متفرقات
(١) طبائع الزنابير
لم يغادر أهل هذا العصر بحثًا لم يطرقوه ويتوسعوا فيه، وأحسن ما يتوخونه في هذا السبيل أن الرجل منهم ينقطع لموضوع خاص يبحث فيه من كل جهاته ويحيط بكلياته وجزئياته عملًا بقاعدة تقسيم الأعمال، وهي أفضل الوسائل لاستيفاء البحث وكشف الحقائق، ولو كان الموضوع صغيرًا في ظاهره، فإن الطبيعة مملوءة بالعجائب الدالة على حكمة إدراكها فوق طاقة البشر، ومن هذا القبيل البحث في طبائع الزنابير (الدبابير)، فقد تفرغ لدرسها المستر بكهام وامرأته في مصيف لهما في الولايات المتحدة وألَّفا في ذلك كتابًا ذكرا فيه من طبائع هذه الحشرات ما لم يكن معروفًا من قبل، فوجدا في جملة ذلك أن الزنابير تميز بين الألوان، فتعرف الأزرق من الأحمر من الأخضر وأوردا التجارب التي أثبتت لهما ذلك.
ومما درساه من طبائع هذا الذباب مسألة معرفة الجهة، وذلك أن الزنابير أو النحل إذا نقلت من قفيرها في صندوق مقفل إلى مكان بعيد، ثم أطلقت من الصندوق عرفت جهة القفير من تلقاء نفسها؛ مما لا يستطيع مثله الإنسان مع سمو عقله، فكان المشهور أن الزنبور إنما يفعل ذلك بحاسة خصوصية فيه سموها حاسة معرفة الجهة. وأما المستر بكهام فقد تحقق أن الزنبور إنما يهتدي إلى خليته بقوة البصر كما يفعل الحمام في طيرانه من بلد إلى آخر، فإنه يعرف طريقه بما يشاهده فيها من الأشكال البارزة، كالجبال أو البحور أو الشجر أو غير ذلك على نحو ما يعمله الآدميون في معرفة الطرق، فالزنبور إذا أراد بناء قفير يقيم فيه، فإنه يعين أولًا نقطة البناء ثم يأخذ بالطواف حولها في حلقات بعضها أوسع من بعض لدرس ما يحيط بالمكان من الأشكال والعلامات البارزة ثم يأخذ في البناء فينقل الأدوات اللازمة، وفي أثناء نقلها يدرس الأمكنة المحيطة ببيته وكلما التقط قشة أو زهرة وأراد الرجوع إلى القفير دار حول مكان القشة عدة دورات كل دورة أوسع من سابقتها حتى يهتدي إلى جهة القفير فيطير إليه، ولكي يتحققوا أن الزنبور إنما يهتدي إلى قفيره بما يعرفه من العلامات المحدقة به أطاروا زنبورًا واغتنموا غيابه عن القفير ونزعوا عنه غطاء من ورق الشجر كان يغشاه، فلما عاد الزنبور لم يجد قفيره إلا بمشقة، فلما أعادوا إليه الغطاء عرفه حالًا.
وتناسل الزنابير غريب في بابه أيضًا، فإن الأنثى قبل أن تلقي بيوضها تبتني نقفًا متصلًا بخليتها تجعل في طرفه غرفة تختزن فيها بعض الهوام، كالخنافس أو الذباب أو الفراش أو الديدان أو العناكب مما تقتات به الزنابير ثم تلقي بيوضها على واحدة منها، ويختلف ذلك باختلاف جنس الزنبور، فإن بعض الزنابير تختار الخنافس، والبعض الآخر تختار الديدان أو العناكب أو غيرها، والغالب أن تأتي أنثى الزنبور بتلك الحشرات إلى ذلك النفق حية وتنفث فيها السم من إبرتها فتشل، فتلقي بيضها عليها وتخرج وتسد القفير سدًّا محكمًا، وبعد يوم أو يومين ينقف البيض عن ديدان تغتذي من جسم الحشرة التي هي عليها حتى ينقضي دورها الدودي وتصطنع الشرنقة ثم تصير فراشة فتطير وهي الزنبور.
