الفصل التاسع

الدافع إلى الوحدة

المعنى الجيوسياسي «للمملكة الوسطى»

تنفرد الصين في التاريخ العالمي بقدرتها على تحويل نفسها من إمبراطورية قديمة الطراز إلى دولة-أمة من القرن العشرين، وهي كما هي، دون أن يصيبها شيء. وفي هذا يقول معلق أنثروبولوجي:

إذا كان التاريخ الأمريكي الحديث هو القصة التي تحكي كيف أصبح اتساع قارتنا أمريكيًّا، وكيف أن تاريخ روسيا هو القصة التي تحكي كيف أصبحت روسيا روسية، فإن تاريخ الصين يبدو مختلفًا تمامًا؛ إذ من العبث أن نسأل كيف أصبحت الصين صينية. لقد كانت الصين صينية منذ بداية تاريخها المكتوب.

توحدت الصين سياسيًّا العام ٢٢١ق.م. ومنذ بدايات الكتابة في الصين، منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة مضت، والصين لها نظام كتابة واحد فقط، على عكس عشرات الكتابات المستخدمة في أوروبا الحديثة. ونجد من بين سكان الصين البالغ عددهم أكثر من بليون نسمة، أكثر من ٧٠٠ مليون نسمة يتحدثون لغة الماندارين، وهي اللغة التي يتكلم بها أكبر عدد من المواطنين في العالم. وهناك قرابة ٢٥٠ مليونًا يتحدثون سبع لغات شبيهة بلغة الماندارين، وتتشابه مع بعضها مثل التشابه بين الإسبانية والإيطالية.

وعلى الرغم من أن الصين بها الكثير من جماعات الأقليات المهمة (التي يصل عددها حسب التقديرات الرسمية ستًّا وخمسين)، فإن أغلبهم متوطن في الأطراف وفي مناطق الحدود. وتشكل الأقليات حوالي ٧ في المائة فقط من جملة السكان. ويؤلف الصينيون الهان ٩٣ في المائة. وليس هذا للتأكيد بأن الصين ليس بها تنوع، إنها زاخرة بالنزاعات الإقليمية وبالتناقضات الثقافية من جميع الأنواع. وربما تسكن مناطق الأقليات التي تضم التبت والأقلية المسلمة في آسيا الوسطى أعداد صغيرة، غير أنها تشكل تحديات مثيرة للقلق على المدى الطويل بالنسبة لتطور سياسات الصين، ولقضية الوحدة القومية. ويتباين المجتمع الصيني تباينات واسعة واضحة: من الغابات المطيرة إلى الصحراء، ومن الحداثة الساحلية إلى التخلف في أعماق داخل البلاد، ومن التجار ورجال الأعمال في جواندونج إلى رجال الصناعة في شنغهاي، والنخبة السياسية في بكين.

