التنافس والتعاون مع القوة العظمى الاقتصادية العالمية الجديدة
يبدو كأن المعضلات السياسية لم تكن ذات شأنٍ وخطر بما يكفي، فإذا التحدي الاقتصادي الناجم عن ظهور الصين يفضي إلى تداعيات أكبر تأثيرًا في مستقبل أمريكا. وإذا تغلبت واشنطن وبكين على المرحلة السالبة الراهنة لعلاقتهما السياسية؛ فسوف يتحقق هذا في عالم يدرك أثر الصين الاقتصادي، الذي بات قويًّا؛ لأنه ينمو ويتزايد كل أسبوع وكل شهر.
إن ظهور الصين، كقوة عظمى في القرن الواحد والعشرين، ستكون له ملابسات فائقة وواسعة النطاق على مشروعات الأعمال والمال والتكنولوجيا، وكذلك على البيئة الثقافية والاجتماعية، التي هي مجال النشاط والتأثير. إن «اختلاف الصين» سوف نشعر به واضحًا في حياتنا اليومية، ابتداءً من أداء أسواق الأوراق المالية، إلى نوعية الهواء الذي نتنسمه، حتى نمو الوظائف وزيادة الأجور في الصناعات الأمريكية. ولقد بات هذا واضحًا بالفعل الآن، مثال ذلك، أنه إذا ما قدر للصينيين أن يثروا بما فيه الكفاية، لكي يمتلكوا السيارات الخاصة بهم على نحو ما هو حادث في أمريكا، فإن استهلاكهم لوقود السيارات، سوف يستنزف، سريعًا، القدر الأكبر من احتياجات النفط المعروفة، بينما سوف يختنق العالم بالتلوث. وإذا ما تهيأت الفرصة للصينيين، للحصول على الطعام الكافي؛ من حيث نصيب الفرد من اللحوم، مثلهم مثل الأمريكيين، فربما يحدث عجز في المراعي اللازمة على كوكب الأرض؛ لتلبية حاجات البشر. وإذا أكل كل صيني من السمك قدر ما يأكله الياباني، فإن الصين سوف تستهلك ما يعادل، من حيث الحجم، إجمالي الصيد من الأسماك على نطاق الكوكب. ويستطيع المرء أن يمضي أكثر وأكثر، في عرض أمثلة للطرق غير المسبوقة، التي ستؤثر بها الصين في بقية البشر في العالم.
بيد أننا لسنا مع أولئك الذين يَرَون الصين ضخمة اليوم أكثر من اللازم، وأن مستقبلها سوف يهز العالم، وأن النجاح الكامل أو الفشل الكامل للعولمة الاقتصادية معلق بطبيعة تطورها. إن هناك مَن يدفعون بأن الصين هي قضية عصرنا، وأن كل شيء رهن الموقف الأمريكي من حيث الصواب أو الخطأ: هذه ليست نظرتنا. وثمة قضايا أخرى، سوف تكون لها أهمية حاسمة، ابتداءً من ثورة الإلكترونيات الرقمية، وحتى بلوغ المجتمع كامل النضج، ولكن إذا تأملنا نظرة مستقبلية واقعية غير رومانسية عن حجم ونطاق فرص تطور الصين، فسوف يتبين لنا أنها ستكون واحدة من أهم الأسواق، وقوة رئيسية في مجال المنافسة العالمية مع الشركات الأمريكية، علاوة على هذا، فإن نمو الصين مع الوقت لتصبح الاقتصاد الأكبر في العالم لدولة — أمة واحدة، سوف يؤثر يقينًا تأثيرًا عميقًا في بقية العالم، ويحدد بعض المعالم الرئيسية للاقتصاد الكوكبي في القرن الواحد والعشرين.
ولنطرح جانبًا الحجج الأيديولوجية، التي تصنع ثورات عاصفة، تتحدث عن حقوق الإنسان والميزانيات العسكرية والصواريخ، ولنوجه أنظارنا، بدلًا من ذلك، إلى ما نظن أنه سوف يمثل أعظم تأثير للصين في الولايات المتحدة: التحديات الاقتصادية والفرص المتاحة، أو لنقُل بعبارةٍ أخرى، الفرص والتحديات الاقتصادية السياسية، ذلك لأننا حين نتعامل مع الصين، لا يمكننا أن نفصل الاقتصاد عن القضايا السياسية. ونعرض فيما يلي تسعة تعليقاتٍ على موضوعات متباينة من اللغز الاقتصادي السياسي الصيني: التحديات والفرص على السواء:
(١) صعود الصين من الشارع العام إلى حي المال «وول ستريت»
على الرغم من أن إجمالي الناتج الاقتصادي للصين اليوم، لا يزال متواضعًا جدًّا — يناهز بريطانيا وحوالَي ضعف حجم كوريا في العام ١٩٩٦م — إلا أنها بدأت تكشف عن تأثير يقارب تأثير القوة العظمى، وتجاوزت اليابان في عام ١٩٩٦م؛ لتصبح هي أكبر منتج للصلب الخام في العالم. ومن المحتمل أن يتكرر هذا النمط مع المنتجات الصناعية، الواحد بعد الآخر، خلال الأعوام القادمة.
-
أصبح العجز التجاري للولايات المتحدة مع الصين، مسألة اقتصادية وسياسية بالغة الضخامة. وتنبأ المحللون بأن العجز التجاري الشهري للولايات المتحدة مع الصين، ربما يتجاوز العجز التجاري للولايات المتحدة مع اليابان قرب نهاية العقد، ولكن هذا الحدث الفاصل وقع لأول مرة في يوليو ١٩٩٦م، ومنذ ذلك التاريخ، أضحت الصين، أكثر فأكثر، هي المشكلة التجارية الأولى التي تواجه أمريكا. ولحظت صحيفة واشنطن بوست، في دراسة تحليلية لها عن المهام الملقاة على عاتق إدارة كلينتون حتى عام ٢٠٠٠م، أن «القضية الآن هي اقتصاد الصين، يا غبي». وربما لا تكون المحاذير في التعامل مع الصين درامية، مثلما هي مع اليابان بشأن السيارات، ولكن الصحيفة تقول: إنها مهمة «يخشى الخبراء التجاريون من أن يصبح نظام التجارة الحرة العالمي خاضعًا، أكثر فأكثر، لضغط شديد، إذا ما استمر أحد كبار الأطراف المشاركين في اللعب بهذه القواعد المختلفة تمام الاختلاف.»
-
إن كميات كبيرة جدًّا من الصناعة كثيفة العمالة انتقلت كاملة بالفعل إلى الصين: لعب الأطفال والمنسوجات واللدائن والإلكترونيات الاستهلاكية والعدد اليدوية، وغير ذلك من أدوات مصنعة رخيصة الثمن. ويعرف كل تاجرٍ مختص بسلع الأعياد، أن لعب الأطفال المصنوعة في الصين أكثر من أي كميات مصنوعة في أي بلد آخر، حتى بات اسم الصين شائعًا على لسان كل مَن يستخدم هذه اللعب.
-
قوة الصين الصناعية المتنامية، ليست مقصورة على السلع رخيصة الثمن، والصناعات منخفضة التقنية؛ إذ أصبحت الصين، الآن، بفضل مجموعة من الخصائص الثقافية والنظام التعليمي، قادرة على تخريج علماء ومهندسين على مستوًى عالمي، في مجالات الفيزياء والإلكترونيات وعلوم الكمبيوتر والبيوتكنولوجي «التكنولوجيا الحيوية»، وغير ذلك كثير من المجالات الرائدة للعلوم الأخرى. وتفيد جماعة البيانات الدولية، وهي مؤسسة أبحاث، أن أكثر من نصف المبيعات في الصين، هي الآن سلع محلية الصنع.
وفي عام ١٩٩٥م لحظ أندي جروف، عضو مجلس إدارة شركة إنتل Intel، أكثر الشركات نجاحًا في مجال المشغلات أو المعالجات الدقيقة microprocessors أنه اعتقد أن المنافسة العظمى على مدى عشر سنوات، لن يكون مصدرها شركات أمريكية أخرى، ولا اليابان ولا كوريا أو الهند، بل الصين. وسُئل بعد عام واحد، هل لا يزال ثابتًا على نبوءته، أجاب: «نعم … ولكن ربما تبدأ المنافسة بعد ثماني سنوات.»إن لدى الصين الآن ما لا يقلُّ عن ٣٥٠ ألف مهندس في تكنولوجيا المعلومات، يحصل كلٌّ منهم على ١٠٥ دولارات شهريًّا في المتوسط، هذا بينما يكسب المهندس الأمريكي أكثر من ذلك بحوالَي واحد وعشرين مثلًا، مما يضطر الشركات الأجنبية إلى إنجاز حتى أكثر الأعمال تعقيدًا ومهارة في الصين.
-
ديناميات النمو قوية جدًّا في الصين؛ بحيث إن عددًا قليلًا من الشركات الأمريكية تدرك بالفعل الأثر الإيجابي المباشر لعملياتها في الصين في الطاقم التنفيذي القاعدي لها. إن شركة جنرال إليكتريك تكاد تحقق هدفها، بالوصول إلى بليون دولار في السنة، من مشروعاتها في الصين، بحلول العام ٢٠٠٠م. كذلك شركة تأمين إيه. آي. جي AIG لديها أكثر من ٥ آلاف بائع في شنغهاي لبيع شهادات تأمين على الحياة بنظام من الباب إلى الباب، وهذه نسبة لم تشهدها الصين أبدًا بعد عام ١٩٤٩م.
وتبلغ الآن مبيعات شركة موتورولا في الصين حوالي ١٢ في المائة من إجمالي دخل الشركة، على نطاق العالم. لقد أصبحت الصين أكبر سوق عالمية للمرقمات الهاتفية، وتجاوزت القاعدة المقامة في الولايات المتحدة، على مدى العامَين الأخيرَين. وتعتبر شركة موتورولا أفضل بائع لهذه الأجهزة في الصين.