ولبعض الزنابير طريقة غريبة في لسع الحشرات المعدة لغذاء صغارها تدل على نباهة وفكرة، وذلك أن الزنبور المعروف بالاصطلاح العلمي باسم «اموفيل» يختار لغذاء صغاره دودة مثل دود القز مؤلفة من ١٣ قطعة أو حلقة بينها اختناقات ولكل قطعة مركز عصبي خاص، فالزنبور يلسع هذه الدودة في كل حلقة على حدة، ولا يستطيع ذلك إلا بعد جهاد عظيم، فإنه ينقض على الدودة فتنقلب تحته وتتلوى حتى تتملص منه، فيعيد الهجوم ثانية وثالثة، وفي المرة الخامسة يقبض على مؤخرها بأطرافه قبضًا متينًا ولا يبالي بدفاعها، ثم يرفعها عن الأرض ويرسل إبرته إلى مؤخر بطنها ويلسعها بين الحلقة الثالثة والرابعة فتشل الدودة للحال وتعجز عن الدفاع، فيمكث الزنبور حينًا لا يتحرك كأنه يلتمس الراحة بعد ذلك العراك ثم يستل إبرته ويلسعها بين الحلقتين الثالثة والثانية وبين الثانية والأولى، ثم يطير حولها ويعود إليها ويلسعها فيما بقي من الحلق فتشل شللًا تامًّا، وتبقى على الغالب حية حتى ينقف البيض وتأكلها صغار الزنبور.
وذكر المستر بكهام غرائب أخرى للزنابير في كيفية سد الخليات للاحتفاظ بالبيوض قال: يُدخل الزنبور رأسه في فوهة القفير أو الخلية ويجرف التراب من حولها، ويدخله فيها ثم يُخرج رأسه ويتفقد ما قد جرى، ويعيد الكرة حتى يرى الخلية قد امتلأت من التراب، فيجرف إليها ترابًا من الخارج حتى تمتلئ وتصير فوهتها بمساواة سطح الأرض، وعند ذلك يأتي بقطع يابسة من الأوساخ يضعها على الفوهة ويلتقط حصاة بمخلبيه يستخدمها كالمدقة يسحق بها تلك القطع بضربات سريعة، ويطين بمسحوقها فوهة الخلية كما يفعل البناء في تطيين الفراغ بين الحجارة، ويدل ذلك على قوة في الزنبور غير السليقة وإذا عددنا قتله الدودة من قبيل السليقة فاستخدامه الآلة للسحق والتطيين لا يخلو من نباهة وتعقل.
(٢) الهضم خارج المعدة
للهضم في الحيوان قواعد يمر الطعام عليها في القناة الهضمية، فيتحول في أثناء سيره من الفم إلى المريء فالمعدة فالأمعاء، أو ما يقوم مقام هذه الأعضاء على اختلاف أنواع الحيوان، فيتحول بالمضغ والهضم المَعدي والمعوي إلى سائل لبني تمتصه الأوعية الماصة وتحمله إلى الدم وهناك يتم تكونه للتغذية، والحيوانات تتفاوت أعضاؤها الهاضمة في الكمال من القناة البسيطة في الديدان إلى الأعضاء المركبة في الإنسان، والهضم في كل حال يتم داخل الجسم.
لكنهم عثروا في بعض الحشرات على ما يخالف هذه القاعدة؛ إذ يهضم الطعام فيها بدون أن يمر في جوفها، وقد عني أحد العلماء في درس طبائع نوع منها اسمه بالإفرنجية «ديتيك» يكون في دوره الدودي؛ أي قبل أن يتحول إلى فراش مستطيلًا معقدًا يسبح في الماء، ويقتات بالأسماك بدون أن يبتلعها؛ لأن أدوات الهضم في رأسه، فيهضمها وهي في فمه.
وذلك أن رأسه مؤلف من صفيحة متينة لها في جانبيها تنوان معكوفان، كالقرنين يتقابل طرفاهما في مقدم الرأس، وقد يتقاربان حتى يلتقيا، فيتألف منهما شبه حلقة. وإذا تفحصت مكان الفم في هذا الرأس لا تجد له تجويفًا وإن كان ينتهي في أسفله بأنبوب كالقناة الهاضمة، ولكن الهضم لا يتم فيها وإنما يتم في مكان الفم بواسطة ذينك القرنين، وهما مجوفان في رأس كل منهما ثقب دقيق يستطرق إلى قاعدته ومنها إلى القناة الهضمية في الداخل.
فبواسطة هذين القرنين وتجويفهما يتم الهضم والامتصاص، وذلك أن تلك الحشرة إذا لقيت سمكة همت بها والتقمت بعضها وغرست قرنيها فيها من الجانبين، وأخذت تمتص ما فيها من السوائل التي لا تحتاج إلى هضم كالدم واللمفا، أما الجوامد كالعضل والعصب وغيرهما فإنه ينفث فيها من قرنيه عصارة تعمل عمل الهضم وتحول تلك الجوامد إلى سوائل مهضومة فتمتصها تلك الحشرة وتغتذي بها.
