عن المضاربين بالصعود والمضاربين بالهبوط والتفاؤل المعتدل
والملاحظ في ضوء الجدل السياسي الراهن، أن الصقور ودعاة الارتباط أمسكوا باختبار رورشاخ، وأعطى كل فريق تأويله الذي كشف عن حالة استقطاب متباعدة؛ فالصقور يستبد بهم القلق إزاء الآثار المترتبة مستقبلًا على نجاح الصين، ما لم يتم الحد من غلوائها مبكرًا بفضل النفوذ الأمريكي. ويؤمن دعاة التعاون أنه بالمساهمة في إنجاح الصين، يستطيع الأمريكيون التأثير؛ ومن ثم تحديد نوع القوة العظمى، التي ستكون عليها الصين مستقبلًا، ولكن يعتقد كلا الفريقَين، وعلى نحو شبه يقيني، أن الصين على طريق النجاح.
ولكن ثمة شق مهم يشتمل عليه بعد آخر في الجدل الدائر بشأن الصين، ونعني به الحجة التي تحاول أن تستوضح ما إذا كانت الصين ستصبح يقينًا القوة العظمى الجديدة، التي يتوقعها الصقور ودعاة التعاون، أم أن أثقالها وأعباءها وتناقضاتها ومشكلاتها غير المحددة، حتى الآن، سوف تجهض في النهاية فرصتها للنجاح، وتحرف وجهتها عن درب التحديث والرخاء لتمضي على طريق التفكك والفوضى؛ لتندلع بعدها ثورة جديدة.
(١) المضاربون بالصعود لهم طريقتهم
الجدل الدائر بين الصقور ودعاة الارتباط معني، إلى حد كبير، بالممارسات السياسية والخطة السياسية، ويديره في الأساس أطراف ليست لديهم خبرة عن الصين، ولكن الجدل الدائر بشأن ما إذا كانت الصين سوف تنجح في تحديثها بعيد المدى، يدور في الأساس بين خبراء وله مدلولاته العملية المهمة بالنسبة لرجال الأعمال والشركات الكوكبية، نظرًا لأنهم معنيون بما إذا كانوا يستثمرون في الصين، وكيف وأين يكون ذلك.
ويوجد عند أحد طرفي هذا الإطار المتعدد الألوان «المضاربون بصعود الصين». والملاحظ أن فريق المضاربين بالصعود ظل على تفاؤله، حتى بعد أن تفجرت في مطلع التسعينيات فقاعة الاستثمار، بل وبعد التوتر الحاد مع الولايات المتحدة بشأن تايوان، وحالة اللايقين إزاء انتقال هونج كونج وموت دنج هسياو بنج، وتباطؤ نمو الاقتصادات الآسيوية. ويشير فريق المضاربين بالصعود إلى أن الصين تواصل ازدهارها وتحتفظ بمكانتها، باعتبارها أسرع اقتصادات العالم نموًّا: حوالي ٣٠٠ مليون نسمة يقتربون من وضع الطبقة الوسطى. وثروة جديدة أدت إلى زيادة المبيعات الاستهلاكية بنسبة مذهلة بلغت ٢٠ في المائة في السنة، خلال النصف الأول من التسعينيات، في المدن الساحلية الكبرى. وتمضي الصين على طريقها لتكون إحدى الأسواق الرائدة للاستثمار الأجنبي المباشر؛ حيث يبلغ متوسط حجم التدفقات السنوية إليها في التسعينيات ما يناهز ٢٥ بليون دولار. كذلك فإن قطاعات كاملة في مجال الصناعة (صناعة لعب الأطفال والساعات والملابس، وأجهزة تشغيل الأقراص المدمجة، والهواتف الخلوية، بل وأجهزة الكمبيوتر الشخصي) تتحول إلى الصين. وبات إجمالي إنتاج قطاع الاقتصاد غير المملوك للدولة أكبر من إنتاج قطاع الدولة المثقل بمشكلاته، علاوة على أنه ينمو بسرعة كبيرة.