واستهلت شركة أفون مشروعاتها في الصين في عام ١٩٩٠م، وبدأت بسلع تكفي ستة أشهر لم تستمر أكثر من ثلاثة أسابيع. وبحلول العام ١٩٩٦م، كان عدد السيدات اللاتي يعملن لحساب شركة أفون، في الصين، أكثر من أي عدد في أي بلد في العالم. وعندما تلقت شركة أفون في عام ١٩٩٨م هي وشركة أماي Amay وغيرها من الشركات المنافسة، ضربة قوية نتيجة فرض حظر مدمر على البيع المباشر، بزعم الحيلولة دون غش واستغلال المستهلكين، وجدت الشركة وسيلة للالتفاف حول قرار الحظر؛ إذ بدأت بإقامة منافذ للبيع بالتجزئة، وحولت «السيدات» — العاملات كلًّا على حدة — إلى نظام عمل الفريق الممثل للشركة، وواصلت الشركة عملها بكامل قوتها.والملاحظ أن الضغوط الانكماشية الأخيرة على آسيا، وتباطؤ منحنيات النمو في الصين، ربما يؤثر سلبًا في بعض هذه الأرقام الوهاجة، ولكن الشركات الأجنبية التي كانت لها الريادة في الدخول إلى الصين، ترى بوجه عام النمو البطيء ليس سوى مظهر جديد من مظاهر التعقد في مشروعات الأعمال، وليست سببًا للخروج من السوق.
-
جمعت الصين ما يزيد على ١٠٠ بليون دولار من العملات الأجنبية؛ ليكون احتياطيًّا لها، مما جعلها إحدى دولتَين أو ثلاث دول تملك أكبر احتياطي من العملات الأجنبية. وأكثر من هذا، أن أسواق ديون الخزانة الأمريكية، التي تمول منها واشنطن عجزها المالي، بدأت تكتسب نكهة صينية. والجدير ذكره أن الصينيين، وحتى مطلع التسعينيات، لم يكونوا طرفًا في هذا المضمار، ولكن بعد عام ١٩٩٥م تزايد اهتمامهم سريعًا. ولا تزال اليابان أهم مشترٍ لدين الحكومة الأمريكية، ولكن الصين تصعد سريعًا جدًّا: ففي النصف الأول من عام ١٩٩٦م كمثال، اشترى الصينيون بما قيمته ١١٫٨ بليون دولار من دين الخزانة الأمريكية، وأصبحت الصين بذلك ثالث أهم عميل للعم سام. وفي هذا قال أحد تجار سندات الخزانة في نيويورك «إن لديهم، يقينًا، القدرة على تحريك السوق».
ووضع دوايت بيكنز، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، مسألة شراء الصين لدين واشنطن في سياق الاقتصاد الكلي (الماكرو)، ولحظ «أن الولايات المتحدة لا تدخر ما يكفي، وأن الصين هي التي تتولى عملية الادخار نيابة عنها»، وتساعد أمريكا من أجل الحفاظ على مستويات الاستثمار فيها تمامًا، مثلما فعلت اليابان وأمم أخرى، خلال السنوات الخمس عشرة الماضية (ومن الطبيعي أن تأثير اليابان في سوق الخزانة أثار قضايا سياسية رئيسية، وهذه مسألة يمكن أن تتكرر مع الصين في المستقبل).
-
الأحداث في الصين تؤثر، في الغالب، في أسواق السلع الأمريكية صعودًا وهبوطًا. مثال ذلك، أن الصادرات الزراعية الأمريكية أفادت من هذا التغيير المفاجئ في أنماط التجارة في الصين عام ١٩٩٥م، وذلك عندما زاد، لأول مرة، حجم الذرة التي تستوردها الصين، خلال خمس سنوات عن وارداتها من القمح بنسبة ٢٥٠ في المائة، كما تضاعف حجم الواردات من القطن إلى أربعة أمثال، وتأتي الغالبية العظمى من هذه الواردات من الولايات المتحدة، وليس الأمر مقصورًا على هذه السلع فقط، بل شمل أيضًا الذهب والنفط والسكر؛ إذ تأثرت بشدة بالإنتاج في الصين وبأنماط التجارة فيها.
كذلك، فإن التطورات في الصين، يمكن أن يكون لها أثر كبير في أسعار الأسهم الأمريكية، فقد انخفض سعر السهم في سوق أسهم وول ستريت بما يساوي ١٫٧٥ دولار في سوق صاعدة، وذلك عندما ربط تقرير إخباري زعم أن شركة صينية وضعت علامة تجارية مغايرة للتحايل على نظام الحصص المستوردة للولايات المتحدة. وفي يوم آخر للصعود التاريخي في عام ١٩٩٧م، انخفض سعر سهم موتورولا ١١ بالمائة، عندما أعلنت الشركة أن مبيعاتها من المرقمات الهاتفية، تواجه انكماشًا تجاريًّا موسميًّا يزيد على المألوف.»
والحلقة التي تربط بين أسهم هونج كونج وثروات المستثمرين الأمريكيين هي قصة متشعبة؛ ذلك أن حفز الجهود لتسجيل أعلى الأسعار وقت تسلم الصين سلطة هونج كونج، في صيف عام ١٩٩٧م، أدى إلى امتلاء محافظ الأوراق المالية لكثيرٍ من المستثمرين الأمريكيين في اتحاد شركات استثمار الوحدات، ثم حدث انهيار اقتصادي في سوق هونج كونج، اكتسح قدرًا وافرًا من تلك الأرباح، خلال بضعة شهور بعد ذلك. وجمد المستثمرون الأمريكيون أمام شركة الإنترنت لعدة أيام في خريف عام ١٩٩٧م؛ لمتابعة حركتَي الصعود والهبوط في مواقع الاستثمار في هونج كونج. وتلقى الناس درسًا من واقع الحياة يؤكد التداخل المشترك والمعقد بين الاقتصادات الآسيوية والأمريكية.
-
أخذت سوق الصين المزدهرة تعجُّ بشركات الكمبيوتر الأمريكية لتسويق أجهزة الكمبيوتر الشخصية: نذكر من بينها شركات آي بي إم، وكومباك، وأبل وغيرها من كبار المتعاملين في الأسواق. وعلى الرغم من أن شركة مايكروسوفت لم تكفَّ عن الاهتمام بتقليد برمجياتها بطريقةٍ غير مشروعة، استطاعت شركة بيل جيتس أن تصل إلى اتفاقات على أعلى مستوًى مع الرسميين الصينيين (ومن بينهم الرئيس جيانج زيمين) بشأن هذا الموضوع، وأعلنت الصين منذ ذلك الحين أنها ستنتج وفقًا للمعايير التي حددتها شركة مايكروسوفت في إنتاجها ويندوز ٩٥. وقال بريان نيلسون رئيس شعبة مايكروسوفت في الصين: «نحن نتطلَّع إلى نسبة نموٍّ تصل إلى مائة في المائة مستقبلًا.»
-
الصين لها تأثير عميق في الاقتصاد المحلي في أنحاء كثيرة داخل الولايات المتحدة. ففي كانساس، عقدت ١٢٠ شركة حلفًا مشتركًا بهدف تذكير واشنطن بالمصالح الحيوية للدولة في التصدير إلى الصين، وفي كاليفورنيا انعقد حلف مماثل ضم ٣٥٠ عضوًا، ونجد — على المستوى القومي — أكثر من ألف مشروع من مشروعات الأعمال، يساند تحالف رجال الأعمال من أجل التجارة الأمريكية-الصينية. وهناك شركة «يونايتد تكنولوجي» وهي من أهم أصحاب الأعمال في كونكتيكت، وتحظى بعوائد تصل إلى ٧٥٠ مليون دولار من مشروعاتها مع الصين. وتنشئ هذه الشركة مراكز للتأثير في أعضاء الكونجرس عن كونكتيكت؛ لدعم صندوق النقد الدولي، وهناك شركة جنرال موتورز التي تملك خمسة عشر مشروعًا في الصين، وأكثر من ذلك في خط الأنابيب، واضطلعت بمسئولية إقناع ممثلي متشيجان بأهمية الحفاظ على الروابط التجارية مع الصين.
-
وأكثر من هذا، أن بعض الشرائح التقليدية للغاية، من أمريكا، تأثرت بالتجارة مع الصين، مثال ذلك أن مشروعات مطاعم نيو أورليانز أصبحت مسرحًا لمعركة ضارية بين سمك الأربيان المحلي، والواردات الصينية منه: ذلك أن سمك الأربيان الصيني يُباع بسعر ٣٫٥ دولارات للرطل، بينما سعر المحلي ٨ دولارات. وطالب الصيادون في لويزيانا من وزارة التجارة الأمريكية فرض تعريفة جمركية حمائية لضمان مشروعاتهم وأسلوبهم في الحياة، ولكن شركات الاستيراد الأمريكية، التي تدفع لعمالها الصينيين ما يعادل ١٥ سنتًا عن الساعة، تؤكد أن المستهلكين الأمريكيين هم الأكثر استفادةً من هذه الصفقات، وهو صحيح لا ريب، وزادت مبيعات سمك الأربيان الصيني ثلاثة أضعاف حجم الصيد المحلي منه. وهنا قررت لجنة التجارة الدولية في الولايات المتحدة، أن تتدخَّل في عام ١٩٩٧م بفرض تدابير للحد من استيراد المنتج الصيني.
وهكذا يبدو واضحًا، أن رجال الأعمال الأمريكيين، وصناع القرار والمواطنين العاديين، يدركون جميعًا أن ثمة شيئًا تاريخيًّا ومهمًّا يجري على الجانب الآخر من العالم، وأن هذا الشيء يؤثر، بطريقة متزايدة، في حياتنا كلها صغيرها وكبيرها.
(٢) هل يسرق الصينيون الوظائف الأمريكية؟
في مطلع التسعينيات تنبَّأ ليستر ثورو حكيم الرأسمالية الحديثة، أن الصين سيكون لها أثر مهم للغاية في الأجور ومستويات المعيشة وأساليب الحياة في نسبةٍ مئويةٍ كبيرة من العمال الأمريكيين، خاصة أولئك الذين لم يحصلوا على نصيب من التعليم في المعاهد أو مهارات فنية متخصصة:
لنتأمَّل معًا ما يلي: عدة مئات من الملايين من العمال الصينيين انضموا إلى القوى العاملة العالمية. إنهم راغبون في العمل بأقل من ١٠٠ دولار في الشهر، وحصلوا على تعليم يعادل، ربما، أفضل من العامل المتوسط في الصناعة التحويلية الأمريكية، وهم أكثر انضباطًا وأكثر حماسة، لديهم رغبة في العمل ساعات أطول في ظروف أكثر صعوبة.