وقد وجد الموسيو بورنيه صاحب هذه التجارب أن هذا العمل لا يستغرق وقتًا طويلًا؛ لأن ذلك الحيوان يثب على السمكة ويغرس قرنيه في جانبيها بأسرع من لمح البصر، فينفث فيها أولًا سائلًا مخدرًا يشل أعصابها حتى لا تقوى على الدفاع، ثم تمر سوائلها، ولا يمضي بضع ثوانٍ حتى ينسكب منه سائل أسود يخترق السمكة وأخذ في تذويب أعضائها رويدًا رويدًا، فترى جسمها يتناقص حجمه ويبقى الجلد في شكله من الخارج، ويمكن للمتفرج أن يتتبع عمل الهضم في تلك العلفة إلى آخرها، فيرى انسكاب السائل الأسود دفعات بينها فترات يمتص بها الحيوان ما ذاب عن بدن فريسته، والفترة نصف دقيقة، ولا يزال يكرر ذلك حتى لا يبقى من الفريسة غير العظم والجلد فيلفظهما.
(٣) خمر البلكة في بلاد المكسيك
يتعاطى المكسيكيون شرابًا كثير الشيوع بينهم يسمى خمر البلكة كما يتعاطى أهل أفريقيا خمر البلح، يستحضرونه من عصارة نبات غريب ببابه يقال له الأكاف؛ أوراقه تنبت غليظة عريضة من جذره، ولهذا النبات أهمية كبرى في بلاد المكسيك بسبب عصارة تجتمع في جوفه بغزاره يعالجها الأهالي فتصير خمرًا لذيذًا يتعاطاه القوم هناك بكثرة لسهولة اقتنائه ورخصه.
وكان الأكاف في الأصل نباتًا بريًّا، فلما اكتشف الناس نفعه استنبتوه في البساتين، فتكاثر وشاع حتى صار محصوله غزيرًا، وأنشئت المعامل لاصطناع خمره والمتاجرة ببيعه وتوريده، ولهم في تربيته وتعليله طرق عرفوها بالاختبار، ومرجع فائدة هذا النبات إلى العصارة التي تتجمع في جوفه، وهم يسمونها ماء العسل لحلاوتها ويستخرجونها على هذه الكيفية:
إذا مضى على الشجرة سبع سنوات آن استثمارها، فيعمد البستاني عند ذلك إلى جوفها ينزع ما حوله من الأوراق المتراكمة حتى يظهر الفراغ كأنه وعاء مخروطي الشكل، فيأتي بسكين طويل يغرسه في وسطه إلى الأسفل على شكل خاص ينقي به كل البراعم الثابتة حديثًا، ثم يغطي ذلك المخروط ببعض الورق، ويعود إليها بعد سنة، فيجد ذلك الجوف قد امتلأ عصارة لبنية تشبه السائل الذي يتولد في جوف جوزة الهند، فيستخرجونها بالامتصاص بواسطة قرعة يابسة من القرع المعروف، فيجلس الرجل في وسط الأكاف ويلقي بالقرعة ولها ثقب في قعرها وفتحة في رأسها، فيدخل الرأس في السائل ويمتص الهواء من القعر.
إذا ذهب الهواء صعد السائل في القرعة على مبدأ المص حتى تمتلئ القرعة، فيسدها ويفرغها في أوعية مُعدة لذلك، وتجتمع هذه الأوعية إذا امتلأت في معامل خاصة لأجل تخميرها بواسطة مواد تضاف إليها تشبه حبوب الثابيوكا بالمقادير اللازمة، فيتولد أصناف من الخمر تختلف باختلاف درجات الاختمار، ويحمل إلى الأطراف بمقادير كبيرة، وكثيرًا ما تُشحن في قطر خاصة تحمل مئات من القناطير.
(٤) أكبر اللحى
طبيعي في الإنسان أن يرسل لحيته كما يرسل شعر رأسه، بل هي أولى بالإرسال لأنها تميز الرجل من المرأة، ولكن الأمم القديمة اختلفت في هذا الشأن؛ فالإسرائيليون كانوا يرسلون لحاهم ويحترمونها، وقد حافظوا عليها في أثناء عبوديتهم بمصر وهم يفتخرون أنهم خرجوا من وادي النيل ولحاهم معهم، أما المصريون فلم يكونوا يرسلون لحاهم ولكنهم كانوا يوقرون اللحى؛ ولذلك كانوا يلبسون لحى مستعارة في الاحتفالات الدينية الكبرى ويصورونها في وجوه آلهتهم الذكور.
