أعباء الصين
التصنيف إلى فئتين: فئة «المضاربين بالصعود»، وفئة «المضاربين بالهبوط» تصنيف ملائم، ولكنه، بطبيعة الحال، لا يفسر عمق التفكير أو البدائل المختلفة، التي يستبقها كل فريق من المعسكرين؛ إذ تحتاج الصين إلى نقلة إدراكية بعيدة عن التصنيف البسيط، والافتراضات السهلة، والاتجاه للنظر إلى البلد، من حيث هو في ذاته قلعة إقطاعية ضخمة ومركبة، لها وضعها وحجمها وتاريخها وعاداتها الراسخة على مدى القرون، التي صاغت عقلها وقلبها حتمًا، على نحو مغاير يقينًا عن البنية التي تصورتها عنها مسبقًا غالبية بلدان الغرب.
وإذا ما أردنا أن نحدد مواضع المعالم المميزة التي سوف تشكل الركائز، التي ستبني عليها الصين مستقبلها — خاصة إقامة دعامات سوف يكون لها أثرها محليًّا، بل ودوليًّا — يجب علينا، أولًا، أن نضع في الاعتبار سلسلة من الأعباء، التي لا مثيل لها في تاريخ التنمية، والتي سوف تشكل قيدًا على ما تحقق من تقدم حتى الآن بشق الأنفس.
(١) عبء الحجم
أهم خصائص الصين الواعدة هي، أيضًا، أكبر خطر يتهدد بقاءها، ألا وهي الحجم. يعرف الجميع، أن الصين أكبر أمم العالم ازدحامًا بالسكان، ويبلغ تعدادها الآن حوالي ١٫٢١ بليون نسمة. وإذا كانت الشركات الأجنبية تعمل جاهدة، لتخطي جميع العقبات الأخرى، التي تمثلها الصين، فإنما ذلك طمعًا في تحقيق حلمها، بالحصول على نصيب من تلك السوق الاستهلاكية الشاسعة. ولا يزال كثيرون، حتى الآن، عاجزين عن إدراك أبعاد الصين، أو فهم الحدود والتحديات التي يفرضها ذلك الحجم على أولئك الذين أضحت مهمتهم هي محاولة توجيه وإدارة أوسع المجتمعات، التي عرفها التاريخ عبر بحار الإصلاح والتحديث، وسط مياه غير صالحة للملاحة؛ لذلك حري بنا أن نركز تفكيرنا، للحظة، على الصين، وكم هي بلد شاسع جدًّا حقًّا.
إن التزايد المطرد في عدد سكان الصين، يرغمها على إطعام ما يزيد على ربع سكان العالم، علاوة على ما بين ١٣ و١٥ مليون فم إضافي كل عام. ويكفي أن نعرف أن الصين، خلال عقد واحد، تضيف عددًا من السكان يقارب عدد سكان اليابان اليوم، ومن المرجح أن تضيف خلال جيل واحد عددًا يماثل عدد سكان الولايات المتحدة. وإليك بعض الأمثلة فقط لما تعنيه هذه الأرقام، بالنسبة للحياة اليومية للناس:
-
توجد بين المشروعات المملوكة للدولة في الصين ٥٠٠ مشروع، توظف أكثر من ١٠٠ ألف نسمة — أربعون مثلًا لعدد الشركات التي تماثلها في الحجم في الولايات المتحدة.
-
كل عام لا بد أن ينشئ الاقتصاد الصيني ما بين ١٠ و١٥ مليون وظيفة جديدة، وهو ما يعادل ضعف أو ثلاثة أمثال ما تنشئه آلة الوظائف الإعجازية في الولايات المتحدة. والشيء المذهل أن قادة الصين يعملون ذلك الآن.
-
«عمال التراحيل» من الفلاحين، الذين أصبحوا عمالًا مهاجرين، يصل عددهم تقريبًا إلى ما يقارب حجم القوة العاملة كلها في الولايات المتحدة يصل عددهم إلى أكثر من ١٠٠ مليون نسمة. وتتوقع الحكومة أنه خلال خمس السنوات التالية سيكون هناك حوالي ١٣٧ مليون فلاح زائدين على الحاجة (عدد يقل بعشرة ملايين نسمة عن إجمالي سكان روسيا).
-
عدد المدن الصينية التي يزيد تعداد سكانها على مليون نسمة، يزيد على إجمالي عدد المدن المماثلة في بقية العالم مجتمعة. ومن المتوقع أن تظهر خلال العقد التالي ثلاثون مدينة إضافية. وكما يقول لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة المخضرم، عندما اتجه النقاش إلى القول بأن بلده نموذج محتمل لكي تحاكيه الصين: «نعم، ولكن توجد في الصين أكثر من مائة منطقة من مناطق الحضر، التي يزيد عدد سكانها على تعداد سكان سنغافورة. إن نموذج سنغافورة، قد يفيد، إذا ما نذرت جميع مواردك له — بيد أنني لا أعرف إذا ما كان الصينيون، بكل ما يملكونه من موارد وجدية واجتهاد، وبكل ما يملكونه من تصميم، قادرين على عمل هذا مائة مرة.»
-
مقاطعة واحدة هي مقاطعة سيكوان، يمكن أن تحتل الترتيب السابع بين أكثر مناطق العالم، من حيث تعداد السكان؛ إذ إن حجمها مثل حجم فرنسا وبريطانيا معًا. وهناك تسع مقاطعات صينية، تحتل كلٌّ منها أعلى مرتبة بين عشرين بلدًا، هي أكثر بلدان العالم ازدحامًا بالسكان.
-
عدد المستهلكين من أبناء الطبقة الوسطى، من سكان الحضر في الصين، أكبر من عدد أبناء الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة. ويزيد عدد الموظفين الحكوميين كثيرًا على مجموع سكان بريطانيا. ويزيد عدد أعضاء الحزب الشيوعي على مجموع سكان كاليفورنيا ونيويورك معًا. ويصل عدد الفلاحين في الصين إلى أكثر من مجموع سكان كل شمال أمريكا وجنوب أمريكا وأوروبا: بشرقها وغربها. ويلاحظ أن تفضيل إنجاب الذكور، يعني أن عدد الذكور سيزيد بحوالي ٤٠ مليونًا عن عدد الإناث مع بداية القرن الواحد والعشرين، ويقارب هذا الرقم عدد مجموع سكان أكبر ٤٧ مدينة أمريكية ممن يترقبون الزواج.