ومناط التمايز في الحقيقة هو ما يلي: أن الصين أقل تنوعًا من كثير من الأمم، ولكن التجانس الصيني يمكن وصفه بأي شيء إلا أن نقول إنه مسألة عفوية أو تلقائية؛ ذلك لأن الصين، وعلى مدى نصف تاريخها تقريبًا، خضعت لعدد كبير من نظم الحكم: كانت هناك — على سبيل المثال — فترة الممالك الثلاث، وكانت هناك أسرة سونج الشمالية والجنوبية، وحكم أباطرة منج (آخر أسرة بقيادة شعب الهان) مساحة تقارب ثلث حجم الصين اليوم. وأسس المانشوس Manchus، وهم أقلية صغيرة، أسرة كنج Qing (١٦٤٤–١٩١١م)، وعملوا على توسيع الإمبراطورية لتصل إلى حجمها الحالي. وكانت عملية التوحيد دائمًا عملية مؤقتة غير نهائية، ونتيجة مباشرة لسياسات نفذها قادة صينيون فرديون وأقوياء، ابتداءً من الإمبراطور قن Qin عام ٢٢١ق.م.، وحتى الشيوعيين العام ١٩٤٩م.
وتمثل التحديات لوحدة الصين وسلامة أراضيها قضية كبرى في تاريخها: ففي القرن التاسع أدَّى تفكك القيادة المركزية وافتقاد التآزر بين سلطات المقاطعات إلى تمردٍ قاده هوانج شاو Huang Chao. بدأ تمرد شاو في وسط الصين عام ٨٧٥م، ثم وصل إلى جوانجو Guangzhau عام ٨٧٩م، حيث أصبح آنذاك قائدًا يخضع لإمرته حوالي ربع مليون رجل. ورفض بلاط الملك تانج Tang طلبه بأن تكون له السلطة العسكرية على الإقليم، وتذهب بعض المصادر إلى أنه في نوبة غضب ذبح ١٢٠ ألف مسلم ويهودي ومسيحي وفارسي، وحين اضطر مرغمًا إلى العودة، اتجه بحوالَيْ ٦٠٠ ألف رجل إلى شيان Xian، التي سيطر عليها لمدة عامين حتى أجبرته السلطات على الفرار شرقًا. ووقع في الأسر أخيرًا، وقُطع رأسه عام ٨٨٤م في مقاطعة شاندونج Shandong، بعد أن كان قائدًا لأشد المتمردين عنادًا وطموحًا في تاريخ الصين.
تحدٍّ كبير آخر قاده بعد ذلك بألف عام هونج شيوكوان Hong Xioquan، الذي لقبه المؤرخ جوناثان سبنس Jonathan Spence «الصيني ابن الرب». اعتبر هونج نفسه الأخ الأصغر ليسوع المسيح، بعد أن رأى في المنام الأب السماوي مرتديًا ثوب تنين أسود، وفوق رأسه قبعة عالية، وأمره بذبح جنود الشيطان الذين يقودون الناس إلى ضلال. وظل على رأس ثورة تايبيه منذ عام ١٨٥١م وحتى عام ١٨٦٤م، وحاول جاهدًا الإطاحة بسلطة أسرة كنج الحاكمة عن طريق توسيع نطاق سيطرته على جنوب الصين، وتم الانتصار عليه بفضل قوات كنج والقوات الغربية (التي قادها القائد العسكري البريطاني غوردون، الذي ذاع صيته في معارك الخرطوم). وتسببت ثورة تايبيه في مصرع حوالَي ٢٠ مليون صيني.

وتعبِّر ثورتا العام ٨٠٠م والعام ١٨٠٠م عن أزمة صينية مزمنة بلغت أقصى حدودها في هاتَين الثورتَين: «إذ بينما نجد الحفاظ على سلطة مركزية فعالة أمرًا باهظ التكلفة، فإن الافتقار إليها يزيد من احتمالات وقوع نتائج قاسية.» ولهذا فإن ثقافة الشعب الصيني مهيأة بطبيعتها للتماثل والتوحد والانسجام، ولكن إذا لم يعمل القادة بجدٍّ ونشاط من أجل غرس وحدة الصين (وقمع الهجمات ضدها)، فإن أواصر الوحدة تكون عرضة لأخطار التفكك وسيادة العنف والفوضى.

(١) الحفاظ على السلامة الإقليمية

يكشف القادة الصينيون باستمرارٍ عن سمات موروثة لمشاعر عدم الأمان، عارفين أنهم — شأن أسلافهم — سوف يحكم عليهم المستقبل، وسيكون مناط الحكم أساسًا هو كيف أحسنوا الحفاظ على وحدة المملكة الوسطى. ونجد أن من بين إنجازات ماو الراسخة في أذهان الصينيين أنه وحَّد البلاد من أجل الحقبة الحديثة، ولا ترى واحدًا راغبًا في إنكار هذا الجانب الخاص والمميز من تراثه. وورثت القيادة الراهنة، سواء من عصر الإقطاع أم من الماضي الشيوعي، عقيدة تؤمن بأن الوحدة القومية شيء يتعين غرسه وتأكيده يوميًّا، والدفاع عنه دومًا، وهذه عقيدة غرزية وعملية في آنٍ واحد. ولا يوجد واحد فقط بين أعضاء القيادة ممن تواتيه الرغبة في أن يستكشف — من خلال الخبرة — ما إذا كانت عقيدته هذه صوابًا أم خطأً.

