مشكلات مستحيلة وحلول ممكنة
الأعباء التي تحملها الصين مع القرن الواحد والعشرين، ليست مادية فحسب، بل اجتماعية ومؤسسية. عقدان من النمو والثراء أطلقا قوًى تهدد بتصدع المجتمع، وأكثر هذه القوى هي وليدة التناقضات، التي دهمت الصين تاريخيًّا، وحاولت الماوية استئصالها عنوة. وأكثر هذه التناقضات جدية، هي التناقضات بين من يملكون ومن لا يملكون، وبين المدن والريف، وبين الحكومة المركزية والمقاطعات التي تزداد قوتها باطراد، وكذلك بين الاقتصاد الذي لا تزال تديره وتهيمن عليه الدولة، وبين اقتصاد السوق الناشئ.
وتفضي هذه التشققات — في نسيج المجتمع — إلى حالات بطالة وفساد، وتحلل للقيم الاجتماعية واسع النطاق. وتفرض كلٌّ منها، وبطريقتها الخاصة، مخاطر مهمة باحتمال انتفاضات اجتماعية ممتدة هنا وهناك. وإذا أخذناها معًا، وإذا قدر لها أن تتسع، فإنها، يقينًا «قادرة» على أن تشكل الأساس لظهور حالة من التفكك والفوضى، وهو ما يتصوره المضاربون بالهبوط. ونجد في الوقت ذاته، وكما سبق أن قال ماو، أن هذه التناقضات تحمل في طياتها بذور الحل الحاسم لها، ويتعين على القيادة الصينية أن تكون قادرة على أن تحقق، على الأقل، بعض التقدم على الطريق، لحل هذه المشكلات للحيلولة دون الانهيار، وواضح أن هذا هو التحدي القائم.
(١) فائزون وخاسرون
حققت ثورة ماو نجاحها التاسع في الطريق إلى السلطة؛ لأسباب عدة من بينها أنها وعدت بأنها ستفعل شيئًا ما بشأن التفاوت الرهيب في الثروة داخل الصين، قبل العام ١٩٤٩م. والتزامًا صادقًا بمُثُلها العليا، حاول الحزب الشيوعي إقامة اقتصاد قائم على قاعدة فلاحية، فرضت المساواة في الدخل والمكانة. ولم يكن العمال أو الجنود أو البيروقراطيون أو المثقفون، أفضل أجرًا ولا أكثر احترامًا من الفلاحين، بل وربما كان البيروقراطيون والمثقفون أدنى شأنًا، ولكن التفاوت ظل قائمًا حتى وقتما كانت الماوية في أوجها، إذ كان كبار القادة الصينيين ينعمون بحياة ناعمة، بل وحياة ثرية مترفة في أشد أيام الصين قسوة. ولكن إذا ما وضعنا حجم المجتمع الصيني في الاعتبار، نجد أن التفاوتات الواسعة كانت شبه غائبة في أيام ماو. معنى هذا أن المساواة كانت أمرًا واقعًا، حتى وإن ظل الجميع فقراء.
ولكن مع مرور الزمن خلال تسعينيات القرن العشرين، ظهر أصحاب الملايين الذين يقودون سيارات فارهة خيالية، ويعيشون حياة مترفة مسرفة، بينما يوجد شحاذون مشردون يجوبون شوارع المدن الصينية. وبينما كانت الخدمات المنزلية عملًا غير مشروع أثناء الثورة الثقافية، أضحت اليوم عملًا جديدًا يضم فئة ضخمة من الناس، عادت الطبقة والامتيازات مشبعة بروح الثأر والانتقام. وواجهت البلاد استقطابًا اجتماعيًّا كاد يبلغ حد التطرف السائد في أمريكا وغيرها من المجتمعات الرأسمالية، التي اعتادت الصين، تاريخيًّا، أن تدينه.
وانتشرت في بكين الملاهي الليلية ومراقص الديسكو وعلب الليل، مثل ناسا وبارادايس وتوب ١٠ وأبوللو. وترى أبناء النخبة الجديدة يسرفون في شراب الكونياك الفرنسي، ويتابعون أحدث أفلام الفيديو الأجنبية، ويشاركون السكارى أغانيهم، ويتبادلون الحكايات عن الاستثمارات العقارية والإصدارات العامة من أسهم شركاتهم، وخلفوا الملايين وراءهم، وأضحوا همًّا يثقل فكر يان مينفو، نائب وزير الشئون المدنية. يبدو يان مهمومًا وهو يحاول أن يعبر لنا عن مدى الحيرة إزاء ثقل عبء المساعدات الاجتماعية في الصين، بينما يعب الأغنياء الجدد، أبناء المدن، أغلى أنواع الخمور والأنبذة. هناك حوالي ٨٠ مليون نسمة في الريف لا يملكون ثمن الشاي، ولا يحصلون، منذ زمن طويل، على ماء الشرب الكافي ليرووا عطشهم. وسألنا الوزير يان: «ما البعد الحقيقي لهذا التحدي؟» وأذهلتنا الإجابة: «هناك في المتوسط ما بين ١٢٠ و١٥٠ مليون نسمة، يحتاجون، كل سنة، إلى مساعدات اجتماعية هي حد الكفاف، لضمان مجرد البقاء.» وإذا كان لزامًا على يان أن يساعد كل مَن يقلُّ دخله في الصين عن خط الفقر العالمي، وهو دولار واحد في اليوم، فإن عليه هو وحكومته أن يساعدوا حوالَي ٣٤٠ مليون نسمة.
ويمكن أن تسمع في الطرقات ما يماثل هذه النظرية المتشائمة والمناقضة لمظاهر الرخاء الجديد، والتي تتردد مع وقع خطوات ملايين العمال، الذين طردتهم مشروعات الأعمال المملوكة للدولة، أو منحتهم «إجازة» إجبارية. وأفاد تشو كوانجدي عمدة شنغهاي أن ٨٧٠ ألف نسمة في مدينته سُرِّحوا من أعمالهم، خلال الفترة من ١٩٩٢م و١٩٩٦م؛ نتيجة الإصلاح الاقتصادي. ولا يزال ١٩٠ ألفًا منهم يبحثون عن عمل. وتفيد التقارير الرسمية أن معدل البطالة في الحضر، على الصعيد القومي في الصين، ٤ في المائة أو ٨ ملايين عامل، وهو رقم أقل من نظيره في الولايات المتحدة، ولكن منظمة الأمم المتحدة تذهب في تقديراتها إلى أن المعدل ١٨ في المائة. ويؤكد المتشائمون، أنه يصل إلى ٥٠ مليونًا بلا عمل داخل مدن الصين. ولا يعكس هذا الرقم عشرات الملايين من العمال، الذين ينتظرون فقد وظائفهم إذا ما سار الإصلاح الاقتصادي بالسرعة المحددة له في الخطة. ولا يشتمل هذا الرقم على من لا يعملون عملًا ثابتًا خارج المدن، ويحتاجون إلى عمل وإلى مأوًى. وهكذا يبين الوضع في أسوأ حالاته، ويتنبأ أحد مراكز الفكر الرسمية بأن حوالي ٥٤ مليون عامل في الحضر — أي حوالي ٣٦ في المائة من أصحاب الرواتب في الدولة — سيجبرون على البحث عن عمل آخر لهم مع نهاية العقد الأخير من القرن العشرين.
(٢) المدن مقابل الريف والشرق مقابل الغرب
الهوة بين الملاك والمعدمين يتجلى صداها في التفاوت بين الريف والحضر في الصين: ففي الأيام الأولى من مرحلة الإصلاح، أي في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، اتخاذ دنج هيساو بنج قرارًا ناجحًا بأن يركز على الريف، ورأى أن مجرد تحرير الأرض من إطار نظام الكوميونات، والعودة إلى بعض مبادئ السوق المتبقية، التي يفهمها الفلاحون في كل مكان، يمكن أن يولد طاقة إنتاجية كبيرة، ويحقق مكاسب اقتصادية سريعة. وارتفع دخل المزارع إلى ١٨ في المائة سنويًّا خلال هذه الفترة، ولكن ما إن بدأت الحكومة تركز على الإصلاحات الصناعية في المدن، حتى توارى الريف إلى الخلف.
وزاد دخل المدينة بأكثر من عشرة في المائة سنويًّا خلال السنوات الأخيرة، بينما ارتفعت دخول الريف بمتوسط لا يتجاوز ٤٫٥ في المائة. وأصبح التناقض بين دخل المدينة ودخل الريف أكثر حدة وتطرفًا عما هي عليه الحال في إندونيسيا أو بنجلاديش؛ إذ إن الفلاحين الآن يكسبون ٤٠ سنتًا مقابل كل دولار يكسبه أبناء عمومتهم في الحضر — وهي نسبة خطرة — في وقت أصبح التليفزيون ووسائل الاتصال الجماهيرية قادرة على جعل الفلاحين واعين تمامًا بمستويات المعيشة المرتفعة في المدن.