إذا وضعنا هذا الاعتبار عند النظر إلى المنافسة، كيف يمكن لأي امرئ في الولايات المتحدة أن يصنِّع أي شيء؛ ليكون ذا فعالية من حيث التكلفة والربح؟ الإجابة أنه لن يفعل؛ ومن ثم يكون لزامًا عليه أن يخسر عديدًا من الوظائف لحساب الصين، وللأسواق الأخرى البازغة، أو أن تنخفض الأجور الأمريكية رغمًا عنها.
والملاحظ أن بعض مظاهر نبوءة ثورو المتشائمة قد تحققت فعلًا، فإن الأمل في أن تصبح الصين سوقًا رائجة كبيرة للصادرات الأمريكية آخذٌ في التصاعد بفضل الحقيقة التجارية. ويرغب الصينيون في استيراد ما يحتاجون إليه، على عكس الحال بالنسبة لليابانيين والكوريين وقتما كانوا عند مستوًى مماثل من التطور. ولكن سياسة بكين الاقتصادية لا تزال ترتكز على انحيازٍ قويٍّ ضد الاستيراد؛ إذ الملاحظ أن الصينيين، مثلهم مثل اليابانيين في الستينيات والسبعينيات، يفضلون بقوة الإنتاج المحلي الذي تقوم به شركات أجنبية؛ فالإنتاج المحلي يحقق وظائف وينقل تكنولوجيا ويعلم مهارات. وحيث إن الحكومة لا تزال تسيطر على السوق والوصول إليها، فإن بإمكانها أن توجِّه الشركات الأجنبية لنقل بعض تكنولوجياتها الأكثر تقدمًا. ويعتقد أغلب المديرين العاملين في الشركات الأجنبية في الصين اليوم أن لا بد أن يصنعوا منتجاتهم محليًّا لتحقيق أقصى قدرٍ من الربح.
وتستشعر بعض الشركات الأمريكية قلقًا، لاحتمال أن يرتفع كثيرًا حافز نقل التكنولوجيا. مثال ذلك، أن روبرت إيتون، رئيس مجلس إدارة شركة كريزلر للسيارات يستعيد خسارة «فرصة» لإقامة مشروعٍ مشتركٍ برأسمال بليون دولار، لإقامة مصنع لإنتاج شاحنة صغيرة، صارعت من أجله كريزلر لعدة سنوات، وتحدَّث عما كان يمكن أن يحدث لو أن كريزلر «كسبت»: «طلبوا منا أن نقيم المصنع ليكون منافسًا على مستوًى عالمي بشركة كريزلر، وأن ندفع الثمن أيضًا.»
وعلى الرغم من خطر المنافسة، الذي تشكله الصين كمركز تصنيعي منخفض الأجور، يعترف جميع الاقتصاديين بالمنافع المهمة الناجمة عن العلاقة التجارية الأمريكية-الصينية. إن عمليات التصنيع لن تنتقل جميعها إلى الصين، على الرغم من جاذبية الأجور المنخفضة. ولقد حظيَت الصناعة الأمريكية ببعث جديد خلال السنوات الأخيرة، بعد أن اتجهت الشركات وجهة صحيحة، وعنيت بالجودة واستحدثت كل الوسائل الممكنة، لاستخدام منظومات المعلومات، لكي تكتسب عملية التصنيع كفاءة وقيمة. إن انخفاض أجور العمالة في الصين لا يهدد القطاع الأكبر من الصناعة الأمريكية، ما دام الجانب الأمريكي يواظب على الترقي صاعدًا سلم المهارة والإنتاجية والمعرفة. على نحو ما حدث في السنوات الأخيرة.
على أي حال، فإن بعض القلق على الأقل بشأن تزايد العجز التجاري الأمريكي مع الصين، جاء في غير موضعه. ويمكن القول، بدرجة كبيرة من الصواب، إن زيادة العجز تعكس حالة سلعة ربما اشتراها أمريكيون من هونج كونج أو تايوان أو كوريا، وهي السلع ذاتها التي يشترونها الآن من الصين. وإن الجانب الخاص من العجز التجاري، الناجم عن استيراد أحذية ومنسوجات ولعب أطفال ولدائن، وعُدد يدوية وتحف فنية وإلكترونيات استهلاكية، إنما يتضمَّن عددًا قليلًا جدًّا من الوظائف التي تخسرها أمريكا. والمعروف أن هذه الصناعات انتقلت، منذ زمن طويل، إلى مراكز العمالة منخفضة التكاليف في آسيا وأمريكا اللاتينية. إن الصين سوف تلتهم الوظائف، ولكنها في الأساس وظائف في بلدان آسيوية، حيث الأيدي العاملة فيها أكثر كلفة، ولن تلتهمها من الولايات المتحدة. ويقول نيقولا لاردي خبير الشئون الصينية في مؤسسة بروكنجنز: «إن عدد الوظائف التي خسرتها الولايات المتحدة مقابل الصادرات الصينية يقارب الصفر» (أحد أسباب ذلك نزوع تجارة الصين إلى خلق المزيد من الوظائف الجديدة الكثيرة، حتى وإن كانت تهدد أو تلغي وظائف قديمة).
ولعل الأهم، أن فائدة تجارة الصين هي أثر السلع الرخيصة المستوردة من الصين في مستويات المعيشة الأمريكية؛ إذ على الرغم من قوة اقتصاد الولايات المتحدة خلال التسعينيات، فإن الدخل الحقيقي للعائلة الأمريكية المتوسطة يكاد لم يتحسن؛ ومن ثم، فإن توافر واردات صينية رخيصة، بداية من الأحذية وحتى الأقراص المدمجة، من شأنه أن يحقِّق فارقًا مهمًّا في حجم مشتريات الأسرة. ويمكن القول إن إجمالي الزيادة في متوسط الاستهلاك الأمريكي خلال هذا العقد، إنما يرجع إلى الفارق بين أسعار المنتجات المصنعة في الصين وأسعار هذه المنتجات ذاتها، لو أنها مستوردة من أسواق أخرى. وكما أشار عددٌ كبيرٌ من الاقتصاديين وخبراء السياسة، فإن أول أثر سلبي للعقوبات التي تفرضها واشنطن على الصين سيكون ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلكين الأمريكيين.
(٣) الصفقة العالمية الكبرى الرابحة
تمثِّل السوق الصينية بالنسبة لعديدٍ من الصناعات المهمة حجمًا هائلًا من إجمالي النمو مستقبلًا، بحيث إن الشركات الراغبة في الحفاظ على طاقتها التنافسية العالمية مضطرة، بالضرورة، إلى التنافس من أجل دخول هذه السوق. إن الصين سوقٌ غاية في الأهمية والحساسية بالنسبة لشركة وستنجهاوس، حتى إن مجلة «بزينس ويك» أعلنت بأنها ستكون «مفتاح البقاء» للمنافع الجانبية المتوقعة للمجموعة الصناعية للشركة، والتي تقدَّر قيمتها ٣٫٢ بلايين دولار.
إن وستنجهاوس يمكنها أن تجتهد، لتكسب موئلًا للقرن الواحد والعشرين. ومن دون ذلك ستلتهم الشركات العملاقة المنافسة لها ما تبقَّى من إمبراطورية جورج وستنجهاوس القديمة.
وتعرف جيدًا الشركات التي تنشئ محطات قوًى وسدودًا ومطارات، أن الصين يمكنها أن تنجز مشروعات بنية أساسية على المستوى الدولي بقيمة تريليون دولار، خلال السنوات الخمس عشرة القادمة. وتريد الصين طاقة توليد كهربائية جديدة لقوة ١٦ ألف ميجاوات كل عام من نهاية عام ٢٠٠٠م، وسوف يستلزم هذا المشروع رأسمالًا أجنبيًّا لا يقلُّ عن ٢٠ مليون دولار، ووقع أكثر من ستة اتفاقات لمشروعات قوًى خاصة مع مستثمرين أجانب خلال عام ١٩٩٦م، حتى بعد أن خضع المستثمرون السابقون لقيود صارمة، فرضتها الصين على عوائدهم.
وضمَّت مدينة شنغهاي في عام ١٩٩٦م حوالي ألفَيْ موقع إنشاءات ضخم، تزيد عدد الروافع فيه عن عدد الروافع العاملة في كل شمال أمريكا. وهذا من شأنه أن يجعل الصين مركز العالم في مجال أعمال الروافع، كما يجعلها سوقًا ضخمة لزجاج النوافذ وأجهزة التكييف، وكل ما يلزم هذه البنايات.
ويقول كينيث كورتيس، الاقتصادي في البنك الألماني والمقيم في طوكيو: «الصين مركز لصفقة عالمية كبرى رابحة، في مجال صناعة السيارات.»
«إنتاج المركبات في شمال أمريكا وأوروبا واليابان راكد؛ لأن هذه الأسواق نضجت وتشبعت. وإن كل النمو المتوقع تقريبًا في السوق العالمية للسيارات، سوف توفره الأسواق الجديدة البازغة، حيث سوق الصين هي الأولى. إن الصين يمكنها أن تضيف ما يعادل الإجمالي السنوي للسوق الأوروبية كل عشر سنوات على مدى عقود عديدة قادمة. ولو أنني المسئول التنفيذي عن شركة سيارات، فسوف أجدني مضطرًّا إلى أن أكون في الصين لكي يتسنَّى لي المشاركة في هذا النمو؛ حيث تنخفض تكاليفي العالمية، وحتى أستهلك القدر الأعظم من كلفة البحوث والتطوير، وأمتلك سوقًا نامية مقطوعة الصلة بالصعود والهبوط الدوريين لمبيعات السيارات، اللذين يحدثان في البلدان المتقدمة».
إن أكبر ثلاث شركات أمريكية لصناعة السيارات لها مشروعاتها في الصين، وتمتلك كل شركة سيارات أمريكية مشروعًا كبيرًا لها في الصين، وهو ما فعلته الشركات الأوروبية الكبرى. ونلحظ، من ناحية أخرى، أن الشركات اليابانية العملاقة مشاركةٌ في صناعة قطع غيار السيارات والموتوسيكلات وغيرها. ويعكس هذا تفضيل الصين عقد مشروعات العمل مع الشركات الأمريكية؛ نظرًا لأن هذه الشركات راغبة، أكثر من الشركات اليابانية، في نقل التكنولوجيا وعمل مشروعات مشتركة. وتعكس كذلك خوف الشركات الأجنبية؛ إذ تفضِّل التصدير، وهذه هي مشروعات العمل المريحة لهم، على توطين الإنتاج في الصين.
