العرب القدماء وأنسابهم وأخبارهم
وقبل التقدم إلى البحث في أدلة الأستاذ سميث نقول كلمة إجمالية في العرب وأنسابهم ورواياتهم تمهيدًا للبحث.
إن مَن يطالع رأي صاحب طوتمية العرب ومَن يقول قوله من المستشرقين، يدرك لأول وهلة أنهم إنما حملهم على ذلك أمران: الأول ضعف ثقتهم بأقوال مؤرخي العرب وبما حُفِظ من خرافاتهم القديمة، والثاني نهوض أهل القرن الماضي لتحدِّي ما ثبت من مذهب الارتقاء في قواعد العمران؛ لأن شيوع هذا المذهب في أواسط ذلك القرن حمل أدباء الإفرنج على رد كل شيء إلى أسباب طبيعية، كما فعل سبنسر في رد العبادات وأكثر العادات إلى مثل هذه الأسباب؛ وهكذا أراد صاحب طوتمية العرب، فإنه لما اطَّلَع على ما كتبه مكلينان عن الطوتم في القبائل المتوحشة — وهو مستشرق مطَّلِع على أخبار العرب سَيِّئ الظن في جاهليتهم يحتقر أقوال رُوَاتهم ونسَّابيهم — ورأى بين أسماء آباء القبائل والبطون ما يُشبِه أسماء الحيوانات؛ سبق إلى وهمه أنها من آثار الطوتمية عندهم، فوضع هذا الحكم نصب عينيه وأخذ على نفسه أن يبرهنه، ولما كانت الطوتمية مبنية على الأمومة؛ عمد إلى إثبات هذه فأتى بأدلة ضعيفة تجاوَزَ بها حدَّ التكلُّف، واستشهد بنوادر من أخبار العرب، فجعل الشاذ قاعدة، وأغفل القواعد العامة الثابتة التي أجمع عليها النسَّابون والرواة مما يخالف أصول البحث. وهذا غريب من عالِمٍ اطَّلَع على أخبار الأمم وخرافاتهم، وعلم أن التاريخ القديم أكثره مأخوذ من الخرافات المأثورة عن الأسلاف يمحصونها من الأكاذيب، ويستخرجون صحيحها من فاسدها، فلا يحتقرون خرافة ولا ينكرون قولًا، فإن ما في إلياذة هوميروس من أخبار الآلهة وخرافاتهم لم يمنع العلماء من تمحيصها والتمييز بين التاريخ والدين والخرافة فيها، ويقال نحو ذلك عن أخبار الهنود القدماء منذ نزل جماعة الآريين إلى بلاد الهند على ما هو مُدوَّن في كتبهم السنسكريتية، وهكذا ينبغي أن يقال في خرافات العرب من أخبار عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأخبار سيل العرم ونحوها؛ فإنها مع بُعْدها عن مألوفنا لا تخلو من حقائق تاريخية ذات بال قد كشف الزمان صِدْق كثير منها، فنأتي بشذرات من ذلك على سبيل المثال:
عاد وثمود
ناهيك بما يؤيد أخبار العرب وأنسابهم من نصوص التوراة، وما عثروا ويعثرون عليه في آثار اليمن وغيرها.
النَسَّابون العرب
إذا كان هذا شأن خرافات العرب القديمة، فكيف بأخبارهم المدوَّنة في الكتب، مما أجمع عليه النسَّابون في صدر الإسلام، والرواة يومئذٍ لا يقبلون رواية إلا بعد تحققها بالإسناد الصحيح؛ لما تعوَّدُوه من تحقيق الأحاديث النبوية أو نحوها من الأخبار الدينية في ذلك العصر، فالعرب يُعدُّون من أكثر الأمم تحقيقًا في الرواية وأكثرهم تدقيقًا في حفظ ما يروونه، ولا سيما في صدر الإسلام لاعتمادهم على الذاكرة وإغفالهم الكتابة لأسباب بيَّنَّاها في الجزء الثالث من كتابنا تاريخ التمدن الإسلامي.