-
شهية الصين إلى الطاقة أكبر حجمًا من أي دولة أخرى؛ إذ يقدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية أن الصين ستحرق ٣٫١ بلايين طن فحم سنويًّا، بحلول عام ٢٠٢٠م؛ ولذلك سوف تستهلك الصين في العام الواحد كميات من الفحم، أكثر من كل ما حرقته الولايات المتحدة، منذ بداية الثورة الصناعية فيها.
-
العملقة لها أعباؤها وضريبتها دائمًا، بما في ذلك بؤس البشر ومعاناتهم. ويبلغ عدد المعاقين الصينيين أكثر من إجمالي تعداد فرنسا. والمعروف أن الفيضانات شردت، خلال عام واحد، أعدادًا كبيرة جديدة، تزيد على أعداد سكان كل المدن الأمريكية مجتمعة.
-
تضم الصين الآن ٣٠ مليون متقاعد، وثمة نبوءة بأن العدد سيكون أربعة أمثال هذا الرقم بحلول عام ٢٠٢٥م، معنى هذا أن عدد من سيبلغون الستين فأكثر، في هذا التاريخ، سيماثل عدد نظرائهم في كل بلدان العالم.
وطبعًا، إن لحجم الصين، على الرغم من ضخامته، مزايا كثيرة من وجهة نظر استراتيجيات التنمية والنمو الاقتصادي. ومثلما هي الحال في اليابان وأوروبا وأمريكا الشمالية، عندما يؤدي عدد المواطنين خارج القوى العاملة إلى زيادة سريعة في العبء الملقى على كاهل الحكومة، كذلك في الصين، حيث تدخل أعداد غفيرة وضخمة من السكان، ضمن قوة العمل، وعلى أهبة الاستعداد للتوسع في كلٍّ من الادخار والإنفاق. وواضح أنه ما لم تكن سوق الصين بهذه الضخامة المعروفة عنها، فإنها لن تجذب نوع الاستثمار الأجنبي اللازم لحفز عملية التحديث. وإذا لم تكن قوة العمل واسعة النطاق، فإن الصين لن تكون مركز الصناعة قليل الكلفة. كذلك، فإنه من دون السوق المحلية الهائلة المقصورة على الخدمات، فإن المشروعات الصينية ربما ما كان لها أن تحلم بأن تصبح رائدة عالمية في مجال مشروعات الأعمال ذات القيمة المضافة العالية. صفوة القول، إن عامل الضخامة هو الذي يجعل من التنين الصيني قوة كبرى في العالم.
ولا يزال الحجم عبئًا هائلًا على كاهل الصين. إن الحجم المجرد لعدد السكان من شأنه أن يجعل التغيير والإصلاح والتقدم أصعب وأشد تعقدًا، مما لو كانت الحال على غير هذا النحو؛ إذ حين يصبح لازمًا إطعام عدد هائل من الأفواه، وكذا توفير الملبس وخلق الوظائف لهذا العدد الكبير، فإن المجددين يمكنهم تحمل الاضطلاع بعدد أقل من المخاطر في السياسة الاقتصادية. والملاحظ أن زعماء الصين أثر فيهم بشدة، تراث الإخفاقات السياسية الهائلة، الذي لا تزال تعيه الذاكرة: لقد شاهدوا عشرات الملايين من أبناء شعبهم، يتضورون جوعًا زمن القفزة الكبرى إلى الأمام، وعانوا بأنفسهم من التمزق، واسع النطاق، الذي تصدعت معه حياتهم بسبب مظاهر الزيف السياسي والفوضى، وما يشبه الحرب الأهلية أيام الثورة الثقافية. ويعرفون جيدًا ما الذي يمكن أن يحدث، إذا ما اتخذوا قرارًا خاطئًا، وأخذ يتضخم بفعل أبعاد الصين الهائلة. وهكذا، فإن عبء الحجم الذي يثقل الصين، يبرز واضحًا في مناخ الحذر السائد. إن الصين العملاق الضخم يفرض العمل من أجل إضافة الجديد وزيادة العائد، وليس من أجل المزيد من الثورات.
(٢) عبء الطبيعة والجغرافيا
الضخامة تخلق مشكلات كثيرة، ولكن ربما لا نجد من هو بالغ الدقة، ويحاول تنمية اقتصاد يملك إمكانات الصين، ويجعل منها قوة عظمى حديثة، تأسيسًا على قاعدة موارد، تحكمها قيود شديدة. إن الصين أمة قارية كبيرة الحجم، وهي طبيعيًّا ثاني أضخم بلدان العالم، وتحظى بكثير من الثروات الطبيعية، ولكن لم يحدث، أبدًا، أن اضطلعت أمة بثروة اقتصادية وصناعية بهذا القدر من الاتساع، بينما ترتكز على أساس ضعيف جدًّا من الموارد والإيكولوجيا.
يتعين على الصين أن تدعم خمس البشرية بما هو أقل من خمس الأراضي الزراعية في العالم، ويطرد النمو السكاني دون توقف، كما يستمر التقدم الصناعي، وينخفض نصيب الفرد من الأرض الزراعية (المذهل أنه انخفض بنسبة ٣٥ في المائة منذ ١٩٧٨م). ويقول ريتشارد مارجوليس، المدير الإداري لإحدى مؤسسات هونج كونج: «هنا تحديدًا، تجد الحقائق الأساسية اللازمة لكي نعرف الصين.» وهناك موارد أخرى آخذة في التدهور، إذ خلال السنوات الثماني الماضية ارتفع ناتج الصين من النفط فقط بنسبة ١ أو ٢ في المائة سنويًّا، بينما زاد الاستهلاك بنسبة ٧ إلى ٨ في المائة. ويمثل الانتعاش الاقتصادي خطرًا يهدد الصين بغصة. ويقول علماء الصين: إن التلوث الصناعي يسهم في الإصابة بالأمراض الصدرية المسئولة عن حوالي ربع الوفيات في الصين.