وعلى الرغم من أن شركات السيارات الأمريكية لم تحظَ بوقت سهل في الصين، إلا أنها في الحقيقة انتصرت في المنافسة على الشركات اليابانية، مما كان له دلالات مهمة جدًّا على المدى البعيد، لاستدامة تفوق القدرة التنافسية الأمريكية على أساس كوكبي في المستقبل. وقال لنا ردولف سكالس، المدير العام لشركة ﻫ. م. في الصين: «إذا لم تكن في هذه الأسواق، فإن هذا يعني في الأساس، أنك لن تكون واحدًا من الثلاثة الذين يحتلون القمة في العالم.» وتسعى المؤسسة الأوروبية بدورها لكي تجد لنفسها موضعًا للعمل والحياة بفضل ما تستمتع به من قوة في السوق الصينية، ويعتبر المشروع المشترك مع شركة فولكس فاجن، المنتج الرائد للسيارات في الصين؛ إذ يصنع نماذج لأساطيل من سيارات الأجرة (التاكسي، وسيارات عامة وسيارات شعبية) ماركة أودي للأثرياء الصينيين الجدد، الذين لا يريدون دفع (أو يرون من غير اللائق سياسيًّا أن يظهروا بها) ثمن غالٍ لسيارات مستوردة فائقة الترف، ومع هذا، فإن الصين — وليست الولايات المتحدة — هي ثاني أكبر سوق عالمية لسيارات مرسيدس بنز إس للطبقة المترفة، بعد ألمانيا. وأكثر من هذا أن الشركات الأوروبية، مثل شركة بيجو التي تواجه منافسةً قاسية، تتطلع بتفاؤل إلى الصين، وتمتلك شركة بيجو الآن ٨٪ فقط من السوق الأوروبية الراكدة، ومن الطبيعي أن الفوز بأسواق جديدة يعني مسألة حياة أو موت. ويقول في هذا جاك كالفت رئيس مجلس إدارة شركة بيجو: «الصين بلا منازع هي سوق المستقبل.»
ستكون الصين على الأرجح ساحة التنافس في القرن الواحد والعشرين؛ إذ سوف تتنافس الشركات الأمريكية واليابانية والأوروبية والآسيوية بعضها مع البعض (ومع الشركات الصينية العملاقة المحلية)؛ من أجل الحصول والسيطرة على الصناعات والأسواق الرئيسية. وعلى الرغم مما ثبت من أن الأرباح مراوغة بالنسبة للكثيرين، والمشهد تكتنفه أخطار المنافسة التي تزداد باطِّراد، فإن عددًا محدودًا من الشركات الكبرى، هو الذي يمكنه أن يولي ظهره لمستقبل الصين الواعد: فالشركات جميعها في حاجة إلى النمو، وأكثر من هذا أنها لا تستطيع أن تتخلى عن السوق وتسلمه طواعية لمنافسيها.
وبغض النظر عن السياسات التجارية في واشنطن، وبغض النظر عن التحذيرات المتوالية التي تطلقها مدرسة الخطر الصيني، داعية إلى تجنب إقامة مشروعات أعمال مع الصين، فإن الشركات الأمريكية لا يسعها مقاومة الإغراء، أو الحاجة الملحة إلى أن تشقَّ لنفسها مكانًا عميقًا في السوق الصينية.
(٤) قرصنة البتات الرقمية Digital Bits
اشتعلت وخبت مناوشات خطرة بين واشنطن وبكين، بشأن حقوق الملكية الفكرية، ونزوع الصين إلى انتحال أو سرقة البرمجيات الأمريكية للكمبيوتر ولألعاب التسلية. وتكررت هذه المناوشات في أوقات التوتر، وحدث أن وصل الأمر بإدارة كلينتون إلى فرض عقوبات تجارية، ووافقت بكين مرتين في اللحظة الأخيرة على اتخاذ إجراء ما. وأمكن تعويض بعض الانتهاكات التي كانت هي الأسوأ، وتوقفت الشركات المملوكة للدولة أو الجيش عن التزوير العلني للأقراص المدمجة التي حصلت عليها عن طريق القرصنة، ولكن المشكلة لم تحلَّ بعد بالكامل. والملاحظ بوجه خاص أنه مع تصاعد قاعدة الكمبيوتر المقامة في الصين، تتزايد بدرجة كبيرة الحاجة إلى قرصنة البرمجيات. وليس غريبًا أن يقترب منك شخص ما في الشوارع الجانبية في المدن الصينية، ويعرض عليك بيع أقراص مدمجة أكثر مما يصادفك من بيع محرمات غير مشروعة، مثل العقاقير المخدرة أو الجنس.
ومنذ أن تم الاتفاق على طلبات الولايات المتحدة بأن تنظف الصين تجارتها من البرمجيات، بذلت السلطات في بكين جهودًا كبيرة وعديدة لإغلاق مصانع القرصنة، وصورت الكاميرات الجرارات تسحق الأقراص المدمجة المستنسخة، ولكن ما إن يتم غلق مصنع حتى يظهر آخر. ويمكن القول إن الصين لا تزال مسئولةً عن حوالي ٦٠ في المائة من بين ٢٠٠ مليون من الأقراص المدمجة، التي تستنسخ تزويرًا كل عام في مختلف أنحاء العالم.
وبينما كانت واشنطن تحاول إسدال الستار على قرصنة البرمجيات، كانت الشركات الأوروبية، على مدى عامَيْ ١٩٩٦م و١٩٩٧م، مشغولة ببيع معدات الدمغة اللازمة لصناعة الأقراص المدمجة المستنسخة بكميات كبيرة لوسطاء من هونج كونج، والتي يبيعونها يقينًا ثانية في الصين. ويشكو كارلين بارشينسكي الممثل التجاري للولايات المتحدة، متهمًا الأوروبيين باتخاذ موقف «من لا يرى منكرًا»؛ إذ إنهم يفيدون من المبيعات الرائجة والسريعة لمعدات الدمغة التي يصنعونها، ولا يعبئون بالآثار بعيدة المدى للقرصنة المتفشية.
ولا ريب في أن الملكية الفكرية المسروقة تمثل قضية مركبة، خاصة أنها تنطوي على صدام بين ثقافات، وسبق أن توقع الخبراء الأمريكيون في شئون الاقتصاد الجديد، ومن زمن طويل، أن صادرات الخدمات من الولايات المتحدة، ومن بينها مصاريف حقوق الملكية والتراخيص، سوف تبدأ في النهاية في تعويض العجز الضخم من السلع المصنعة مع شركاء تجاريين عالميين.
وثمة تبريرات أخلاقية تبرر القرصنة في البرمجيات بوسائل تخلق شعورًا سائدًا وضاغطًا على السوق المحلية في الصين: السلع المقرصنة «لازمة» لكي نبدأ مشروعاتنا، ولكي نكسب مالًا، ولكي نلحق بالغرب. إن الغرب لم يدفع شيئًا للصينيين مقابل حقوق الملكية للاختراعات التي اخترعتها الصين قديمًا، ابتداءً من البارود وحتى ورق الكتابة؛ ومن ثم فإن استنساخ البرمجيات جريمة مزعومة من دون ضحية. إن القرصنة غير السرقة؛ لأن كل «العمل» الحقيقي (أي الاستنساخ والتوزيع) يتم محليًّا في الصين، وهكذا.
ولنستمع إلى الحديث الغاضب الذي أدلى به سانج يي، وهو شاب صيني يعمل في مجال الكمبيوتر:
ظل الشياطين الأجانب ينهبون الصين قرونًا طويلة، ما العنصر الأساسي في شغل الكمبيوتر؟ التركيز الثنائي؟ هذه هي نظرية الين واليانج. كل شيء في الكون مؤلف من الين واليانج، والصين هي التي اكتشفت ذلك. ما الكهرباء والمجالات المغناطيسية؟ من الذي اكتشف المغناطيسية؟ عفوًا، إذ أقول الصينيون! لولا كاي لون (مخترع الورق الأسطوري في الصين) لظل هؤلاء الأجانب يكتبون على الرق. إن الأجانب لا يستطيعون مواجهة الحقيقة، وهي أنهم مدينون لنا بانتهاك حقوق الملكية.
ولكن ثمة جانب آخر مهم من القصة؛ أولًا: إن بعض الشركات، بما في ذلك شركتا مايكروسوفت وديزني، تحقق نجاحًا في جعل عملائها الصينيين يفهمون الضرورة القانونية والأخلاقية لدفع مصاريف مقابل الترخيص وحق الملكية، حتى إن كانت مبالغ ضئيلة. وعلى الرغم من أن هذه الشركات تظل ضحية للقراصنة من مصانع الصين، إلا أنهم يوسعون من حصتهم المدفوعة والمربحة في السوق في مجال آخر. ويمكن القول إن القرصنة تعزز الوعي بالأسماء المميزة للأصناف، وتجعل الناس يبحثون عن السلعة الأصلية. والملاحظ أن شركتَي ديزني ومايكروسوفت وغيرهما نجحت في ترويج سياسات موحدة «للتعاون» وخفض حقوق الملكية؛ لكي تجعل من اليسير على الصينيين دفع مقابلها، وتعمل كذلك على إنشاء «مواقع للتراخيص»، لعمل تغطية واسعة بثمن منخفض وثابت. وتوفر تعاونًا تقانيًّا، كما تهيئ للدعم الصيني فرصًا مهمة جدًّا لخلق وظائف ولتعزيز اقتصادهم. وثبت أن هذا النهج أفضل كثيرًا جدًّا من إطلاق مطالب غاضبة من الخارج، تطالب المصانع الصينية بالتوقف عن استنساخ البرمجيات.
ثانيًا: هذا أحد المجالات الذي يعترف الصينيون ذوو النفوذ أن بإمكانهم عمليًّا أن يفيدوا فيه من الضغط الأمريكي. إن القرصنة مشكلة للشركات الأجنبية، ولكنها مشكلة بين المؤسسات الصينية التي تسرق بعضها من بعض الأسماء التجارية المميزة، وحقوق الإنتاج والرموز والأسرار التجارية والتصميمات. ويعترف مسئول صيني في مجال التجارة الخارجية: «نحن نستطيع أن نستخدم المعايير الرفيعة التي تريد الولايات المتحدة أن تفرضها علينا؛ حتى نتخلص من مشكلاتنا نحن في هذا المجال وندعم سيادة القانون.»
