اللغة العربية وحدها
على أننا لو اقتصرنا على مراجعة المعجمات العربية وحدها لاتضح لنا هذا الناموس بأجلى بيان، إذ نرى للمادة الواحدة أو اللفظ الواحد عدة معانٍ متفرِّعة من معنًى واحد، ثم يتنوع المعنى على مقتضيات الأحوال. ولا نحتاج في إثبات ذلك إلى إيراد الشواهد لأنه بديهي، وإنما يحسن بنا أن نشير إلى أسباب ذلك التنوع وهي كثيرة، وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم من الكلام في مقابلة الألفاظ العربية بألفاظ أخواتها كاشتقاق معنى الملح من البحر ومعنى الثلج من البياض، وغير ذلك مما بَيْنَه تناسب في المعنى.
وقد تكتسب الكلمة معنًى جديدًا من عادة أو عقيدة، مثل قولهم: «بنى على أهله أو بأهله» بمعنى تزوَّج، وليس في أصل فعل البناء هذا المعنى، وإنما اكتسبه من عادة كانت جارية عند العرب، وهي أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة الزفاف. ومن هذا القَبِيل تحوَّل معنى القمر إلى الشهر لأنهم كانوا يوقِّتون بالقمر.
ومن أسباب زيادة النمو في اللغة العربية غير النحت والإبدال والقلب «التصحيف»، وهو التبادل بين الحروف المتشابهة شكلًا كالباء والتاء والثاء والنون والياء، أو الجيم والحاء والخاء، أو الدال والذال، أو الراء والزاي، أو السين والشين. وقس عليه.
فمن أمثلة ما ورد بمعنًى واحد وسببه التصحيف قولهم: رجل صلب وصلت، والدبر والدير، والكرت والكرب، ورغات ورغاب، والجلجلة والحلحلة، وجاض وحاص، والنافجة والنافحة … وهو كثير، وقد ذكر منه علماء اللغة مئات. والغالب أن ذلك التصحيف لم يحدث إلَّا بعد تدوين اللغة، لأنه خطأ بقراءة الخطوط.
ومما اختصت به لغة العرب من نتائج هذا النمو ورودُ الألفاظ الكثيرة للمعنى الواحد، فعندهم للسنة ٢٤ اسمًا، وللنور ٢١ اسمًا، وللظلام ٥٢ اسمًا، وللشمس ٢٩ اسمًا، وللسحاب ٥٠ اسمًا، وللمطر ٨٤ اسمًا، وللبئر ٨٨ اسمًا، وللماء ١٧٠ اسمًا، وللبن ١٢ اسمًا، وللعسل نحو ذلك، وللخمر مائة اسم، وللأسد ٣٥٠ اسمًا، وللحية مائة اسم، ومثل ذلك للجَمَل، أما الناقة فأسماؤها ٢٥٥ اسمًا … وقس على ذلك أسماء الثور والفرس والحمار وغيرها من الحيوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة كالسيف والرمح وغيرهما، ناهيك بمترادف الصفات فعندهم للطويل ٩١ لفظًا، وللقصير ١٦٠ لفظًا، ونحو ذلك للشجاع والكريم والبخيل مما يضيق المقام عن استيفائه.
ومن خصائص اللغة العربية أسماء الأضداد، فإن فيها مئات من الألفاظ يدل كلٌّ منها على معنيَين متضادين، مثل قولهم: «قعد» للقيام والجلوس، و«نضح» للعطش والري، و«ذاب» للسيولة والجمود، و«أفسد» للإسراع والإبطاء، و«أقوى» للافتقار أو الاستغناء.
ومن خصائصها أيضًا دلالة اللفظ الواحد على معانٍ كثيرة، فمن ألفاظها نيِّف ومائتا لفظ يدل كلٌّ منها على ثلاثة معانٍ، ونيف ومائة لفظ يدل الواحد منها على أربعة، وكذلك التي تدل على خمسة معانٍ. وقِسْ على ذلك ما يدل على ستة معانٍ فسبعة فثمانية فتسعة إلى خمسة وعشرين معنًى، كالحميم والفن والطيس. ومما تزيد مدلولاته على ذلك «الخال»، فإنها تدل على ٢٧ معنًى، وللفظ «العين» ٣٥ معنًى، وللفظ «العجوز» ٦٠ معنًى.
فتكاثر المترادفات والأضداد ودلالة اللفظ الواحد على معانٍ كثيرة، لا يحدث إلَّا من تفرع ألفاظ اللغة ومعانيها بالنمو والتجدد وتكاثر الدخيل، وبالطبع لم يتكون للشيء الواحد مائة اسم أو مائتان إلا بتوالي الأجيال، وأحدث تلك الألفاظ أكثرها استعمالًا، وأقدمها أقربها إلى الإهمال.