والملاحظ أن نقص الأرض الزراعية، وتضاؤل الموارد الطبيعية، والزيادة السكانية، والتلوث، كل ذلك يخلق ضرورة لا محيص عنها، ويهيئ دوافع جديدة تحث على فكرة التنمية المستدامة. ويتضح هنا أن المسألة توازن دقيق، حيث إن التنمية الاقتصادية الصحيحة والمناخ السياسي المستقر، هما فقط ما يساعد على البقاء والاستمرار.
(٣) التنين الجائع
وكلما أضحت الصين أكثر رخاءً، كانت القيود أكبر على مواردها؛ لذلك فإن كثيرين من الناس يمكنهم الآن شراء شطائر الماكدونالد في بكين، حيث زاد استهلاك لحم البقر في العاصمة ثلاثة أمثال خلال عام، عقب أن افتتحت شركة ماكدونالد أول ثلاثة مطاعم لها. وطبعي أن المزيد من اللحوم في غذاء الصينيين، يعني أن الحبوب اللازمة لتربية مزيد من الماشية والخنازير والدجاج، كان لا بد أن تزيد إلى حوالي ٥٠ مليون طن خلال السنوات الأربع الماضية، وهي أكبر طفرة في تاريخ العالم. وتذهب التقديرات إلى أنه حتى لو استطاعت الصين أن تضاعف إنتاجها من الحبوب على مدى عشرين عامًا — وهو أمر غير محتمل — فلن يتوافر الغذاء الكافي لإطعام كل صيني على نحو ما يأكل اليوم.
ويقدر العلماء أنه ستكون هناك فجوة بشأن الإمداد بحبوب الطعام، يتراوح حجمها ما بين ٥٠ مليونًا و١٠٠ مليون طنٍّ سنويًّا، خلال السنوات الخمسين القادمة. وتنبَّأ ليستر براون، مدير معهد وورلد وتش، بأن الصين تحتاج إلى حوالي ٣٠٠ مليون طن من الحبوب من الأسواق العالمية بحلول عام ٢٠٣٠م، وهو طلب يتجاوز كثيرًا حدود ما يمكن أن توفره الآن أسواق العالم المتاحة للتصدير. وذهب براون إلى أن العجز الصيني قد يفرغ خزائن العالم، بل وربما يتسبَّب في مجاعة عالمية.
بيد أن مثل هذه النزعة التشاؤمية قد تنطوي على مغالاة: ذلك أن التقدم العلمي في مجال الزراعة وزيادة الإنتاجية، والتوسع في موارد إنتاجية جديدة تفي بالغرض اللازم، ربما ينفي كل احتمالات وقوع مثل هذه الكارثة. ومع هذا، فالذي لا شك فيه أن سياسات بكين الداخلية والخارجية ستكون مشروطة، إلى حد كبير، بواقع حال تربة الصين وإنتاجها المحصولي.
(٤) التنين الأسود
وتضم الصين بالفعل الآن سبع مدن من أصل عشر مدن هي الأعلى تلوثًا في العالم، أو ثلاثًا وأربعين مدينة يحتوي الهواء فيها على مركزات ثاني أكسيد الكربون، التي تزيد على المعدلات التي حددتها منظمة الصحة العالمية. والمعروف أن نصف أمطار منطقة جواندونج حمضية، وتصل النسبة في مدينة شانجشا الصناعية الجنوبية إلى ٩٠ في المائة. وعلى الرغم من نقص المياه أصلًا في الصين، إلا أن الصين تجد جدول حساب المياه فيها آخذًا في التناقص، كما أن الأنهار والبحيرات فيها ملوثة. واضطرت السلطات في عام ١٩٩٣م إلى وقف إمدادات المياه في مقاطعة جيانجسو عدة أيام إلى أن يتم تصريف ستين مترًا مربعًا من المياه السامة، التي تصبها في النهر مصانع قائمة عند المنبع، وكانت هذه هي المرة الثامنة التي يصاب فيها البلد بمثل هذا الحدث على مدى سبع سنوات.
ويبدو من المحتمل جدًّا أن يزداد تدهور البيئة سوءًا، ويتنبأ مركز بيل لسياسة وقانون البيئة، بأنه إذا امتلكت ثمانية بيوت من كل عشرة بيوت في المدن الكبرى ثلاجات «مبردات» مع مطلع القرن الواحد والعشرين، فإن هذا الاستخدام الزائد للطاقة، سوف يؤدي وحده إلى مضاعفة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين. ونعرف أن كل واحد من بين ١٠٠٠ صيني يمتلك سيارة الآن بالمقارنة بالولايات المتحدة، حيث النسبة ٥٧٠ سيارة لكل ١٠٠٠ نسمة. ولنا أن نتخيل احتمالات التلوث، ناهيك عن كميات استهلاك النفط التي تفوق التصور، لو أن الصين تمكنت من اللحاق أو تحقيق ولو نصف هذا المعدل.
ويحذرنا دوجلاس بي. موراي، رئيس مؤسسة لينجان والخبير في شئون بيئة الصين؛ إذ يقول: «أضف هذا إلى قيود الكوارث الطبيعية؛ فقد نُكبت الصين بعدد من أسوأ الزلازل والفيضانات في العالم، خلال فترات متقاربة، ويمكن لنا، حينئذٍ، أن نتصور بسهولة الانهيار الإيكولوجي، الذي سوف يحدث على نطاق غير مسبوق. وينطوي هذا أيضًا، على شبح الهجرات الجماعية وحشود اللاجئين، التي سوف تعبر حدودًا لها حساسيتها السياسية، مطالبة بالمساعدة الدولية، التي لن يصلهم منها سوى نزر شديد الضآلة، هذا علاوة على تزايد الاعتماد على الجيوش كوسيلة للضبط والربط. إنه لأمر مستحيل … أو لا طاقة للمرء أن يفكر فيه.»