وتفاقمت المشكلة مع العمل الزائد؛ إذ إنه من بين قوة العمل الموجودة الآن في الريف، وقدرها ٥٤٠ مليون عامل، يمكن للزراعة أن توفر الحد الأدنى من الأجور لحوالي ٢٠٠ مليون. ويتناقص هذا الرقم مع تطبيق أسلوب المكننة، خاصة وأن سكان الريف يتزايدون، نظرًا لالتزامهم بالتقاليد أكثر من أهل المدن، ولأنهم أقل قبولًا لنظام تحديد النسل، والاكتفاء بأسرة صغيرة العدد. والملاحظ أن الصناعة ومشروعات الأعمال في الريف، تستوعب ١٠٠ مليون إضافية؛ ولذلك فإنها تترك ما قد يصل عدده إلى حوالي ١٥٠ مليون نسمة — أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة — من دون عمل ثابت، أي إما عاطلين وإما هائمين على وجوههم في الريف، ويحاولون الهجرة إلى المدن، أو عاطلين جزئيًّا، حيث يعيشون. ويوجد عشرة ملايين نسمة في طرقات مقاطعة سيكوان وحدها، وحوالي نصفهم تجاوزوا حدود المقاطعة، لينضموا إلى الزحف البشري صوب شرق الصين.
ويقدر المسئولون في مدينة شنغهاي أن عدد المنجونج، أي العمال المهاجرين أو من ليس لهم عمل ثابت، بحوالي ٣ ملايين عامل، أي ربع سكان المدينة. وترفض المدينة الآن إعداد مسكن للعمال المهاجرين، خلال السنة الأولى لإقامتهم في شنغهاي. ويقول أحد الرسميين في المدينة: «ليس هذا لأننا لا نهتم بهم، بل لأننا لا نستطيع أن نواكب حركة التوسع في المدينة. هذا وإلا فستهاجر الصين كلها إلى شنغهاي، وهنا نخاطر بحالةٍ من الفوضى الضاربة أطنابها.»
وتزداد مظاهر التفاوت تفاقمًا بين الريف والحضر، بسبب تزايدها بين الأقاليم الشرقية والأقاليم الغربية في الصين. ونلمس شيوع حالة من الغيرة واسعة النطاق في أعماق الصين، وفي المقاطعات الواقعة أقصى الغرب عند النظر إلى المناطق الساحلية الأكثر ثراءً، حيث يزيد متوسط الدخل على الضعف أو أربعة أمثال، ومع اطراد الزيادة في حالة التفاوت، شكلت المناطق الغربية حلفًا خاصًّا بها للضغط على بكين، من أجل تقديم المزيد من المساعدة. وشرعت الحكومة في التصدي للمسألة، ولكن كثيرين يشعرون بأن المبادرات الجديدة غير كافية. وأعرب وفد عن شكواه علانية في محفل التجارة بين الشرق والغرب، الذي نظمته الحكومة خصِّيصى عام ١٩٩٧م، وقال: «هذه مجرد كلمات جوفاء. إن بكين لم توجه أي رأسمال إلى المقاطعات الداخلية، ولم يعلن مجلس الدولة عن اتخاذ أي تدابير محددة لتشجيع استثمار الأجنبي في مناطقنا.»
وفي حادثة واحدة خلال عام ١٩٩٧م، حاصر الآلاف من عمال النسيج الساخطين، أحد المراكز الرسمية في وسط الصين لمدة ثلاثين ساعة. والجدير ذكره أن رئيس الوزراء لي بنج، الذي نادرًا ما يصدر تعليقًا صريحًا بشأن المشكلات المحلية، اعترف بأن «النظام الاجتماعي في بعض المناطق ليس على ما يرام.»
(٣) ما معنى هذا؟
واضح أن الاستياء يتزايد ليملأ قلوب وعقول أولئك الذين خلفهم وراءه الإصلاح والتحديث والنمو، ولكن من المهم لكي نصل إلى منظور صحيح أن نفهم وجهين لمشكلة الفقر في الريف؛ الأول: أن الغالبية العظمى من الظروف الصعبة في الريف وفي المناطق النائية، هي صعبة بالمقارنة بحال الثراء في الحضر وفي المناطق الأخرى، التي حظيت بتنمية سريعة. وثمة انخفاض مطلق حقيقي في مستوى الفقر في الصين: هناك من هم، عمليًّا، في حال أسوأ مما كانوا، منذ عشرين سنة مضت قبل بداية عهد الإصلاح، ولكن هذه فقط حال نسبة ضئيلة جدًّا من سكان الصين، ولكن الوضع أفضل كثيرًا بالنسبة للغالبية الساحقة، حتى وإن لم تكن جيدة بالقدر الذي يريدونه هم أنفسهم.
وكما هي الحال في كل المجتمعات، فإن مستويات المعيشة والضرورات وخطوط الفقر أمور تتحدد اجتماعيًّا حسب كل مجتمع. وإذا نظرنا إلى الأثرياء، وإلى من حققوا بعض الثراء، فإن أوضاعهم تحسنت كثيرًا خلال العشرين عامًا الماضية، ولكن يقف المعدمون ومحدودو الدخل على النقيض منهم تمامًا، أو لنقل، بعبارة أخرى، إنه على الرغم من أن الاستقطاب الاقتصادي في الصين يمثل مشكلة مهمة، إلا أنه، كما يحسن أن نراه، مشكلة خلقها نجاح الإصلاح، وليس مؤشرًا إلى الفشل في الإصلاح، لقد اصطلحت المجاعات والجمود العقائدي للحكومة في الخمسينيات وفي الستينيات، لكي يتضور الشعب جوعًا، ولكي يلقى عشرات الملايين حتفهم على الرغم من مزاعم بكين آنذاك من أنها قضت على الفقر والجوع، ولكن الصين اليوم تعترف بأنها تواجه مشكلة كبرى مع الفقر، وهذا مؤشر صادق إلى المزيد من الواقعية السياسية والتحديث السياسي.
ثانيًا: ثمة جانب مهم جدًّا ومشرق فيما يراه المتشككون مشكلة اجتماعية ضخمة: إن الفقر في الريف، الذي يمثل خطرًا على النظام الاجتماعي، يمكن النظر إليه أيضًا باعتباره قوة مهمة دافعة إلى المزيد من التغير الاقتصادي والاجتماعي كمطلب ضروري. ويتحدث بعض الرسميين في تعجب عن المنجونج، أي العمال المهاجرين أو غير المثبتين، بأنهم ذوو طموح عالٍ لا يختلفون في شيء، من حيث حوافزهم وقوتهم، عن أي رائد أمريكي خلال القرن التاسع عشر. علاوة على هذا، فإن هؤلاء العمال ينزعون إلى الهجرة، إلى حيث يجدون ضالتهم من الأعمال. وتتدفق فتيات الريف من أماكن نائية إلى مصانع الإلكترونيات في مقاطعة جواندونج؛ ليُسهمْنَ في صناعة الكثير من الأدوات المنزلية، التي سيكون مصيرها — في النهاية — إلى البيوت الأمريكية. ويذرع الآلاف من الرجال طرقات المدن بحثًا عن عمل في قطاعات التشييد وبناء الطرق، وهكذا فإن القدر الأكبر من الزحف العمالي المهاجر هو أثر من آثار آلية السوق، وشكل من أشكال التوفيق بين العرض والطلب، علاوة على أنه يرسي الأساس اللازم لظهور قطاع الخدمات الأقل تقدمًا.
وما إن يجد الفلاحون المهاجرون عملًا ثابتًا، حتى يسهموا بشكل غير مباشر في تحسن الاقتصاد الداخلي أو الريفي، حين يرسلون إلى ذويهم في الريف جزءًا من رواتبهم. والملاحظ أنهم عندما يعودون إلى الريف — وكثير منهم يفعل هذا — يشرع بعضهم في عمل مشروع تجاري، وإعادة استثمار مدخراته في الاقتصاد المحلي. ويعتقد ياشنج هوانج، الباحث في جامعة هارفارد أن هذه العملية تفضي إلى اعتدال هوَّة الدخل الفاصلة بين أغنى المناطق وأفقرها في الصين.
ولا تزال مشكلةُ الفلاحين العاطلين في الصين تحوم حول عقول سكان الحضر في الصين وصناع السياسة في بكين. وثمة كتاب محظور (ولكنه مقروء، وجرت مناقشات حوله على نطاق واسع) يحمل العنوان التالي «النظر إلى الصين بعين ثالثة». ويشبه الكتاب هؤلاء الفلاحين «بالبركان الذي قد ينفجر في أي لحظة». ويعرف كل صيني، على حظ من التعليم الأولي، أن أكثر الثائرين نجاحًا في تاريخهم — بما في ذلك ثورة ماو الشيوعية — وجدوا مصدر قوتهم الأولي بين الفلاحين الفقراء المشردين داخل بطون الريف.