وإذا افترضنا صحته وأن النسَّابين وضعوا هذه الأنساب في أول الإسلام للعطاء، فكيف ترضى القبائل التي أبعدها النسَّابون عن النسب النبوي فقلَّ عطاؤها، أو ضعفت حقوقها، وكيف لا تحتج على ذلك، بل كيف لا يُشتمُّ رائحة ذلك الاحتجاج من كلام المؤرخين؟ على أن تواطؤَ النسَّابين على الوضع بعيد الإمكان؛ لأنهم لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما كانوا يطوفون البادية ينقلون النسب عن ألسنة الحفَّاظ، ويُدوِّنونه أو يحفظونه، وقد يجمع النسَّابة أخباره من أهل نجد والحجاز واليمن بالسؤال من الثقات في تلك الأصقاع المتباعدة الأطراف، فهل يمكن تواطؤهم على ذلك؟
الشعوبية وأنساب العرب
ومع ذلك لم يتعرضوا لصحة أنسابهم أو فسادها، وأمة الفرس بلغت أوج تمدنها قبل الإسلام بقرون، وكان العرب ينزحون إليهم ويقيمون بينهم، وجرى لهم معهم حروب ومناقشات قبل الإسلام، وقد استولى الفرس على اليمن، وأقاموا بين ظهراني العرب وعاشروهم وخالطوهم قبيل الإسلام؛ فهم أولى الناس بمعرفة أحوالهم في جاهليتهم، فلو وجدوا في ضبط أنسابهم شكًّا ما سكتوا عنه، وقد بدءوا بالنقمة عليهم من أوائل القرن الأول للهجرة، وأغرب من ذلك أن النسَّابين أنفسهم كان أكثرهم من العَجَم، فهل يضعون شيئًا يكون سلاحًا عليهم في أيدي أعدائهم؟
اختلاف بعض الأنساب
فكل ما لدينا من أخبار العرب يرجع إلى ترتيب النسب على ما ذكروه في كتبهم أو رووه في إشعارهم، وليس عندنا ما يخالف ذلك الترتيب نصًّا ولا إشارةً فكيف يجوز لنا نقضه؟ ولا عبرة فيما ذكره صاحبنا من اختلاف النسَّابين في نسبة بعض القبائل إلى قحطان، أو عدنان، أو إلى قيس، أو كلب أو نحو لك؛ لأن النسب كما قدَّمنا منقول في الأصل عن أفواه الناس على اختلاف الأصقاع. والإنسان عنوان الخطاء، ولا يخلو أن يكون ديوان عمر بن الخطاب وفرض العطاء على النسب أوجب بعض التشويش، وانتماء بعض البطون إلى غير قبائلها، والنسَّابون المُحقِّقون يبينون الصحيح من الفاسد على ما يبلغ إليه إمكانهم، ولكن وجود هذا الاختلاف لا يدل على فساد النَّسَب من أساسه، كما أن اختلاف الرواة في تفاصيل إحدى الوقائع التاريخية لا يدل على أنها لم تقع، فلو اختلف جماعة في فتح عمرو بن العاص مصرَ، فقال أحدهم إنه فتحها صلحًا، وقال آخرون إنه فتحها عنوة، وقال غيرهم إنه جاءها بأربعة آلاف مقاتل، وقال آخَرون بل جاءها بعشرة آلاف، واختلف آخَرون في هل جاءها العرب على الخيل أو على الإبل؛ فهل يدل ذلك على أن مصر لم تُفتَح؟ وإذا قال ذلك قائل ألا ننسبه إلى الشذوذ في أحكامه؟
فهذه الاختلافات بالصورة واللفظ أوجبت بعض الالتباس في أنساب القبائل، ويقال نحو ذلك في قلة عدد الآباء بالنظر إلى الزمن، فقد يكون سببه ضياع بعض الأجداد لنسيان أو غيره، أو اعتبار الجد قبيلة برأسها وليس رجلًا فردًا كما هو المظنون في بعض أجداد اليهود آباء التوراة، وهذا أيضًا من الأدلة على قِدَم الأنساب من عهد الجاهلية؛ إذ لو وضعها واضع بعد ذلك لأتقن صناعة التزوير، وأكثر من الآباء حتى لا يبقى مكان لظهور التزييف، ولكن النسَّابين لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما نقلوا ما كان شائعًا على ألسنة العرب محفوظًا في أذهانهم على علَّاته.
وزِدْ على ذلك أن من القواعد الأساسية في تمييز الحقوق «أن الأصل براءة الذمة»، فالأصل في أنساب العرب أن تُعتبر كما وصلت إلينا، ولا يجوز لنا الاعتراض عليها أو نقضها إلا بما لا يقل ثقة عن النصوص الصريحة والقرائن الثابتة بالتواتر أو نحوه. أما الاعتماد على الأقوال النادرة أو الرجوع إلى شوارد الأخبار واتخاذ الشواذ قواعد، فلا يصح الاعتماد عليه، أو هو استقراء ناقص، بل هو ليس من الاستقراء في شيء، وإنما هو من قبيل التحكم على خلاف القاعدة المتَّبَعة في البحث والنقد. والأقرب إلى الصواب في إثبات قضيةٍ أن نتدرَّج فيها من الجزئيات إلى الكليات؛ فمتى ثبتت الجزئيات ثبتت الكليات. وأما صاحبنا فإنه افترض القضية الكلية وحاول إثباتها؛ فلم يعدم من الحوادث المبعثرة من أخبار العرب ما يتخذه أساسًا يبني عليه بناءً ضعيفًا يظهر ببراعته كأنه صحيح.