والعرب كانوا يرسلون لحاهم مثل سائر الشرقيين، وظلوا على ذلك بعد الإسلام، وتفننوا في أشكال اللحى وضروب إصلاحها وألوان خضابها، وكانت تعد من شعائر التقى والعلم والوجاهة، فالخلفاء والأمراء والفقهاء والعلماء كانوا يرسلونها ويحتفظون بما يقع منها في أثناء التمشيط ويحرقونه حتى لا تُمس كرامته، وأول من خالف هذه القاعدة السلطان سليم الفاتح (سنة ١٥١٢–١٥٢٠م) فقص لحيته وأمر رجاله بذلك فوقع أمره كالصاعقة على المسلمين ولا سيما الفقهاء، وفي مقدمتهم قاضي القضاة، فشكا إلى السلطان من هذا الأمر؛ فأجاب السلطان مازحًا: «قد قصصت لحيتي حتى لا يبقى لوزيري شيئًا يقودني به» يشير إلى استبداد الوزراء في ذلك العهد، ولم يطُل قص اللحى فعاد الناس إلى إرسالها.
وكان الآشوريون ومن خلفهم من الفرس يرسلون لحاهم ويتفننون في تطييبها وخضابها، وذكروا حروبًا انتشبت بين شعوب آسيا بسبب اللحى، منها حرب قامت بين التاتار والفرس، وأخرى بين التاتار والصين سفكت فيهما دماء غزيرة، وسبب الحرب الأولى أن التاتار كانوا يقصون لحاهم، فاتهموا الإيرانيين بالكفر؛ لأنهم لا يقصونها، وتخاصموا ثم تحاربوا، وهكذا يقال في سبب الحرب الأخرى.
ومن تاريخ اللحى في التمدن الحديث أن بطرس الأكبر قيصر الروس وضع ضريبة على اللحى، والظاهر أن الإنكليز سبقوه إلى مثلها وهو قلدهم، فمن دفع الغرامة أذن له بإرسال لحيته، وإلا فإنهم يحلقونها له بالقوة، ولم يبقَ لها مثل هذه القيمة عندهم الآن، وكان الإسبانيون يكرمون اللحى كثيرًا، ومن أمثالهم بعد أن بطلت هذه العادة «لما أضعنا لحانا أضعنا أنفسنا.» وكذلك كان البورتغاليون، فإن جوان كاسترو لما اقترض ألف بندقية من مدينة جوا؛ رهن عندهم خصلة من لحيته، وقال: «إن ذهب العالم كله لا يساوي هذا الجزء من إكليل بسالتي.»
وأما بالنظر إلى الطوائف المسيحية الأرثوذكسية تدافع عن اللحى، وتعد إرسالها ضروريًّا، والكنيسة الكاثوليكية ضد ذلك، لا يمكننا أن نتصور بطريركًا بدون لحية، كما يصعب علينا أن نتصور بابا بلحية، وكان من العادات القديمة أن مَن يقصر شعر رأسه ويطيل شعر لحيته يكرمونه؛ لأنه يفعل فعل الكهنة والأوسمة البابوية التي أصدرها البابوات في نابولي من أيام أكلمندوس السابع إلى إسكندر الثاني من سنة ١٥٢٣–١٦٩١ فيها لحية، وكانت لحية أكلمندوس المذكور طويلة وسوداء.
والناس في كل عصر يتفاوتون بطول لحاهم وكثافتها باختلاف الأمزجة والأعمار والأقاليم، وأطول لحية بلغ إلينا خبرها لحية رجل فرنساوي اسمه جول ريمون، ولد في فريلين بالشمال سنة ١٨٥٣، ويقيم الآن في انطريف (فلاندر الغربية بفرنسا)، فهو الآن في الخامسة والخمسين من عمره، وطول لحيته ثلاثة أمتار و٦٥ سنتيمترًا إذا أرسلها انجرَّت على الأرض؛ ولذلك فهو يحبسها في جيب خاص بها.
(٥) هل ينام السمك؟
(الإسكندرية) سليم أفندي بشارة عقبة.
ضمَّنا وبعض الأدباء مجلسٌ، دار الحديث فيه على السمك وهل ينام أم لا؟ فقال قوم إنه ينام بدليل أنه ما من روح حية خلقها الله إلا ويدب الرقاد فيها. وأنكر آخرون ذلك اعتمادًا على المثل المشهور فيمن يأرق فيقول: «إذا كان السمك ينام في البحر أكون عرفت كيف يكون النوم»، ولما طال الجدال بيننا أجمعنا على استفتاء الهلال فما قولكم؟
(الهلال) لا مشاحة في أن النوم شامل لكل أصناف الحيوان؛ لأنه من حاجيات الحياة الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها؛ حتى لقد يستغني الحيوان عن الطعام ولا يستغني عن الرقاد، ولا يقتصر ذلك على الأسماك أو الطيور أو ذوات الثدي، ولكنه يتناول الهوام الصغيرة والحيوانات البحرية الدنية. وهو متسلط أيضًا على عالم الميكروب الحيواني حتى الكريات الحيوية الأصلية (البروتوبلاسما) فإنها خاضعة لذلك السلطان.