(٤) المركز له معاييره … ولكن المقاطعات لها معاييرها المضادة
هناك بعض الأسئلة أكثر أهمية من هذه، لاستقراء الصين خلال القرن الحادي والعشرين: هل يمكن توزيع اختصاصات السلطة على نحو سديد بين المركز والأقاليم والمقاطعات والمحليات؟ لقد نجحت الصين، تاريخيًّا، عندما توافر حس قوي بالسلطة المركزية، التي يصل الشعور بها وبفعاليتها إلى أقاصي البلاد في المملكة الوسطى، ولوحظ أنه كلما ضعفت الحكومة المركزية، تفككت أواصر الوحدة وحلت بالبلاد كارثة اقتصادية، وسادت الفوضى، ثم أعقبت ذلك ثورة. وشغلت فترات الاضطراب حوالي نصف تاريخ الصين الممتد خمسة آلاف عام.
وحرصت السلطة في عهد ماو تسي تونج على تأكيد أواصر الترابط الاجتماعي، تأسيسًا على الأيديولوجية. ولم تكن هناك فرصة للتواني أو التراضي، ولكن إغفال النمو الاقتصادي والرفاه المادي لحساب القضية الكبرى، وهي ضمان الاستقامة الأيديولوجية بتوجيه مركزي، استلزم دفع ثمن مغالًى فيه من الشعب الصيني، حتى على الرغم من أن ماو شيد معجزة حقيقية، يشهد بها العالم الحديث، تمثلت في تحديث الأسلوب الكونفوشي باستخدام عدد صغير من النخبة في المركز لتوجيه حياة بليون نسمة.
وخير مثال على ذلك، مشكلة جباية عوائد الحكومة المركزية؛ إذ لوحظ أن عوائد الحكومة انخفضت انخفاضًا كبيرًا، كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، من ٣١ في المائة عام ١٩٧٨م (عام بداية الإصلاح)، إلى ١٢ في المائة عام ١٩٩٦م، أي حوالي ثلث مستوى البلدان النامية الأخرى. ولا ريب في أن مثل هذا الانخفاض الشديد يثلج صدر ستيف فوربيس أو جاك كيمب، ولكن بكين تبدو الآن في نظر كثير من الخبراء، خاصة بعد اتفاق المشاركة في العوائد مع المقاطعات، ضعيفة ماليًّا وأضعف من أن تلبي احتياجات كثيرة، يتعين على الحكومة المركزية وحدها أن تنهض بها.
وعندما حاولت الحكومة التماس سبل لزيادة دخلها، حولت المقاطعات والمدن الأصول إلى مناطق حرة لا تدفع ضرائب، وناضلت للحصول على خصومات وتأجيلات. واهتدت إلى سبيل لجباية عوائد من خارج الميزانية، في صورة رسوم تعسفية. وإذا وضعنا في الاعتبار فترات السماح الضريبية والتهرب الضريبي وترتيبات المشاركة في الإيراد، التي بمقتضاها يبقى لحكومات المقاطعات ٤٠ في المائة من مجموع الضرائب التي تمت جبايتها، يصبح نصيب بكين حوالي ٥ في المائة فقط من المخرج الاقتصادي للبلاد، بالمقارنة بحوالي ١٥ في المائة في الهند، و٢٠ في المائة للولايات المتحدة.
ولا يكفُّ كبار قادة الصين عن الحديث، عن إعادة السيطرة المركزية على نظام الضرائب وزيادة الضرائب، ولكنهم، في كل مرة، يضطرون إلى مواجهة جماهير الناخبين والمصالح المحلية ذات القوة الطاغية. ونجد هنا أيضًا مظهرًا للازدواجية يدعو إلى السخرية، ذلك أن بكين لا تزال هي سلطة تعيين حكام المقاطعات، وكبار الرسميين المحليين. وأكثر هؤلاء قد لا يكونون من أبناء المقاطعات، التي ترسلهم إليها السلطة المركزية لإدارتها، وهذا يجعلهم، نظريًّا، مدينين بالفضل لها، ولكن يتعين عليهم التعاون مع هيكل السلطة من أبناء المقاطعة الأصليين، إذا أرادوا إنجاز سياساتهم، وجعلهم هذا أشبه بسماسرة سلطة، وخلق شريحة جديدة من النخبة، التي سيكون لها تأثير طاغٍ في رسم خريطة مستقبل الصين.
وأدت سياسة «الباب المفتوح» إلى فتح أبواب المقاطعات، لكي تكون التجارة والاستثمار الأجنبيان بديلًا عن استثمارات الحكومة المركزية. وساعد هذا أيضًا المقاطعات على أن تتوافر لها قوة اقتصادية تؤهلها لممارسة ثقلها السياسي الجديد. وتوضح أرقام البنك الدولي أن تجارة بعض المقاطعات مع العالم الخارجي أكبر من تجارتها مع المقاطعات الصينية الأخرى. وهكذا لم تعد بكين هي محرك النمو في جواندونج، بل هونج كونج، والمقاطعات القائمة شمالها وغربها. وأصبح اقتصاد مقاطعة فوجيان وثيق الصلة باقتصاد تايوان، واقتصاد شاندونج وثيق الارتباط باقتصاد كوريا، علاوة على أن حوالي ٧٥ في المائة من صادرات الصين من السلع المصنعة، هو من إنتاج الاستثمار الأجنبي ومشروعات الأعمال المشتركة. ومن هنا، فإن مسألة أي مقاطعة وأي مدينة، سوف تجتذب الأجانب، مسألة تثير صراعًا داخليًّا حادًّا، وتدور معركة من أجل الاحتفاظ بحصة كبيرة من الأرباح والضرائب للاقتصاد المحلي، وتدور معركة من أجل الاحتفاظ بحصة كبيرة من الأرباح والضرائب للاقتصاد المحلي.
وغالبًا ما تبدو علاقة الشد والإرخاء هذه، كأنها صراع بين المقاطعات في مجموعها، والسلطات المركزية في بكين، ولكنَّ هناك صراعًا أيضًا بين المقاطعات والأقاليم وفي داخلها، وتجد تشجيعًا نتيجة التنازل عن السلطة إليها في الداخل. ونتيجة قوًى اقتصادية دولية، تتجاهل الحدود القومية لمصلحة زيادة النمو الإقليمي، وأدى هذا إلى ظهور بعض الحزازات بين المقاطعات وبعضها البعض. وأثبتت التقارير وقوع أكثر من ألف حادث حدودي داخلي. وأقامت المقاطعات حواجز حمائية بعضها ضد بعض، وحظرت دخول سلع أو منتجات، يمكن أن تنافس منتجات محلية. وغالبًا ما تُفرض رسوم على مرور عمليات الشحن عبر حدود المقاطعات. وشاعت أيضًا عملية فرض حواجز غير جمركية، مثل التراخيص باهظة القيمة، أو عمليات تفتيش لمراقبة الجودة، وحاولت ثلاث مقاطعات، على الأقل، استخدام عملات خاصة بها، واستخدمت جواندونج بالفعل وحدات عسكرية خاصة بها في «حرب الأرز» مع هونان؛ لكي تؤمن نفسها أرزًا رخيص الثمن.
(٥) لماذا لن تكون الأوضاع بهذا القدر من السوء؟
كتب اثنان من المحللين بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية تقريرًا في عام ١٩٩٣م، يحذران فيه من أن النزعة الإقليمية تكاد تخرج عن نطاق السيطرة، وأنه ما لم يتم اتخاذ إجراء حاسم وسريع، قد تتفكك الصين مثل يوغسلافيا، ولكنَّ ثمة حججًا لا سبيل إلى إغفالها تناهض مثل هذا التصور شديد التشاؤم، وتتعلق هذه الحجج بواقع أن بكين تواصل إحكام قبضتها على أسباب القوة الرئيسية، للسيطرة على الاقتصاد والنظام السياسي والجيش. وهناك أيضًا حالة التجانس بين السكان والحفز التاريخي للوحدة. إن تمزق بعض الدول — الأمم أخيرًا (خاصة يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي) إنما حفزت إليه فوارق عرقية ودينية ولغوية وثقافية. وتوجد في الصين مثل هذه الفوارق في التبت وشنكيانج، حيث النوازع الاستقلالية موازية للمعتقدات الدينية عند زعماء البوذيين والمسلمين. وتوجد فرق انفصالية منظمة، بعضها فرق مسلحة، والبعض الآخر يفضل الأساليب الإرهابية، ولكن باستثناء هذه الأقاليم الحدودية شديدة الحساسية والأهمية الجغرافية، فإن الشطر الأعظم من الفوارق الدينية والثقافية، محصور داخل أسرة الهان، التي تشكل الغالبية الساحقة في الصين.