ويجد المرء بين السماسرة والصيارفة، على طول شاطئ المحيط الهادي، مكونًا قويًّا من الخبراء المضاربين بالصعود. ونذكر هنا وليم أوفر هولت أحد مديري مؤسسة اتحاد الصيارفة في هونج كونج، الذي استحدث سيناريو متفائلًا، سجل فيه جميع الأساسيات الإيجابية في الاقتصاد الصيني. وضمن هذا السيناريو كله في كتابه الصادر عام ١٩٩٣م، تحت عنوان «صعود الصين»، وأكد منذ وقت قريب جدًّا أن الصين بعد دنج «ستبقى أكثر توحدًا واستقرارًا وأمنًا عن أي وقت مضى خلال القرنين الأخيرين». وهناك أيضًا جيم رووير، الذي كان يعمل في السابق في مجلة «الإيكونوميست»، وهو الآن الاقتصادي الأول المسئول عن آسيا. ويعتقد رووير أن المركز العصبي لآسيا ينتقل الآن من هونج كونج إلى شنغهاي، وأنه، وعلى الرغم من المشكلات، لن يمكن إيقاف الصين صاحبة التجربة في الإصلاح الاقتصادي، «وهي تجربة مذهلة تجاوزت حدود أحلام أي إنسان».
وكثيرًا ما يستبق المضاربون بالصعود الظن، بأن الصين ستواصل تطوير قوانين مدنية وتجارية، وأن الحقوق المدنية وسيادة القانون سوف يجري وضعها في صيغة مؤسسية اجتماعية. ويعتقد البعض أن جماهير المجتمع الصيني لن يقر لهم قرار حتى تحقق «التحديث الخامس» — الديموقراطية السياسية — وأن النظام الديموقراطي سيكون الأداة لكل من حسم التحديات الكبرى للصين، وتحويل كل البلاد إلى منطقة مشروعات حرة شاسعة النطاق. وتجري الآن تجارب على الانتخابات المباشرة في الريف، وسوف تنتشر وتمتد هذه التجارب تدريجيًّا، على نحو ما يأمل كثيرون، لتشمل الأجهزة المركزية لسلطة الدولة. وأحسب أن اقتراحًا ثار خلال حوار طويل على الشبكة الفضائية (الإنترنت) خلال عام ١٩٩٥م، سوف يتم الأخذ به؛ إذ يمكن أن تنشئ بكين مناطق سياسية خاصة لتجربة إصلاحات سياسية، تمامًا مثلما أنشأت المناطق الاقتصادية الخاصة، لتكون بمنزلة معامل لإصلاحات السوق الحرة في الثمانينيات. ويكفي أن نظم الحكم في تايبيه وسول، وقد كانت في السابق نظمًا تسلطية قمعية، قامت على سياسة التحكم السياسي المطلق لزمن طويل؛ أضحت الآن نظمًا ليبرالية. ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الصين ليست بمنأًى عن هذا الاحتمال.
والملاحظ أن الصينيين أنفسهم أكثر حذرًا من كثيرين من الأجانب المضاربين بالصعود، وتشير مدام وو بي، وزيرة التجارة الخارجية والتعاون الاقتصادي، إلى أن «الصين بلد نامٍ بكل معنى الكلمة، وليس ثمة إمكان، على المدى القصير، لكي تلحق بالبلدان المتقدمة.» ولكن عددًا آخر من كبار المسئولين قالوا خلال لقاءاتنا بهم، في عبارات متباينة ولكنها تدور جميعها حول فكرة سبق أن عبر عنها، لأول مرة، دنج هسياو بنج: «مع منتصف القرن الواحد والعشرين ستكون الصين قد بلغت المستوى الاقتصادي لبلد نامٍ متوسط.» والملاحظ أن أيًّا ممن قالوا مثل هذه العبارة، لم يحدد بدقة ما الذي يعنيه، ولكن بالإمكان أن نخمن أن القادة يرون أن الصين ستصبح شيئًا قريبًا من إسبانيا، وقد أضحت عملاقًا بحلول العام ٢٠٥٠م.
ويتصور أحيانًا المضاربون بصعود الصين، أن بكين تقلل، عمدًا، من تقديرها لمستقبلها، حتى تعزز رغبتها في استمرار المعاملة المفضلة لديها، باعتبارها «بلدًا ناميًا» من جانب منظمة التجارة العالمية، علاوة على تحقيق رغبات أخرى. وربما أنها لا تريد أن تجرح أو تصدم بقية العالم؛ ولهذا يريد زعماء الصين تجنب النظر إليهم، باعتبارهم مقتنعين بأن اقتصاد الصين سوف يكون الاقتصاد الأقوى خلال القرن الواحد والعشرين. وأصبح مألوفًا أن نجد كبار الرسميين يدلون بحجج متباينة في التصريحات العلنية، رافضين أي تأكيدات بأنهم يضاربون بصعود الصين. وحدث أن انتقد شن جيان مساعد وزير الخارجية مجلة الإيكونومست؛ لأنها «تبالغ في تقديرها للتنمية الاقتصادية في الصين، وتقول إن الصين خلال فترة قصيرة جدًّا ستكون ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، ثم الأكبر.» واستطرد شن ليقول ما يشف عن تواضع الصين إزاء هذه الإحصاءات، وقال: «هذه التنبؤات جعلت الناس يستنتجون أن صعود الصين سوف يخلُّ حتمًا بالتوازن في الإقليم، وهذه حجج لا تفيد شيئًا، إن الصين ليست قوة عظمى، إنها ليست كذلك الآن، ولن تكون كذلك في المستقبل.»
