الأمومة عند العرب
(١) الأمومة على الإجمال
الأمومة: الانتساب إلى الأم، ويراد بها انتساب أهل القبيلة أو الأمَّة إلى أمهاتهم بدلًا من آبائهم، فيقال فلان بن فلانة، كما يقال في الأبوة فلان بن فلان، والأمومة من الأبحاث التي حدثت في أواسط القرن الماضي بعد شيوع مذهب الارتقاء، وأول مَن استلفت الأنظار إليها عالم ألماني اسمه باخوفن في كتاب نشره سنة ١٨٦١؛ فاهتمَّ به علماء العمران لاختلافه عما تعوَّدوه من نظام العائلة المألوف، ومرجع بحثه أن الأمومة سابقة في تاريخ العائلة للأبوة، فعنده أن الزواج كان عند الأقدمين فوضويًّا بلا شرط، وهو زواج المشاركة، فإذا ولدت بعض النساء غلامًا لا يمكن تعيين والده وهو ملازِم أمه للرضاع؛ فينتسب إليها ويُعرَف بها، فيصير الانتساب إلى الأمهات قاعدة عامة؛ فأصبح للمرأة المقام الأول في الهيئة الاجتماعية، وهي صاحبة النفوذ كما هو حال الرجل اليوم.
ولو أردنا الإتيان على أقوال الباحثين في هذا الموضوع، لضاق بنا المقام فنتقدم إلى النظر في أدلة سميث التي نحن في صددها ومَن قال قوله.
(٢) أدلتهم على أمومة العرب
(٣) قول استرابون
وهَبْ أن نص هذه الحكاية لا يخالف ما يريدونه بالأمومة، فتكون الأمومة شائعة عند العرب حوالي تاريخ الميلاد، وقد تقدَّم قول الأستاذ سميث إن العرب والعبران والآراميين كانوا في أقدم أزمانهم عائشين معًا في جزيرة العرب، ثم خرج العبرانيون والآراميون وظل العرب مكانهم، وبيَّنَّا قبلًا أن العبرانيين لا ذِكْر لهذا الزواج عندهم على الإطلاق، ولا سمعنا بمثله عند الآراميين، وإغفال حمورابي ذكره في نصوص شريعته يدل على أنه لم يكن معروفًا في عصره بين النهرين أو ما يجاورهما، فكيف نصدق وجوده عند العرب نحو تاريخ الميلاد؟! فالأرجح عندنا أن يكون استرابون قد شاهد حادثة من هذا النوع عند بعض الناس فأطلقها على سائر العرب، أو سمعها من بعض الرواة فصدَّقها لغرابتها فأوردها على علاتها، كما يفعل كثيرون من أمثاله الذين يرحلون إلى بلاد الشرق، فيعوِّلون في وصف أهله وعاداتهم على ما يلقيه إليهم بعض التراجمة أو عابري السبيل بما فيه من المبالغة أو الاختلاق، وهم أرغب في نشر الغريب استجلابًا لإعجاب قرَّائهم، كما حدث في الأجيال الوسطى وما بعدها على إثر انتشار الإسلام.
الانتساب إلى الأمهات (صفحة ٢٧ و٣٠ من كتابه)
كقولهم بنو خندف وبنمو ظاعنة، وكلاهما اسم امرأة نُسِبت القبيلة إليها، ولو نقبنا بين المئات من أسماء القبائل والبطون والأفخاذ ما وجدنا بينها مَن ينسب إلى أمهم إلا بضعة قليلة، فأي غرابة في ذلك وبين العائلات اليوم نحو عشرة في المئة يُنْسَبون إلى الأمهات؛ كآل ظريفة، وآل تقلا، وآل نور، وآل نائلة، وآل مارية، وقِسْ عليه أهل اللغات الأخرى، فهل يجوز الذهاب إلى أن هذه الأسماء من آثار الأمومة عند أسلافنا؟! أم نأتي على تعليلها من الطريق الأقرب، وهو أن بعض هذه العائلات نُسِبت إلى امرأة هي جدتهم العليا؛ لأن جدهم مات وهي كفلتهم وربَّتهم فعُرِفوا باسمها. وقد يكون الأب مجهولًا لحصول الحمل من السفاح مما يحدث في الجاهلية وغيرها، فيُولَد الولد لا يعرف أبوه فينسبونه إلى أمه، كما وقع لزياد ابن أبيه الصحابي الداهية، فقد كان يُعرَف بأمه سميَّة، فيقال: زياد بن سمية، ولولا استلحاق معاوية إياه بنسبه، لعُرِف أعقابه بآل سمية، ولو تقادم عهد هذه العائلة وتنوسي خبر أمها، لأضافها صاحبنا إلى أسماء أمهات القبائل وعدَّها من بقايا الأمومة.
