثيرين من كبار الرأسماليين الذين ساندوا — عن خطأ — جبهة ماو المتحدة زمن الحرب الصينية ضد اليابان، ظنوا أن مساندتهم هذه سوف تحميهم، وتوفر لهم وضعًا متميزًا في ظل النظام الثوري بعد عام ١٩٤٩م، وحذرهم عدد غير قليل من الأمريكيين من الوقوع في هذا الشرك.
ولكن، إذا كان من يعيشون على مسرح الأحداث، ومن هم أكثر دراية بالتحديات والفرص، يعتقدون أن على الولايات المتحدة أن تؤدي دورًا أكثر تعاونًا، فحري بواشنطن أن تنصت، على أقل تقدير، لأصواتهم، وطبعي أن تنصت بعقل ناقد دون شك، ولكن ينبغي أن يكون البيت الأبيض على يقين من أنه يستمع إلى هذا الجمهور العالمي؛ إذ إن هؤلاء، شئنا أم أبينا، هم على أقل تقدير بعض «حلفائنا» في آسيا.
(٨) إعادة التفكير ثم التفكير ثانية من جديد
في وقت ما، في أواخر عام ١٩٩٥م أو في مطلع عام ١٩٩٦م، وفي توافق زمني مع محاولاتٍ استهدفت القيام بحملة خاصة لجمع التبرعات من الآسيويين والأمريكيين الآسيويين، بدأت إدارة كلينتون تقلق بوضوح من أنها تسبح بعيدًا وسط دوامة علاقة مثبطة ومدمرة مع الصين. وحاولت صحيفة نيويورك تايمز خلال عطلة نهاية الأسبوع السابق على انتخابات الرئاسة عام ١٩٩٦م، أن تلخص سجل كلينتون مع الصين، وأشارت إلى أنه قبل ذلك بأربع سنوات، تعهد بأن يوقف «حكام الصين الدكتاتوريين» ويحول دونهم والاشتراك في مبيعات الصواريخ والانتشار النووي وانتهاكات حقوق الإنسان، وتعهد في الوقت ذاته بأن يفتح أسواق الصين للسلع الأمريكية، وأوضح المقال أن كلينتون وجد نفسه لا يزال يتعامل مع هذه القضايا ذاتها: «الحكام الدكتاتوريون هم أنفسهم يحكمون، والشيء الوحيد الذي تغيَّر، أنهم يبدون أقوى من ذي قبل، لأنهم أمضوا السنوات الأربع يتصدَّون لما يسمونه سياسة القوة الأمريكية وأساليب الضغط والتدخل. إن القادة الصينيين تخلَّوا، منذ زمن طويل، عن نهج السبعينيات حين كانوا تواقين لقبول أمريكا إقامة علاقة قوية، وأن ذلك لمصلحتهم معًا، ولكن ما الدرس الذي تعلمه الصينيون؟ التصلب عند التعامل مع واشنطن.»
وثمَّة تعليق لاذع آخر نشرته صحيفة «ذي نيو ريببليك»، ويلخص الموقف بأنه فشل بكل المقاييس: «تخلَّت إدارة كلينتون عن حقوق الإنسان دون أن تفتح السوق الصيني. ربما يكون بالإمكان التخلي عن حقوق الإنسان لمصلحة الأمن القومي، أو من أجل مغنم اقتصادي، ولكن إدارة كلينتون أنهَتْ دورتها والأوضاع في أسوأ حالاتها. لقد باعتها مقابل لا شيء.»
إن مستشاري كلينتون حين يقرءون هذه التعليقات وأمثالها، ربما يدركون أنهم لن يخسروا كثيرًا، إذا حاولوا اتباع منهج جديد. والشيء اليقيني أن الرئيس، وقد ظاهره انتصار حملة عام ١٩٩٦م، بدأ يتأمَّل ويعيد التفكير في تراثه التاريخي. ولعله لم يشأ أن تدمر العلاقات الأمريكية-الصينية في عهده وعلى يدَيه، أو لعل كبار رجال الأعمال الأمريكيين أقنعوه بأن مصالحهم، ومصالح أمريكا كلها، أضر بها المناخ السلبي السائد بين واشنطن وبكين.