ويزعم بعض العلماء أن النبات أيضًا ينام، وقد لاحظ ذلك العلامة لينيوس النباتي الشهير، وكتب فيه فصولًا ضافية بيَّن فيها اختباره الشخصي؛ فذكر نباتات تنام نومًا عميقًا تتغير فيه هيأتها حتى لا يستطاع معرفة حقيقتها، فإن بعضها إذا أمسى المساء طوت أوراقها وأطبقت أزهارها كما يطبق الإنسان أجفانه، وقد تفعل ذلك في أثناء النهار، والبعض الآخر إذا غلب عليها «النعاس» ذبلت أغصانها وتدلت نحو الساق كما يرخي الإنسان أطرافه في نومه الثقيل، ومن غريب ما ذكره همبولد عن نباتات مغدلينا (في شمالي كولمبيا بأميركا) أنها لا تفيق من رقادها إلا متأخرة، كأن الكسل قد ساد على نبات تلك البلاد كما ساد على سكانها!
ومهما قيل في غرابة هذا الرأي وبعده، فإنه يدل على أن الراحة التامة ضرورية لكل حي، وهي لا تكون إلا بالرقاد.
ولكن الأحياء تختلف في كيفية نومها ومقداره وزمانه، فبعضها إذا نام أغمض أجفانه وتوسد كالإنسان ومعظم أنواع الحيوان، والبعض الآخر ينام وهو واقف كالخيل والحمير، وبعضها ينام وعيناه مفتوحتان، والطيور إذا نامت أخفت رءوسها تحت أجنحتها وظلت واقفة على الأغصان أو الأحجار، وأما الأسماك فإنها تنام إما طافية على سطح الماء، وإما غائصة في قاعه أو سابحة في وسطه، ودليل نومها السكون التام، ولو كانت عيونها مفتوحة وبعضها يتوسد الرمال أو الصخور أو يتخلل الأعشاب المائية.
وتتفاوت الحيوانات في مواقيت النوم وأكثرها ينام ليلًا ويعمل نهارًا، ولكن بعضها ينام في النهار ويعمل في الليل، كالحيوانات المفترسة والجوارح التي تطلب رزقها ليلًا، ويغلب في الحيوانات الكبرى أن تطلب الرقاد بعد الطعام، وبعض الحيوان ينام ساعة أو بعض الساعة، والبعض الآخر ينام أيامًا أو أسابيع أو أشهرًا مما لا محل لتفصيله هنا.
والخلاصة أن الأسماك تنام كسائر الحيوانات، وأما سبب اعتقاد العامة عدم نومها، فالظاهر أنهم قاسوه بنوم الناس فرأوها لا تبرح سابحة في الماء نهارًا وليلًا وأعينها مفتوحة، فظنوا أنها لا تنام وضربوا المثل بذلك.
(٦) نبات النيل (النيلة)
(دمنهور) خليل أفندي السودا.
كيف يزرعون نبات النيل، ومتى ينمو في سواحل سوريا، وكيف يستغلونه ويستخرجون النيلة منه؟
فالإنديكو الملونة عشب يعلو عن الأرض ثلاث أقدام إلى خمس، ذو أوراق ريشية ينمو في الهند والصين وأواسط أميركا، وفي أكثر البلاد الحارة، أما في مصر فهو حديث، نعم إن المصريين القدماء كانوا يستخدمون صباغ النيل في ملابسهم، ولكنهم كانوا يبتاعونه من الخارج، وذكروا أنه كان يُحمل إليهم من بلدة بربريكة على نهر الهند، وربما كانت العشبة المشار إليها تنمو على ضفاف النيل، ولم ينتبهوا لها، وذكر كلوت بك في كتابه عن مصر أن الذي أدخل نبات النيل إليها الأستاذ دي مونبيليه.
أما الآن فهي تُزرع في الصعيد وبعض بلاد الوجه البحري، وتوافقها الأرض الطيبة الرملية يزرعونها بعد حصاد الزراعة الشتوية، وهي تحتاج إلى ماء كثير، ولهم في زراعتها أساليب، أشهرها أن تنقع البزور يومين في الماء ثم تُحرث الأرض ويوضع منها عشر بزور في كل حفرة، وتسقى مرة كل خمسة أيام، وبعد تسعين يومًا تسقى مرة كل ثمانية أيام، وتقطف القطفة الأولى بعد ثلاثة أشهر قرطًا، وبعد أربعين يومًا تجنى ثانية وثالثة ثم تموت.