والأرجح في نظرنا، أن المشاحنات والمخاصمات الراهنة، سوف تدفع الصين إلى التلاحم أكثر مما تدفعها إلى التفكك، وأن عمليات الشد والإرخاء ستفضي في النهاية إلى نوع من اللامركزية، التي يمكن أن تساعد على ضمان بقاء الصين كدولة موحدة (حتى إن انفصلت مناطق مثل التبت أو سنكيانج)؛ إذ إن أي اقتصاد حديث لا يمكنه أن يبقى من دون مراكز قائمة على نظام مؤسسي وسلطة متكافلة. ويعرف القادة الصينيون عند مستوًى معين، أن القوة الغشوم وحدها، لم تصُن وحدة الصين. وثمة شواهد وبينات على أنهم يعملون بوعي وعن قصد في اتجاه توازن متكافئ، بين سلطة المركز وسلطات الأقاليم: إنهم يعملون ببطء وعلى نحو غير منتظم، ولكنه واضح وصريح.
(٦) أحلام اشتراكية … وكوابيس رأسمالية
إن أكثر من ١٠٠ ألف مشروع مملوك للدولة في الصين، سبق أن كانت استعراضًا للتصنيع في عهد ماو تبدو الآن كأنها ديناصورات هائلة غاصت في مستنقع اشتراكي، وتعوق ظهور نظام المشروعات القوي النابض بالحياة، والذي يمكنه أن ينقل الصين إلى القرن التالي. إنها تعاني ضعف الكفاءة، وأعباء الديون الباهظة التي تستنفد الخزينة وتفاقم من حالة التضخم. وتعتمد هذه المشروعات على «سياسة الإقراض»، بضمان الدولة. وحال هذا الوضع دون البنوك ورصد أموالها لقطاعات في الاقتصاد أكثر ديناميكية، كما أدى إلى إرجاء الكثير من الإصلاحات المالية الضرورية بإلحاح، وتخلق إنتاجيتها الضعيفة حالة عنق الزجاجة، وتفاقم من حالة البطالة الكاملة والمقتنعة، وحالة السخط العام.
وتوظف المشروعات المملوكة للدولة أعدادًا هائلة من العمال المتمركزين داخلها — حوالي ١٢٥ مليونًا من بين ١٧٠ مليونًا، هم قوة العمل في الحضر، حسب أحدث الإحصائيات. وتهيمن هذه المشروعات على صناعات وتكنولوجيات أساسية. وتعتبر مسئولة عن أكثر من ثلث إجمالي المخرج الصناعي، ولكنها تتسبب في حوالي ثلثي إجمالي الخسائر الرسمية. ويكاد كل ما تنتجه لا يجد سوقًا له، ويوجد مخزون قومي مكدس يقدر بحوالي ٦٥ بليون دولار من السلع غير المباعة، التي أنتجتها مشروعات الدولة عام ١٩٩٦م.
ويرى كثيرون من الخبراء أن مسألة المشروعات المملوكة للدولة، هي التحدي الحاسم للصين. وعلى الرغم من مضي عشرين عامًا على عملية الإصلاح، فلا توجد خطة عمل متفق عليها لتنفيذها بالنسبة لهذا الكيان الهائل المريض. واتجهت السلطات في عهد دنج إلى تشجيع بعض التحولات الأساسية، بعيدًا عن نطاق التخطيط المركزي، والسير في اتجاه السوق دون المساس ببعض القضايا الأساسية المتعلقة بهيكل ملكية مشروعات الأعمال المملوكة للدولة وأرباحها وخسائرها والتزاماتها إزاء العمالة بها. وتعي بكين جيدًا مدى تعقد عملية إصلاح المشروعات المملوكة للدولة وصعوباتها السياسية؛ لذلك رأت أن تركز أولًا على مشكلة أسهل نسبيًّا، وهي إقامة قطاع غير مملوك للدولة يضم كل شيء، ابتداءً من مشروعات المدن والقرى المزدهرة وغيرها من المشروعات الجمعية المملوكة للعمال، ومن أصحاب المحال الصغيرة والمطاعم والعاملين لحساب أنفسهم.
ويتجلى واضحًا نجاح الخطة، التي استهدفت التركيز على قوة دفع أخرى تحرك الاقتصاد. والملاحظ أن القدر الأعظم من النمو الاقتصادي الجديد، وكل عمليات إنشاء المشروعات الموجهة للمستقبل، إنما تتم في المناطق الموجهة أساسًا إلى السوق، أو حيث كانت الملكية الخاصة، بشكل أو بآخر، هي العامل المميز، أو حيث كان الاستثمار الأجنبي هو العامل الأهم. وبينما كان المخرج الصناعي للمشروعات المملوكة للدولة، يتسع بمعدل ٨ في المائة فقط، كان القطاع غير الخاضع لإدارة الدولة ينمو بمعدل ١٥ في المائة. ويذهب البنك الدولي في تقديراته إلى أن حصة المشروعات المملوكة للدولة من إجمالي المخرج الصناعي، هبطت من حوالي ٧٠ في المائة العام ١٩٨٥م إلى ٣٥ أو ٤٠ في المائة عام ١٩٩٦م. وتوافرت للحكومة، بفضل هذه النتيجة، علاوة على الإصلاحات الجارية داخل المشروعات المملوكة للدولة (تم إصلاح أوضاع عدة مئات، بحيث تحسن هيكلها المالي؛ لإدراج اسمها ضمن قوائم الأسهم في سوق أسهم شنغهاي، أو شن جن بل، وفي هونج كونج ونيويورك وغيرها من الأسواق العالمية) فرصة لالتقاط أنفاسها.
ولكن الاقتصاديين الصينيين والأجانب أيضًا، يشكون في أن بكين يمكنها أن تنجو، إلى الأبد، من آثار محاولتها حل مشكلة المشروعات المملوكة للدولة في صمت، والتخلص منها من دون ألم، وتغيير أولوياتها على نحو ما فعلت، خلال الثمانينيات والتسعينيات حتى الآن، وذلك لأسباب منها: إخفاق الأمل في أن تصبح المشروعات المملوكة للدولة، بطريقة أو بأخرى، أكثر إنتاجية وفعالية، دون تغيير في عقدها الأجنبي الأساسي وهيكل ملكيتها. إن آلاف المشروعات المملوكة للدولة مربحة وناجحة، ولكن أغلبها فشل في التحول إلى السوق. وتتزايد خسائر التشغيل حتى بلغت ٧٫٢ بلايين دولار عام ١٩٩٦م وحوالي ٤٠ في المائة، أكثر مما كانت الخسائر عام ١٩٩٥م. ويذهب فان، رجل الاقتصاد البارز في أكاديمية العلوم الاجتماعية الصينية، إلى أن ٤٠ في المائة من المشروعات المملوكة للدولة تعاني عجزًا ماليًّا مزمنًا. ويمكن القول إن ما بين ١٠ و٣٠ في المائة هي حسابات شركات خاسرة وغير ظاهرة، والأمر رهن القائم على الحسابات؛ إذ إن أرباحها الظاهرة تمحوها ديونها الباهظة في دفاتر الحسابات.
وتتزايد الدلائل التي تؤكد أن القيادة الصينية ستأخذ الأمر في النهاية مأخذًا جادًّا. وتناول جيانج زيمين، في خطابه أمام المؤتمر الخامس عشر للحزب في سبتمبر ١٩٩٧م، مشكلة المشروعات المملوكة للدولة، وتحدث عنها بإسهاب، ونصح كوادر الحزب بالعمل على حل المشكلة باستخدام كل الأدوات اللازمة للتصدي لها، ابتداءً من إصدار أسهم، إلى إجراءات إشهار الإفلاس. واعتبر هذه وسائل «جريئة» و«رائدة» و«مثالية» و«ثورية». وجرت هذه المفردات على لسان المراقبين، بمن فيهم الأجانب. وأشارت صحيفة «فار إيسترن إيكونوميك ريفيو» أن بكين، بعد تردد وحيرة على مدى سنوات إزاء مشكلتها المستعصية، أضحت أخيرًا «مستعدة للتصدي لعملية إصلاح المشروعات المملوكة للدولة».