(٥) ليست الصين فقط: هنا مجموعة الدول السبع الجديدة (G-7)
إذا كانت الصين ناجحة، فإنها ستفعل ما هو أكثر من مجرد تغيير التجارة الكوكبية، إنها ستفرض تحديات جديدة على الطريقة الغربية في النظر إلى العالم، وإن التحدي الصيني سوف يذكر جميع من يهمهم الأمر أن التاريخ «لم ينتهِ»، وأن الصراع الدارويني بين النظم الاجتماعية والاقتصادية مستمر.
إن الصين بموقفها الصلب في عدم احترام حرية تدفق المعلومات داخل مجتمعها، تشكل تحديًا حقيقيًّا للعقيدة السائدة، التي تؤكد فضائل وحتمية «اقتصاد المعلومات». والصين بنظرتها المختلفة إلى حقوق الملكية الفكرية، وبنزوعها إلى قرصنة البرمجيات سوف تتحدى فكرة اقتصاد مستقبلي، تصبح فيه الملكية الفكرية أعلى قيمة من الملكية الحقيقية.
سوف تتحدى الصين الإدراك المتزايد بأن المرونة والحركية في الاقتصاد أهم من الحجم والنطاق، إنها بطبيعة الحال سوف تتحدى الأهمية النسبية التي يضفيها الغرب على الحقوق والحريات الشخصية، وسوف تشكل تحديًا لمادة تمثل جوهر العقيدة على مدى ٢٠٠ سنة للقيادة الاقتصادية الأنجلو-أمريكية في العالم؛ وهي أن هناك ترابطًا قويًّا بين الديموقراطية والنجاح الاقتصادي.
وعلى نقيض آراء كثيرين من حكماء «الاقتصاد الجديد»، فإن صعود الصين سوف يشكل كذلك تحديًا للمسلَّمة القائلة إن الدول-الأمم سوف تختفي إن عاجلًا أم آجلًا. والحقيقة أن عودة الصين إلى الظهور، وهي من أقدم أمم العالم (ومن أكثرها وعيًا بالذات وأكثرها حماسًا للحفاظ على حسها الوطني)، مؤشر على أننا ربما نكون على عتبة حقبة جديدة للسياسة الواقعية في القرن العشرين، حيث الأمم والاقتصادات القومية ستكون موضع اهتمامٍ بالغٍ في الحقيقة.
وإن مثل هذه الفوارق المنظومية سوف تلازمنا لوقت طويل جدًّا، وسوف تظل تلازمنا هذه الفوارق الأساسية حتى لو تحسنت العلاقات الأمريكية-الصينية، إنها علاقات سريعة الالتهاب في عالم تسوده منافسة نارية اقتصادية وسياسية وعسكرية، ولم يجرِ معالجتها بدقة وحرص شديدَين، سوف تمسك فيها النيران في أي لحظة.
في عالم ينتقل بسرعة مطردة إلى الأسواق المعولمة، وإلى إلغاء الحدود القومية، وإلى خفض سلطة الدولة-الأمة إلى أدنى حد، لنا أن نتوقع أن تقاوم الصين جميع هذه الاتجاهات وتشجع أممًا أخرى ذات أسواق بازغة، لتسير في الاتجاه نفسه.
إن الصين، بالطبع، ليست أي بلد يعيش تجربة السير في طريق التنمية الجديدة؛ إنها أكثر بلدان العالم سكانًا، ومرشحة لتكون أكبر اقتصاد عالمي، وتحتل مركز أسرع منطقة للنمو في العالم. وتمثل الصين (مجازيًّا إن لم يكن سياسيًّا) نتاج عملية انتقال القوة الآن في العالم من الغرب إلى الشرق، ومن البلدان المتقدمة إلى البلدان النامية. إنها، كما قال رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو في عبارة ملائمة تمامًا، ليست مجرد ممثل آخر، بل هي «الممثل الأكبر في تاريخ الإنسانية».
إن صعود الصين من أهم وأقوى المؤشرات الرئيسية، التي تقول لنا إننا بصدد الخروج من مرحلة انعقد في مطلعها لواء الزعامة لبريطانيا ثم لأمريكا، كبلدَين يتمتعان بالثراء والتقدم والديموقراطية، وترجع جذورهما الثقافية إلى أوروبا، وكان لهما التفوق والهيمنة السياسية والاقتصادية. إن الحقبة المقبلة سيكون فيها الثراء والقوة موضع تحكم وسيطرة على نطاق واسع، ولم يحدث من قبل في التاريخ، أن كان الاقتصاد القائد في العالم اقتصادًا لم تكن الريادة فيه لنصيب الفرد من الداخل القومي، ولمستويات المعيشة.
والملاحظ، أن الولايات المتحدة وبريطانيا، زعيمتي العالم اقتصاديًّا، قد روجتا، على مدى القرنَين الأخيرَين، لمفاهيم حرية التجارة وحرية الاستثمار والعولمة وحقوق الإنسان، ولقيام نظام عالمي ديموقراطي مفتوح، وهذه ليست المثل العليا التي تؤمن بها الصين، ولا هي ضمن المصالح الجيوبوليتيكية والجيواقتصادية، لبلد لا يزال فقيرًا متخلفًا.
ولنا أن نتوقَّع أن نرى الصين تستخدم قوة تأثيرها الاقتصادية المطردة النمو أبدًا (علاوة على قدر من قوتها العسكرية)، لتكون أداة مساومة؛ بغية الحصول على ما تريده من بقية العالم. وحري أن ندرك أن قوة تأثير الأجانب في الصين أقل مما نتصور، وأن قوة تأثير الصينيين أكبر مما ندرك أو نفهم: لقد أقنع الصينيون أنفسهم أنهم إذا لم يتسنَّ لهم الحصول من أمريكا على ما يريدونه منها، فإن بالإمكان أن يحصلوا على ما يريدون من أوروبا واليابان. وإذا لم يحصلوا على ما يريدون، فإنهم قادرون على العمل والمضي قدمًا من دونه.
زِدْ على هذا، أن الصين ترمز إلى إمكانات الإمبراطوريات القديمة، والتي كانت حضارات عظيمة يومًا ما، أن تدمج نفسها من جديد في العالم الحديث. ويقول جوستن ييفولين، مؤسس مركز الصين للبحوث الاقتصادية في بكين: «إن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الصين، وسوف تصبح الصين أول ثقافة قديمة تنهض وتسقط، ثم تنهض ثانية.» ونتيجة لذلك يمكن أن تؤدي الصين يومًا دورًا مهمًّا أعظم مما يوحي به حجمها الهائل، في تحديد شكل الاتجاهات والسياسات والمؤسسات الكوكبية الجديدة.
إن يقظة التنين الصيني الأكبر، علاوة على اقتصادات النمور الآسيوية، بما يتوافر لها من دينامية وحركية، أصبحت أشبه بالأساطير الاقتصادية على كل لسان في أواخر القرن العشرين. وتمثل هذه الاقتصادات نقطة تحول في التاريخ الحديث، لقد استطاعت آسيا مع الصين أن تستعيد مكانتها التاريخية في قلب القارة، وبذا أصبح بإمكانها أن تصوغ القرن الواحد والعشرين على نحو ما فعلت الولايات المتحدة؛ حين صاغت القرن العشرين. بيد أن هذه العملية لا تلائم تمامًا النظام العالمي في تطوره؛ إذ تبدو — من نواحٍ كثيرة — غريبة عنه في ضوء التطورات الأخيرة؛ لهذا بات لزامًا على القادة ورجال الاستراتيجية وصناع القرار الأمريكيين — بل والشعب الأمريكي — أن يكونوا مهيئين لحركة دورانية تتغير فيها مواقع الأطراف.
(٦) شطائر الماكدونالد لن تجعل من الصين ماك-صين
انفجار طاقة تنظيم المشروعات في جميع أنحاء الصين، والوعد بسوق مزدهرة في مطلع التسعينيات، اقترنا بنتيجة لازمة عن ذلك، تبدَّت في رؤية الغالبية العظمى من الأمريكيين. الصين شغوفة لأن تصبح سوقًا موجهة بالكامل، شأنها شأن أي بلد آخر بازغ حديثًا، وأجَّجت وسائل الإعلام الغربية هذه الفكرة: بأن أطلقت قصصًا متتابعة لا تهدأ عن أصحاب الملايين الجدد، الذين يسرفون في شراب الكونياك فيشربون منه بالجالونات، ويرقصون الليل في أطراف المدن على نغمات الديسكو؛ ولذلك لن تدهش إذا قيل إن أحد العوامل التي أضرَّت تمامًا بالعلاقة في الوقت الراهن، هو خيبة الأمل الشديدة لدى الجانب الأمريكي من أن الصينيين لن يكونوا، كما تخيلنا لهم أن يكونوا: غطاءً كاملًا، وأنصار نزعة تخصصية مفرطة، ومناصرين للرأسمالية.
وفي عام ١٩٩٤م، وضعت مجلة «بيزنس ويك» قصة الغلاف التي تحدد معالم المسألة على النحو التالي: «الصين: هل الاقتصاد الحر يفضي إلى إصلاح اجتماعي وسياسي؟ ثمة علامات تشير إلى أن هذا بصدد أن يحدث». ولكن بعد عامَين، اعترفت المجلة ذاتها في قصة غلاف أخرى، أن التحليل السابق بدا معيبًا تمامًا:
«بعد عقود من العداء والصراع (راود الأمريكيين الأمل) في أن تنفتح الصين على العالم الخارجي، وأن تتبنى، على الأقل، بعض القيم الغربية. وكان من المتوقع أن تستثمر مشروعات الأعمال السوق الشاسعة للمملكة الوسطى، مما يمكنها من أن تخلق ثروة للوطن، وفي الصين معًا. وكان من المتوقع أن الصينيين، تدريجيًّا مع تذوقهم لثمار التقدم الاقتصادي، سوف يحظون بقدر أكبر من الحرية السياسية، مما يخفف من القبضة الحديدية للحزب الشيوعي، ويخفف كذلك، في الوقت نفسه، من أي أخطار محتملة على أيدي جيش التحرير الشعبي.»