ويتلاحم مشروع الدفاع عن سلامة أراضي الصين مع نزعةٍ قوميةٍ حادَّةٍ تنبع تلقائيًّا وتحفزها — بشكل إبداعي — قيادة حريصة على البحث عن أدوات تحافظ على المجتمع في أعلى درجات الوحدة. وهذا هو أحد الأسباب في أن إعادة توحيد تايوان مع الصين — الذي يؤمن الصينيون بأنه حق لا يقبل التصرف ومصير لا فكاك منه — يمثل مسألة مهمة طاغية وعاطفية في بلدٍ يواجه الكثير من التحديات الأهم. وتعتبر تايوان أداة كشف واختبار، وإن كانت هناك مشكلات صعبة تنطوي على نقط انفجار محتملة: التبت والمناطق المسلمة في إقليم سنكيانج Xinjiang، أي الاستقلال الذاتي، والنزاعات الإقليمية مع فيتنام والفليبين واليابان وغيرهم، في شأن الجزر الواقعة في جنوب وشرق بحر الصين.

(٢) إبقاء البرابرة بعيدًا

إحساس الصين بمشاعر الأمة الواحدة سيكون له دورٌ كبير في أسلوبها في تحديد مصالحها وترتيباتها مع البلدان الأخرى، وكذا في كيفية تطويرها لقواتها العسكرية وتحديد وضعها. تشترك حدود الصين مع أربعة عشر بلدًا تضم العديد من «الأسواق الجديدة البازغة»، التي سيكون لها شأن في المستقبل، من بينها كوريا والهند وفيتنام وروسيا ومنغوليا وكازاخستان وميانا مار. وإذا تأملنا هذه العلاقات جميعها، نجد أن الاستراتيجيين الصينيين معنيون بقضايا التاريخ والجغرافيا بعيدة المدى، أكثر من عنايتهم بسياسات الحكومة الراهنة.

وقد يظن المرء، كمثال، أن الصين وفيتنام ستكونان على قدر كبير من التعاون، تأسيسًا على أن كلتيهما تحررتا حديثًا من قيود الاشتراكية، وتحاولان إصلاح اقتصادهما، ولكنهما تعلمتا من التاريخ والجغرافيا عدم الثقة إحداهما في الأخرى، والتماس تحالفات وتوازنات قوًى لا تؤثر في حذرهما وقدراتهما في الدفاع عن النفس. وتعلن الصين أنها تريد علاقات «طبيعية» مع بلدان مثل فيتنام. ويقول عالم الصينيات جيرالد سيجال Gerald Segal: «إن المشكلة الوحيدة هي أن الصين تحدد في الغالب معنى العلاقات «الطبيعية» مع جيران بذاتهم … بأنها العلاقات التي تحتفظ فيها الصين بالهيمنة.» ولكن حماس الصين إزاء ما تراه دفاعًا عن نفسها، والمتمثل في الدفاع عن حدودها ومناطق الحدود، يتجلَّى في تاريخ طويل من عدم الاهتمام باستعراض قوتها خارج حدودها وعزوفها عن ذلك. لقد كان في استطاعة أباطرة الصين السير على الدرب نفسه، الذي سار عليه المغول في غزواتهم لآسيا وصولًا إلى أوروبا، ولكن هذا لم يستهوهم.

وعبارة «المملكة الوسطى» هي الترجمة الحرفية للخصائص الصينية التي تعني «الصين». ولم يكن معنى «الوسطى» عند الأقدمين أن الصين مجرد أمةٍ محصورة وسط مملكة وأخرى، وإنما العكس تمامًا؛ إنها تعني — ولا تزال إلى حدٍّ ما حتى الآن في عقول الصينيين — أن الصين هي مركز العالم وأرقى الحضارات. وطبعي أن جميع الأمم تحب أن ترى نفسها كأنها كيان فريد، ولكننا لا نجد أمة اغتذت بإرادتها مثل الصين على مدى هذا التاريخ الطويل بمشاعر التفوق، ونشير هنا إلى حادثة شهير في القرن الثامن عشر، والخاصة ببعثة ماكارتني، التي أسلفنا ذكرها في الفصل الثاني؛ إذ تكشف عن فكرة ترى أن العالم في حاجة إلى الصين أكثر مما هي في حاجةٍ إلى العالم. ولا تزال الصين حتى الآن تبدي قوة وترفعًا عند اللقاء مع الآخرين، حتى حين تصرِّح في الحديث عن نفسها بأنها أمة متخلفة، أو بمنأًى عن تأثير الآخرين.