وتجلت جسارة خطاب جيانج، في حجته الصريحة والضمنية، من أن أكبر المشروعات المملوكة للدولة، سيتم إخراجها جميعًا، بطريقة أو بأخرى، من قطاع الدولة، فيما عدا كم صغير منها يمثل القلب. وإذا عرفنا أن الصين تملك أكثر من ٣٠٠ ألف مشروع مملوك للدولة من مختلف الطرز والأشكال وأكثر من ١٠٠ ألف مشروع صناعي، يبدو واضحًا تمامًا مدى ضخامة مهمة وضع خطة لخفض هذا العدد إلى بضعة آلاف، وإخراج الباقي لملكية السوق بأشكالها المختلفة.
ولكن خطاب جيانج كان شديد الغموض، من حيث طبيعة الوسائل التي يمكن استخدامها، أو الجدول الزمني أو درجة الخصخصة المسموح بها — حسبما يفهم الغربيون معنى المصطلح — وإذا كان خبراء كثيرون استهانوا بدرجة الإصلاح التي تمت — والتي ساندها جيانج، وحث عليها رسميًّا بوسائل مختلفة — فإن كثيرين غيرهم يبالغون الآن في الأثر المحتمل لهذا الخطاب، على المدى القريب. وكما أسرَّ لنا أحد الرسميين الصينيين قائلًا: «بدأ الحوار الصحيح الآن، كل إنسان يعرف أن لا بد من إصلاح قطاع المشروعات المملوكة للدولة، ولكن السؤال: من الذي سيملك هذه المشروعات؟ هل يتعين عليها الالتزام بتعهداتها إزاء العمال المحالين إلى التقاعد؟ هل يمكنها الاستغناء عن العمالة الزائدة؟ من المستفيد من بيع مخزون هذه الشركات؟ هذه كلها أسئلة تنتظر الإجابة».
إن جيانج زيمين جاد ولا ريب، في ضرورة إصلاح قطاع الشركات المملوكة للدولة، وكذلك موقف جو رونجي، الذي درس القضية بعمق على مدى سنوات. ومن المرجح أن تكون هذه هي مهمة جو الرئيسية طوال فترة رئاسته لمجلس الوزراء، ولكن إلى أي حد، وإلى أي مدًى يمكن أن يمضي جو وجيانج على هذه الطريق — بل والإصلاحيون من الوزراء وشاغلي المناصب الرفيعة — وبأي سرعة لهم أن يتحركوا؟ هذا غير معروف حتى الآن.
وضاقت مساحة المناورة أمام جو رونجي بعد الفوضى الاقتصادية التي عانت منها أخيرًا اقتصادات شرق آسيا، علاوة على تباطؤ معدلات نمو الناتج الإجمالي المحلي للصين. وغالبًا ما قال الخبراء، إذا ما انخفض معدل النمو في الصين، عن المعدل المألوف خلال السنوات الأخيرة، الذي تجاوز العشرة وأصبح فقط ٤ أو ٥ في المائة، في السنة، فإن هذا يعادل حالة الركود، حتى على الرغم من أن الرقم ٤ أو ٥ في المائة، في اقتصادات الغرب المتقدمة، يمثل حالة انتعاش. وسوف يبين لنا قريبًا جدًّا، ما إذا كان الخبراء على صواب لأن النمو في الصين سيكون معتدلًا خلال العام أو العامَين القادمَين.
وإذا أبطأ معدل النمو في الصين، فإنه سوف يحرم قادة البلاد من الترف الذي اعتادوا عليه حتى الآن، والمتمثل في استخدام إجمالي حالة الاقتصاد مبررًا لإرجاء التصفية الجادة لمظاهر التباين الاجتماعي والاقتصادي، التي تسود البلاد على مدًى طويل. وربما يصبح من المستحيل عليهم توفير قوة دفع قوية للقيام بالإصلاحات الملحة في قطاع الصناعة المملوك للدولة، ولكن قد يحدث العكس ويخلق ظروف الأزمة، التي تسمح لجو رونجي أن يتصدى لمقاومة البيروقراطية، ويصر على خصخصة كم كبير من قطاع الدولة، والذي كان يمكن أن يستغرق إنجازه عقدًا كاملًا.
وقد يدفع كثيرون بأن الصين، إذا ما استخلصت النتائج الصحيحة — خاصة إذا ما حدت من دور السياسة الموجهة لمصلحة الدولة في الاقتصاد، وسمحت بالعمل لآليات سوق نشطة ومرنة وخاصة حقًّا — فإن دينامية النمو في الصين سوف تتحدد على قاعدة أكثر صوابًا واستدامة، ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت الآلام الاقتصادية، خلال الأعوام القليلة الماضية، سوف تكون كافية للوصول إلى هذه النتائج الجذرية. وحتى إذا ما اشتدت الآلام، فليس ثمة ضمانٌ بأن الصين لن تستخلص النتائج المعاكسة. مثال ذلك، أن قادة الحكم في ماليزيا وإندونيسيا يحاولون تبرير فوضى عام ١٩٩٧م، بإلقاء اللوم على تدخل رأس المال الدولي بنفوذه. وتشتمل بعض الحلول المقترحة على زيادة سيطرة الحكومة وليس الإقلال منها. ولنا الحق، يقينًا، بأن نتصور قادة الصين، وقد استجابوا إزاء الأحداث بالنهج ذاته، أو استخدموا، على الأقل، الأزمات في بلدان أخرى في جنوب شرق آسيا، لتبرير تَباطُئهم في تحويل اقتصاد الصين إلى اقتصاد سوق وخصخصته وتدويله.
رأينا مرارًا في الماضي أن الصين خاضت في مسألة إثر أخرى، دون أن تعمل ما قال الباحثون ورجال الأعمال الأجانب أنه «لا بد» أن تفعله لتحاشي الكارثة، لا يوجد في الصين، كما لا يوجد في الولايات المتحدة أو في البلدان الأخرى شيء اسمه مسألة اقتصادية-سياسية قومية، لا يمكن إرجاؤها، أو إعادة صياغتها، أو تفاديها، أو إغفالها، أو أي شيء آخر.
وهناك من يختلفون مع ليبرثال، ويعتقدون، بالنسبة لهذه المسألة، أن الصين إذا لم تغير من نفسها سريعًا، وسريعًا جدًّا، فإن النتائج ستكون مأساوية، مثال ذلك، أن الباحث جاك جولد ستون يحذر من أن قطاع المشروعات المملوكة للدولة يسبب «إفلاسًا ماليًّا للنظام»، وسوف يكون سببًا لحالة انهيار كاملة شاملة، ما لم تسرع الصين بإصلاح شامل.
ولكن سببًا واحدًا قد لا يجعل بكين تهرع لإطفاء نار أزمة قطاع مشروعات الدولة بالسرعة التي يراها الغربيون ضرورة. هذا السبب هو أن الأزمة ليست بالضخامة التي يفترضها الغربيون. وإذا نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر الاقتصاد السياسي الكلي للصين، فإن قطاع المشروعات المملوكة للدولة، يبدو أقل خطرًا مما يبدو في الظاهر — على الأقل — على المدى القريب. لقد كانت دائمًا المشروعات المملوكة للدولة دول رفاهية صغيرة، توفر كل شيء، ابتداءً من المأوى وحتى رعاية أطفال العمال. معنى هذا أن إغلاقها فجأة ودفعة واحدة، سيترك عشرات الملايين عاطلين بغير عملٍ أو مأوًى. ويكفي أن نتأمل الآتي: إن إلغاء دين قدره ٧٫٢ بلايين دولار على قطاع مشروعات الدولة في عام ١٩٩٦م، يمثل أقل من ١ في المائة من إجمالي الناتج المحلي في الصين (٨١٨ بليون دولار عام ١٩٩٨م)، ونعرف أن برامج الضمان الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية في الولايات المتحدة، تصل إلى حوالي ١٢ في المائة من إجمالي الناتج المحلي.
(٧) أصداء
على الرغم من أن عبء ديون المشروعات المملوكة للدولة يبدو في نظرنا محتملًا، على عكس نظرة المضاربين بهبوط الصين، إلا أن الحكومة الصينية لا يسعها أن تمضي، إلى الأبد، تصب مساعداتها المالية وقروضها زهيدة الفائدة في هذه المشروعات. والمشكلة المتصاعدة تتعلق بسلامة وصواب نظام الصيرفة؛ إذ إن هذا النظام في حاجةٍ إلى تحديث أعماله، ولكن حالت دون ذلك التزامات بتقديم «قروض بضمان الدولة» لقطاع مشروعات الدولة، على الرغم من ضآلة فرصة سدادها.
