الألفاظ الدخيلة والمولَّدة في عصر التدهور
ما برحت اللغة العربية منذ الفتح الإسلامي وهي تكتسب الألفاظ الأعجمية والتراكيب الأجنبية كما رأيت، مما دخلها من الألفاظ الإدارية والعلمية في العصر العباسي وغيره حتى في العصر الجاهلي. ولكن المراد بالألفاظ الأعجمية في هذا الفصل ما خالط اللغة من الألفاظ والتراكيب الأعجمية بعد انقضاء دولة العرب، وإفضاء الملك إلى السلاطين والأمراء من الفرس والديلم والترك والأكراد والجركس، في العراق وفارس والشام ومصر وغيرها، لأن اللغة العربية ما زالت سائدة في تلك الدول على اختلاف نزعاتها ولغاتها، وكانت في أكثرها هي اللغة الرسمية التي تتخاطب بها الحكومات.
ولم تكن الدول الأعجمية أقل عناية بآداب اللغة العربية من الدول العربية، بل كانوا أكثر اهتمامًا منهم في إنشاء المدارس وتعليم الفقراء واستنساخ الكتب، ولكن حال العمران على إجماله يومئذٍ قضى على اللغة بالانحطاط فدخلها التكلف والتجمل والتصنع، وتكاثرت فيها ألفاظ التفخيم والتبجيل، وشاع التسجيع في الإنشاء، وحدث في تلك الدول وظائف جديدة، وتنوعت الوظائف القديمة، فحدث في اللغة ألفاظ جديدة أو تنوعت الألفاظ القديمة للتعبير عن تلك المستحدثات.
(١) السجع والتفخيم
فالتفخيم والتبجيل والتمليق اقتضت العناية في تنميق العبارات وتحشيتها، وكان السجع قد اشتُهِر على أقلام الكتاب فبالغوا في تنميقه وتوسيعه. والتزام السجع يدعو إلى استخدام الألفاظ الوحشية المهجورة حتى يصير إلى ما تنفر منه الأسماع.
والسجع حسن إذا جاء عفوًا بلا تكلف، لا أن يتعمده المسجعون بالتعمُّل والتصنُّع حتى يمجه الذوق وينفر من السمع. وأصبح التسجيع في ذلك العصر كثيرًا يتفاخر به أكبر الكتاب والناس يومئذٍ يعدون ذلك مستحسنًا، ونحن نراه قبيحًا ولو كان قائله من أشهر الكتبة، كالعماد الأصفهاني فإنه تعمد التسجيع في كلامه عن فتح بيت المقدس في كتابه المسمى الفتح القسي وهو من أشهر كتبه. وإليك عبارة منه تدل على باقيه، وهي قوله في رحيل صلاح الدين للفتح: «رحل من عسقلان للقدس طالبا، وبالعزم غالبا، وللنصر مصاحبا، ولذيل العز ساحبا، وقد أصحب رَيض مناه، وأخصب روض غناه، وأصبح رائج الرجاء، أرج الأرجاء، سيِّب العُزْف، طيب العرف، طاهر اليد، قاهر الأيد. سنا عسكره قد فاض بالفضاء فضاء، وملأ فأفاض الآلاء، وقد بسط عثير فَيْلقه مُلاءته على الفلَق، وكأنما أعاد العجاج رَأدَ الضحى جنح الغسق، فالأرض شاكية من إجحاف الجحافل، والسماء حاظية بأقساط القساطل … إلخ.»
هو أستاذ الأساتذة، وجهبذ الجهابذة، الولي العارف، ينبوع العوارف والمعارف، الإمام الوحيد، والهمام الفريد، العالم العلَّامة، والحجة الفهَّامة، البحر الكبير، والحبر الشهير، شيخ الإسلام، صدر الأئمة الأعلام، قطب الأقطاب، الذي لم تنجب بمثله الأحقاب، العارف بربه، والفائز بقربه وحبه، ذو الكرامات الظاهرة، والمكاشفات الباهرة … إلخ … إلخ.
ولم يكن ذلك التطويل قاصرًا في وصف رجال الفضل كالنابلسي، بل كان شاملًا كل إنسان.
وما زالت الركاكة تتوالى على الإنشاء العربي حتى بلغت منتهاها في أول القرن الماضي، وكثرت الألفاظ العامية والدخيلة. فمن أمثلة ذلك ما جاء في الجبرتي في أثناء كلامه عن حرب الفرنسيين وهي قوله: «وفي الثلاثة حضر هجان وباش سراجين إبراهيم بك، وأخبر أن الجماعة عزموا على الارتحال والرجوع وفك الجسر، فعمل الباشا ديوانًا … إلخ»، وقوله: «وفي ذلك اليوم وصل ططري من الديار الرومية وعلى يده مرسومات، فعملوا في صبحها ديوانًا وقُرِئَت المرسومات … إلخ.»
(١-١) الألفاظ المولَّدة في عصر التدهور
هذا ما يقال من حيث التراكيب، وأما الألفاظ فقد كثر فيها الدخيل والمولَّد، وأكثرها في الألفاظ الإدارية المتعلقة بالحكومة ونظمها وما يتعلق بها.