ويقارن غالبًا المضاربون بالصعود بين الصين واليابان لبيان ما يحدث عندما تتجاوز معدلات النمو الرقم عشرة، لفترة زمنية طويلة. كان العامل الياباني المتوسط — منذ ٤٥ عامًا فقط — يحصل على أقل من واحد على عشرين مما يحصل عليه نظيره الأمريكي، وأصبح العامل الياباني اليوم يكسب أكثر من نظيره الأمريكي بحوالي ٢٠ في المائة، وتم هذا الإنجاز المذهل تأسيسًا على قوة متوسط معدلات نمو إجمالي الناتج المحلي السنوي في اليابان، الذي هو أقل قليلًا من الأداء القوي أخيرًا في الصين.
ويعرف المضاربون بالصعود أيضًا، أن النمو المفعم حيوية وقوة — وهو من النوع الذي ينقل أمة من وضع متخلف إلى أمة حديثة على مدى جيل واحد — ليس مجرد استثناء ياباني. والملاحظ أن بلدان شرق آسيا، ابتداءً من سنغافورة إلى سول، برزت في صورة من ينفث نارًا في معدلات نمو إجمالي الناتج المحلي والإنتاجية والمدخرات ومعدلات الاستثمار، وتكشف هذه الإحصاءات جميعها عن تباين حاد بينها وبين واقع الغرب المتقدم، حيث التقديرات المناظرة منخفضة، إن لم نقُل متدنية وضعيفة. وإذا ما كان «التنين الأصغر» قادرًا على هذا الإنجاز، فماذا عن التنين الأكبر وقدراته على الإنجاز، وهو تنين أكبر وأفضل كثيرًا؟
إن إجمالي الأصول في الصين مسألة مثيرة للانتباه: إذ بها أضخم قوة عمل في العالم، قادرة على العمل بأجور شديدة التدني، وتألف العمل الشاق، وتحترم السلطة، وقليلة الشكوى. ويتخرج في الجامعات سنويًّا عشرات الآلاف من المهندسين ذوي مهارات عالية بالمقاييس العالمية، ومتخصصين في مجالات حاسمة لتطوير صناعات التقانة العالمية. وتملك الصين موارد طبيعية غنية وشديدة الوفرة من النوع الذي تحسدها عليه اقتصادات التنانين الأخرى، التي تضطر إلى استيرادها من أماكن مختلفة. وسكان الصين اعتادوا تحمُّل صعاب ومشاق ومظاهر حرمان لا قِبَل لأحد بها، ولكنهم الآن مندفعون بحماس يندر أن تجد له مثيلًا في الغرب من أجل تحسين أوضاعهم، والارتفاع بمستوى الأسرة والمصنع والمجتمع إلى المعايير الحديثة. وتوجد في الصين سلطة سياسية مركزية، يمكنها — إذا شاءت — أن تجعل الأمة ترصد كل جهدها للبناء الاقتصادي، ومتحررة من التشريعات البيئية المفروضة قسرًا، ومن الأعباء الضريبية وغير ذلك من قيود بيروقراطية، التي كثيرًا ما ينصب اللوم عليها في الولايات المتحدة، باعتبارها تشكل قيدًا على النمو. وها نحن نرى الشركات الأجنبية والحكومات الأجنبية من جميع أنحاء العالم مستعدة للاستثمار، ونقل التكنولوجيا، وتدريب نظرائهم في الصين، وتقديم أهم المكونات اللازمة لتحديث البلاد. وتملك الصين ثقافة ينظر إليها عادة الغرباء، باعتبارها من أجدر الثقافات اللازمة للتعلم والتقدم، ومن أقدر الثقافات على ظهر الكوكب التي تتوافر لها خاصية الدوام، والتي تتصف بالروح العملية والمادية والتنظيم الذاتي، وإمكانات كبيرة على التكيف.
ويقول أحد المضاربين بالصعود: «أنظر إلى الصين هكذا، إنها ببساطة تستعيد مكانها الطبيعي في النظام العالمي، ظلت الصين على مدى ألفَيْ عام وهي أضخم اقتصاد في العالم، وحادَت عن مكانتها خلال مائتَي العام الأخيرة فقط.»