(٥) التوازن الصعب
إن اقتران نقص الأرض الزراعية بالاكتظاظ السكاني المطالب بالطعام، من شأنه أن يخلق أعباءً شديدة الوطأة والتأثير، تتجاوز حدود الأيديولوجيا والسياسة، وتدفع بالصين في اتجاه الإصلاح السياسي والاندماج أكثر في الاقتصاد العالمي. وأشار ريتشارد مارجوليس إلى هذا بقوله: «أصبحت الصين مستوردًا كاملًا للنفط، وهي مستورد رئيسي للمحاصيل، ومدينة بما يزيد على ١٠٠ بليون دولار صافي الدين الخارجي. وإن أي قائد يرى لزامًا عليه، أن يحافظ على النمو والرخاء في الصين، لا بد أن يعترف بأنه لا رجعة إلى الاكتفاء الذاتي، وحكم الفرد المطلق».
ويمضي المتشككون في دفاعهم، ويؤكدون أن ما تعانيه الصين من: نقص في الطعام وفي الموارد، يمكن أن يشجعها بسهولة على التحول إلى قوة عدوانية، تسعى للحصول على ما ينقصها بالقوة العسكرية. بيد أن هذه نظرية بها قدر متعمد من الإثارة؛ إذ من العسير أن نتصور الصين توجه جيوشها إلى فيتنام، وتنجح في احتلالها، وتصدر محاصيل الأرز بها إلى الصين، كأنها تعيد النظام الاستعماري للإمبراطورية الإقطاعية القديمة. إنه من الأيسر أن نتخيل الصين وروسيا تستهلان القرن الواحد والعشرين بتوقيع حلف يتضمن عقد صفقات متبادلة، حيث تقايض الصين سلعها المصنعة بالقمح والمحاصيل الزراعية الروسية.
ولعل المشكلة البيئية هي التي تنطوي على أشد الأخطار. ويبدو الحل من وجهة نظر أمثالنا من أبناء الاقتصاد المتقدم حلًّا مباشرًا: إلجام النمو الاقتصادي الصيني، والالتزام بسياسات تنمية أكثر وعيًا بأمور البيئة. ويبدو هذا المنطق معقولًا جدًّا، من وجهة نظر الأجنبي، ولكن سيكون متعذرًا فهمه وقبوله من جانب الصين، وليس في ذلك ما يثير الدهشة. ونذكر هنا، أنه حين اتجهت الولايات المتحدة غربًا في القرن التاسع عشر، ارتفعت أصوات المواطنين الأمريكيين محذرة بأننا بهذا السلوك نستنفد البيئة وندمرها، ولكننا لم نتجاهل فقط الرسالة، بل قتلنا الرسل. واليوم، وقد أصبح المجتمع الأمريكي شديد الوعي بشئون البيئة، لا نزال — على الرغم من هذا — ندير اقتصادًا هو الأكثر استهلاكًا للموارد، والأكثر تبديدًا في العالم.
وتوجد لدى الصينيين قوانين وبرامج بيئية بديلة، تتصف بقدر من القوة، ويستحيل القول بأنها ناقصة من حيث المعلومات أو غير معنية، ولكنها تفتقر إلى التمويل وإلى الوسائل القوية، التي تمكنها من فرض التنفيذ عند التعامل مع المشروعات الكبرى المملوكة للدولة، والمسئولة عن التلوث، ولكن أمكن إغلاق مئات المصانع، وتم إغلاق أكثرها بفضل ضغوط قوًى جماهيرية عدة. وتحاول بكين جاهدة — ودون كلل — من أجل إعادة التشجير ومكافحة تآكل التربة، واستحداث صناعات جديدة ونظيفة، وتعمل الحكومة أيضًا من أجل استكشاف طاقة شمسية وغاز الميثان، وغيرهما من مصادر الطاقة البديلة، وهي في هذا أكثر نشاطًا من الولايات المتحدة. والملاحظ أن بعض سياسات بكين التي يضيق بها دعاة حقوق الإنسان في الغرب، هي من السياسات — وهذا ما يدعو إلى السخرية — المفيدة للبيئة، ونذكر من بينها: ضبط النسل، وإجراءات منع المهاجرين من الزحف إلى المدن، على نحو ما حدث في بلدان أخرى من العالم الثالث.
ويتعين على قادة الصين أن يكون لهم، دائمًا، دور للحفاظ على البيئة، وذلك بأن يحاولوا تنمية الاقتصاد إلى أقصى قدر ممكن، ولكن دون أن يتسبب هذا في كارثة أيكولوجية. ويمثل هذا، بطبيعة الحال، عملية توازن شديد الصعوبة، خاصة إذا عرفنا أنه لا متوازيات في التاريخ، توازي حجم ونطاق وكثافة عملية تحديث الصين، وهذه مجرد واحدة من التحديات الكثيرة، التي لا بد أن يتصدى لها أي فريق قيادي.
(٦) عبء التاريخ والثقافة
لعل قيود الثقافة أقوى أثرًا وفعالية من قيود الحجم والموارد؛ فالأعراف والتقاليد والمعتقدات التي كان مصيرها الاختيار، أو النبذ على مدى آلاف عديدة من السنين، هي التي صاغت الصين، على نحو ما هي عليه الآن. ونكاد نقول، إن الصين الحديثة هي حضارة أكثر منها «أمة» أو «إدارة حكم».