- النائب: القائم مقام السلطان.
- الساقي: المتولي مد السِّماط وتقطيع اللحم وسقي المشروب.
- المشرف: متولي أمر المطبخ.
- ملك الأمراء: من الألقاب التي اصطلحوا عليها لنواب السلطان.
- رأس النوبة: الذي يتحدث على مماليك السلطان.
- أمير المجلس: الذي يتولى أمر مجلس السلطان.
وقس على ذلك سائر الرتب المحدثة في الدول التركية والكردية كأمير السلاح، ومقدم المماليك، وأمير علم، ونقيب الجيش، والعامل وهذا غير العامل في الدولة العربية، فإنه في الدولة التركية يراد به منظم الحسابات، ومثلها الصيرفي، وكاتب السر، والناظر وهو خاص في الأموال، وصاحب الديوان، والشاهد، وغيرها.
- الجانب: من ألقاب ولاة العهد بالخلافة ومن في معناهم، كإمام الزيدية اليمني في مكاتباته عن الأبواب السلطانية.
- المقام: هو خاص بالملوك.
- المقر: يختص بكبار الأمراء، وأعيان الوزراء، وكتَّاب الشرف كناظر الخاص، وناظر الجيش، وكاتب الدَّست.
- الجناب: من ألقاب أرباب السيوف والأقلام جميعًا، فيما يكتب به عن السلطان وغيره من النواب ومن في معناهم.
- المجلس: هو من ألقاب أرباب السيوف والأقلام ممن لم يُؤهَّل لرتبة الجناب.
- مجلس (بلا أل): يضاف إلى ما بعده، فإذا قيل «مجلس الأمير» كان لقب أرباب السيوف على اختلاف طبقاتهم، وإذا قيل «مجلس القاضي» كان مختصًّا بأرباب الأقلام، وإذا قيل «مجلس الشيخ» كان لقب الصوفية وأهل الصلاح، وإذا قيل «مجلس الصدر» كان للتجار وأرباب الصنائع.
- الحضرة: ويراد بها حضرة صاحب اللقب. وهي من الألقاب القديمة التي كانت تُستعمَل في مكاتبات الخلفاء، وكان يقال فيها «الحضرة العالية» و«الحضرة السامية»، ثم صارت تُستعمَل في العصر الذي نحن فيه للمخاطبة من الأبواب السلطانية إلى بعض الملوك أو الأعيان.
هذه أمثلة قليلة مما تولَّد في اللغة العربية من الألفاظ التي اقتضاها عصر الدول الأعجمية، وأكثرها كان له معنًى وتنوع على ما اقتضته الأحوال عملًا بناموس الارتقاء.
(١-٢) الألفاظ الدخيلة في عصر التدهور
- الأستادار: يتولى قبض مال السلطان أو الأمير وصرفه، ويمتثل أوامره فيه.
- الجوكاندار: لقب من يحمل الجوكان مع السلطان في لعب الكرة.
- الطبردار: الذي يحمل الطبر.
- سنجقدار: يحمل السنجق وهو العلَم.
- البندقدار: وهو يحمل جراوة البندق خلف السلطان أو الأمير.
- الجمدار: الذي يتصدى لإلباس السلطان أو الأمير ثيابه، وأصله جامادار.
- البشمقدار: يحمل نعل السلطان.
- المهمندار: يهتم بالرسل والعربان الواردين على السلطان وينزلهم الضيافة.
- الزنان دار: وهو الزمام دار يتحدث مع السلطان، وهو من الخدم أو الخصيان.
- الجاشنكير: يتصدى لذوقان المأكول خوف التسمم.
- السراخور: يتحدث عن علف الدواب.
- أميراخور: صاحب الإصطبل.
- أميرجاندار: يستأذن على الأمير وغيره في أيام المواكب.
وقس على ذلك ما دخل اللغة في ذلك العصر من الاصطلاحات العسكرية والمالية والتجارية، ومن هذا القبيل الاصطلاحات العسكرية والإدارية في الدولة العثمانية وبعضها تركي أو فارسي صرف، وبعضها مركب من التركي أو الفارسي والعربي كالجاويش، واليوزباشي، والبكباشي، والسرعسكر، والمابين، والسركي، والياور، وأميرالاي، والأوردي، والآلاي، والطابور، والباشا، والبيك، والأغا. ومنها ما هو عربي بصيغة تركية كالمكتوبجي، والمابنجي، والمحاسبجي، والباشكاتب، والسلاملك. وما ينتهي بلفظ «خانة» كالرصدخانة، والكتبخانة. أو بلفظ «دار» كالدفتردار، والخزندار. ناهيك بالألفاظ العربية المولدة التي اكتسبت معاني جديدة في الدولة العثمانية كالناظر، والمتصرف، والمحتسب، والتابعية، والمسئولية، والصدر الأعظم، والمدعي عمومي، والقائمقام، ونحو ذلك وهو كثير جدًّا، وسيأتي ذكر بعضه مفصلًا في أثناء كلامنا على النهضة العلمية الأخيرة.