ويكثر الانتساب إلى الأمهات على الخصوص في الأمم التي يتزوج رجالها امرأتين فأكثر، فيُولَد للرجل ولدان من والدتين يسميهما باسم واحد، فيُنسَب كلٌّ منهما إلى أمه فضلًا عن انتسابه لأبيه؛ تمييزًا له عن ابن الأم الأخرى، وقد يُشتَهر بنسبته إلى أمه دون أبيه، وأمثلة ذلك كثيرة قبل الإسلام وبعده، فقد كان لعلي بن أبي طالب غير امرأة وُلِدَ له منهنَّ عدة أولاد من جملتهم ثلاثة كل منهم اسمه محمد، فنُسِب أحدهم محمد الأكبر إلى أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة؛ فسمَّاه محمد ابن الحنفية، فلو عاش هذا في الجاهلية، لعُرِف أعقابه ببني الحنفية بطن من هاشم أو من قريش، كما عُرِف بنو العدوية نسبةً إلى أمهم من قبيلة عدي.
تأنيث أسماء القبائل (صفحة ٢٨)
أي إن العرب تقول: جاءت مضر، وسَطَتْ قيس … إلخ، ولا يقولون: جاء مضر، وسَطَا قيس؛ فلا ندري العلاقة بين تأنيث الاسم والأمومة، والتأنيث والتذكير في العربية لا قياس لهما، ولو صحت الأمومة لما ضرَّها أن تكون أسماء القبائل مذكَّرة، كما أن تأنيثها لا يثبت وجود الأمومة، على أن لتأنيث القبائل سببًا مبنيًّا على قاعدة من قواعد اللغة، وهو تقدير لفظ «القبيلة» قبل كل اسم، فقولنا «مضر» يراد به «قبيلة مضر»، وقولنا «قيس» يراد به «قبيلة قيس»؛ فالتأنيث للفظ القبيلة المحذوف، والحكمة في ذلك دفع الالتباس بين أن يكون المراد بالفاعل رجلًا اسمه قيس أو مضر، أو القبيلة، فإذا كان الفعل مؤنثًا انصرف الذهن إلى القبيلة، وعلى هذا المبدأ يؤنثون أسماء المدن وإن لم يكن لفظها مؤنثًا؛ فنقول: فُتِحت بغداد، وعُمِّرت مصر أو الشام، بتقدير لفظ «مدينة». ونحن نقول اليوم: رَوَتْ المقطم، وذكَرَتْ المؤيد، وقالَتْ الهلال، فنُؤَنِّث الفعل والفاعل مذكَّر لفظًا ومعنى، وإنما تُقَدَّر قبله كلمة الصحيفة أو المجلة.
التعبير عن القرابة بالبطن (صفحة ٢٨)
فيزعم أن تسمية القبيلة بالبطن يؤيد اعتماد العرب على قرابة الأم، والواقع أن البطن فرع من فروع القبيلة على سبيل التشعب كالشجرة، وإنما جعلوا أسماءها شبيهة بأسماء أجزاء البدن بالنظر إلى علاقتها بعضها ببعض أو تفرعها بعضها عن بعض؛ فالمجموع الأكبر عندهم «الحي» كناية عن الإنسان كله، ويراد به الجماعة المتنازلون بمربع، وهو ينقسم إلى «الشعوب» أي الفروع، والشعبان النصفان، كأنهم أرادوا انقسام الجسم إلى شطرين متساويين أيمن وأيسر، ويليها «القبائل» وهي قطع عظم الرأس المشعوب بعضها من بعض، ثم «العمارة» كناية عن الصدر، ثم «البطن»، وبعده «الفخذ»، وأخيرًا «الفصائل»؛ فترى استخدام البطن للقبيلة أو بعض فروعها لا علاقة له بالأمومة، وإنما هو فرع من فروع النسب لما يقابله من أعضاء الجسد. وإذا عدلنا عن هذا التعليل واعتبرنا كل اسم مستقلًّا، وقبلنا التعليل الذي تبادر إلى ذهن حضرته؛ لاقتضى أن يدلوا بالبطن على العائلة التي هي من بطن واحد، ولكنهم يريدون به القبيل المؤلَّف من عائلات.