وعلى الرغم من أن التغيرات التي طرأت على مدى العشرين عامًا الأخيرة، هي تغيرات هائلة، إلا أن هناك مجالات تمثل القلب من الصين، والتي تكون فيها الثقافة الصينية معصومة من التغيير. هناك، على سبيل المثال، هيمنة امتدت قرونًا لمجموعة فريدة من القيم، وما اقترنت به من تسامح تجاه الآراء المنافسة، والمتضاربة عن المجتمع والسياسة والعالم. وتضخمت هذه الميول بدورها بفعل التراث الراسخ، على مدى تاريخ الصين الإقطاعية، وهذا أمر من الأهمية بمكان في أن يفهمه الأمريكيون، خاصة أن الإقطاع ليس له تاريخ جدير بالذكر في تاريخنا الوطني. وبالنسبة للصين، كان الإقطاع لا يزال قائمًا حتى الأمس، وبقاياه الكثيفة التي تخلفت عنه، تسهم في إبطاء وتشويه الحركة السريعة نحو التحديث. للتاريخ الهيمنة الكاملة في المملكة الوسطى، على نحو ما كان دائمًا. ولا يوجد مجتمع في العالم، لديه مثل هذا التاريخ من حيث قدره، ودراميته، وتعقيده، واستمرارية شعاراته، وأصداؤه وتأثيره في الحاضر.
هناك الأساليب الفردية المنطلقة للقيادة، والعلاقات أحادية الاتجاه بين الناس والدولة، والقوى الطاغية للعشائرية، ومشكلات الإطار الدستوري الذي يفتقر إلى الدوافع الديموقراطية عميقة الجذور، وأهمية الكبرياء والثقة بالذات. وهناك أيضًا دور المثقفين، وارتياب منظمي المشروعات، والميل إلى النزعة القومية وكراهية الأجانب، والتناقضات بين المدن والريف. وكذلك دور المرأة، النزعة المحافظة العميقة والنزعة الريفية، اللتان تسدان السبل أمام العمل على حل المشكلات الملحة. هذه جميعها عوامل، وهناك كثير غيرها، مستمدة في الأساس من الماضي الإقطاعي العريق للصين، وضاعفت من حدتها، بل وعززتها التجربة المادية التي كانت تعني، في الغالب الأعم، سياسات إقطاعية بلغة شيوعية. ولقد كان الإمبراطور ماو، بل والإمبراطور دنج، هما في النهاية آخر الأباطرة الحقيقيين للصين.
(٧) الزمان
نفوذ الماضي يبدأ مع إحساس بالزمن. ونرى أن الصين، في بعض المجالات، تسابق وتضغط في مساحة طولها عقد من الزمان، تغيرات استغرقت قرنًا أو يزيد، في أنحاء أخرى من العالم. وأن هذا النمو الذي يطرد سريعًا كالنار في الهشيم، يخلق جيوبًا كثيرة من التقدم في تجاور مع التخلف القديم. مثال ذلك، أن أكبر شبكة في العالم من مرقمات الهاتف والهواتف المحمولة نجدها في الصين، هذا على الرغم من أن الإرسال التليفوني السلكي التقليدي، لا يزال يعاني مظاهر قصور مفجعة.
وتظهر الصين في مجالات أخرى وهي تسير الهوينى، وتكاد تكون غير واعية بالزمن الذي تستغرقه، لكي تضع إصلاحات معينة في نصابها. وكثيرًا ما يشعر الغربيون بالإحباط، عندما يرون الرسميين يتهادون في حركتهم عند اتخاذ قرار سياسي، أو الموافقة على ترخيص؛ حيث يكون التصرف السريع في مصلحة الصين أساسًا. ونجد قادة الصين، من ناحية أخرى، لا يرون أنفسهم، بشكل عام، وأنهم في سباق مع الزمن، أو مع أي قوة أخرى. هذا على عكس اليابان في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين؛ حيث صاغ صناع السياسة، في حمية وسرعة، استراتيجيات التنمية الوطنية، وحافزهم في هذا هدف مرسوم، هو اللحاق بإجمالي الناتج المحلي لبلد بعد آخر، ولكن الصين يعنيها الحفاظ على النظام والاستقرار — أو لنقل الميزة السياسية — أكثر مما يعنيها إنجاز أي هدف تنموي محدد في وقت قصير. إن الأفضلية في الصين هي فقط لإنجاز تلك التغيرات التي يدعمها إجماع ملائم للآراء، وهي تغيرات ليس من شأنها أن تعوق مسار الركب الاجتماعي أو السياسي.
واعتدنا نحن، في الغرب، أن نرى الزمن في مصلحتنا؛ لأننا قادرون على التكيف، ونتحلى بالمرونة ونعشق التغيير. بيد أننا قد نتحول إلى مثل الأرانب، في سباقها مع السلحفاة. وإذا عدنا إلى عام ١٨٩٨م، عندما وقعت بريطانيا عقدًا، مدته تسعة وتسعون عامًا، تكون لها فيها الهيمنة على جزيرة هونج كونج، لم يفكر أحد على الإطلاق فيما سوف يحدث بعد نفاد التسعة والتسعين عامًا، وسبب ذلك، أن تسعة وتسعين عامًا من الزمن الأنجلو-أمريكي/الأوروبي كانت تعني البداية. ويشبه السؤال هنا، كأن هناك من تساءل: ماذا سيحدث للأرض عندما تفنى الشمس؟ ولكن تسعة وتسعين عامًا، عند الصينيين، تبدو كأنها طرفة عين، وهي هي السلحفاة، تسير الهوينى في صبر ودأب إلى الأمام؛ لكي تستوعب جميع الثروات الخيالية التي شيدتها الأرانب على مدى الأعوام في هونج كونج.
(٨) أباطرة ومثقفون وبيروقراطيون
يمكن للمرء أن يقرأ تاريخ سياسية الغرب، باعتباره قصة جهد مبذول، لاستكشاف وسيلة فعالة؛ لتوازن القوة بين الحاكم والمحكوم. والغرب مليء بالمنظمات والمؤسسات التي توفر الزواجر والقيود والتوازنات: محاكم عليا وبرلمانات وكنائس، ووسائل إعلام ونقابات، وغير ذلك من منظمات جماعات المصالح. ولا تعرف الصين هذا التقليد، ولكن ظهرت مؤسسات معدودة ومحدودة ذات استقلال ذاتي لتحد من، وليس للمشاركة في، سلطة الإمبراطور.