ويبدو ما بين ٨٠ و٩٠ في المائة من إجمالي الديون التي قدَّمتها بنوك الدولة، هي ديون لقطاع المشروعات المملوكة للدولة. ويتراوح إجمالي الديون ما بين ٨٦ بليون دولار عام ١٩٩٣م إلى ١٢٠ بليون دولار عام ١٩٩٦م. ويتساءل، صراحة، وانج فيشان رئيس بنك الإنشاءات الشعبي: «كيف يمكن لأي إنسان أن يتوقع لبنك أن يعمل بكفاءة، وهو مجبر على إقراض القسط الأكبر من أمواله بمعدلات فائدة متدنية لمشروعات الدولة، التي لا تمثل مخاطر ائتمانية مأمونة؟»
وثمة بوادر تغيير؛ ذلك أن بنوك الدولة لم تعد ملزمة بأن تصب في المشروعات المملوكة للدولة أموالًا مضمونة بعد الأموال المهدرة، ولكن القروض المدينة والعجز المالي تَزايَدا بدرجة هائلة داخل هيكل الاقتصاد. والملاحظ أن الكثير من المشروعات المملوكة للدولة، بعد أن تعذر عليها الحصول على المزيد من الحكومة أو من البنوك، اختارت «الاقتراض» من بعضها (بألَّا تدفع مقابل المواد الخام كمثال).
(٨) خط الأساس والتنين الأكبر
ستضطر الصين، خلال السنوات القليلة القادمة، إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات الفعالة، لإصلاح قطاع مشروعات الدولة. وهذا هو ما أشار إليه جيانج زيمين في خطابه عام ١٩٩٧م. سوف تتقلص سيطرة الدولة على مجالات كانت تبدو في السابق قدس الأقداس: تجارة التصدير، ومشروعات أعمال التجزئة، وبعض مشروعات البنية الأساسية. وسوف تسمح الصين للمزيد من المشروعات المملوكة للدولة بأن تنوع من ملكيتها، وذلك بضم هيئات استثمار محلية، أو إصدار أسهم، أو السماح للأجانب بامتلاك حصص فيها، وهذه — عادةً — حصص دنيا، وإن زادت في بعض الحالات على ٩٠ في المائة، وشرعت الصين في تحرير بنوك الدولة، تدريجيًّا، من التزامها بتقديم حدود تسهيلات ائتمانية للمشروعات الخاسرة التي ستتركها الدولة؛ لكي تغرق أو تعوم أو تندمج مع شركات رابحة. وسوف تطرد عملية الإفلاس، كما سوف تتنافس آلاف الشركات الخاسرة، لكي تكون طرفًا في برنامج الدولة، الذي خصص بالفعل ٣٫٦ بلايين دولار، لسداد ديون، وتقديم مساعدة للعمالة الزائدة.
ولكن حري بنا أن نحذر من أي حجة سطحية، تفيد بأننا سنرى عملية خصخصة كاسحة، وبأعداد ضخمة؛ إذ يبدو في نظر الاقتصاديين الغربيين أن من غير المعقول أن تستمر الصين في تحمل العبء، وتستوعب هذه الخسائر، ولكن الصينيين يرون أن الخصخصة الجذرية هي الأسلوب غير العقلاني. حقًّا أن الصينيين يرون أن قطاع مشروعات الدولة أكثر من مشكلة هائلة الحجم، واتفقت آراؤهم على ضرورة حلها.
وسواء أكان صناع السياسة الاقتصادية في الصين على صواب أم على خطأ، ونحن نعتقد أنهم أكثر صوابًا مما يفكر الأجانب بشكل عام، فإن من المهم أن نفهم. كيف ينظرون إلى هذه القضية الحرجة: أولًا من الضروري أن نعترف بأن قطاع المشروعات المملوكة للدولة، خاصة المشروعات الأضخم منها، هي في واقعها أجهزة حكم. إنها تخدم، باعتبارها نظام خدمة اجتماعية ليس للعمال فقط، الذين يحصلون على خدمات الإسكان والرعاية الصحية بحكم وظائفهم. بل، وهو الأهم، خدمات للعمال المتقاعدين والعجزة أيضًا. ولم تبدأ الصين إلا قريبًا جدًّا تجربة برامج صناديق معاشات التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال المتقاعدين. وثمة إحساس بأن يظل العبء على حاله، إلى أن يتم ذيوع هذه البرامج وشمولها لملايين المتقاعدين، من عمال المشروعات المملوكة للدولة. ويقول جيو شوكنج من كبار الاقتصاديين: «إن ديون المشروعات المملوكة للدولة، هي في حقيقتها، ديون حكومية غير منظورة، وتملك الدولة أصولًا كثيرة، يمكن بيعها لسداد هذه الديون: مثال ذلك، الحيازات من الأراضي في المدن المملوكة للدولة، تساوي خمسة أمثال إجمالي ديون قطاع مشروعات الدولة.»
ويؤكد المدافعون عن المشروعات المملوكة للدولة أنه من دون العبء الضخم الذي تمثله معاشات وإعانات العمال المتقاعدين، سنجد أن أكثر المشروعات رابحة أو، على الأقل، ليست خاسرة. وهذه هي الحقيقة الأساسية التي يغفلها المراقبون؛ إذ بينما ترتفع الديون المعدومة الخاصة بالمشروعات المملوكة للدولة ارتفاعًا صاروخيًّا. فإن إجمالي التكلفة بالنسبة للدولة لا تزيد، على الأرجح، عن كلفة تمويل المصارف للعجز المالي لنظام رعاية اجتماعي قومي كامل. ويقول وو شياولنج — الاقتصادي المتخصص في شئون المصارف: «والواقع أن عبء ديون المشروعات المملوكة للدولة عبء ضخم، ولكن دين الحكومة المتراكم قليل؛ لذلك، فإن بالإمكان تحمل عبء المشروعات المملوكة للدولة لبعض الوقت.»
وينشئ قطاع مشروعات الدولة وظائف لملايين العمال غير المطلوبين بالفعل، وفقًا للمعايير الدقيقة لمشروعات الأعمال، وإذا ما ترك هؤلاء بلا عمل، فإن التكلفة التي ستتحملها الدولة — في صورة إعانات بطالة ومشكلات سياسية — ستكون خسارة أضعافًا مضاعفة. ويقول الاقتصادي بان منج، الذي يتخذ من هونج كونج قاعدة له: «أحيانًا يكون نظام الدولة أشبه بحظيرة تضم العمالة الزائدة، إلى أن يستطيع الاقتصاد الخاص استيعابهم.»
ثانيًا: بينما أدرك صناع السياسة الاقتصادية أهمية وقيمة المنافسة السوقية وآليات السوق، فإنهم يعتقدون أن المشروعات المملوكة للدولة — إذا ما أحسنت إدارتها — لن تصبح فقط مراكز توليد ربح، بل وستبقى قيمة مضافة في صورتها الاقتصادية. والقيمة المضافة هي السلطة السياسية المصاحبة للسيطرة على هذه المؤسسات المركزية في الاقتصاد، علاوة على القدرة على استخدام حجم ونطاق ومكانة قطاع أعمال الدولة، كعناصر مشاركة كبيرة وفعالة في السوق. ووصل الأمر إلى حد أن رئيس الوزراء جو رونجي، وهو من أهم المتحمسين للتصدير؛ لإصلاح المشروعات المملوكة للدولة، لاحظ: «مشكلات القطاع ليست وليدة مفهوم ملكية الدولة، من حيث هي كذلك، بل وليدة الإدارة السيئة».
وواضح الآن أن حوالي نصف المشروعات المملوكة للدولة، تغل أرباحًا لخزينة الدولة. وإذا أضفنا إلى هذا حاجة بكين إلى عوائد مالية، يبين لنا أن الكثير من هذه المشروعات مربح، وتثير شهية الجهاز الرسمي للمزيد. وإذا استطاعت بكين أن تحصل على نسبة مئوية أعلى من المشروعات المملوكة للدولة، التي تحقق أرباحًا، فسوف يتيسر حل قطاع كبير من مشكلات الحكومة المالية. علاوة على هذا، فإن الاحتفاظ بملكية الدولة لهذه المشروعات، ييسر للحكومة المركزية الحفاظ على سيطرتها على أهم قطاعات الاقتصاد. والأمر متروك للحزب الشيوعي، لكي يقرر كيفية إصلاح قطاع مشروعات الدولة، ولكي يكون أقدر على المناقشة وأكثر فعالية بدلًا من فوضى السوق. أخيرًا، فإن ملكية الدولة للمشروعات الرابحة، يعني أن مصالح عشرات الملايين من العمال تقضي بأن يظلوا على موقف الانحياز والتأييد للدولة التي توظفهم. هذا هو المعنى الكامن وراء عديد من البيانات، التي ظهرت أخيرًا في صحيفة «شاينا ديلي»، والتي تقول: «الآن دور مشروعات الدولة ليس اقتصاديًّا فحسب، وإنه من خطل الرأي، الحكم عليه بناءً على هذا الأساس وحده.»
