الخلاصة
يتبين للقارئ مما ذكرناه عن أحوال اللغة العربية فيما توالى عليها من العصور والأدوار في أثناء نموها وارتقائها من زمن الجاهلية إلى هذا اليوم، أنها سارت في كل ذلك سير الكائنات الحية بالدثور والتجدد المعبَّر عنه بالنمو الحيوي، فقد تولدت في العصر الإسلامي ألفاظ وتراكيب لم تكن في العصر الجاهلي، وتولدت في العصور التالية ما لم يكن فيما قبلها، وأخيرًا تولدت في نهضتنا الأخيرة من الألفاظ والتراكيب ما لم يكن معهودًا من قبل. فالوقوف في سبيل هذا النمو مخالف للنواميس الطبيعية، فضلًا عن أنه لا يجدي نفعًا. فاللغة كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، ولا بد من توالي الدثور والتولد فيها أراد أصحابها ذلك أو لم يريدوا، تتولد ألفاظ جديدة وتندثر ألفاظ قديمة على مقتضيات الأحوال لحكمة شملت سائر الموجودات.
•••
وقد آن لنا أن نخلِّص أقلامنا من قيود الجاهلية ونخرجها من سجن البداوة، وإلا فلا نستطيع البقاء في هذا الوسط الجديد. فلا ينبغي لنا احتقار كل لفظ لم ينطق به أهل البادية منذ بضعة عشر قرنًا، لأن لغة البراري والخيام لا تصلح للمدن والقصور إلا إذا ألبسناها لباس المدن. فلا بأس من استعمال الألفاظ المولَّدة التي لا يقوم مقامها لفظ جاهلي لأن معناها لم يكن معروفًا في الجاهلية، أو التي كان لها لفظ وتُرِك فأصبح غريبًا مهجورًا، فاستعمال اللفظ المولَّد خير من إحياء اللفظ الميت، واستبقاء المولود الجديد أولى من إحياء الميت القديم، وإذا عرض لنا تعبير أجنبي لم تستعمل العرب ما يقوم مقامه لا بأس من اقتباسه. وفي اعتقادنا أن إطلاق سراح الأقلام على هذه الصورة يكشف لنا عن جماعة كبيرة من أرباب القرائح، يقعدهم عن الاشتغال بالأدب خوفهم من الوقوع في خطأ لغوي أو بياني يُؤاخَذون عليه، وليست فيهم شجاعة أدبية تحملهم على عدم المبالاة بالنقد إذا كان فيما يكتبونه فائدة، والخطأ اللغوي لا يقلِّل شيئًا من قدر الكتاب لأن الإحاطة بكل أوضاع اللغة وقواعدها وشواردها لا يتأتَّى إلا لقليلين.
•••
على أننا لا نقول في هذا الانطلاق نحو ما يقوله الإفرنج في لغاتهم، لأن شأننا في لغتنا غير شئونهم في لغاتهم، فلا بد لنا مع هذا الإطلاق من الرجوع إلى القواعد العامة والروابط الأساسية فلا نفسد اللغة بألفاظ العامة وتراكيبهم، ولا نكثر من الدخيل حتى تصير لغتنا مثل اللغة التركية العثمانية، التي أصبحت لكثرة ما أدخلوه فيها من الألفاظ العربية والفارسية والإفرنجية لا مثيل لها في العالم إلا اللغة الهندستانية (الأوردية)، التي يكتب بها الهنود جرائدهم وكتبهم. أما اللغة العثمانية فإذا عُدَّت ألفاظها باعتبار اللغات المؤلفة هي منها، كان نحو ٧٠ في المائة من الألفاظ العربية، و١٥ في المائة من الفارسية، و٥ في المائة من اللغات الإفرنجية، وعشرة في المائة فقط من الألفاظ التركية الأصلية. ويقال نحو ذلك في اللغة الأوردية وفي اللغة المالطية.
•••
أما اللغة العربية فلا بد من المحافظة على سلامتها والاهتمام باستبقائها على بلاغتها وفصاحتها، وخاصة بعد أن أخذت تنهض إلى أرقى ما بلغت إليه في إبَّان شبابها، فلا يُستحسَن الاستكثار فيها من الدخيل والمولَّد وإنما يُؤخَذ منهما بقدر الحاجة، على أن نعدَّ ذلك الاقتباس نموًّا وارتقاءً لا فسادًا وانحطاطًا.
على أننا نعدُّ ما كتبناه في هذا الموضوع خواطر أبديناها وفتحنا بها باب البحث، وأما استيفاء الكلام في تاريخ اللغة وألفاظها وتراكيبها فلا يسعه إلا المجلدات الضخمة، فنتقدم إلى أئمة اللغة وكتَّابها وعلمائها أن يزيدونا من هذا الموضوع خدمةً لهذه النهضة.