وها هي بوينج، الشركة الأمريكية في صناعة الطائرات، والتي يعترف بها العالم رائدة في صناعة منتج تريده وتحتاج إليه الصين، هي شركة لها أن تعجب إلى أي مدًى أصبح الغرب حقيقة يتعامل الآن مع الصين بعد ٢٠٠ سنة من حادث ماكارتني. وتفيد التقارير بأنه حين التقى مجلس إدارة الشركة في بكين، في يونيو ١٩٩٦م، برئيس الوزراء لي بنج، ألقى عليهم محاضرة على مدى أربعين دقيقة، عن أخطاء السياسة التجارية التي تتبعها الولايات المتحدة مع الصين، ولكن المجلس الذي شاء أن يلتقي بكامل هيئته في بكين كطريقة لإثبات أهمية الصين بالنسبة لمستقبل الشركة، استمع أيضًا إلى تحذير من لي بنج، والذي قرر فيه أن التحركات الأمريكية تجعل الصين تتشكك في مدى إمكان الاعتماد على شركة بوينج كشريكٍ تجاري. أما الشيء الذي أضفى على محاضرة لي بنج طابعًا لاذعًا فهو أنه قبل شهرين فقط رفضت الصين شركة بوينج وآثرت عليها شركة إيرباص، ومنحتها صفقة قيمتها ١٫٩٨ بليون دولار لشراء ثلاث وثلاثين طائرة. وعلق فيليب كونديت عضو مجلس إدارة شركة بوينج قائلًا: «لا أظن أبدًا أن بإمكانكم فصل السياسة عن التجارة.»

وثمة مظهر مميز لغطرسة «المملكة الوسطى» الصينية، ويثير الحنق، ويتمثل هذا في محاولات الصين التأكيد بإصرار على أن الأجانب الذين يريدون من الصين أن تحسن استقبالهم، يتعين عليهم اتباع ما تمليه الصين عليهم: فيما يتعلق بكيفية مناقشة أو تصوير المسائل المتعلقة بالصين. مثال ذلك، أنه عندما علمت السلطات الثقافية الصينية أن شركة ديزني متورطة في إنتاج وتوزيع فيلم «كوندون»، وهو فيلم يعطي تأييدًا ومصداقية لنضال الدلاي لاما الراهن في دعوته من أجل تبت مستقلة وحرة دينيًّا، لم تتورع السلطات عن تهديد الشركة علانية؛ باتخاذ إجراءات انتقامية ضد مشروعاتها الوليدة في الصين. وصرح ممثل رسمي لمكتب السينما في الصين قائلًا: «نحن نعارض بإصرار إنتاج هذا الفيلم.» وأفادت التقارير أن السلطات الصينية أخبرَت التنفيذيين في شركة ديزني: «بأن مشروعات أعمال أخرى ربما تتأثر إذا ما أنتجت ديزني الفيلم.»

وواجهت شركتا سوني وإم. جي. إم تهديدات مماثلة بالنسبة لمشروعات أفلام أخرى لم ترُق للسلطات، وأنهت ديزني إجراءات إنتاج فيلم «كوندون»، وهو ما فعله الآخرون. ولم تحدث حتى هذه اللحظة إجراءات انتقامية. ويبدو إما أن السلطات الصينية أصبحت أكثر حنكة سياسيًّا، وباتت تعترف بعدم جدوى التهديد، وإما أنها قررت أن النهج الأكثر ملاءمة هو الانتقام بأساليب هادئة خافية، بدلًا من الأساليب الصريحة السافرة. وإذا أرادت السلطات الصينية الوفاء بوعيدها، فإنها قد تفعل ذلك في هدوء؛ إذ يكفي ألَّا توافق على المرحلة التالية من التوسع في مشروعات ديزني لاند (هذا على الرغم من أن عمدة شنغهاي لا يكفُّ عن تأكيد حاجته إلى ديزني لاند بأسرع ما يمكن). ويعرض وليم إيه. برنت ناشر الدورية التي تحمل عنوان «شبكة حفلات الترفيه في الصين» تصويرًا موجزًا للحالة بما يتطابق مع موضوعاتٍ أخرى كثيرة، وليس الأفلام فقط عن التبت، فيقول: «الصينيون ليس لديهم على الإطلاق أرض يقفون عليها، إلا أنهم يملكون جميع أسباب النفوذ، وهم يُجيدون استعمالها للغاية.»