فالأستاذ روبرتسن سميث صاحب طوتمية العرب اطَّلَع على رأي مكلينان في طوتمية هنود أستراليا وأميركا ونحوهما، ورأى لبعض قبائل العرب أسماء حيوانية، ووجد النسَّابين مختلفين في أصول بعض القبائل؛ فتبادر إلى ذهنه أنها بقايا الطوتم كما قدَّمنا، فوضع القضية الكلية «أن العرب كانوا من أصحاب الطوتم»، ثم أخذ يبحث في كتبهم عما يؤيِّد هذا القول، ولا يخفى عليك ما هنالك من النوادر الشاذة والحوادث المتضاربة؛ فاختار ما ظنه يؤيد قوله وأغفل الباقي، فلو كان السير على هذه الخطة في الاستدلال والبرهان جائزًا لما أعجزنا إثبات أي قضية فرضناها مهما يكن من غرابتها، فلو أردنا الذهاب إلى أن المرأة في الجاهلية كانت مطلقة الحرية، ذات شأن في الهيئة الاجتماعية مثل شأنها في أميركا اليوم؛ لما عدمنا من أخبار العرب ما يسند هذا القول، وكذلك لو قلنا إنها كانت تُعامَل عندهم معاملة البهائم، فإننا نجد ما يشاكِل زعمنا. ولكن القاعدة في مثل هذا البحث أن يُنظَر في مجمل الأدلة، ويُؤخَذ الراجح بالإجماع أو الأغلبية، ولم يُجمِع العرب في أخبارهم أو خرافاتهم أو أشعارهم أو تواريخهم أو عاداتهم على شيء مثل إجماعهم على تلك الأنساب؛ أفننكرها بمجرد الظن؟ وهل يزال اليقين بالشك؟ ثم نلتفت إلى رأي ليس في أخبار العرب ولا في تواريخهم ولا تواريخ سائر الأمم السامية ما تشتمُّ رائحته منه.
ثم أن تلك الأنساب وصلت إلينا بالتسلسل من النسَّابين إلى المؤرخين على اختلاف أماكنهم وعصورهم، وهي مع ذلك مطابقة في أكثر رواياتها، فكيف تتفق هذه المطابقة إن لم يكن أصلها صحيحًا؟ وإن قيل: إن ذلك الأصل وُضِع بعد الإسلام؛ فلا بد من أن يكون واضعه رجلًا ذا سلطان، فمَن هو هذا يا تُرَى؟ وكيف يخفى خبره مع كثرة أعداء العرب في ذلك العصر؟
الشعوب السامية
فالنسب العربي ثابت بثبوت أنساب التوراة، مع اعتبار ما يراه أهل النقد من الباحثين أن أسماء بعض الآباء الأولين يراد بها القبائل لا الأشخاص، فإذا نقضنا هذه لم يَبْقَ بيدنا شيء، وهل يجوز أن نغفل هذه الأنساب الثابتة بتوالي القرون، ونرجع إلى رأي لا أساس له في كتب المشارقة ولا إشارة إليه في خرافاتهم ولا عاداتهم ولا أديانهم ولا شيء من آثارهم؟!
ومما لا يحسن الإغضاء عنه أن العرب لا يصح قياسهم في أحوالهم وأنسابهم بأصحاب الطوتم من الأمم المتوحشة من هنود أستراليا وأميركا وزنوج أفريقيا؛ لأن العرب من أرقى الأمم عقلًا ونفسًا، وهم أهل تمدُّن قديم مثل تمدُّن أرقى الشعوب القديمة، وقد ذهب بعض الباحثين في آثار اليمن وحضرموت أن التمدن العربي القديم أصل التمدن المصري القديم، أي إن الفراعنة أخذوا تمدنهم من بلاد اليمن، ومهما يكن من منزلة هذا القول من الصحة؛ فإنه يدل على إعراق العرب في المدنية منذ آلاف من السنين. دَعْ عنك ارتقاء لغتهم في تركيبها وألفاظها، وهو يشهد بارتقاء عقول أصحابها من أقدم أزمنة التاريخ وقبله، فهل يُعقَل أن يتخذوا آباءً من النبات أو الحيوان كما يفعل أعرق الأمم وحشية اليوم؟! على أن القول بالطوتمية بحد ذاتها من الغرابة بحيث يصعب علينا تصديق وجودها في الأمم المتوحشة، ونخشى أن يكون القول بها مبنيًّا على الاستقراء الناقص. وَلْنتقدم الآن إلى النظر في أدلة صاحبنا، فننظر فيما يختص منها بالأمومة، ثم ما بناه عليها من الطوتمية عند العرب فنقول …