وربما بدأ مستشارو كلينتون في الشئون الصينية يفهمون أن الصين شهدت تحولًا حقيقيًّا في مزاجها: لقد تصدى جيانج زيمين للولايات المتحدة، وتصلَّب إزاء مواقفها بالنسبة لتايوان، والتزم، حتى النهاية، مسارًا ينطوي على التحدي والروح الحربية. وأثبت، بسلوكه هذا، لجميع قادته العسكريين وجمهوره داخل البلاد أنه متشدد صلب إلى أقصى الحدود. وبعد أن فعل هذا مرة واحدة، لم تكن ثمة ضرورة للاستمرار فيه. وحيث إن وفاة دنج هسياو بنج قريبة الحدوث؛ لذلك كان جيانج في حاجةٍ إلى أكبر قدرٍ من المساندة والتأييد، وإلى أقل قدرٍ ممكن من الأزمات.
(٩) تكلم كثيرًا ثم حارب دون هوادة
وأيًّا كان التفسير، فقد بدا كلينتون مع مطلع عام ١٩٩٧م أكثر إيجابية وتفاؤلًا بشأن الصين، عما كان في أي وقت، خلال دورة رئاسته السابقة. وعكست رسالته عن حالة الاتحاد هذه النظرة الجديدة كذلك. وتحدث الرئيس، لأول مرة، بشكل جاد عن الذهاب بنفسه إلى الصين، وفي ربيع عام ١٩٩٧م، قام آل جور نائب الرئيس بزيارة إلى بكين (وإن بدت زيارة متكلفة وفاترة). وزار جيانج زيمين رئيس الصين الولايات المتحدة في الخريف.
وفجأة، دخلت القمقم «الوحوش والأشباح» الانفعالية (إذا ما استخدمنا عبارة ماو تسي تونج)، التي اعتادت أن تظهر فجأة بشأن قضية تايوان في عامَي ١٩٩٥-١٩٩٦م، ووجد الرسميون الصينيون أنه لم يعُد ضروريًّا التهليل لأي أمريكي يلتقونه، ويحدثونه عن الخط الرسمي للحزب بشأن تايوان.
وربما كانت بكين تعيد ما ورد في صحيفة من كتاب قديم لماو تسي تونج؛ إذ قال: «تراجع أولًا، ثم استجمع قواك لتعود بقوة وتقفز قفزة أطول إلى الأمام.» ولكن المسألة خبت كثيرًا حتى إنه أصبح بإمكان الزعماء الصينيين أن يبتسموا، أثناء زيارة قام بها نيوت جنجريتش في عام ١٩٩٧م. وكان جنجريتش حذرًا، خلال زيارته هذه، من أن الولايات المتحدة سوف ترد عسكريًّا، إذا ما استخدمت الصين القوة لضم تايوان.
ولعل الصينيين كانوا يبتسمون لأنهم لا يصدقونه (إذ إن غالبية الخبراء الأمريكيين لا يصدقون أن الولايات المتحدة سوف تتدخَّل عسكريًّا في مثل هذه الأزمة)، ولكن ملاحظات جنجريتش قبل عام واحد، كانت أشبه بوابل من التنديدات، ولكنها هذه المرة لم تؤخذ على محمل الجد.
وفي حديث صحافي عام ١٩٩٧م، أوضح جيانج زيمين أن تايوان تظل «القضية الأهم والأكثر حساسيةً في العلاقات الصينية-الأمريكية». وحث زيمين الولايات المتحدة أن «تتعامل» بحذر مع مسألة تايوان، وكم بدت هذه الكلمات هادئة للغاية عند مقارنتها بعبارات الذم السابقة. غير أنها أكدت مع هذا أن المشكلة المستمرة، وكما اعتاد جيانج أن يردد الحديث ليذكر بها قائلًا: «إنني على ثقة كاملة من أن تايوان، في نهاية الأمر، ستعود وتتحد مع الوطن، الوطن الأم».
وأصبح واضحًا للرئيس الأمريكي، أثناء زيارته لبكين في مارس من عام ١٩٩٨م، أن تايوان ستظل موضوع الشد والإرخاء، وأيضًا المحك، وعلى مدى سنواتٍ للعلاقات الأمريكية-الصينية. وجدد كلينتون في الولايات المتحدة العناوين الرئيسية لحواره «المرتجل» بشأن حقوق الإنسان في مؤتمر صحافي مذاع على الهواء عبر التلفزيون، عقب لقاء القمة بينه وبين الرئيس جيانج زيمين، ولكن كلينتون أثار أنباءً أهم بكثير في الصين عندما أعلن بعد عدة أيام، وبناءً على إلحاح مضيفيه، أنه هو شخصيًّا يدعم سياسة اللاءات الثلاثة في سياسة بكين إزاء تايوان: لا استقلال لتايوان، لا صين واحدة وتايوان واحدة، ولا مساندة لدخول تايوان في هيئات عالمية.