جملة القول، ليس مهمًّا ما يبدو من الخارج وكأنه الكابوس الرهيب المتمثل في حجم خسائر المشروعات المملوكة للدولة، وإنما المهم والضروري ضرورة مطلقة، أن نتذكر كيف ينظر الصينيون إلى هذه المشكلة. إنهم لا يشاركون الغرب افتراضاته، وقوله إن أفضل الحكومات هي أقلها سيطرة على دفة الأمور. إنهم لا يرون أي شيء هو خطأ أصيل بالنسبة لحكومة، لها تأثيرها الضخم في مشروعات الأعمال في العالم. إن السمة العامة لحل «الطريق الثالث»، التي تلتمسها الصين، هي الإيمان بأن الحكومة تعرف أفضل ممن هم في الخارج، وطبعي أن حكومة يقودها حزب، هي حكومة لها ميزتها وفضيلتها، وسوف تفيد من صفاتها هذه؛ لإصلاح وتنشيط مشروعات الأعمال التجارية والصناعية.
(٩) الفساد: الباب الخلفي إلى الرأسمالية الحديثة
لقد كانت الجوانشي (والعلاقات الشخصية) دائمًا، حقيقة مهمة من حقائق الحياة في الصين، سواء في ظل الاشتراكية أم في ظل حكم الأسرات. وإذا تأملنا الحياة على مدى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، حيث كان الجميع معًا متساوين عند درجة من الفقر، استخدم الصينيون الجوانشي لأغراض قليلة ومحدودة نسبيًّا: قدر زائد من بطاقات حصص التموين، ووظيفة أفضل لابن أو لقريب. والآن وقد زادت حصص الرهانات كثيرًا، فقد زادت، بالمثل، علاقات الأخذ والعطاء. وتنصرف الجوانشي هذه الأيام إلى القدرة على تحويل قروض الحكومة لمشروعات الدولة، إلى استثمارات خاصة متوقعة، أو شراء سيارة، أو بداية مشروع مشترك، أو شراء هاتف، أو الحصول على إعفاءات جمركية. وإذا ما كنت تريد شيئًا، فليس عليك إلا أن تبحث عن علاقة. وتصبح الحياة بحثًا لا نهاية له عن الشخص الأفضل والمناسب، والمفاوضة المستمرة. ولنا أن نستعيد المثال الشهير، الذي جاء على لسان دنج هيساو بنج، والذي يقول «لا يهم أن القطة سوداء أم بيضاء ما دامت تصطاد الفئران.» ويعني هذا في مناخ اليوم، أن المهم فقط، هو ما إذا كانت القطة تسدد الرسوم، أو العمولة، أو غير ذلك من اعتبارات.
لقد تأثرت جميع قطاعات الاقتصاد دون استثناء؛ فزيادة الأموال في أسواق الأوراق المالية «هي مجرد وسيلة للشركات؛ لكي تحصل على المال ثم تقول وداعًا». ودخل البلاد بطريقة غير مشروعة كل يوم من أيام عام ١٩٩٤م، ١٠ آلاف طن متري من النفط في المتوسط، أو ٧٧ ألف برميل. وهُرِّب حوالي ١٥٠ سيارة فاخرة كل أسبوع إلى داخل الصين، عن طريق هونج كونج، في مطلع التسعينيات. وترى عصابات إجرامية تهرع بالسيارات المرسيدس ولكزس في طرقات هونج كونج لتقوم بتسليمها إلى مراكب سريعة، ثم تكون خلال ساعات بين أيدي موظفين صينيين رسميين. وأموال الإغاثة لمنكوبي الفيضان يبددها الرسميون على الولائم، ويطلب المراسلون دفعات مالية لتغطية الأنباء، وتطالب المصادر بتعويضات عن الأسئلة التي يوجهها إليهم الصحافيون.
وعقدت حكومة بكين مزادًا لبيع السيارات الفاخرة المصادرة، وذلك في أغسطس ١٩٩٥م، والهدف هو أن تثبت بكين للمواطنين إصرارها على التصدي لمظاهر البذخ والإسراف، حتى بالنسبة لأعلى المستويات، ولكن لم تكن هناك سوى عشر سيارات، كل منها قطع أكثر من ١٠٠ ألف ميل، وهنا يكون المرء على يقين من أن الموديلات الأحدث، وجدت سبيلها إلى بيوت جديدة قبل التفكير في عرضها ضمن مجموعة المزاد.
وبينما يستنزف الفساد، بطبيعة الحال، النسيج الأخلاقي للصين، بدأت الجريمة بدورها تهدد النظام والاستقرار؛ إذ تجد عصابات تجوب الريف، وتخطف الشاحنات، وتسد الطرقات بعارضات لجباية الرسوم. وحدث أن عصابة في مقاطعة أنهوي اختطفت مئات الإناث؛ لبيعهن ليكن زوجات أو للعمل مومسات. وعادت إلى الظهور نكبة القرن التاسع عشر، وهي إدمان المخدرات، خاصة في جنوب الصين. وأعلنت السلطات المسئولة في الحزب الشيوعي عام ١٩٩٢م، أن مدينة واقعة على الحدود مع بورما تهيمن عليها «قوى الشر»، وأرسلت السلطات قوة قوامها ٢٠٠٠ جندي لتدمير تجارة الهيروين. ومعروف أن قوات الأمن في هذه المناطق الحدودية تصادر، بشكل منتظم، قنابل وألغامًا أرضية، وقنابل يدوية ونشبت حرب ضد صفقات المخدرات في مدينة كومنج عاصمة مقاطعة يونان، التي تبعد مسافة صغيرة فقط عن المثلث الذهبي للأفيون، وهي منطقة سيئة السمعة في جنوب شرق آسيا.
وثمة قصة أخرى تطابق قصص القرن التاسع عشر، تتعلق بحادث غريب، وهو انفجار عبوة من الديناميت، في شقة في أحد البيوت في وسط الصين. ونجم عن ذلك مصرع ما لا يقل عن ٩٥ شخصًا، وإصابة أكثر من ٤٠٠، وهدم ٤٠ منزلًا، وحفرة بمساحة عشرة آلاف متر تقريبًا، وتهشم زجاج نوافذ، على بعد أميال من مكان الانفجار. وأفاد تقرير بأن «الرسميين عاجزون عن إيجاد تفسير، لماذا كانت هذه الكمية الضخمة من الديناميت مخزونة داخل شقة في إحدى البنايات». وقالت وكالة شنخوا للأنباء المملوكة للدولة: «إن العمال تعاملوا مع المواد المتفجرة بطريقةٍ تخالف القواعد المنظمة لذلك.»
ولكن هذه الأجهزة الإعلامية ذاتها، التي تحكي — في سعادة — مثل هذه القصص المثيرة عن الجريمة والفساد في المناطق البعيدة والدنيا، غالبًا ما تلزم الصمت بشأن أضخم أحداث الفساد التي تقع في أرقى مستويات الحكم وقيادة الحزب. وحدث أن تلقى شن شيتون، عمدة بكين، في عام ١٩٩٥م تكريمًا مثيرًا للريبة؛ إذ أصبح أول عضو بالمكتب السياسي تعزله السلطات من منصبه، بسبب سلسلة من أعمال المحسوبية والابتزاز. واعتقلت السلطات كثيرين من الرجال المحيطين به بتهمة ارتكاب «جرائم اقتصادية خطيرة»، ولكن على الرغم من أن المطلعين على بواطن الأمور، داخل الحزب، كانوا يعرفون، منذ سنوات، سلوكيات شن الخاطئة، إلا أن وسائل الإعلام لم تلمح إليها، إلى أن تحرك المكتب السياسي، واتخذ موقفًا ضده وعزله من منصبه.
وحذر، منذ زمن طويل، صن تسو، المفكر الاستراتيجي العسكري من الفساد ونتائجه وقال: «يجب على القائد أن يكون قدوة وحصنًا لفضائل الحكمة والإخلاص، والنزوع إلى الخير والشجاعة والصرامة والدقة. وإن قادة اليوم إذ ينادون من أجل «حضارة روحية» جديدة، يعترفون في الوقت ذاته بعمق حالة الفساد. نعم قال جيانج زيمين إن الفساد هو الشر الذي قد يطيح بخمسين عامًا من حكم الحزب. وسبق أن حذر لي بونج رئيس الوزراء ضد «عبادة المال» والفردية المسرفة وأساليب الحياة المهترئة». وقال إن مثل هذه المشكلات «مسألة حياة أو موت بالنسبة لأمتنا». وتعرضت لهذه المسألة، وبسخرية غير مقصودة، صحيفة بيبولز ديلي، إذ تضمنت كلمة رئيس التحرير، بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحزب في عام ١٩٦٦م، أن نكبة الفساد ترجع أساسًا إلى «تمركز السلطة في أيدٍ قليلة».