وينزع بعض المضاربين بالصعود إلى نظرة الصقور، ويتصورون أن الصين سوف تسيء استخدام وضعها المستقبلي كأضخم اقتصاد عالمي، علاوة على إساءة استخدام قوتها العسكرية؛ رغبة منها في تحقيق هيمنة على آسيا والعالم. ويقدم الغالبية نبوءة أكثر اعتدالًا: «ربما يكون القرن الواحد والعشرون قرنًا آسيويًّا، ولكنه القرن الذي ستملك فيه الطبقة الوسطى البازغة في آسيا — والصين طبعًا — قوة إنفاق، تمكنها من أن تقدم للغرب، وأمريكا بشكل خاص، بعضًا من أهم الفرص لمشروعات الأعمال والمال التي لم يسبق لها مثيل.»
إن الشركات في حاجة إلى نموٍّ لكي تظل قادرة على المنافسة، وإن نصيب الأسد من نمو الطلب العالمي ستوفره آسيا، والجزء الأكبر منه من الصين. ونظرًا لأن أسواق آسيا جديدة تمامًا، فإن القسط الأكبر من فائض الطلب سيكون متاحًا لمن شاء، وهذا هو السبب في أن «أسواق آسيا ستكون، بالتأكيد، حيوية للغاية لأي شركة غربية تريد أن تنمو سريعًا».
(٢) المضاربون بالهبوط يتذمرون
نجد على الطرف الآخر من مجموعة ألوان الطيف المضاربين بالهبوط، وهؤلاء لا يرون سوى المشكلات تنتظر في المستقبل أمة هي أكثر مناطق العالم ازدحامًا بالسكان. وفي رأيهم أن الصين كان مصيرها أن تتفكك من قبل لولا دنج هسياو بنج وما تحلى به من مهارة، مكنته من أن يبقي عليها متماسكة، وإن استخدم القوة الشديدة، ولكن دنج هو آخر زعماء المسيرة الكبرى، ولا يوجد في الأفق من بعده زعماء صينيون عظام. ويتساءل في دهشة المضاربون بالهبوط، عما إذا كان جيانج أو التابعون يمكنهم الحفاظ على وحدة البلاد، أم أن الصين ستدخل حقبة جديدة من الدويلات المتحاربة على نحو ما حدث في الماضي مع انهيار الأسرات الحاكمة. ويجمل هذه النظرة جاك جولد ستون، الباحث بجامعة كاليفورنيا، وذلك حين يحذر من اشتعال: «أزمة هي فصل الختام خلال العشر أو الخمس عشرة سنة القادمة؛ ذلك لأن الصين تكشف عن كل البوادر المصاحبة لبلد على الطريق إلى أزمة: زيادة سكانية كبيرة، وهجرات واسعة وسط إنتاج زراعي ثابت عند مستوًى واحد، وسخط بين العمال والفلاحين، وتقترن هذه البوادر جميعها بواقع أن الدولة تفقد سريعًا زمام السيطرة الفعالة.» وثمة دراسة سيئة السمعة اضطلعت بها لجنة من وزارة الدفاع في الولايات المتحدة خلال العام ١٩٩٤م، وكانت غالبية أعضاء اللجنة خبراء من الجيش والجامعات ومراكز الفكر. وانعقدت كلمتهم حول سيناريو يقضي باحتمال أن تواجه الصين، عشية وفاة دنج، انهيارًا شبيهًا بانهيار الاتحاد السوفييتي.