وإن قبول أمريكا لسماع مطالب الصين، بشأن تايوان، لا يعني أنها طرحت القضية وراء ظهرها، وأن الذكريات لا تزال عالقةً بالأذهان، وغير بعيد أن تشتعل الأزمة كلها من جديد مع تأشيرة دخول ثانية يحصل عليها لي تنج هوي، أو مع مبيعات الأسلحة مرة ثانية لتايوان، أو جولة ثانية يشتعل فيها حماس كابيتل هيل من أجل منح تايوان مقعدًا في الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من أن الصين تبدو الآن مستعدةً للعمل بحذرٍ أكبر مع مسألة تايوان، إلا أن الشائعات لا تزال تدور وتروج أن بكين ربما تتصرف من طرف واحد، وتحدد تاريخًا لضم تايوان، وربما يكون التاريخ بعيدًا إلى حدٍّ ما، ولنفترض عام ٢٠١٠م، تمامًا مثلما كان عام ١٩٩٧م ذاته بعيدًا بالنسبة لجزيرة هونج كونج. غير أن أي تحرك كهذا — من جانب بكين — سوف يثير عاصفةً هوجاء من ردود الأفعال الأمريكية السلبية، ويثير أزمة داخل وحول تايوان.
احتمال آخر وهو نشوب «أزمة عارضة»، حيث يفقد لي تنج هوي سلطاته بعد أن ظل رئيسًا لحزب الكومنتانج لفترة طويلة؛ وذلك بسبب فضائح الفساد والجريمة. وهنا سوف يتقدم على الساحة الحزب التقدمي الديموقراطي «الأنظف»، والمعروف أن زعماءه لديهم ميل قوي وأكثر صراحةً لاستقلال تايوان، وإذا حدث وجاء الحزب التقدمي الديموقراطي للسلطة، فإن بكين سوف تشعر بأنها مضطرة إلى العمل للحيلولة دون تحول الزخم السياسي إلى اتجاه إعلان الاستقلال.
زد على هذا، أن تايوان ليست القضية الوحيدة، التي يمكن أن تثير الأزمة التالية بين واشنطن وبكين. ذلك أنه، وإلى حين وضع وتنفيذ سياسات جديدة، وإلى حين بذل جهد جديد لصياغة مشاركة استراتيجية طويلة المدى، فإن العلاقة المشتركة يمكن أن يصيبها سعار من الغضب والاتهامات المتبادلة عند أي لحظة ولأي موضوع؛ بسبب حدث يقع في هونج كونج أو في التبت، أو بسبب حالة انشقاق في الصين، أو إفشاء أسرار عن مبيعات أسلحة صينية، أو تبرعات لحملة انتخابية. والملاحظ أن التحسينات التي طرأت خلال العام الماضي، هي عمليات تجميل وتمثيليات مسرحية في إطار العلاقة المتبادلة، وهذا قد يساعد على تصعيد النزاع والمواجهة. لكن حري ألا نخلط بينه وبين التقدم الموضوعي في اتجاه التقليل إلى أدنى حدٍّ من الأخطار طويلة المدى، التي تكتنف هذه العلاقة.
يتبع كلا الجانبَين المثال القديم المأثور عن ماو حول كيفية تناول المفاوضات: «تكلم كثيرًا ثم هجوم وحرب دون هوادة». ويبدو أن واشنطن وبكين عادتا الآن إلى مرحلة الكلام، ولكن مرحلة الحرب يمكن أن تعود بعد أن يستنفد الطرفان مزايا الكلام، بشأن جدول أعمال محدود جدًّا، لا يتضمن حلولًا طويلة الأمد للمشكلات الأساسية. وسوف تعود مرحلة الحرب سريعًا جدًّا، إذا واصلت حجة الصقور صعودها في واشنطن. ونذكر هنا التحذير الذي يطلقه بعض القوميين الصينيين الجدد، ويقولونه بصوتٍ عالي النغم: «يجب أن نتخلَّى عن أي وهم بأن العلاقات سوف تتحسن نوعيًّا، بفضل زيارات رسميين أمريكيين رفيعي المستوى … إنه لم يحدث تحول ثوري في السياسة الأمريكية الخارجية، ستظل المواجهة بين الصين وأمريكا أمرًا مُرجأً.»