أما نمو هذا النبات في سواحل سوريا، فإنه عسير لما بيناه من أصناف الأتربة التي ينمو فيها، وقد ينمو إذا توفرت له تلك الأسباب، على أن بعضهم جرب زراعتها هنا فلم تفلح، وربما أنجح سواه إذا درس التربة والإقليم ووفقهما على المطلوب، ولكل عهد نصيب.
أما المادة الملونة (النيلة) فإنهم يستخرجونها من أوراق ذلك النبات، ولهم في ذلك طريقتان؛ الأولى يستخرجون النيلة فيها من الورق بعد تجفيفه، والأخرى يستخرجونها من الورق والسوق الخضراء، وهي أشهر الطريقتين وأعمها، وإليك كيفية ذلك على ما هو جارٍ في بلاد البنغال التي يرد منها أكثر أصناف النيلة:
يحزمون الأوراق والسوق الخضراء حزمًا صغيرة يحملونها إلى المعمل، وهناك صفان من الأحواض مملوءة ماء، أحدهما أعلى من الآخر، فينقعون الحزم في الأحواض العليا؛ لأجل الاختمار، ويتم اختمارها بين تسع ساعات وأربع عشرة ساعة، تبعًا لحرارة الجو، ويستدلون على تمام الاختمار من لون الماء، فإنه يكون عند ذلك أصفر صافيًا، فيصرفونه إلى الأحواض السفلى، وهناك يواصلون خضه أو تحريكه دوامًا، فيعينون لذلك حالًا بأعمدة من القصب الفارسي يدخلون الأحواض ويخضون الماء خضًّا متواصلًا مدة ساعتين أو ثلاث، والمراد بذلك أن تعرَّض كل أجزاء السائل للهواء، فيأخذ لون السائل في التحول إلى الاخضرار، وتظهر النيلة الزرقاء فيه ظهور الضباب، فإذا تم ظهوره يترك السائل ساكنًا؛ فترسب النيلة في الأحواض، وكلما رسبت نزعوا الماء عنها بالممصات أو نحوها حتى لا يبقى غير الراسب، فيجعلونه في حلل يحفظونه فيها على درجة الغليان؛ منعًا لاختماره ثانية، وبعد ٢٤ ساعة يزيدون ناره حتى يغلي جيدًا، ولا يزال يغلي ثلاثة أو أربعة أيام ثم يرشحون الماء عنه بأنسجة سميكة، ويعصرونه على شكل أقراص يضعونها في الظل لتجف بالتدريج، وبعد بضعة أيام يتم جفافها فتُحمل إلى الأسواق. وأجود أنواع النيلة ترد من البنغال وجاوى وغوتاميلا.
(٧) النبات يحس ويتحرك
معلوم أن الكائنات على هذه الكرة ثلاثة عوالم: (١) عالم الحيوان. (٢) عالم النبات. (٣) عالم الجماد. والمشهور أن عالمي الحيوان والنبات يمتازان عن الجماد بأنهما حيان، ويمتاز أحدهما عن الآخر بأن الحيوان يحيا ويحس ويتحرك، والنبات يحيا، ولكنه لا يحس ولا يتحرك.
ولكن جماعة من علماء النبات ذهبوا إلى أن الحس والحركة يشملان النبات والحيوان معًا، استدلوا على ذلك بإحساس وحركة شاهدوهما في بعض أصناف النبات؛ لا تقلان شيئًا عما في بعض الحيوانات، وأصحاب هذا القول شديدو التمسك به قويو الدفاع عنه، وقد ذكروا للنبات حركة عبروا عنها بحركة عقرب الدقائق في الساعة لمشابهة بينهما، وقالوا إن النبات يغير أوضاع ورقه وأعضائه تبعًا لحاله من النشاط أو الكسل، فضلًا عما يظهر فيه من التغيير إذا مال إلى الرقاد أو تألم من جرح أو كسر.
والقول بإحساس النبات وتحركه قديم حتى إن امبيدوكلس الفيلسوف اليوناني من أهل القرن الخامس قبل الميلاد نسب للنبات قوة الاختيار والإرادة، وزعم غيره مثل هذا الزعم في اللفاح، وهو جذر نبات من أمثال (البطاطس) مستطيل الشكل فيه بعض الشبه بقامة الآدميين، فزعموا أنه شديد الإحساس إذا جرحته تألم وأنَّ أنين المجروح، فكان الناس إذا هموا باقتلاعه من مغارسه تجنبوا إيلامه لئلا يسمعوا أنينه.