وليس الأمريكيون وحدهم هم المجبرين على الاختيار بين عمل ما تريده الصين أو إثارة غضبها؛ ذلك أنه خلال الشهر ذاته الذي خصصت فيه نشرة ديزني صفحتها الأولى للأنباء، أعلن نلسون مانديلا Nelson Mandela قطع علاقات جنوب إفريقيا الدبلوماسية مع تايوان، واعترف مانديلا بأنه كان يفضِّل الحفاظ على العلاقة مع تايوان، ولكنه لم يستطع بسبب ضغط الصين.
وزار رومان هرتزوج Roman Harzog الصين خلال الوقت ذاته، وتلقَّى تحية تمثلت في الطرد المفاجئ لقس ألماني، أفادت المزاعم أنه يحرض بعض الحركات الدينية السرية، ولكن هرتزوج، الذي استشعر حرجًا، «ابتسم أمام الكاميرات وأثار بعض الكلام الصاخب عن حقوق الإنسان، وركز حديثه على التجارة».

وكم من مرة حذَّر قادة الصين اليابان، كما حذرتها كلمات محرري الصحف الرسمية، داعين اليابان إلى تغيير أسلوبها. ويحاول اليمين الياباني، في كل مرة، أن يخفف من غلواء العبارات الواردة في الكتب الدراسية عن الاحتلال الوحشي للصين خلال الحرب العالمية الثانية. ولا تفتأ الصين تعرب عن استنكارها، وتكشف عن غضبها، وتطالب بالاعتذار. وتلتمس اليابان في كل مرة وسيلة لزيادة قدراتها العسكرية، أو مناقشة أبسط التغييرات في ترتيباتها الأمنية مع الولايات المتحدة، ولكن بكين تندد بموقف طوكيو، وتصفها بأنها داعية للحرب.

ويبدو لنا واضحًا — حتى في خطاب مشروعات الأعمال العادية — إيمان الصينيين بأنهم يستطيعون تحديد معنى الواقع عن طريق الإعلان، وصياغة مصطلحات الحوار بحيث تكون مغلفة بطابع التهديد. وحدث أن أجرينا لقاءً مع نائب عمدة شنغهاي جاو كيجنج Zhao Qizheng، أعلن خلاله أن الأمريكيين يخسرون السباق من أجل التأثير في مستقبل بودونج: حي المال والأعمال الجديد في شرق شنغهاي:

«تلقيت رسالةً من رجل أعمال أمريكي كبير قال لي إنه بسبب حالة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وانتهاك الصين لحقوق الإنسان، فإنه سوف يسحب استثمارات الشركة من بودونج — على الأقل — إلى حين تحسن العلاقات. وكتبت إليه ردًّا على رسالته قائلًا: إنني سوف أنتظره مرحبًا بعودته، مع الإحاطة بأن رجال الأعمال اليابانيين لن ينتظروا. وأضفت أن رجال الأعمال من ألمانيا وسنغافورة وأستراليا لن ينتظروا كذلك. إننا نعرف أي البلدان لها موقف إيجابي من الاستثمار، وأيها على النقيض. وأكثر من هذا أن إمبراطور اليابان ذاته الذي لا يعبأ قط بالأعمال والتجارة، اصطحب معه مائةً من رجال الأعمال عند زيارته للصين».

إن الحرص على إبقاء الأجانب بعيدين عن مجالات عمل بذاتها، ومحاولة اللعب على تناقض المصالح بينهم، والتهديد بحرمان رجال الأعمال من فرص العمل، إذا كانت حكوماتهم تعمد إلى إحراج الصين، كل هذه الأساليب ليست سياساتٍ جديدةً على الحكومة الصينية، وإنما الأصح أنها جزءٌ من تراث عريق، وأثبت بوجه عام نجاحه عمليًّا.