ولكن لم تكن هذه العملية التي شاهدها المراقبون في الميدان العملي حتى عام ١٩٩٦م. وندَّدَت المجلة بعنف بافتراضات الماضي، وقارنتها بوقائع الوقت الراهن. ويكفي أن نورد عينة محدودة لتوضح لنا مدى التنافر الذي رآه الأمريكيون، بين الطريق التي توقعت النظرية الاقتصادية والسياسية الغربية أن تمضي فيها الصين، وبين الطريق المغايرة تمامًا، التي تسير فيها الصين فعليًّا:
- افتراض: حين تتحرر قوى السوق من قيودها، سوف ينهار الاقتصاد الاشتراكي الصيني؛ إذ سوف تحل الشركات المخصخصة محل القطاع المملوك للدولة، وستكون الشركات الأجنبية قادرةً على دخول السوق عنوة واقتدارًا، تبيع منتجاتها المخصصة للتصدير بأسعار مربحة، وتخلق وظائف جديدة داخل أمريكا.
- الواقع: تخصخص الصين قدرًا قليلًا محدودًا، وتحتفظ بمشروعاتها العملاقة المملوكة للدولة طافية على السطح. ولم تستخدم بكين الاستثمار الأجنبي لتعزيز المنافسة والكفاءة، بل إنها، بدلًا من ذلك، تدفع بقوة السياسات التصنيعية، التي تضغط على الشركات الأجنبية لنقل التكنولوجيا والتصنيع محليًّا، وهكذا تشجع على تصدير الوظائف الصناعية من الولايات المتحدة إلى الصين.
- افتراض: الإصلاح الاقتصادي في الصين، سيفضي مباشرة إلى ليبرالية سياسية.
- الواقع: يستخدم الصينيون فرصًا جديدة، يتيحها لهم الإصلاح الاقتصادي، من أجل التركيز على «تحقيق مزيد من الثراء بدلًا من السياسة». وظل الحزب الشيوعي في موقع السيطرة، بينما يتخذ إجراءات صارمة إزاء الانشقاق والإعلام.
وتخلص مجلة «بيزنس» إلى النتيجة التالية: «نعم إنها سوق ضخمة هائلة، ولكنها تظهر كمنافس رئيسي تطالب بالتكنولوجيا الغربية، وتبني صناعاتها المتقدمة، ويقعقع الجيش بسلاحه في الوقت نفسه، وظلت قبضة بكين في جميع الأحوال قوية.» صفوة القول: «حان الوقت لكي نعيد التفكير من جديدٍ بشأن الصين.»
والملاحظ، على مدى الشطر الأكبر من العقدَين الأخيرَين، ومنذ أن بدأ دنج هسياو بنج إصلاحاته بعد عهد ماو، أن المثقفين الغربيين اعتادوا التطلع بأمل إزاء ما يفعله الصينيون، باعتباره يمثل نوعًا من رأسمالية جديدة رائدة، ومصدر ثراء طائل. والحقيقة أنه بعد وفاة دنج هسياو بنج نقرأ عنوانًا فرعيًّا مع العناوين الرئيسية، التي نعت إلى العالم نبأ وفاته يقول «اختار الرأسمالية»، ولكن، لم تكن هي الرأسمالية التي اختارها دنج؛ لقد كان دنج واضحًا تمامًا في هذا الصدد، ذلك أنه، خلال جولته في الجنوب عام ١٩٩٢م قال: «اقتصاد السوق ليس رأسمالية؛ لأن هناك أسواقًا في ظل الاشتراكية أيضًا.»
ولم تكن المسألة مجرد تلاعبٍ بالألفاظ، حين رفض الصينيون أنفسهم تسمية النظام الاقتصادي الجديد، الذي يقيمونه، نظامًا رأسماليًّا، إنهم يعرفون جيدًا ما الرأسمالية. وظلوا يعارضونها بحماس وحمية خمسين عامًا، ودرسوها جيدًا خلال العقدَين الأخيرَين، واستكشفوا كل ضروبها، ليستبينوا ما الذي يمكن أن يلائموه أو يتعلموه؛ من أجل مسألة تطوير وتحديث الصين.
والملاحظ على المستوى الرفيع لكبار رجال الدولة، بل وفي مراكز الفكر ودوائر التفكير الحر الليبرالي، أن الصينيين لم يهتزَّ إيمانهم بأن أسلوب آدم سميث للرأسمالية الجامحة، ليس هو ما يحتاج إليه بلدهم الآن، لقد كانوا صرحاء تمامًا مع العالم الخارجي؛ إذ أعلنوا مرات ومرات، لكي يسمع كل من له أذنان ويريد أن يسمع أن الصين تحاول بناء «اشتراكية صينية الخصائص»؛ نظام جديد يحاول الجمع بين مؤسسات الاشتراكية، ممتزجة بعناصر السوق.
وسوف تواصل الصين، وعلى مدى سنوات طويلة، التحرك قدمًا في اتجاه السوق في نظامها الاقتصادي، وفي اتجاه توفير قدر أكبر من عناصر النزعة الاستهلاكية والديموقراطية في ثقافتها وسياستها، وسوف تأكل أعداد متزايدة من أبناء الطبقة الوسطى، قدرًا متزايدًا من دجاج كنتاكي وشرائح ماكدونالد. وسوف تشاهد أعداد متزايدة من شباب الصين برامج التليفزيون تصلهم عبر أطباق غير مشروعة، تلتقط البث من الأقمار الاصطناعية. وسوف يشاهد الملايين مراكز الشبكة العالمية الفضائية، التي لم تحاول السلطات في بكين إعاقتها، وسوف يحمل الكثيرون ممن أصبحوا مليونيرات بين عشية وضحاها صفة رجال الأعمال الخاصة، ويتزايدون ويزدهرون في أسواق المال، ولكن ليس مهمًّا كم عدد شرائح الماكدونالد التي يأكلها الصينيون، ولا عدد الساعات التي يقضونها في مشاهدة برامج البث التليفزيوني الأجنبي، وليس مهمًّا كم الحجج الديموقراطية، التي تتسرب على ألسنة المنشقين الصينيين في الخارج؛ ذلك لأن الاقتصاد السياسي الصيني لم يتوقف وينتهِ، حيث يريد أو يتوقع له الكثيرون من المراقبين الأمريكيين (وحفنة من الصينيين الليبراليين).
(٧) نحو «سوق اجتماعية كونفوشية»
ونعني بكلمة «كونفوشية» أن الصين سوف تأخذ كثيرًا من الحكومات الآسيوية الأخرى، التي تعتبر شديدة التسلطية إزاء قضايا سياسية معينة، وتجسد بنشاط أخلاقيات ومؤسسات جموع المواطنين. إن لي كوان يو في سنغافورة هو أبرز نموذج لهذا، وكثيرًا ما امتدحه دنج هسياو بنج، ورآه النموذج الأفضل بدلًا من فوضى حرية العمل في هونج كونج. والجدير ذكره أن لي وأقرانه، عملوا بجد ونشاط، لبعث كونفوشيوس وتعاليمه بشأن الاستقرار، والنظام كمبادئ هادية توجه آسيا على مدى ٢٥ قرنًا. وثمة قيم كونفوشية أخرى تمثِّل بيروقراطية من نوع جيد وكفء للغاية، كما تمثل نظامًا تعليميًّا قويًّا، علاوة على غرس حسٍّ تاريخي بالكبرياء القومية والحضارية. ومن السمات الأخرى العامة المميزة للمنهج الكونفوشي، الاعتماد على سخاء الأسرة وسماحتها دون الحكومة. وربما تستعيد كونفوشية القرن الواحد والعشرين جوانب من الفلسفة، أسقطها ووأدها أولئك الذين يستخدمونها باسم الطاعة الكاملة والتراتبية الصارمة والنظام الاجتماعي الجامد. ويتضمن التراث أيضًا الحكم تأسيسًا على القدوة الأخلاقية، وعلى تعاليم مثل قول كونفوشيوس: «من دون ثقة الشعب، لا تقوم للحكومة قائمة.»
وتشير عبارة «السوق الاجتماعية» إلى وصف ألمانيا لنظامها الاقتصادي السياسي، باعتباره نظامًا تقود فيه الدولة مناطق رئيسية معينة في المجتمع، وتدع السوق يقود المناطق الأخرى. وإذا كانت هذه العبارة صيغت في ألمانيا، فإن بالإمكان تطبيقها على الفلسفة الاقتصادية السياسية، في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي وإسكانديناوة، كما يمكن تطبيقها على بعض الاقتصادات البازغة في شرق أوروبا، وتمتلك الدولة في جميع هذه البلدان حصصًا مهمة في الصناعة ملكية مباشرة، وتستخدم فيها أعدادًا غفيرة من الناس، وتضطلع بمسئولية نظم الرفاه الاجتماعية الواسعة، وتعين المحددات لمشروعات الأعمال الخاصة، كما تفرض القواعد الاقتصادية الأساسية على نحو تبدو معه مشكلة أمريكا بشأن «التنظيم المفرط» الحكومي مشكلة تافهة.
وبينما تفتقر الاقتصادات الأوروبية إلى دينامية وحيوية النموذج الأنجلو-أمريكي، الذي يتميز بقدر أكبر من حرية العمل، إلا أنها أقدر على متابعة المشكلات الاجتماعية، والتدخل تأسيسًا على خططها الاجتماعية، أكثر من الالتزام باقتصادات قائمة على السوق فقط دون اعتبار آخر، وترى الصين في هذا إحدى الفضائل. ويقول هو ديبنج: «إذا ما درست صعود ألمانيا وفرنسا وهولندا منذ سنوات طويلة مضت، تجد أنه كانت هناك فترات طويلة، يتعذَّر عليك فيها تحديد ما هو خاص وما هو عام. والجدير ذكره أن هو رئيس هيئة مختصة بتنظيم المشروعات، وابن رئيس سابق للحزب الشيوعي، ومن زعماء الإصلاح، واسمه هو ياو بانج، ويشير هو ديبنج إلى أننا نجد، حتى في أوروبا الحديثة، أوقاتًا كانت فيها الصناعة المملوكة للدولة، تمثل نسبة مئوية عالية من إجمالي الناتج الاقتصادي، تزيد عما هو حادث في الصين الآن. وإذا بحثنا عن أمثلة في جميع أنحاء العالم، سيتضح أنه لا توجد طريقة واحدة لإدارة وتنظيم اقتصاد السوق؛ لذلك فإن من المنطقي جدًّا أن تدمج الصين السوق بطريقتها الخاصة المميزة».