والحقيقة أن في النبات مبادئ للحس والحركة؛ قال بيشا العالم الفيسيولوجي الفرنساوي المتوفى سنة ١٨٠٢: إن في النبات حسًّا، السموم تشله، والكهربائية تميته، وبعض أنواع النبات إذا سقيتها الأفيون نامت نومًا عميقًا، وقد لاحظ جوبرت ومنار، في بعض أبحاثهما، أن الحامض البروسيك يسم النبات بسرعة كسرعته في سم الحيوان، فضلًا عما يلاحظه كل إنسان في بعض النباتات الحساسة من تكمشها إذا لمستها مادة مهيجة. وذكر كارودوري أنك إذا هيجت أطراف ورق الخس درَّت بعض عصارتها، ناهيك عن كثير من أنواع النبات التي يستنبتونها في القاعات لغرابة ما يحدث فيها من الظواهر، وبعضها تراه في أثناء النهار يانعًا زاهيًا، فإذا غربت الشمس وجاء العشاء ملَّق أزهاره وأرخى أغصانه ونام.
ومن أشهر النباتات الحساسة، السنط الحساس أو العشبة المستحية، فإنك تراها مسحة الورق منبسطة الأغصان، فلا تكاد تلمس بعض أوراقها حتى تراها تطبقت بعضها على بعض، وذبلت أغصانها، فيخيل لك أنها تتألم أو أنها شلت بصاعقة أو ماتت بسم زعاف. وقد حاول علماء النبات تعليل هذه الحساسة بالنواميس الميكانيكية أو الكيماوية، فلم يروا ما يعللها، فلم يبقَ إلا أنها حاسة حيوية؛ لأنها تحس ليس فقط باللمس، ولكنها تذبل وتنكمش بكل ما يهيج الأنسجة الحيوانية، كالحوامض القويةأو النار. وذكر فون مارتيوس أنه لما قطع نهر سافانا في الولايات المتحدة الأميركية لاحظ أن وقع حوافر جواده في السهول المجاورة أثَّر في النباتات الحساسة هناك، فتكمشت وتلملمت كأنها ارتاعت من ذلك الصوت. وقال ديسفوتنين في بعض أسفاره إنه حمل سنطًا في مركبة فلاحظ أنه كلما وقفت المركبة ثم مشت تكمش السنط وتجمع كالحيوان إذا أجفل لصدمة أو نحوها، فلما طال به السفر وتعددت تلك الصدمات أمن البغتة فبسط أوراقه ولم يعد يلمها سواء وقفت المركبة أو سارت.
أما الحركة في النبات، فإنها تابعة للإحساس، كما قد رأيت، ولكن بعض النباتات تتحرك من تلقاء نفسها في أحوال مخصوصة. وللشمس تأثير شديد في تغيير أحوال النبات؛ حتى لقد يتغير منظر الحقل كله بعد شروق الشمس عما كان عليه قبل شروقها.
وفي أميركا الشمالية نبات يسمونه «مصيدة الذباب»، وقد سماه الدكتور بوسط «مذنبة» اسمه النباتي.
أوراقه شراك خفية، أو هي مصائد حية تنتهي كل ورقة منها بكأس منبسطة ذات أهداب حادة يصل بينها مصراع طولي، في وسط كل من هذه الكئوس ثلاث أشواك، حولها غدد تفرز عصارة سكرية، فإذا ساقت الأقدار ذبابة أو نحوها من الهوام تلتمس تلك العصارة ووقفت على الورقة؛ هاجت الكأس وتكمشت وأطبقت أهدابها عليها كما يطبق الكتاب ولسعتها بأشواكها، وإذا حاولت الذبابة الفرار زادتها الكأس ضغطًا حتى تخمد أنفاسها، وإذا أردت فتح الكأس بيدك عنوة تمزقت ولم تنفتح، ولكنها تنفتح من تلقاء نفسها متى ماتت فريستها.
ويشاهد في كثير من الأزهار أن السداة (عضو التذكير) والمدقة (عضو التأنيث) في زمن اللقاح تهتزان اهتزازًا ظاهرًا، إحداهما نحو الأخرى لإتمام اللقاح، وقد تنعطف إحداهما دون الأخرى، وبعض الأزهار المائية تطفو نهارًا على سطح الماء فإذا جاء الليل غاصت في قاع البحر للمبيت.
وهناك أنواع أخرى من النبات تتحرك على هذا الأسلوب مع تفاوت في ذلك لو أردنا تفصيلها لطال بنا الكلام.
وجملة القول أن جمهورًا من علماء الطبيعة يعتقدون أن في النبات حسًّا وحركة تختلفان عما في الحيوان بالرتبة لا بالنوع، ومن أبسط أدلتهم على ذلك أن النبات يتأثر بالمهيجات الحيوية، كالوخز والحرق ونحوهما، كما يتأثر الحيوان، فإن بعض النباتات إذا وخزت زهرتها أو ورقتها بإبرة تباعدت كأنها تتجنب حمأتها، كالنبات المسمى (ميمولوس) وغيره.