(٣) النزعة القومية ذات الخصائص الصينية

النتيجة اللازمة عن الإيمان الصريح بصعود الصين هي أن أقطارًا أخرى سوف تتخلف عنها نسبيًّا على الأقل. ولنستمع إلى ما قاله شاب من صناع السياسة في بكين إذ يقول: «الولايات المتحدة قوة على طريق الانحدار، ولن تكون الروسيا عملاقًا اقتصاديًّا على الأقل خلال العقد التالي أو حوالي ذلك؛ ولهذا سترتفع الصين نسبيًّا بالقياس إلى هؤلاء جميعًا.» ويؤكد الرؤية ذاتها أحد منظمي المشروعات في شنغهاي، ممن صعدت أسهمهم سريعًا؛ إذ يقول: «بينما ستحتفظ الولايات المتحدة بقوتها، إلا أنها ستكون أضعف نسبيًّا. إن الولايات المتحدة ستحتل مستقبلًا موقعًا متخلفًا وراء الصين في كل مجالات التكنولوجيا والعلم تمامًا، مثل وضعها الآن في صناعة الملابس.»

وعبَّر صيني يدرس في الولايات المتحدة — عبر الإنترنت — عن هذه النزعة القومية المتأججة بقوله: «تكنولوجيا اليوم تجعل التراث الصيني الغني أقوى مما كان على مدى التاريخ، فكروا في هذا: أدوات ماضينا مع الإطار العصري، وإن اللغات ذات الأساس الصيني سوف تحل محل ثقافة اليوم ذات الأساس الأوروبي.» وواضح أن مثل هذه الرؤية القومية نابعة أساسًا من مشاعر الكبرياء واحترام التراث بعد أن استعادتهما الصين. وهذا طبيعي ومفهوم إذا عرفنا كيف وإلى أي مدًى تحولت الصين، وبمثل هذه السرعة، ولكن الشيء اللافت للانتباه أن يأتي هذا كله على لسان صيني طليعي، تساوره شكوك إزاء الحزب الشيوعي الصيني والحكومة، ولكنه في الوقت ذاته يتمثل، وعلى نحو غير نقدي، النزعة القومية التي تروج لها هذه القوى نفسها.

وتشتمل أيضًا النزعة القومية للصين على جانب مظلم يربط نسبها إلى الصين باعتبارها إمبراطورية سماوية يحيط بها البرابرة، وهذه نزعة دفاعية صارخة واستبعادية، بل إنها في بعض الأحيان نزعة عنصرية. وتحدث إلينا مفكر درس لسنوات عدة بإحدى الجامعات الأمريكية الكبرى، ويشغل الآن منصبًا رفيعًا في إحدى مؤسسات الفكر في بكين، وقال لنا هذه القصة الشعرية: «يُحكى أن ابنًا يعمل في الولايات المتحدة، استدعاه أبوه: أعرف يا بني أنك اضطررت إلى أن تستذل نفسك في عمل شاقٍّ داخل مطعم، ولكن احرص عليه، وعُد إلينا، وقد حصلت على درجة علمية، وهكذا تستطيع أن تجعل الأمريكيين خدمًا لك.»

وإذا جمع المرء بين هذه النزعة القومية وجرعة من الاستعلاء، فسوف تتوافر لديه نزعة تطرفية تتجاوز حدود الثقافة؛ لتمتد إلى الجوانب العسكرية، والاستراتيجية الجغرافية. ونذكر هنا أن الجنرال شو يومين Xu Uimin يرأس معهد الصين للدراسات الاستراتيجية الدولية. وهو من أبطال الحرب ضد اليابان في ثلاثينيات القرن العشرين، كما أنه شارك في جميع المعارك الأيديولوجية والعسكرية للحزب الشيوعي، ووافق على أن يتحدث إلينا عن سياسة الصين الخارجية، والوضع الاستراتيجي للصين في عالم القرن الواحد والعشرين.