إن الصين، في رأيهم، مصابة بجميع الأمراض التي تخطر على البال: مشروعات مفلسة مملوكة للدولة، وفساد مستشرٍ في كل مكان، وهُوَّة اقتصادية تزداد اتساعًا بين الفقراء والأغنياء، وبين الريف والحضر، وبين مناطق الساحل ومناطق الداخل، وحزب شيوعي حاكم يعاني أزمة ثقة ومشروعية، بينما لا توجد خارجه مؤسسات قادرة على البقاء والاستمرار تكون بديلًا عنه. وحققت الصين إصلاحًا اقتصاديًّا تولدت عنه توقعات كبيرة وآمال فائقة، ولكنه عاجز عن الاستمرار في توفير السلع، ما لم يقترن بإصلاح سياسي، وهو ما ترفضه بكين. ويعاني المثقفون والموظفون المدنيون المزيد من الفقر أو التشرد، أو يضطرون إلى مغادرة البلاد ضمن نزيف العقول المستمر، هذا بينما يتسلق الجهال والحمقى والفاسدون قمة السلم في حكم زمرة الأغنياء الجدد الذين خلفتهم السوق الحرة، ونجد المقاطعات الجنوبية الفقيرة، والأقليات العرقية في المقاطعات الغربية، كلٌّ يسعى إلى تحقيق مصالحه بطريقته الخاصة. هذا بينما تنشأ الإقطاعات وتتزايد أعداد أغنياء الحرب المحدثين. وهناك ما يقرب من مائة مليون عاطل يذرعون البلاد طولًا وعرضًا بحثًا عن عمل، ويسهمون في خلق المزيد من الفوضى الاجتماعية، بل ويبذرون بذور الثورة. وتتزايد النزعة القومية التي يمكن أن تدفع الصين إلى غزو تايوان، وإلى فرض هيمنتها على آسيا (الأمر رهن الشخص الذي تتحدث إليه من فئة المضاربين بالهبوط)، سواء لأن النجاح الاقتصادي بالصين دفع بالأمة إلى الغطرسة، أو لأن الخوف من الفشل استبد بها، وتحاول إخفاء مظاهر قصورها بتوجيه الانتباه العام إلى حملات عسكرية.
ويبني عادة المضاربون بالهبوط حججهم على فرض محدد، وهو ما لم ترفع الحكومة يدها عن الاقتصاد وحياة المواطنين، فإن البلد سوف يتدهور حتمًا، بل وينهار، وثمة مقال بعنوان «بعد دنج الطوفان»، كتبه الباحث آرثر والدرون من كلية الحرب البحرية وجامعة براون. يقول والدرون على سبيل المثال: «المشكلة الجذرية في كل هذه السيناريوهات الكارثية تكمن في الطابع غير الديموقراطي للحكومة الصينية؛ ومن ثم عجزها عن التعامل الكفء مع التغير السريع واسع النطاق.»
واحتلت مكان الصدارة حجة مفرطة للمضاربين بالهبوط: إذ يعتقد بعض الخبراء أن اقتصادات آسيا سوف تتبخر، وأن لا مهرب للصين دون الركود الاقتصادي. ويكفي أنه قبل أن تجري عمليات سحب العملة في تايلاند وفي ماليزيا من المصارف، والتي كانت الشرارة الأولى لأزمات آسيا المالية عام ١٩٩٧م، كان هناك عدد من الخبراء يؤكدون أن غالبية اقتصادات آسيا التي حققت نموًّا مرتفعًا في سبيلها إلى الركود. وها هم الآن يشيرون إلى الوحل الذي انغرست فيه أقدام اليابان، واستمرت فيه ولم تخرج. واليابان عمدة قصة النجاح في آسيا. ويشيرون كذلك إلى معجزة كوريا الجنوبية التي يوشك اقتصادها أن يتوقف، والتنين الصغير في جنوب شرق آسيا، الذي تراكمت عليه المشكلات عامًا بعد عام، وانتقلت من نجاح سياسي إلى ديون باهظة. ويقول المتطرفون من المضاربين بالهبوط إن الصين الآسيوية ستلحق بهم؛ فالصين منطقة اقتصادية أثقلتها مشكلاتها وبشدة، وإن من يشاهدون تصدعات تصيب واجهة اقتصادات آسيا الإعجازية، يشاهدون الآن في الصين أوجه تشابه تثير القلق. وتشير إحصاءات جديدة متباينة وأساليب جديدة للتقدير الكمي لما يجري في اقتصاد الصين إلى أن الفقر انتشر على نطاق واسع، يتجاوز حدود ما تصوره الغرباء، حتى ليمكن القول إن قرابة ربع سكان الصين يعيشون الآن تحت خط الفقر. ويقال إن نمو إجمالي الناتج المحلي أبطأ كثيرًا مما كان مفترضًا، ولم يتجاوز الرقم عشرة. وتباطأ الاستثمار الأجنبي، حتى إن السذج من رجال الأعمال الأجانب أدركوا أن بكين لن تدعهم يصلون إلى سوق المستهلكين، الذين يتجاوز عددهم ١٫٢ بليون نسمة.
وتفيد حجة يطرحها الاقتصاديون المضاربون بالهبوط أن الصين أنجزت بالفعل الشطر اليسير أو السهل من عملية «البناء الاقتصادي»، وذلك بأن أخرجت الزراعة من نظام «الكوميونات» أو القرى الجماعية، وأقامت القطاعات الأخرى على قاعدة السوق؛ لذلك، فإن المزيد من النمو سيكون صعبًا، وسوف يتطلب نوعًا من المبادرات الإبداعية في السياسة العامة، وهو ما تحجم الصين عن الشروع فيه. نعم، إن إزاحة العقيدة الشيوعية أمر يسير، ولكن الشيء غير اليسير هو استدامة نمو اقتصادي، يتجاوز الرقم عشرة على مدى فترة زمنية طويلة.