والإمبراطور في الصين الحديثة، هو الحزب الشيوعي. وعلى الرغم من أنه الآن أضعف وأقل نفوذًا مما كان في السابق، فإنه لا يزال أقوى مؤسسة في البلاد. وأكثر من هذا، أن القوات المسلحة التي يقال إنها المؤسسة الوحيدة في الصين، التي تتمتع بقدر من الاستقلال، لا تزال تخضع لقيادة الحزب. والملاحظ أن جميع القيود والموازنات المتعلقة بسلطة المجلس، هي قيود وموازنات داخلية، أي داخل الحزب ومحجوبة عن العالم الخارجي.
وحاول ماو أن يهز أركان هذا التنظيم الشللي أو العائلي، ولكن دنج عاد إلى التقليد القديم؛ إذ كان يعتقد أن النمو — الاستقرار — يتعين هندسته من خلال بيروقراطية مدربة، وليس بالتحايل عليه. وهكذا عود على بدء، أصبح المئات من الشباب المتحمسين النشطين والمتعلمين، في أواخر السبعينيات والثمانينيات، عناصر لا غنى عنها مرة ثانية، وقادرين على خدمة حكومة إصلاحية. وعمل هؤلاء موظفين حكوميين ومهنيين وأكاديميين وعلماء ومهندسين وكتابًا وفنانين، وبدءوا عملهم في مؤسسات ومراكز الفكر للدولة، وفي قطاع الأعمال والمؤسسات المالية، وشغل بعضهم منصب العمد للمقاطعات، أو مناصب رفيعة المستوى في هذه المقاطعات.
إنهم ربما يكونون متميزي القدرات، موهوبين، على حظ عالٍ من المعارف الجديدة، بشأن الاقتصاد الكوكبي. وربما يتطلعون إلى المساعدة في تطوير سيادة القانون، وإقامة مجتمع أكثر تعددية. وربما يكونون أصحاب آراء انتقادية لبعض سياسات الحكومة، بل وساخرين، صراحة وعلانية، من أوجه القصور في الحزب، ولكنهم إذا ما استقروا في المناصب المهمة، فسوف يصبحون، بوجه عام، مثل إخوانهم وأقرانهم التاريخيين: يقدمون الولاء، ويعرضون على حكام الدولة نزعة حذرة، تؤمن بالتقدم التدريجي؛ إيثارًا للاستقرار والتغير خطوة خطوة في إطار النظام.
والملاحظ أن غالبية الصينيين، بل ومن هم على حظ رفيع المستوى من التعليم، ومن أبناء الطبقة الوسطى الحضريين، يقبلون الآن النظرة التقليدية: السياسة التلقائية تزعزع الاستقرار وينبغي تجنبها. ويعتبر الاختلاف، بشأن المبدأ الأخلاقي، تراثًا جديرًا بالتكريم والتقدير، ولكن تنظيم معارضة سياسية صريحة وسافرة، فهو في نظر الجميع الطريق إلى الفوضى، وهو ما أكدته ثانية أحداث ميدان تيان آن مين.
إن الهيمنة التاريخية للتفكير الكونفوشي التراتبي الضيق المحدود، جعلت من الأثرياء الجدد من الصينيين والجيل الجديد من صغار السن، أكثر مساندة للنظام عما افترض الأجانب أول الأمر.
لقد ذهب الظن بالأجانب إلى أنه من البدهيات، أن النزعة الاستهلاكية لدى جيل الشباب، وتطلعهم إلى مستوى معيشة مرتفع، وأساليب حياة أكثر حرية، سوف تجعلهم مؤيدين صرحاء، لمزيد من التحول إلى سياسة غربية الطابع في المستقبل، ولكن مع احتمال شيوع الرغبة في ديموقراطية أصيلة، وإن ظلَّت رغبة كامنة، فإنها نادرًا ما تأخذ شكلًا محددًا مبرمجًا. ونجد خارج البلاد حفنة من أصحاب الأحلام يتحدثون تفصيلًا عن برامج موضوعية للتغيير السياسي. ونجد داخل البلاد أصواتًا فردية جسورة، ويدور الحوار داخل الجامعات والمراكز والمؤسسات الفكرية، والجماعات الدراسية، ولكنها جميعها، وعلى أحسن الفروض، مسدل عليها ستار من الصمت. وكم هو عسير أن نكتشف الآن ما إذا كان يوجد أمثال توماس جيفرسون وألكسندر هاملتون وجيمس ماديسون بين المفكرين الصينيين أي رجال قادرين على رؤية ما وراء الوقائع السياسية الآنية، والتطلع إلى نظام مغاير تمامًا من حيث التفاصيل الضرورية لإقامة نظام آخر.
وأكثر من هذا، أن النتائج ستكون مذهلة بين من يتوقع الأجانب لهم أن يكونوا أقدر على صياغة رؤية ديموقراطية. يقول لنا «رأسمالي جديد» ملتزم بالحداثة في كل مظاهرها: «أنا لا أختلف مع الاشتراكية في شيء، علينا فقط إصلاحها، وليس الثورة ضدها.» وعندما أجرى مراسل صحافي لقاءً مع سونج قيانج، أحد الكتاب الشباب ذوي النزعة الوطنية الجديدة، ومؤلف كتاب «الصين تستطيع أن تقول لا» الصادر عام ١٩٩٦م، وهو من أكثر الكتب مبيعًا، وجد المراسل أن سونج لم يكفَّ عن تكرار الفكرة الرئيسية في الكتاب: «أن نقول فقط لا للثقافة والأيديولوجية، وأنساق القيم الأمريكية.» وسأله الصحافي: لأي شيء يريد سونج أن يقول كلمة نعم؟ وكانت الإجابة: «القيم التقليدية التي تعلمناها من كونفوشيوس، ومن الطاوية.»