يجب علينا أيضًا أن نحذر الأوهام بشأن كلمات جيانج زيمين الرقيقة، حينما يقول إنه يؤثر علاقة حسنة ومتقدمة مع الولايات المتحدة، وإن ما يذهلنا ونراه قصة مشكوكًا في صحتها، وإن كانت تنطوي على نواةٍ من الصدق، ما روته مجلة ألمانية من أن جيانج زيمين بعد عودته من جولة في أوروبا، قال لكبار القادة العسكريين في بكين: «إن مَن ينتقدني لأنني قرعت الكئوس مع قادة الغرب، عليه أن يعرف أن هذا لأسبابٍ تكتيكية فحسب … إنني واعٍ بالحقيقة، وهي أن الغرب عدونا الرئيسي.»
ويؤكِّد واحد من أكثر خبراء الصين الأكاديميين ثقافةً وعلمًا بشئون الولايات المتحدة، أنه حتى إذا تحسنت العلاقة، فإن العداوة المتأصلة تجاه الصين، قد أحدثت دمارًا بعيد المدى للمصداقية الأمريكية، وكذلك بالنسبة للمثقفين الصينيين الشباب، الذين استهوتهم المثل العليا الأمريكية. وكثيرًا ما تستدعيه القيادة لتستوضحه بعض تصرفات واشنطن، ويعتقد أن عليه أن يضيف شيئًا ما إلى رأيه الخبير، حتى يظل مسموعًا:
إنك لا تستطيع أن تقول لقادتنا إن بلدًا مثل الولايات المتحدة لا يسعى لكي يكون هو القوة العظمى. إنك تضيع وقتك حين تحاول تفسير أن سياساتهم، لا تهدف إلى الهيمنة على الصين، وإنما تنبع من تناقضاتهم السياسية المحلية. ويمكنك أن تدفع بأن الولايات المتحدة أصبحت أضعف كثيرًا من أن تهيمن بنجاح على الصين، مثل هذا الرأي يسمعونه منك، ولكنك لا تستطيع أن تقول إن الأمريكيين ليست لديهم النية للهيمنة على الصين.
لقد خدع كلينتون الشعب الصيني حين سمح بدعوة لي تنج هوي لزيارة الولايات المتحدة، وحينما ظهرت مشكلة من هذا الطراز تصبح وجهات النظر اليسارية مسموعة أكثر من سواها، وتعلو نغماتها، أما النظرة الواقعية البراجماتية فإنها تتوارى.
وثمة روايةٌ على لسان شابٍّ محنَّك من أعضاء الحركة الديموقراطية المسئولة عن أحداث ميدان تيان آن مين، والذي تحول إلى الخدمات المالية بعد عام ١٩٨٩م؛ إذ يصف هذا الشاب الموقف بعبارة أشد قسوة وصراحة حين يقول: «منذ سنوات عديدة كنا نظن — عن سذاجة منا — أن الولايات المتحدة كانت تريد مساعدة الصين بدلًا من تخريبها، ولكننا اليوم مقتنعون جميعًا بأن حكومة الولايات المتحدة تريد تدمير الصين.»
والحقيقة أنه مع شيوع الدفء في العلاقات بين بكين وواشنطن عام ١٩٩٨م، لم تعُد تسمع كثيرًا مثل هذا النوع من الغلو في الحديث، ولكن في حالات التوتر سوف يعود من جديد … ولن يكون مقصورًا على القادة وحدهم، بل وسوف يشيع بين كثيرين من الشباب المتعلم والمثقفين والتكنوقراطيين ومنظمي المشروعات ممن يعتمد عليهم كثيرًا مستقبل الصين. ونجد الصورة المناظرة لهذه الظاهرة شائعة بين الأمريكيين خاصة الشباب الذين اعتادوا المشاركة في الحملات التي تطالب بحرية التبت، ويملئون صالات العرض بالموجة الجديدة من أفلام هوليوود، التي تنتقد الصين.
(١٠) السياق حاسم … والسياق هو التقدم
غابت عن الأنظار في التحول الأمريكي الراهن من الحديث عن انتعاش الصين إلى خطر الصين، الإنجازات الحقيقية والمذهلة والمستدامة التي حققتها الصين خلال العقدَين الأخيرَين. لم يعُد أحدٌ يكرر على مسامعنا — دون توقُّف — كيف نجحت الصين (وسوف نقنع بذكر بعض الإنجازات فقط):
-
أخرجت قرابة ربع سكان العالم من الفقر والتخلف، وضاعفت إجمالي المنتج الاقتصادي بأسرع مما حدث في أي اقتصاد كبير في التاريخ.