اشتقاق لفظ الأمة من الأم
الخال والعم والكنة
ولفظ «الكَنَّة» في العربية يُرَاد به في اللغات السامية الكَنَّة والزوجة على السواء؛ فاستدل صاحبنا بذلك على أن الرجل كان يتزوج كَنَّته (أي امرأة ابنه أو امرأة أخيه)، فلا رابط للزواج بين الرجل وامرأته (صفحة ١٣٦)، والجواب على ذلك يدخل في ما تقدم بيانه من اختلاف معاني الألفاظ توسعًا ومجازًا. ومثلها لفظ «صهر» يراد بها زوج بنت الرجل وزوج أخته، ويراد بالصهر أيضًا القرابة على العموم، والأصهار أهل بيت المرأة، ومنهم مَن يجعل الصهر من الأحماء والأختين جميعًا، فهل يصح الاعتماد على مثل هذا التوسع في إثبات مبدأ أو رأي؟!
زواج المتعة
وهو الزواج الوَقْتَي، أيْ أن يَعقد الرجل على امرأة عقد زواج إلى أجل مسمَّى، فمتى انقضى الأجل بطل الزواج، فيرى صاحبنا أن هذا الزواج كان شائعًا عند ظهور الإسلام، وهو يحسبه يؤيد رأيه في الأمومة، وهي تقتضي إباحة نساء القبيلة لأهل القبيلة بلا عقد ولا شرط، والمتعة لا تكون بدون عقد فهي تناقِض ما أراد إثباته، فالمتعة ضرب من ضروب الزواج التي كانت شائعة في الجاهلية وكلها تنفي الأمومة؛ لأن الرجل فيها صاحب السيادة وصاحب العصمة.
الوأد
يرى صاحب طوتمية العرب أن شيوع الوأد في الجاهلية قلَّل البنات؛ فاضطروا إلى الاشتراك في النساء، فكان يشترك عدة رجال في امرأة واحدة يستولدونها، ويكون الانتساب إليها (صفحة ٣٠). وقد بالغ بعض الباحثين في مسألة الوأد، وتوهَّموها عادةً شائعةً في بلاد العرب كلها، والناقد يرى أنها كانت منحصرة في مكان معين وزمان معين تحت أحوال مخصوصة، وإلا فلا يعقل أن يعمد الناس إلى دفن بناتهم، ثم يضطرون إلى المشاركة في الأزواج وفي طاقتهم أن يتخلصوا من ذلك الضيق. وقد ذهب بعضهم إلى أن العرب كانوا يئدون بناتهم خوف الفقر، وهم في حلٍّ من هذا الفقر لو استبقوهن على قلة البنات؛ لما يجدون من إقبال الأزواج عليهن بالمهر والهديا. وقال آخرون إنهم كانوا يئدونهن خوف العار، وإذا صحت الأمومة لم يكن ثمت عار يخافه الآباء، وخوفهم العار على بناتهم دلالة على الغيرة، وهي لا تكون في زواج المشاركة، وفي الحالين فإن دليله في الوأد ساقط.
العصمة في يد المرأة
وقد اتَّخَذَ امتلاك بعض نساء الجاهلية عصمتهن في الزواج والطلاق دليلًا على سيادة الأمومة، وأن المرأة هي رئيسة العائلة؛ فما أغرب هذا الاستنتاج! وما أنقص هذا الاستقراء! إن المرأة في الجاهلية لم تكن عصمتها في يدها إلا في أحوال مخصوصة وحوادث نادرة، فهل نجعل الشاذ قاعدة نبني عليه، والنادر قياسًا نقيس به؟! وأما القاعدة في زواجهم فهي أن تكون العصمة في يد الرجل، وهَبْ أنها في يد المرأة، فلا تكون إلا بعقد مقيد بشروط وقوانين، وليس على سبيل الإباحة والاشتراك كما يريدون بالأمومة. وقِسْ على ذلك سائر أدلته لإثبات الأمومة، فإن مرجعها إلى تأويل الألفاظ، أو الاعتماد على الاستقراء الناقص كقوله (صفحة ١١٨) إن الأب معناه المُرَبِّي، وكاستخراجه الحي من حواء (صفحة ١٧٧)، وذكره القرابة بالرضاعة أو المؤاكلة (صفحة ١٤٨)، وتأويل لفظ آحاب إلى أخ أب، ونحو ذلك مما يُقاس في رده بما قدَّمناه.