(١٠) عن صغار الأمراء والخصيان
وصغار الأمراء، هم أبناء وبنات وأقارب كبار قادة الصين والشخصيات القومية ذات الحول والطول. عاش كثيرون منهم في الآونة الأخيرة حياة مترفة متميزة إلى أقصى حد: التعليم في الخارج، السفر على جناح السرعة إلى هونج كونج وسان فرنسيسكو ولندن، وشغل المناصب الكبرى في عدد من أكبر الشركات في الصين. ويكدس بعضهم — من خلال دورهم في هذه الشركات — ثروات طائلة، ليس فقط ليحظوا بحياة ميسورة ناعمة الآن، بل، وأيضًا، لكي تتوافر لهم الأموال اللازمة التي تهيئ لهم قاعدة للسلطة في صين المستقبل، المغايرة عما هي عليه الحال الآن.
وهناك من ناحية أخرى، الخصيان: السكرتاريون، والمستشارون العاملون لحساب الزعماء ذوي الحول والطول. وعلى الرغم من أن هؤلاء غير معروفين في الغرب، إلا أنهم أصحاب نفوذ قوي للغاية: إنهم يساعدون على تحديد ما الذي سوف أو لن يوقِّع عليه رؤساؤهم، خلال عملية اتخاذ القرار، ولكنهم أيضًا موجهون؛ إذ يشيرون إلى طريق العمليات غير الرسمية، ويهيئون جميع الموافقات والتأييدات والأذون والتراخيص والتمويل لغالبية ما يجري في الصين، إنهم يعملون مصداقًا للقول السائر الآن: «أعطني سلطتك مقابل مالي، ثم استخدم سلطتك كي أكسب نقودًا أكثر.»
وتجري المقارنة غالبًا بين الصين والغرب على النحو التالي: في الغرب كل شيء مباح ما لم ينص القانون على حظره، والأمر على العكس في الصين: كل شيء محظور ما لم ينص القانون على إباحته، أي أنه محظور ما لم يحصل المرء على موافقة غير رسمية من جهة عليا. وتعتبر عملية تدبير هذه الموافقات غير الرسمية في نطاق عمل الخصيان، ويفرضون، كذلك، رقابة صارمة على الممارسات الفاسدة من الآخرين. ويبدو كأن المئات من أمثال إدجار هوفر يركضون حول بكين، حاملين ملفاتهم الخاصة، والتي يمكن استخدامها في أي لحظة، لإحراج أو إدانة أشخاص أقوياء. (والشخص صاحب الملفات الأكثر إدانة هو الذي يفوز أو يكسب!). وقد يحكي لك بعض المطلعين على بواطن الأمور في الصين، أن الرئيس جيانج زيمين، على الرغم من إحكام قبضته على السلطة، خلال منتصف التسعينيات، لم يكف معاونوه عن بذل الجهود المضنية لجمع مثل هذه الملفات الخاصة بجميع غرمائه، ممن يتطلعون إلى السلطة.
واحترام قواعد هذه اللعبة يعني استخدام هذه الأسلحة نادرًا، علاوة على أن ذلك يكون دائمًا بشكل خاص ومكتوم؛ ولذلك، فإن التورط في عمل فضائح عامة، سيكون محاولة لشن حرب تدمير متبادل لا فكاك منها، ولكن جاي جيهاي يعتقد أن قواعد اللعبة يمكن أن تتغير، خلال فترة الانتقال بعد عهد دنج، نظرًا لأن صغار الأمراء والخصيان يتنافسون على السلطة، والسيطرة على المناصب الكبرى.
(١١) الفساد غذاء الأمم لاقتصاديات السوق
يرى المتشككون الغربيون الفساد البلوى القاتلة، التي لا تكف عن تسميم الاقتصاد، وتخرب، في الوقت ذاته، القدرات الواهنة بالفعل، للمجتمع الذي أغرقته الضغوط الزائدة. ويعترف قادة الصين أنفسهم بأبعاد المشكلة، ويكافحونها بجد ونشاط؛ رغبة منهم — على الأقل — في الحفاظ بقبضتهم على السلطة. ويفهم جيانج وحلفاؤه، يقينًا، كيف أن قبضتهم تتزعزع، إذا ما حاولوا بناء اقتصاد مع الحفاظ على ثقة الشعب في المؤسسات، بينما كل شيء ينجذب إلى منظومة من الرشاوى والمحسوبيات، ولكن لن ندهش كثيرًا، إذا قلنا إن جيانج وشركاءه معنيون، أولًا وقبل كل شيء، بممارسات الفساد من جانب أولئك الذين لا يساندون زعامتهم مساندة كاملة، وهذا لا يختلف في شيء عن الديموقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة، بشأن قضايا تمويل المعركة الانتخابية.
ولكن لننظر إلى الفساد من زاوية أخرى، إن بعض الأنشطة التي ندرج مظاهرها ضمن الفساد، ربما تعبر فقط عن تطور اقتصاد غير رسمي. والمعروف أن أحد العوامل التي أسهمت في النمو البارز للصين، خلال الأعوام الأخيرة، هو قدرة الشركات ومؤسسات الدولة والمدن والأفراد، ممن لهم نزوع واضح إلى تنظيم المشروعات، على انتهاز حالة الازدهار، والشروع في عمليات صنع وبيع المنتجات، وخلق قنوات للتوزيع واستئجار عمال … إلخ. وإذا كان الإطار التنظيمي الملائم لكل هذه الأنشطة لا بد من وضعه في مكانه أولًا، وإذا كان على كل امرئ أن ينتظر إلى حين سن التشريعات، ووضع القواعد واللوائح ومنح التراخيص، فإن معدلات النمو في الصين، خلال العقد الماضي، ما كان لها أن تبلغ المستوى الذي بلغته. وهنا تصبح الرشوة والمحاباة — لتيسير الحركة — ليس عملًا يثير دهشة حقيقية؛ إذ ما هو، تحديدًا، البديل الآن وفي الماضي؟ كيف يمكن لأي إنسانٍ أن يتوقع، أن يتم الانتقال من اقتصاد اشتراكي قائم على التخطيط، إلى اقتصاد سوق دون حدوث أمثلة متطرفة، مما يسميها الماركسيون التطور غير المتساوي، حيث قاعدة الاقتصاد، هي التحرك أسرع من حركة البنية الفوقية للتنظيم والإدارة؟
ونستطيع أن نرى، في هونج كونج، عديدًا من أبناء تايبيه يخلقون إمبراطوريات متباينة من الاستثمارات في الشركات التجارية والاستيراد والتصدير والعقارات والمطاعم، وغير ذلك كثير، بينما يطوفون في كل الأنحاء بسيارات المرسيدس وبنتلي، ويتحدثون عن الاستثمارات الكوكبية. إنهم شباب وفدوا من جمهورية الصين الشعبية، ويحظون باحترام وتقدير دائمين. من أين حصلوا على المال؟ كيف كانت البداية؟ كم هو عسير معرفة التفاصيل، ولكن أثناء تناول الطعام والشراب تتضح القصة في النهاية؛ إذ تكشف عن قدر من الجوانشي أو العلاقات التي عرفوا كيف يصنعونها ويستثمرونها عندما كانوا في الصين، وتمكنوا، بفضلها، من الاستيلاء على سلع صينية مجانًا، أو بأسعار مدعومة من الدولة. ورحلوا لبيعها بأسعار السوق في هونج كونج، أو كانت هناك قطعة أرض تعاقدوا عليها قبل ارتفاع أسعار العقارات مباشرة، أو أنهم قاموا بالاتجار في إصدارات أسهم صينية، بناءً على معلومات من وراء الكواليس.
ولكن، أيًّا كان المصدر الأصلي لرأس المال «رماديًّا» أم «أسود»، فإن هؤلاء الشباب — من تايبيه — عادوا ثانية للاستثمار في الصين، وشرعوا في تكوين شركات ومصانع، وبناء عقارات والإسهام في النمو الاقتصادي؛ لذلك فإن قدرًا محدودًا من الفساد يتعين أن ننظر إليه باعتباره حليب الأم اللازم لإرضاع اقتصادات السوق في الصين، وكذا الناتج الحتمي للانتقال من الهيكل الماضي إلى المستقبل.
الناس سوف يكتشفون، تدريجيًّا، أن الخداع، وحماية النفس من الخداع، يستهلكان وقتًا كثيرًا، وطاقة كبيرة أكثر من اللازم؛ ومن ثم فإن السبيل الأفضل لعمل مشروعات، هو اللعب بناء على قواعد يحترمها جميع الأطراف. وهنا سوف تُسنُّ قواعد وقوانين جديدة، وسيكون الناس على استعداد للالتزام بها. ومن يدري، ربما ستُخرج نظامًا جديدًا.