-
خلقت سريعًا طبقة وسطى يعتد بها يبلغ إجمالي عددها عدد سكان أمريكا، وارتفعت دخولها الحقيقية بسرعة تعادل عشرة أمثال سرعة ارتفاع الدخول الأمريكية الحقيقية في التسعينيات.
-
ألغت الملكية الجماعية (الكوميونات)، والتي تمثل واحدةً من أكثر النظم الاقتصادية المعتمدة على التخطيط المركزي في التاريخ، وحولت جزءًا كبيرًا من النشاط الاقتصادي نحو آليات السوق، بينما رحبت بالمشروعات الأجنبية لتحتل مركز القلب من الاقتصاد الصيني.
-
الحفاظ على المشروعات المملوكة للدولة التي تتسم بالعجز وربما تصل إلى حد الإفلاس، وأبقت عليها للحيلولة دون أي اضطراب اجتماعي ناجم عن أسلوب «العلاج بالصدمات». وبدأت في تحويل مركز النشاط الاقتصادي تدريجيًّا إلى اتجاه القطاعين الخاص وشبه الخاص، والذي يشغل الآن نصف المنتج الاقتصادي الصيني.
-
ابتدعت أدوات تآزر كافية لسياسات اقتصادية كلية (ماكرو) حتى تتمكن من ترويض التضخم المنفلت (الذي ظن أكثر خبراء الاقتصاد الأجانب أن لا سبيل إلى ترويضه)، وأسست نظامًا فعالًا للصيرفة المركزية، وأسواقًا سلعية وتمويلية حديثة النشأة، وسوقًا عقارية حقيقية، ووصلت بالعملة إلى حد قابلية التحويل الدولية الكاملة.
-
طورت نظامًا شاملًا للانتخابات الحرة التنافسية؛ لشغل آلاف المناصب المحلية، ويتحول هذا تدريجيًّا الآن من مستوى القرية إلى المدينة. وتعمل على توسيع السلطة التشريعية ونوعية الحوار داخل مؤتمر الشعب الوطني، وتستصدر القوانين للحكم في عشرات القضايا التجارية والمدنية الرئيسية، التي كانت تشملها في السابق قوانين غير مكتوبة.
-
تسمح بالتوسع الكبير في وسائل الإعلام، وتوفر قدرًا أكبر من حرية التعبير والحصول على المعلومات (فيما يخص آلاف الموضوعات، إذا لم تكن أيضًا موضوعات لا تزال ذات حساسية سياسية)، وهو ما لم يحدث في تاريخ الصين. وتعمل على زيادة الخيار الاستهلاكي والحراك لقوة العمل، كما تسمح بقدر كبير من الحريات الدينية والشخصية، وحريات في اختيار أسلوب الحياة.
-
تم الانتقال إلى مرحلة ما بعد دنج هيساو بنج دون عمليات تطهير أو أعمال عنف، مما جعل هذا الانتقال هو أول تغيير يتم بسلاسة في تاريخ الصين على مدى القرن العشرين.
ويبدو أن أصحاب أعلى الأصوات صراخًا عن الخطر الصيني ليسوا على وعي حقيقي بهذه التحولات الإيجابية الهائلة، وربما غير معنيين بمعرفتها، على الرغم من أنها أحداث هزَّت المجتمع الصيني خلال العقدَين الأخيرَين. بَيْد أنه ليس بالإمكان فَهْم المؤشرات السالبة والخطرة، ولأي شيء هي كذلك، إلا في السياق الذي يكشف لنا حجم الإنجازات. إن هذه المؤشرات إن كانت مثيرة للقلق، إلا أنها جزء صغير من مجموع البنية الفسيفسائية للواقع الصيني خلال التسعينيات، وهي ليست — بأي حال من الأحوال — الجزء المهم الذي يحدد طبيعة المسار.
إنه على الرغم من النزعة المناهضة لأمريكا وكراهية الأجانب، والنزعة القومية الشعبية والغطرسة تجاه تايوان، نلحظ أيضًا تقدمًا مطَّردًا على طريق القيود والموازنات، وسيادة القانون والحوار الحقيقي داخل أوساط القيادة، وتنامي جماعات المصالح المتنافسة. وفي رأينا أن هذه العوامل الأصيلة سوف يكون لها دورها المؤثر والمهم في المدى البعيد، من أجل كبح جماح استخدام الصين للقوة دون اعتبار لمدى المسئولية. وسوف يكون هذا التطور أهم من أي شبكات مصالح ماكيافيللية يمكن أن ينسجها معسكر التعاون، أو تصنعها أي ضغوط من جانب الصقور التي تدفع إلى المواجهة.