(٤) الخلاصة
فالقول بشيوع الأمومة في العرب الجاهلية لا يُستطاع إثباته بالقرائن الضعيفة؛ لأن اليقين لا يزال بالشك، إلا إذا جاز الاعتماد على الشاذ النادر وإغفال القواعد العامة، فقد رأيت في شروط الأمومة أن يكون الزواج من الخارج بالغزو أو السبي؛ لأن بنات القبيلة في زعمهم تقلُّ بالوأد أو بغيره، وأن تكون المرأة زوجًا لعدة رجال معًا وأولادها ينسبون إليها؛ فلم نفهم كيف يكون الزواج بالغزو؟ وكيف يمكن الرجوع بالأنساب في القبيلة الواحدة إلى الأم؟ ولماذا تقل البنات حتى تضطر القبيلة أن تغزو غيرها للحصول على النساء؟ والقاعدة الطبيعية في تاريخ الإنسان بأدواره الأولى أن يكون النساء أكثر من الرجال؛ لتعرُّض هؤلاء للقتل ونحوه بالغزو والسطو، والأولى أن يكثر النساء حتى يتزوج الرجل عدة منهن. على أن الحصول على النساء بالغزو يبعث على الرجوع إلى النسب الأبوي؛ لأن الآباء يبقون في القبيلة، ويشبه ذلك ما كان من كثرة السبايا والجواري في صدر الإسلام؛ فإنهن تكاثرن حتى اختص الرجل بعشرة أو عشرات منهن، وظل النسب في الرجال، ولا يمكن غير ذلك كما يظهر للمتأمل، ولو فُرِض أن النساء يحاربن القبائل للحصول على الأزواج بالسبي، لكان ذلك أقرب إلى حفظ النسب فيهن، أي الانتساب إليهن أو إلى قبيلتهن.
فالقول بتسلُّط الأمومة على الإجمال يفتقر إلى إثبات أو تعديل؛ لأن وجودها على هذه الكيفية غير معقول، ولا يوافق قواعد العمران، أو هو لا يوافقها على الأقل عند العرب؛ لأن القاعدة في الزواج عندهم وعند سائر الساميين أن تكون داخل القبيلة، وإذا جنح أحدهم إلى الخارج فلسبب طارئ. هذا هو حالهم في أقدم ما نعلمه من أخبارهم في التوراة وغيرها، والعربي يُسمِّي امرأته ابنة عمه وإن لم تكن كذلك؛ لأن الغالب في الزواج عندهم أن يكون بين أبناء العم على تفاوت درجات العمومة، واليهود أكثر الأمم محافَظَةً على أنسابهم، ويمنعون الزواج من غير قبائلهم، ويعاقبون مَن يخرج عن ذلك عقابًا صارمًا، وإذا تزوَّج إسرائيلي بغير إسرائيلية فزواجه سفاح، ويسمون المولود من ذلك الزواج «نغلا»، كما يسميه العرب «هجينًا» أيْ لئيمًا، فكيف نزعم مع ذلك أن العرب القدماء كانوا يتزوجون من الخارج بالغزو؟! وإذا فرضنا أنهم كانوا كذلك، فمتى انتقل الزواج إلى الداخل؟ وكيف انتقلت الأمومة إلى الأبوة أو البعولة ومتى؟ كلها مسائل مهمة لا يمكن الجواب عليها، وأصحاب مذهب الأمومة أنفسهم يعترفون بعجزهم عن ذلك، فما أغنانا عن الذهاب إليه. ومَن يطالع تاريخ الزواج من أول أحوال العمران إلى الآن لا يرى فيه إلا ما ينقض الأمومة.