ويعتقد عالم الاقتصاد بول كروجان الخبير الأول العالمي في مجال الإنتاجية، أن الصين لا تحقِّق نموًّا كبيرًا فيما يسميه «إجمالي إنتاجية عناصر الإنتاج»، التي هي المحرك الرئيسي لمظاهر التحسن الاقتصادي على المدى الطويل، وتتجلى في الارتفاع بمستوى المعيشة والتنافسية المطردة على الصعيد الدولي. ويرى كروجان أن هذه ليست مشكلة الصين وحدها، بل مشكلة اقتصادات النمو الآسيوية، التي حققت نموًّا عاليًا في السابق. وليس المطلوب هو، فقط، إضافة كميات كبيرة من رأس المال والتوسع في قوى العمل، بل مطلوب أيضًا تخصيص فعال لحصص الاستثمار في كلٍّ من رأس المال البشري والمادي؛ إذ إن هذا من شأنه أن يمكن الاقتصادات من توسيع نطاق إجمالي المخرجات؛ وكذا الحصول على مزيد من المخرجات الكفؤة بالنسبة لكل عامل.
والملاحظ أن معدل النمو السنوي من الاستثمار الأجنبي الجديد في الصين، والذي كان يومًا ما يرتفع سريعًا جدًّا، أخذ في التباطؤ خلال عامَي ١٩٩٦م-١٩٩٧م، مما يشير إلى أن كبرى الشركات العالمية أصبحت أكثر حذرًا حتى قبل الانهيار، الذي شهدته بعد ذلك سوق الأسهم. وأصبحت الشركات الأجنبية كثيرة الشكوى بصوت مرتفع، بسبب ما تواجهه من مشكلات تتعلق بدخولها سوق الصين، حتى بعد أن أنشأت مرافقها، ودخلت في مشروعات مشتركة مع شركات صينية ذات مكانة كبيرة.
بيد أننا إذا وضعنا في الاعتبار الانخفاض من حوالي ٤٢ بليون دولار، هي قيمة التزامات الاستثمار الأجنبي الجديد المباشر العام ١٩٩٦م، إلى ما يقلُّ عن ٣٠ بليون دولار في العام ١٩٩٧م، فإن الفائدة الكلية للمشروعات في الصين تظل كبيرة جدًّا. وتخفي الأرقام كل مظاهر الخروج عن القياس التي تنفرد بها الصين. مثال ذلك، أن كميات مهمة من الأرصدة المحلية تم تصديرها إلى خارج الحدود، لتعود ثانية باسم استثمار «أجنبي»؛ ومن ثم تتحرر من بعض الضرائب والقوانين المحلية. علاوة على هذا فإن هونج كونج كانت دائمًا هي الرائدة للاستثمار الأجنبي، والذي لم تكن الصين تعتبره «أجنبيًّا» لأغراض سياسية، ولم يعد الآن أيضًا أجنبيًّا بالمعنى الفني للمصطلح، ولكن على الرغم من جميع هذه الملاحظات بشأن إحصاءات الاستثمار الأجنبي في الصين، فإن الشيء المؤكد أن الصين هي الثانية بعد الولايات المتحدة لاختيارها سوقًا للاستثمار الأجنبي، وهذا ما يؤكده أحد المؤشرات التي يطرحها المضاربون بالهبوط.
وقرب نهاية عام ١٩٩٦م، ظهر تلاقٍ في التفكير بين المضاربين بالهبوط المتشبثين بوجهة نظرهم إزاء الصين، وفريق جديد من المضاربين بالهبوط بالنسبة لآسيا، وفي هذا تقول كلمة المحرر في مجلة «بيزنس»:
يكفي أن نتجاوز غلالة التفاؤل بشأن آسيا حتى يواجه الواقعيون كمًّا من المشكلات القاسية؛ فبينما تولدت أرباح هائلة عن النجاح، فإن الشطر الأكبر منها جرى استثماره في تشييد مبانٍ رسمية شاغرة، أو في الإفراط في تكديس مبانٍ لمؤسسات إنتاج سيارات أو رقائق الكمبيوتر أو بتروكيماويات. وقضى الفساد على الكفاءة التي هي وليدة قوى السوق. وتعمد المصارف الخاضعة لإدارة الدولة وأسواق رأس المال الضعيفة، إلى توجيه رأس المال إلى الشركات المملوكة للدولة، وإذا أرادت آسيا الانتقال إلى المستوى التالي للنمو، يتعين عليها التخلي عن اقتصاد الأوامر القيادية، والتحول إلى اقتصاد قائم على الأسواق والجدارة والإبداع.