إنه جنرال قديم متشدد وقوي؛ وضع غرفة الطعام الخاصة بالمعهد تحت إمرتنا، وهي مكان واسع بارتفاع طابقين، ولها مدخل تحيط به حديقة صغيرة يخترقها مجرًى مائي وجسر مقوس. وترى في الوسط منضدة تتسع لستة أشخاص فوق أرضية من الرخام، كأنها قطعة من معروضات متحف. وتناولنا غداءً هو من أجمل الأطعمة التي تناولناها في حياتنا، ولكنه اقترن بأكداس من عبارات النزعة القومية الجديدة، التي قدموها لنا في خبث ودهاء.

عاد بنا الجنرال شو بأسلوبه الموجز إلى حقبة الثورة الثقافية، وما اقترنت به من جرعات الزهو والانتصار واليقين والرعب. وتقوم نظرته إلى العالم على أساس الحاصل: إما كسب كل شيء، وإما لا شيء دون درجات للتباينات اللونية. الصين هي مركز العالم، وقد لا يكون للولايات المتحدة هدفٌ محتملٌ من وراء سياستها عن «الارتباط» بالصين سوى أن تهاجم وتدمر وتفكك أوصال الأمة الصينية. إن الولايات المتحدة تنتزع نفسها خارج أوروبا؛ لكي تكون في وضع أفضل لدخول آسيا ومحاصرة الصين. ربما يناقش البنتاجون والكونجرس والرئيس خفض الوجود العسكري الأمريكي في آسيا، ولكن الجنرال شو رفض هذا الحديث بتلويحة من يده وقال: «الولايات المتحدة سوف تنسحب من آسيا يوم تشرق الشمس من الغرب.» ثم عرض علينا رؤيته الكوكبية الشاملة:

قال الرئيس ماو منذ وقت طويل: إن الأمريكيين بسطوا سلطانهم إلى مسافات بعيدة، وأنتم لا تكفون عن الحاجة إلى أن تكونوا شرطة العالم، ولا تكفون عن الرغبة في التحكم في العالم باعتباركم القوة العظمى الوحيدة، ولا تكفون عن إنفاق أموالكم فيما ترونه حلًّا لمشكلات العالم، ولكن حتى لو كنتم البلد الأغنى، فلن يكون بالإمكان تتبُّع كل شيء. لقد انتقل مركز جاذبية العالم إلى آسيا؛ ولهذا تحاولون اختلاق عدو في الصين لتبرير وجودكم العسكري في المنطقة. اطلبوا من الشعب الأمريكي، حين تسطرون كتابكم، ألَّا يحاول عمل كل شيء والتحكم في كل شيء.

وليس الجنرال شو مجرد رجل من جيل أكتوبر الذي يتطلع إلى أيام الماضي السعيدة؛ وقتما كانت قوات ماو تخوض المعارك ضد اليابان. إنه لم يكفَّ لحظةً عن حديثه المنمق إلينا قائلًا: إن الرئيس جيانج زيمين أكد أن «قوات الغرب المعادية لم تتخلَّ للحظة عن مؤامرتها لتغريب وتقسيم بلدنا». وأضاف «أن شخصيات سياسية كبيرة وباحثين، علاوة على كثيرين ممن زاروا الصين، اتفقت آراؤهم على أن هدف السياسة الأمريكية تقسيم أراضي الصين وتخريبها سياسيًّا واحتواؤها استراتيجيًّا، وإحباطها اقتصاديًّا».