هذه هي النظرة دائمًا التي نجدها حتى عند الإصلاحيين والمفكرين ذوي النزوع الليبرالي، من أمثال هو: «ادمج السوق، استخدم السوق، اسمح للسوق بأن تعمل في بعض المجالات، ولكن لا تتخلَّ أبدًا عن الوظائف الرئيسية للدولة، وتتركها للسوق وحدها.» إن الصين لا تقبل العلاج بالصدمات، ولا مجال للخصخصة المتطرفة، ولا مجال لإبداء مشاعر حب مفاجئ لآدم سميث.
إن الدولة الصينية سوف تحتفظ، بوسيلة أو بأخرى، بسلطانها وطاقاتها لزمن طويل جدًّا. وتجري عملية نقل للسلطة على نحو تدريجي جدًّا إلى الأقاليم والمحليات، ثم في النهاية إلى السوق والقطاع الخاص، ولكن العملية بطيئة ومتدرجة، وسوف يظل الشكل المهيمن للاقتصاد، وعلى مدًى طويل إلى حدٍّ ما، متجسدًا في الكيانات والمؤسسات الحكومية — خاصة الحكومات المحلية — لتحول ذاتها ببطءٍ إلى الشكل التجاري، وليس انتعاشًا واسع النطاق للمشروع الخاص يتفجَّر من أسفل إلى أعلى.
وما إن يكتمل نقل الزعامة الراهنة، حتى تكون الصين، في النهاية، قد استقرت على نظام أكثر ديموقراطية من أي نظام عرفته في الماضي، وإن ظل أكثر تسلطيًّا وإبهامًا من أي نظام آخر، يعترف الغربيون به كنظام ديموقراطي حقيقي. ويمكن القول، بمصطلحات الاقتصاد، إن نظام المستقبل سيكون أكثر ابتعادًا عن المركزية، واقترابًا من الخصوصية وتنظيم الأعمال والمشروعات، قياسًا إلى أي دولة اشتراكية في القرن العشرين، ولكن مؤسسات سلطة الدولة — على الصعد القومية والإقليمية والمحلية — سيظل لها دورها القوي للغاية في تحديد الخطط؛ إذ سوف تتوافر لها شبكة واسعة من آليات التحكم والسيطرة، بما في ذلك الأدوات الخاصة بالصناعة والسياسة التي تدعم حكومة ضخمة لم يرَ مثلها العالم، منذ ميلاد الديموقراطية الاجتماعية الأوروبية، وعلى مدى ذروة فكر جون ماينار كينيز، واقتصادات الدولة في اليابان وفي أوروبا، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ويميل الاقتصاديون الغربيون هذه الأيام إلى استهجان مثل هذه التدخلات في السياسة، ويرونها تشويشًا للتجارة الحرة التي ثبت أيضًا عدم مغالبتها، ومناهضتها للمنافسة على الصعيد المحلي، ولكن التخطيط الحكومي ونزعة التدخل سوف يظلان عمادَين رئيسيَّين للاقتصاد الصيني، حتى على الرغم من أنهما بدآ في الاختفاء في أمريكا الشمالية وأوروبا، بل ومع مشروع اليابان في تخفيف قيود المركزية.
(٨) الصين يمكنها أن تكون مثل اليابان متضخمة
وكما أكدنا من قبل، فإن أي حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين، ستكون أقل شمولًا وأقل قسوة، مما كانت عليه المنافسة بين القوتَين العظميَين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، وربما يكون الصراع بين الولايات المتحدة والصين، أشبه بالصراع التجاري الراهن مع اليابان.
والملاحظ أن الصين، شأنها شأن اليابان في الماضي، حقَّقت معدلات نمو تعتبر نموذجًا عالميًّا، كما أنها أطلقت فوائض قيمة عالية جدًّا. وتشجِّع بكين، مثلها مثل اليابان أيضًا، أو قل إنها على أقل تقدير تتغاضى عن ممارسات تجارية حمائية قوية، تناقض جوهر رؤية واشنطن عن الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة والاستثمار الحر، ولكن الصين لن تبدد طاقاتها، عسكريًّا وسياسيًّا، وهي في هذا أقرب إلى الاتحاد السوفييتي، وأبعد يقينًا عن اليابان في الثمانينيات.
لهذا نرى أن معالجة موضوع الصين، خلال الأعوام الثلاثين القادمة، يمكن أن يشبه، إلى حدٍّ ما، معالجتنا لموضوع مؤلف من الاتحاد السوفييتي واليابان، على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، ولكن اليابان هي المقارنة الأقرب للموضوع، إنها القوة الكبرى الوحيدة في العصر الحديث، التي أصبحت منافسًا خطيرًا من جميع النواحي الاقتصادية للولايات المتحدة، وحققت هذا اعتمادًا على قوة نظام اقتصادي مغاير للممارسة الأمريكية للرأسمالية. وتنطلق الصين في اتجاه مماثل.
وأدى الصدام بين النموذجَين: الأمريكي والياباني، إلى حروب ثنائية على مدى ربع القرن الماضي، في مجالات التجارة والعملات والسيارات وأشباه الموصلات، وغير ذلك كثير من حروب مشروعات الأعمال. حقًّا لم تقع حرب ساخنة، وهي ما لم تكن لتقع؛ نظرًا لأن اليابان تفتقر إلى القوة المسلحة، ولكن العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان كانت أقرب إلى حرب اقتصادية باردة، ولم تظهر بوادر لتخفيف حدتها إلا أخيرًا فقط. وإن من بين أسباب خمود الحرب الاقتصادية الباردة بين الولايات المتحدة واليابان، هو صعود الصين وتزايد إحساس واشنطن بأن الولايات المتحدة أولى بها أن تخشى الصين أكثر من خشيتها اليابان.
ولنتدبَّر معًا للحظة، كيف كان التحدي الياباني لمشروعات الأعمال الأمريكية قويًّا، خلال السنوات القليلة الماضية، ومدى اتساع نطاق الخلل الاقتصادي والسياسي المترتب على ذلك، بما في ذلك الضربات العنيفة لليابان، وحالة الانزعاج والتشريعات الحمائية، وحوار واشنطن رفيع المستوى خلال الثمانينيات. ولنحاول أن نتدبر ما يلي:
-
الصين مهيأة لتكون اقتصادًا أكبر حجمًا من اليابان، مع اختلال أكبر وطويل المدى في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة وبلدان أخرى.
-
الصين لديها بالفعل القوة العسكرية والسياسية، وهو ما افتقدته اليابان دائمًا. إن شبكة الأمان الممتدة تحت سطح مظاهر الحدة في الصراع التجاري الياباني-الأمريكي — اتفاق الأمن العسكري، وغيره من مصالح متبادلة ومحددة صراحة — غير موجودة في العلاقة الصينية-الأمريكية.
-
لا أحد في طبقة الزعامة السياسية في الصين يدافع عن تكافل وثيق مع الولايات المتحدة، على نحو ما نجد لدى الحزب الديموقراطي الليبرالي في اليابان، والذي يشكل تيارًا رئيسيًّا، ويدافع عن مثل هذه السياسة دائمًا، ولو في قضايا محددة. ليس في الصين أحدٌ يؤدي الدور الذي يقوم به زعماء الحزب الديموقراطي الليبرالي في اليابان، ووزارة الخارجية الأمريكية على استعدادٍ للتخفيف من نفوذ صقور التجارة الأمريكية، في إطار حجج رئيسية بشأن استراتيجية سياسية كوكبية.
-
المواقف الأمريكية السياسية وفي مجال مشروعات الأعمال، ليست مفتوحةً وواسعة النطاق، مثلما كانت وقت صعود نجم اليابان كقوةٍ اقتصاديةٍ عظمى. ويعرف السياسيون جيدًا قسوة العجز التجاري. لقد أفادت اليابان من فتات الاقتصاد الأمريكي، في وقت كانت مشروعات الأعمال الأمريكية متخمةً وسعيدة بما تراه، ولكن الصين ليست لديها مثل هذه الفرصة، ولا يكف الأمريكيون عن قرع أجراس الإنذار.
-
اندماج الصين في الأسواق العالمية والاقتصاد الكوكبي، شبهه البعض بغوريلا التقطت آلة كمان، والأرجح أنها ستحطمها، ولو حتى مصادفة، قبل أن تحاول اللعب عليها. وكان هذا، ولا يزال، يمثل خطرًا ناجمًا عن الافتقار إلى الشفافية، وهو حال اليابان أيضًا. وتستشعر أسواق المال العالمية توترًا بشأن النظام المصرفي الياباني، الذي يعيش في أزمة امتدت سبع سنوات، ولكن اليابان، على الأقل، أصبحت نصف شفافة بالنسبة إلى الغرباء. ولا تزال الصين مبهمة تمامًا بالنسبة لموضوعات رئيسية، يريد الأجانب أن يعرفوها لتقدير المخاطرة وحصص الاستثمار. والأمر بالنسبة للصين أهم كثيرًا جدًّا في مجال السلع العالمية وأسواق المال، ولكنها لم تندمج بعد بالكامل، من حيث القواعد المنظمة وإفشاء البيانات والتحكم في المخاطرة؛ إذ ثمة مبالغة في احتمالات حدوث شيء عرضي.
-
تبنَّت اليابان — على أقل تقدير — الكثير من الأهداف ذاتها التي تبنتها الولايات المتحدة، وجاهدت لكي يقبلها الغرب عضوًا «عاديًّا» في نادي الديموقراطيات المتقدمة، ولكن الصين لم تتبنَّ تلك الأهداف، ولا تلتمس مثل هذا الرضا والقبول؛ ولهذا فإن الغرب لا يجد لديه دوافع قويةً في تعامله مع الصين، مثلما هي الحال مع اليابان.
-
جملة القول: إن القيم ومنظومات العقائد وأشكال الاقتصاد في الصين، متباينة عن مثيلاتها في الولايات المتحدة، وأن التباين بينها وبين الولايات المتحدة أكبر كثيرًا مما هو مع اليابان.