يمكن أن نقرأ كل التعليقات السابقة باعتبارها انتقادات ليست موجهة فقط في اتجاه آسيا، بل موجهة بشكل خاص إلى الصين، ولكن بعد أن صادفت هذه الأفكار رواجًا. بدأ المضاربون بالصعود يتساءلون عما إذا كانوا مجرد مجموعة ممن خدعتهم أفكار الرؤى والأماني. ربما واجهت معدلات النمو في آسيا حالة دورية من التباطؤ، ولكن الصين التي تنمو «فقط» بمعدل ٧ في المائة، لا تزال تنمو بأسرع من ضعف معدلات نمو اقتصادات الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الغربية.
ولكن الصين خذلت في هذه المسألة المضاربين بالهبوط. وفي أواخر التسعينيات، توافقت آراء خبراء الاقتصاد الأجنبي، وأكدت أن الصين أنجزت بحقٍّ مهمة إعجازية؛ إذ تدنى معدل التضخم إلى مستويات يسهل التحكم فيها. ولا يزال ثمة احتمال بأن يخرج التضخم مستقبلًا عن حدود السيطرة، ولكن واقع الحال الآن يشهد بأن هذه الأزمة، تحديدًا، أمكن تجنبها.
(٣) وجهة نظرنا
نحن نتخذ موقفًا مغايرًا لموقف المضاربين بالصعود والمضاربين بالهبوط، ولكنه ليس موقفًا وسطًا. نحن نأخذ حجج المضاربين بالهبوط مأخذًا جادًّا، ولكننا، في النهاية، نرفض الكثير من سيناريوهاتهم السيئة، باعتبار أنها مستبعدة الحدوث. أما عن المضاربين بالصعود، فإنهم دون شك مفرطون في تفاؤلهم، غافلون تمامًا عن الأخطار التي أبرزها المضاربون بالهبوط، ونسوا تمامًا العوائق التي تفرضها الثقافة، ويبدو أيضًا، أنهم عمدوا إلى الوقوع في أكبر خطأ يتعلق بعلم المستقبليات: وهو إسقاط الاتجاهات الراهنة على المستقبل البعيد، ولكننا، مع هذا كله، نميل مع رياح المضاربين بالصعود، عندما يتعلق الأمر بتقييم الكيفية التي ستتطور بها الصين، خلال القرن الواحد والعشرين.
ويمكن للقارئ أن يقول: إننا مضاربون بالصعود، ولكن مع قدر من الحذر، ونحن نرفض فكرة أن الصين ستسعى إلى الهيمنة على العالم، باعتبارها القوة العظمى في القرن الواحد والعشرين، بيد أننا نرفض كذلك فكرة أنها ستنهار تحت ثقل أعبائها، وسوف تفشل في ملاءمة نفسها مع النهج الغربي في بناء الرأسمالية والديموقراطية. إن اعتلاء الصين مسرح الاقتصاد العالمي، لن يكون قصة نجاح سهل يسير، على نحو ما يأمل بعض رجال الأعمال. ولن تكون الصين كذلك القوة السلبية الخالصة، التي شغلها الشاغل هو تقويض دعائم السلم والأمن العالميين، وتدمير البيئة على نحو ما يخشى البعض.
من المشروع تمامًا أن نفكر في إمكان حدوث فوضى واضطراب شديدين: لقد شهد تاريخ الصين الحديث صدمات جذرية منتظمة، كما شهد ميلًا لكي يجنح البندول الاقتصادي السياسي بشدة وبسرعة كبيرتين، تتجاوزان ما يحدث في أي موقع آخر. ولنتذكر، على سبيل المثال، أن جون كي. ثيربانك، عميد الدراسات الصينية في أمريكا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تنبأ، وبثقة كاملة، بأنه لن تحدث انتفاضات ثورية عقب وفاة ماو عام ١٩٧٦م، حتى على الرغم مما سبق من أحداث، تصاعدت في صورة محاولة انقلاب وانقسام بين صفوف القيادة.