(٤) فكِّر محليًّا واعمل كوكبيًّا

يعمل مفكرون صينيون بارزون من أجل تطوير الأساس النظري للنزعة القومية الجديدة التي يعتقدون أن الحكومة الصينية سوف تدعمها بفعالية ونشاط، ويدعو «المحافظون الجدد» في الصين إلى أفكار عديدة من بينها «زيادة حجم الدعاية التي ترعاها الدولة، والتي تغرس وتبرز مشاعر الحب القومية للبلد والأخلاق الكونفوشية، التي تحضُّ على احترام السلطة.» ويرى هؤلاء المفكرون المحافظون الجدد أن النزعة القومية علاج للمرض الروحي الذي تعاني منه البلاد، ودواء لفقدان الاتجاه بعد أن يذوي تمامًا الماضي الماوي؛ ومن ثَم يمكن تحديد قيم جديدة واضحة المعالم لتكون هي البديل عنها. ويعتقد البروفيسور شياو جونكين Xiao Gongqin من شنغهاي أنه لكي نبدأ بقفزةٍ واسعةٍ في سبيل نزعة قومية ذات معالم متقدة الحماس، تعين على الحكومة أن تعيد إلى الحياة «مشاعر المذلة العميقة»، التي أحس بها الصينيون على أيدي الأجانب خلال القرن الماضي، وتتخذ هدفًا لها استئصال مظانِّ النفوذ الأجنبي.
وهذا الغرس الثقافي للنزعة القومية ليس مجرد بلاغة سياسية. مثال ذلك أنه في هانجشو Hangzhou نُظِّمت حملة شعارها «قل فقط لا للشاي الأجنبي»، وذلك بعد أن حاولت شركة شاي ليبتون وضع إعلان بارز قرب مخزن الشاي بالمدينة. كذلك وجهت وسائل الإعلام المحلية في تيانجين Tianjin، انتقادًا إلى سارة لي Sara Lee، عندما حصلت شركة مركزها في الولايات المتحدة على علامة تجارية محلية تساعدها على بيع صنف من ورنيش الأحذية، وأعلن المحررون أن صنفًا صينيًّا شهيرًا يوشك أن ينقرض، وذلك في محاولةٍ منهم لإثارة حماسة قرائهم.
ويستطيع الأجانب، إذا لم تقف السلطات في طريق نجاحهم، أن يتفوقوا في المنافسة على الشركات الصينية في داخل أسواقها، مما يحفز ردود أفعال دفاعية. وقالت في أسًى صحيفة ووركرز ديلي: «إن بلادنا تواجه موقفًا حرجًا؛ لقد وضعوا شركاتنا الكبرى في مأزق.» وحدث في العام ١٩٩٥م أن بحث نواب مؤتمر الشعب القومي اقتراحًا يقضي بفرض قيودٍ مناسبةٍ على شركتَي الكوكاكولا والبيبسي كولا. وقال شن بيكسيا Chen Bixia، النائب الذي تقدم بالاقتراح: «يجب أن نحميَ مشروباتنا القومية ونساعدها على الوقوف على قدمَيها … وإن حصة الكوكاكولا والبيبسي كولا من السوق ضخمة جدًّا.»

والملاحظ أنه حتى أيام إصلاحات دنج، عندما كانت الصين أكثر انفتاحًا على العالم الخارجي، عما كانت في السابق، ظلَّت النظرة القومية إلى الداخل قوية مكينة. إن الصين لم تستثمر سوى جهودها الضخمة الدءوبة من أجل تطوير أمة متلاحمة، والدفاع عن سلامة أراضيها، والإطاحة بالاستعماريين الأجانب، وتعزيز نظم السيطرة القومية؛ لتجد نفسها فجأة وقد فقدت اهتمامها بالدولة — الأمة في صورتها الموحدة. وها نحن نرى أجزاءً أخرى من العالم تسارع في سبيل بناء تنظيمات متعدية الحدود القومية، كما هي الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي، أو منطقة التجارة الحرة لشمال أمريكا. وقد نجد — حقيقة — إجماعًا دوليًّا قويًّا في شأن التنظيمات المتعدية القومية، مثل منظمة التجارة العالمية. بيد أننا إذ نرى الصين في غالب الأحيان راغبة في أن تؤدي دورها التزامًا بالقواعد الدولية، فإنها غير راغبة في التخلي عن سلطتها في شأن القضايا التي تعتقد أنها تؤثر في سيادتها. والصين أيضًا غير راغبة في الانضمام إلى الآخرين دون أن تكون لها كلمة في شأن قاعدة العمل. وأثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، أكثر المؤسسات المتعدية للقومية تقدمًا، أن الحدود لا تسقط حقيقة إلا حينما تتخلَّى الحكومات القومية عن بعض سلطاتها السيادية.

وإن تغيير آراء الصين إزاء مثل هذه القضايا يستلزم اتباع سياسات الارتباط زمنًا طويلًا، مع بناء الثقة المتبادلة، ولكن الصين — التي تتلقَّى ضربات من الغرب — ستعمل فقط على تعزيز أصحاب النزعة القومية، وتشجعهم على اتباع مواقف متطرفة في عدائها للأجانب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