ومن ثم، لا غرابة إذ نجد محللًا للاقتصاد السياسي مثل جيرالد سيجال، بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن يقول: «الصين أكثر إثارة للفزع من اليابان.» ويضيف إلى هذا مسئول تجاري أمريكي سابق قوله: «إن الصين عام ٢٠١٠م ربما تشبه اليابان في عام ١٩٨٨م». قد تكون ثمة مبالغة في تقدير الخوف، ولكن الخوف من المجهول هو الأكثر احتمالًا.
(٩) نوع مختلف من «الاقتصاد العالمي الأكبر»
صعود اليابان منذ عقد مضى، بدا سريعًا جدًّا ومثيرًا للغاية، حتى إن الأمريكيين استشعروا خوفًا من أن يصبحوا مستعمرةً اقتصاديةً لليابان؛ فقد استولى اليابانيون على حصة كبيرة وغير متناسبة، بل ومزعجة أحيانًا، من الأسواق الأمريكية، ابتداءً من الملكيات العقارية وحتى سندات الخزانة للحكومة الأمريكية. ووصل الأمر إلى حد أن بعض رجال الأعمال اليابانيين بدءوا يتصرفون كأنهم مستعمرون جُدُد، ويتحدثون عن شراء كاليفورنيا؛ بغية خفض الديون الأمريكية، وإقامة مصانع للاستفادة بالقوى العاملة الأمريكية الرخيصة.
ومثلما تزايدت حساسية واشنطن إزاء الأسواق اليابانية المغلقة، كذلك انتهى الأمر أن بدأ المفاوضون عن طوكيو يردون بالمثل، وحدث أثناء مبادرة الموانع الهيكلية، أن أبدى الطرف الأمريكي ضيقه بالممارسات التجارية اليابانية، واعترض عليها، بينما عاقب الطرف الياباني الأمريكيين؛ بسبب العجز الضخم في الميزانية، وانخفاض درجات تقييم اختبارات التعليم العالي.
وها نحن بدأنا بالفعل نرى بكين تستخدم بعض هذه الأساليب — على الأقل — في خطابها: لقد حذت الصين حذو وزارة الخارجية الأمريكية في استعراضها السنوي للممارسات التي تعترض عليها بالنسبة لحقوق الإنسان، وبدأت تصدر بيانات استعراضية مماثلة عن حقوق الإنسان في أمريكا، وتنتقد فيها حالات التمييز العنصري، والفقر والفساد السياسي في أمريكا، وثمة علامات أخرى قليلة العدد، قد تبدو مألوفة لدى من يستعيدون ذكرى انزعاج أمريكا من اليابان في الثمانينيات؛ إذ بدأ المستثمرون الصينيون يبرزون داخل سوق السندات الأمريكية (دون أن يقاربوا اليابانيين بعد)، ونراهم يشترون كمياتٍ محدودةً من العقارات (ولكن ليست من المستوى ذاته الذي اشتراه اليابانيون)، بل إنهم يحاولون شراء منشأة بحرية خالية من التجهيزات في كاليفورنيا لاستخدامها ميناءً وطنيًّا للتجارة عبر المحيط الهادي. وأثار هذا الحدث الأخير قلق كثيرٍ من المواطنين دون أن يبلغ قلقهم حد الثورة الغاضبة، التي حدثت عندما اشترت اليابان ساحل بيبل بيتش ودار سينما كولومبيا.
وليس مرجحًا أن تستثير الصين نوع المخاوف والارتعادات التي أثارتها اليابان في الثمانينيات، أو لن يحدث هذا إلا بعد مضي وقت طويل على الأقل. وإذا عدنا بذاكرتنا إلى الوراء نجد أن اليابان اشتدت قوة، حتى بات مرجحًا أن تلحق، أو تكون قريبة جدًّا من الولايات المتحدة، من حيث إجمالي المخرج الاقتصادي بحلول العام ٢٠٠٠م، بينما يبلغ عدد سكانها نصف سكان أمريكا. بل إننا اليوم، وبعد النكسات العديدة التي منيت بها اليابان والمغانم الكثيرة التي حققتها أمريكا في التسعينيات، ولا يزال نصيب الفرد من المخرج الاقتصادي الياباني أكبر من نظيره في أمريكا، علاوة على أن متوسط الأجور أعلى إلى حدٍّ ما.
وبالمقارنة، فإن الصين عندما تتجاوز اقتصاد الولايات المتحدة؛ من حيث إجمالي المخرجات (ونظن أن هذا لن يحدث قبل ثلاثة عقود على الأقل، وليس خلال العقد التالي كما يتكهن بعض الاقتصاديين)، فإن هذه المخرجات سوف ينتجها سكان عددهم خمسة أمثال سكان أمريكا، وسوف يصعد يقينًا العمال الصينيون إلى درجات أعلى في سلم مستوى المعيشة: من ٤ سنتات يتقاضونها اليوم مقابل كل دولار يتكسَّبه العامل الأمريكي إلى حوالي ٢٠ سنتًا مقابل كل دولار.
وهذه فوارق مهمة جدًّا؛ ذلك أن الصين حين تصبح الاقتصاد الأقوى في العالم، سيكون لها يقينًا ثقل سياسي وتجاري هائل. وسوف يوفر هذا للصين أيضًا الموارد اللازمة لإنجاز الاستثمارات الضخمة التي تحتاج إليها في مجال المرافق والاتصالات، وكذلك متابعة وإنجاز بعض الأنشطة الاقتصادية بعيدة المدى في التكنولوجيا والصناعة المتقدمة، ولكن الصين ستظلُّ، في المتوسط، اقتصادًا متخلفًا وغير كفء خلال القرن الواحد والعشرين، سوف توسع الصين من مجالات تميزها (وهو ما بدأ يحدث بالفعل)، ولكن الصين دون قاعدة من التكنولوجيا العالية والجودة العالية، والمخرجات العالية والإنتاجية العالية، وهو ما تميزت به اليابان خلال الثمانينيات، لن تستطيع بسهولة أن تكون قوة فائقة القدرة على المنافسة في مشروعات الأعمال ذات القيمة المضافة العالية، وكذا خطوط الإنتاج، وهي المجالات التي تهيمن عليها كوكبيًّا الآن الشركات الأمريكية واليابانية والأوروبية.
وأكثر من هذا، أن الصين إذا لم تقترب بعد من احتواء اقتصاد المعرفة، فإن الهوة الناجمة عن الفارق بين مستويات المعيشة الأمريكية ونظيرتها في الصين يمكن أن تتسع عمليًّا، وإذا افترضنا أن الصين حققت معدلات نمو عالية، وهو أمر لا مناص منه، فإنها باقتصادها القائم على قاعدة مكينة ربما يكون أمامها طريق طويلة حتى تتسنى لها القدرة على منافسة الغرب منافسة شاملة في مجال الاقتصاد العقلي المكثف، ولكن إذا ما استمرت معدلات النمو في الصين عند مستوًى معتدل، فإن الهوة سوف تتسع أكثر.
وإذا افترضنا أن الصين أضحَت «الاقتصاد الأضخم عالميًّا» بعد ثلاثين عامًا من الآن، فإن القدر الأكبر من نشاطها الاقتصادي سيكون مرصودًا لإطعام نفسها، وإنشاء مرافقها، وتوليد الطاقة اللازمة لها؛ للحفاظ على دوران هذه الآلة الضخمة، وتزويد قرابة بليون ونصف من البشر بالإسكان، الذي سوف يتحسن قليلًا، وباليسير من السلع الاستهلاكية.
إن الغالبية العظمى من القوى الصاعدة في التاريخ الحديث (إسبانيا وهولندا وبريطانيا والولايات المتحدة) اهتمَّت اهتمامًا كبيرًا بتوسيع نطاق المدى الذي يصل إليه اقتصادها في جميع أنحاء المعمورة، ولكن الصين غير معنية بالقضايا الكوكبية التي ليس لها علاقة من بعيد أو قريب بالمصالح الصينية؛ لذلك فإن الصين ترصد كل جهودها لكي تلقي بثقلها كاملًا عندما ترى أن المصالح الصينية الحيوية موضع الخطر على أبواب الوطن، مثل قضيتي تايوان والتبت.
ويقول جانج هاورو، الذي أصبح رئيسًا للجنة الدولة المعنية بإعادة هيكلة الاقتصاد، بعد أن كان يعمل محافظًا لمقاطعة سيكوان، ووزيرًا للتجارة الداخلية: «نحن مشغولون جدًّا بتحدياتنا الداخلية، وليس بتهديد بلدان أخرى اقتصاديًّا أو عسكريًّا.» ولكن ماذا بعد أن تسيطر الصين على هذه التحديات؟ «أود أن أقول إن خططنا الراهنة سوف تحتاج منا بضع سنوات لحلها لا أكثر، ولكن الصين — من الناحية الواقعية — ستظل مشغولةً بإصلاحاتها الداخلية على مدى نصف قرن من الآن.»
ولكن ماذا لو أخفقت الصين أو واجهت مشكلات خطرة في الداخل؟ ألم يحكِ لنا التاريخ كيف أن القادة يحاولون دائمًا وأبدًا تحويل انتباه الرأي العام بعيدًا عن المشكلات المحلية بالحديث عن النزعة القومية والعدوان خارج الحدود؟ ويقول جانج: «هذه عادة ليست من ثقافتنا.» وهو على صواب إلى حد كبير، ولكن أسلوب العمل في الماضي ليس ضمانًا لاتجاهات العمل في المستقبل، وهذا سبب من بين أسبابٍ كثيرة تجعل الغرب، رغمًا عنه، يرى أن من مصلحته مساعدة الصين على النجاح اقتصاديًّا.
ستظلُّ الصين عقودًا مقيدة بالتركيز على المشكلات الضخمة والمعقدة التي تواجهها في الداخل، إنها تعطي الأولوية القصوى لأهداف محددة وهي تودع القرن العشرين: الخروج بجماهير الفلاحين وبأعدادهم الهائلة من وهدة الفقر، وتحديث مرافقها القومية، والتقدم برخاء المناطق الساحلية؛ ليغطي مختلف أنحاء البلاد في الداخل، والتصدي للنتائج الجانبية المترتبة على العولمة. وهذه جميعها تكشف عن اتجاه نظر الصين إلى الداخل، وليس منها ما يمثِّل تهديدًا للآخرين، ولكن مع جهود الصين للتراكم الاقتصادي ومضاعفة الأسباب الأخرى للقوة سيسود القلق حتمًا داخل أوساط كثيرة.