بيان
كتب إلينا صديقنا الأستاذ مرجليوث المستشرق الإنكليزي الكبير في أثناء نقله كتابنا
تاريخ
التمدن الإسلامي إلى اللغة الإنكليزية؛ كتابًا هذا نصه:
إن بين ما جاء في كلامكم عن أنساب العرب وبين آراء المستشرقين في هذا الصدد بونًا
عظيمًا، ولو اطلعتم على كتاب الأنساب والزواج عند العرب الجاهلية للأستاذ روبرتسن
سميث (Kinship and Marriage in Early Arabia)؛
لرأيتم بين المشهور عندنا والموضوع في كتابكم فرقًا بعيدًا؛ فإن مسألة الأمومة
مثلًا قد دُوَّن فيها مجلدات كثيرة ذهب أكثر أصحابها إلى أن العائلة القديمة ليس
فيها أب معلوم، إنما ترأسها أمٌّ كثيرة الرجال، وحق الأبوة أمر مستحدث إدخاله عند
العرب لم يسبق عهد النبي بكثير، وأنساب العرب كلها أكاذيب؛ فإن أسماء القبائل ليست
أسماء رجال قد عاشوا كما يزعمون، بل أكثرها يشبه المسمَّى طوتم
(Totem) عند الأمم المتوحشة، أعني: حيوانًا
ينتسبون إليه لجهلهم بترتيب الطبيعة؛ فيصدر عن انتسابهم إليه سنن وقوانين لا تخفى
آثار بعضها عند العرب الجاهلية.
هذا هو نص كتاب الأستاذ، فنظرنا فيه نظر الاعتبار إجلالًا لمقام صاحبه، وبادرنا إلى
كتاب
روبرتسن سميث المشار إليه، فإذا هو يدخل في نيف وثلاثمائة صفحة، فتصفحناه مليًّا؛ رغبةً
في
الاطلاع على ذلك الرأي وتدبره، لأن مؤلفه من كبار المستشرقين، وله في الشرق وآدابه أبحاث
ومؤلفات ذات شأنٍ، ككتابه في أديان الساميين وغيره من المقالات الشائقة. فقرأنا الكتاب
بإخلاص وإمعان لعلنا نقتنع بصحة هذا الرأي فنرجع إليه؛ إذ لا غرض لنا بما نكتبه إلا تقرير
الحقيقة، فهي ضالتنا المنشودة إذا ظفرنا بها وقفنا عندها صاغرين، ولا يهمنا على يد مَن
يكون
ذلك، فتحقَّقنا مِن مطالَعَةِ الكتاب ما عليه الرجل من العلم والفضل وسعة الاطلاع على
آداب
الشعوب السامية ولغاتها وأديانها، وتوسَّمْنا من خلال أدلته وسبك عبارته حجةً وقوةً على
الإقناع يندر مثلها بين أرباب الأقلام، ولولا ذلك ما استطاع مع ضعف المذهب الذي أخذ على
نفسه إثباته أن يلاقي إصغاء من جلة العلماء المستشرقين، وفي جملتهم صديقنا الأستاذ مرجليوث،
حتى ظهر اقتناعه بذلك في مقدمة كتابه الجليل الذي أصدره في السيرة النبوية
(Mohammed and the rise of Islam) على أن الأستاذ
المشار إليه قد أسند الرأي إلى صاحبه، ولم يتكلَّف نقده اعتمادًا على ما اشتهر به صاحبه
من
سعة العلم، ولا نخاله لو تكلَّف ذلك إلا شاعرًا بما شعرنا به من وَهْم صاحبه في تصوره
على
ما سنبيِّنه فيما يلي. وقد نكون واهمين مثله لأن العصمة لله وحده، وإنما أردنا أن نقول
في
يكفينا أن تربو مواضع الإصابة في أقوالنا على مواضع الخطأ، وربما كان الأمر بالعكس، على
أن
البحث لا يخلو من فائدة في كل حال.
وبما أننا سننشر هذه الرسالة باللغة العربية أيضًا؛ ليطَّلِع عليها جمهور القرَّاء وفيهم مَن لا يزال خالي الذهن من الطوتم والأمومة ونحوهما من الأبحاث الجديدة التي قلَّمَا طرَقَها كتَّاب العربية؛ فرأينا أن نصدِّر الكلام بتمهيد وجيز في المراد من هذه الألفاظ، ثم نتقدَّم إلى الموضوع.