وإن المثال الذي سقناه عن ثيربانك، يجعلنا نحذر التكهن بأن الصين سوف تواصل السير على الدرب الذي حددته مسبقًا. ونحن نعتقد، في الحقيقة، أن الصين في حاجة إلى نوع من التطهير أو التفريغ للتخلص من أخطاء الماضي، وتؤسس نظمًا للمستقبل، ولكن مثل هذا التطهير لا يقتضي ردة الصين بلا رجعة. والحقيقة أنها ستهيئ إمكان اطراد دفعة المسيرة إلى الأمام. ولقد شاهدنا بأعيننا، ومن خلال خبراتنا، كيف استقرت ورسخت المعجزة الاقتصادية الصينية الجديدة؛ إذ لاحظنا، مع رحلاتنا الأولى، كيف أن الصين عمدت، دون تردد وبلا كلل، إلى السير قدمًا على طريق الإصلاح الاقتصادي، واستحداث، على الأقل، بعض آليات السوق، والانفتاح على العالم الخارجي والاندماج فيه. ويمكن التأكيد على أن السياسة الاقتصادية الصينية، تحركت، في ثبات واطراد، نحو مجموعة من الأهداف المتمايزة على مدى العشرين عامًا الأخيرة، أكثر من الأهداف التي سعت إليها السياسة الاقتصادية الأمريكية.
وإذا تأملنا أساسيات الجدل الدائر في الصين اليوم، بين ما يمكن أن نسميه «المعسكر التقليدي المحافظ» وفريق الإصلاح الأكثر ليبرالية، نجد أن هذا الجدل يعكس فوارق خاصة بالسياسة العامة، ليست أوسع من الخلافات القائمة في الغرب. ويعبر الجدل الموضوعي الدائر في الصين، بدرجة ما، عن الحجج التي سادت خلال العقدين الأخيرين، بين أنصار سياسة كلينتون وسياسة ريجان، وبين الديموقراطية الاشتراكية الأوروبية والتاتشرية. ونحن في الغرب لدينا، بطبيعة الحال، وسائلنا السلمية المتمركزة على مؤسسات لحل أسباب الخلاف. والحقيقة أن الصين بدأت، الآن فقط، العمل من أجل سيادة القانون، والمشاركة العامة في صياغة السياسة، والعمل، بشكل منظم، لنقل السلطة، وإن هذه الحقيقة من شأنها أن تجعل هذه الاختلافات السياسية المعتدلة نسبيًّا، قابلة للاشتعال في أي لحظة.
ولم تكن عملية الإصلاح الصيني لتجري سهلة سلسة، لم تتناوبها بدائل ما بين السرعة المفرطة ومحاولة التوقف خشية وهلعًا، ولكننا ونحن نشهد انحرافًا عن المسار، لم نشهد تحولًا كاملًا يصل إلى ٩٠ درجة، ناهيك عن التحول ١٨٠ درجة، ولكن عمدت الصين، بدلًا من ذلك، إلى السير عبر مساحة، تمثل منتصف الطريق المنطلق قدمًا إلى الأمام.
وفي رأينا، في نظرة شمولية إلى المناخ الاقتصادي السياسي، أن الوضع في الصين، بالنسبة لمشروعات الأعمال الأمريكية والمستثمرين الأجانب، وضع متفائل حذر. ونحن ننصح المستثمرين، بالعدول عن البحث عن طريدة سهلة سريعة في الصين، أو انتظار عائد استثماري مبالغ فيه. أما عن الشركات القائمة في الصين للعمل، على مدًى طويل، وتملك خططها الاستراتيجية وشركاءها المحليين الجيدين، علاوة على المعارف اللازمة، فإننا نرى أن البيئة التي تعمل فيها هذه الشركات، سوف تكون أكثر استقرارًا نسبيًّا خلال العشرين عامًا القادمة. وعلى الرغم من أن بعض الشركات الأمريكية ستواجه، بشكل مستمر، بعض المشكلات السياسية وتعاني النزعة القومية الصينية، فإن هذه العوامل ستعوضها وتوازنها عملية نمو قوي مطرد، وزيادة في نضج السوق الصينية.
ومع منتصف العقد الثاني، ستبدأ أرقام النمو في الصين تتضاعف، بفضل البيئة الأساسية المحسنة واللائقة لمشروعات الأعمال، وتدعمها حرية الوصول إلى السوق، فضلًا عن مزيد من قبول قواعد منظمة التجارة العالمية وغيرها من المعايير الدولية. وسوف يقترن هذا بتنامٍ مطرد لطبقة وسطى أفضل تعليمًا وأكثر قوة؛ ولهذا نرى أيضًا أن الشركات الأجنبية التي ستبقى وتستمر، خلال سنوات الانتقال القليلة القادمة، ستكون هي الرابح الأعظم.