(٩) ٩٠٠ مليون فلاح
«ولكن، هل ذهبت إلى الريف لمناقشة مستقبل الصين مع الفلاحين؟» جاء هذا السؤال في ختام حفل غداء، انعقد لمناقشة مستقبل النظام المصرفي في الصين، وجرى النقاش مع قطب من أقوى رجال المال. وكان بالإمكان أن يبدو السؤال غريبًا وفي غير موضعه، لو لم نعتد سماع هذه الرسالة ذاتها على مدى العشرين عامًا الماضية. وتحدثنا عن مشكلات المشروعات المملوكة للدولة، وعن أسواق الصين الناشئة حديثًا، وعن اندماجات وممتلكات مشروعات الأعمال في الغرب. ودار بخلدنا الآن، لماذا يسألنا مضيفنا هذا السؤال؟ ولماذا يتكرر السؤال ذاته مرات ومرات على لسان كبار المسئولين الصينيين عند حديثهم مع الأجانب؟
إن عادة احترام وتقدير فلاحي الصين، البالغ عددهم ٩٠٠ مليون نسمة، خاصية يتصف بها جميع الماويين، حتى الخوارج منهم، الذين ارتدوا عنهم. استحدث ماو صيغته الصينية للماركسية الأوروبية على أساس فهمه للإقطاع الصيني والفلاح الصيني، واستطاع أن يطبق النظرية على الحياة الواقعية، حين قاد أول ثورة فلاحية ناجحة في العالم الحديث. وأضحت العبارة السائدة على كل لسان «حكمة الفلاحين» مطبوعة في الأذهان، وتتكرر على لسان المثقفين والرسميين الصينيين. لقد عرفت الصفوة الصينية، على مدى آلاف السنين، أن الكيفية التي يرى بها حكم الفلاحين هي مناط الاختلاف بين صين مزدهرة وناجحة، أو صين جائعة ثائرة. ولكن الفلاحين أصبحوا، في عهد ماو فقط، أبطالًا سياسيين لهم المجد.
ولكن شيوع مشاعر التململ والضجر، وتزايد فوارق الدخل في الريف، أبلغت القيادة الصينية أنها مالت بجهودها كثيرًا، في اتجاه تحسين ظروف وفرص الحياة، لسكان المدن والسواحل على حساب الفلاحين.
والقادة الصينيون على يقين من شيء واحد، وهو أنهم لا يحتملون ولا يطيقون أن تسود الريف مشاعر الضجر (ولهذا السبب، على سبيل المثال، أعلنت الحكومة أنها لن ترفع الضرائب، ولن تفرض ضرائب جديدة على الفلاحين حتى عام ٢٠٠٠م). ولا يقبل القادة أن تنشأ ظروف وأوضاع تفضي إلى حدوث هجمة شاملة ضد مدن غنية، مثل بكين أو شنغهاي أو قوانجو. إنهم يعرفون أن بالإمكان، وخلال طرفة عين، أن تمتلئ المدن بأحياء من نوع أكواخ الفقراء والعشوائيات، التي تتميز بها مدن مثل ريو ومكسيكو سيتي ولاجوس، التي زحفت إليها حشود الفلاحين، باحثين — في يأس — عن فرصة للحياة في المدن. ويوجد، بالفعل، الآن مائة مليون فلاح صيني بغير عملٍ ثابت، وعلى استعداد للهجرة. ويتعين البحث عن حلول جديدة لتلك الهُوَّة الفاصلة بين سكان المدن ذوي الثراء الفاحش، والفلاحين الذين يطحنهم الفقر. وقد أصبحت تلك الهُوَّة فاصلًا اجتماعيًّا يشق صف البلاد التي ظلت، وعلى مدى خمسين عامًا، تدعو إلى عدالة اسمية.
جملة القول، إن الريف يمثل عقوبة كئودًا وهائلة على طريق تنمية الصين. وإن كل من لديه قدرة على التفكير الاقتصادي، يمكنه أن يتخيل كيف يمكن تحويل ٣٠٠ مليون صيني، هم سكان المدن والسواحل، إلى اقتصاد «تنين آسيوي» جديد، مثل سنغافورة أو هونج كونج أو تايوان، ولكن ماذا عن ٩٠٠ مليون فلاح ومزارع، هم سكان الريف، لا أحد يملك إجابة صحيحة. إن بالإمكان استخدام أراضيهم على نحو أكثر إنتاجية؛ وفاءً لأغراض أخرى. ولكن إذا ما فقد عدد كبير جدًّا من الفلاحين جذورهم، وهجروا الأرض بسرعة كبيرة، فإنهم لن يجدوا وظائف لهم في أي مكان آخر.
معنى هذا، أن ثمة مهمة جبارة تنتظر هناك، لدعم وتطوير نمو الإنتاجية الزراعية، والارتفاع بمستوى المعيشة. وعلى الرغم من معرفة القادة الصينيين لهذه الحقيقة، إلا أنهم أغفلوا، ولزمن طويل، نبوءة شاعت خلال المراحل الأولى من عهد دنج الإصلاحي، في مطلع الثمانينيات، وهي أن الصين ستكون أمة حديثة، وتلحق بباقي بلدان العالم مع نهاية القرن. وإنه بسبب فقر الريف وتخلفه، ومستقبله الذي تعوقه قيود كثيرة، لن تستطيع الصين في مجموعها، أن تلحق بالغرب عاجلًا — إن لم تقل أبدًا — من حيث مستوى المعيشة، أو نصيب الفرد من المخرجات، أو غير ذلك من المعايير.
(١٠) أوراق العشب
تزخر صحافة مشروعات الأعمال بقصص لا تنتهي عن الرأسماليين الجدد في الصين، وتحكي دائمًا عن عقدهم للصفقات عبر الهاتف الخلوي، وتنقلاتهم بسيارات المرسيدس، وترددهم على بوتيكات أحدث الصيحات والمطاعم المترفة. ويملك الآن أبناء النخبة شديدو الثراء — في شنغهاي — سيارات ماركة فيراري، على الرغم من قلة الأماكن الصالحة لقيادتها فيها. وسألنا صاحبة محل للملابس الفاخرة في بكين: من الذي يشتري هذا الرداء الرياضي بألفَي دولار؟
أجابَت قائلة: رجال الأعمال.
– الأجانب؟
– لا، رجال أعمال صينيون أثرياء، من هنا!
ويبدو أن وسائل الإعلام الغربية تقول: إن رجال الأعمال هؤلاء يشخِّصون مستقبل الصين، ولكن إذا كان تنظيم المشروعات والاقتصاد الخاص هما اللذين سيحددان مستقبل الصين، إذن، فإن المستقبل أبعد ما يكون عما توحي به الملاحظة العفوية في مراكز التجمع والضغط القائمة في الفنادق الدولية، والمطاعم الفاخرة، والنوادي الليلية الصاخبة. ونعود لنقول إن التراث الإقطاعي يشكِّل ثقلًا كبيرًا على عملية التحديث.
كان التجار في تاريخ الصين يحتلون أدنى الدرجات في السلم الاجتماعي دون الفلاحين، ودون النخبة العاملة بمراحل كثيرة جدًّا. ليس لأن التجارة لم تكن مهمة، فنحن نعرف أن طريق الحرير، الطريق الرئيسي للتجارة قديمًا، والذي يربط أوروبا بالشرق، يرجع تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي وبلغ التوسع الاقتصادي في أسرة سونج في القرنَين الثاني عشر والثالث عشر قدرًا عظيمًا، حتى ليمكن وصفه بأنه «ثورة تجارية»، ولكن الشيء الذي لم يحدث هو ما له صلة وثيقة بموضوعنا. إن البيروقراطية الإمبراطورية لم تعتد فقط النظر باستعلاء تجاه التجار، بل استخدمت سلطتها لجباية الضرائب وإصدار التراخيص ومنح الامتيازات وإيقاف نمو التجار. ذلك لأنه عندما كان تحقق مشروعات الأعمال (مثل تجارة الملح أو إقراض المال) يمثل نجاحًا كبيرًا، سرعان ما يستولي عليها رجال الإدارة الصينية؛ طمعًا في ربحها، ويحولونها إلى احتكارات تديرها الدولة.
ولكن صعود طبقة التجار في أوروبا أفضى إلى تراكم ثرواتها وإلى نمو المدن، ثم ما حدث بعد ذلك من توحدها مع النظام الحاكم، وما إن اتجهت إلى الزراعة والإقطاع حتى أصبحت موجهة إلى التجارة، ومن بعدها إلى الرأسمالية، ولكن لم يحدث مثل هذا التحول الاجتماعي في الصين؛ إذ لم يظهر التجار على هيئة طبقة، وظلت المدن هي مقر السلطة البيروقراطية. ولم تحدث بعد ذلك ثورة صناعية، وظل الإقطاع كما هو لم يمس حتى القرن العشرين.
ستحتفظ الدولة إلى الأبد بملكية الحصة الكبرى من اقتصاد المدينة، وسيظل المشروع الخاص يقوم دائمًا بدور تكميلي. نحن لا نستطيع أن نملك نظامًا يكون فيه الدور الأول للشركات الخاصة، وإنما القطاع الخاص مفيد فقط لإنجاز الأنشطة التي لا يستطيع قطاع الدولة إنجازها.
معنى هذا، على الأقل الآن، أن لا بد وأن يستمر النمو والتجديد الأهم حيوية للبلاد خارج النظام وليس داخله. وهذه سخرية تطول حتى أكثر الشركات نجاحًا. ولنتأمل حالة شركة مثل «اتحاد شركات ستون»، التي أسسها أربعة أصدقاء عام ١٩٨٤م بتكاليف زهيدة جدًّا، وبرنامج كمبيوتر واستطاع أن يجعل طابعة كمبيوتر ياباني تطبع بأحرف صينية. وتعتبر شركة ستون الآن أضخم مشروع خاص للتقانة العالية في الصين، وتتجاوز مبيعاته ٧٠٠ مليون دولار. وتزهو الشركة بأنها تعقد مشروعات تجارية مشتركة مع باناسونيك وكومباك ومتسوي، وأن لها قسمًا مدرجًا في سوق أسهم هونج كونج، هذا علاوة على تعاملها في كل شيء، ابتداءً من الأدوية إلى أطعمة الأطفال، ومن الرقابة الصناعية إلى الأثاث وشطائر الشيكولاتة. وتملك الشركة شعبة لتداول العقارات وتجارة الأوراق المالية والسندات والصيرفة التجارية.
ولكن نجاحها يعتمد اعتمادًا شبه كامل على الحكومة؛ إذ بينما تصف شركة ستون نفسها بأنها «شركة خاصة»، إلا أنها عمليًّا مسجلة من الناحية القانونية مشروعًا «جمعيًّا»، بما يعني أنها خارج نظام الدولة لكنها تخضع لمحاسبتها. علاوة على هذا، فإنه بعد أن شارك عدد من التنفيذيين في شركة ستون والعاملين فيها في التظاهرات المناهضة للحكومة عام ١٩٨٩م في ميدان تيان آن مين، احتل جيش التحرير الشعبي مكاتب الشركة لفترة وجيزة، وهرب ثلاثة من كبار رجال الإدارة إلى خارج البلاد. وفجأة أضحت شركة ستون، التي كانت نموذجًا للمشروع الخاص الإبداعي، هدفًا للتحقيق الأيديولوجي وعرضة للهجوم. وها هو شن جيوجن رئيس الشركة يحاول أن يتناسى هذه الذكرى الأليمة، ويقول في بساطة: «عانينا بعض الصعوبات التي سببها لنا حادث الرابع من يونيو، ولكن هذا — الآن — في عداد الماضي.»
وعادت الشركة الآن وأصبحت موضع رضًا سياسي، وتزهو بنجاحها التجاري، ولكنَّ ثمة شيئًا في وعي شن جيوجن لا يزال يقظًا حذرًا. ويحكي مثالًا معبرًا يقول: «يوجد دائمًا شق فاصل بين الإفريز الإسمنتي والممشى الجانبي، وينبت فيما بين الاثنين أحيانًا بعض العشب، ولكنه لا يتغذى على تربة جيدة أو ماء جيد. لهذا تراه قصيمًا ضعيفًا للغاية. وإذا هبَّت الريح …» وتراجع صوت شن، ولم نعد نسمع غير أزيز مكيف الهواء، وساد الصمت.