أخيرًا إن البلن (وهو الغبار الدقيق، وبه يحصل التلقيح بين أعضاء الذكورة والأنوثة في النبات) تراه في بعض النبات مجهزًّا بأجنحة أو أهداب يسبح بها على الماء أو يطير في الهواء لإتمام العمل الذي خُلِق له.
(٨) تنفس النبات
(٨-١) ناموس عام
التنفس صفة لازمة للأحياء بوجه الإجمال من الحيوان والنبات، أما الحيوان فالتنفس ظاهر في أنواعه العليا، كالإنسان وذوات الأربع وأصناف الطير والزحافات، فإن لها رئات تشبه ما للإنسان، وتظهر حركات التنفس فيها للعيان، وهو أقل ظهورًا في الأسماك لأنها تتنفس برئات تختلف عن تلك، يقال لها خياشيم، وكلما نزلنا في سلم الحيوان صغرت آلات التنفس إلى الهوام فالنقاعيات، وأخيرًا الحويصلات الحيوية، ومنها الكريات الدموية السابحة في السائل الدموي، وقد لاحظوا في حياة تلك الحويصلات أن بقاءها يتوقف على تبادل بينها وبين السائل السابحة فيه، فتمتص منه مواد وتفرز فيه غيرها وليس ما تفرزه إلا ما كانت قد امتصته بعد اتحاده بالأوكسجين، وهو التنفس الحيواني بأبسط أحواله.
أما في الطبقات العليا من الحيوان، فإن الهواء يدخل الرئة فيتحد أوكسجينه ببعض مواده الفاسدة، فتتحول إلى الحامض الكربونيك، وهو غاز يصعد بالزفير، فإذا فحصت النفَس الصاعد من أفواه الحيوانات على اختلاف أنواعها تحققت وجود ذلك الغاز فيه، فتنفس الحيوان عبارة عن تناول الأوكسجين وإخراج الحامض الكربونيك، وأما النبات فيتناول الحامض الكربونيك ويُخرج الأوكسجين، تلك حكمة التوازن في بقاء الأحياء، ولولا ذلك لفسد النظام، وموضوع هذه المقالة البحث في تنفس النبات بنوع خاص.
(٨-٢) آلات التنفس في النبات
قلنا إن الإنسان وذوات الأربع والطيور تتنفس برئاتها، والأسماك بخياشيمها، وأما النبات فآلات التنفس فيه أكبر مساحة وأوسع مجالًا، وهي الأوراق، فرئة النبات أوراقه.
وإذا نظرت إلى ورقة منها بالمكرسكوب وجدت في سطحها ألوفًا من الفوهات المستطيلة، ولكل منها حافة منتفخة تشبه عرى أثوابنا التي تدخل فيها الأزرار، فالهواء يدخل من هذه الفوهات إلى تجاويف تختلف ثخانة الورقة، وهي تقابل الخلايا الهوائية في رئة الإنسان، وكل تجويف منها مسقوف بحويصلات مصفوفة، الواحدة بإزاء الأخرى، كالبناء المرصوص.
ذلك هو بناء الأوراق في معظم أنواع النبات إلا بعض النباتات المائية التي تنمو في أعماق الأنهر والبحيرات، فإنها بالنظر لانفصالها عن الهواء أصبحت في غنى عن هذه التجاويف، وأصبح تنفسها بواسطة أنابيب تقابل الخياشيم في الأسماك.
(٨-٣) ميزانية التنفس
يقدِّرون جرم الأوكسجين الذي يمتصه الجنس البشري في السنة بنحو ١٦٠٠٠٠ مليون متر مكعب، ويظنون أن الحيوانات الباقية تمتص أربعة أضعاف ذلك على الأقل.
ويُخرج الإنسان من الجهة الأخرى ٢٥٠ غرامًا من غاز الحامض الكربونيك في اليوم، فيها ٧٥ غرامًا من الكربون الصرف (الفحم)، فإذا أغضينا عن تنفس سائر أنواع الحيوان كان مقدار ما يخرجه سكان القطر المصري وحدهم نحو ٤٠٠٠٠٠ طن من الفحم في السنة، وقِس على ذلك ما يخرجه سائر أهل الدنيا، فلا يمضي زمن حتى يتحول الهواء إلى حامض كربونيك سام، وينقرض الحيوان عن وجه الأرض، ولكن العناية تلافت ذلك بتنفس النبات.
لأن النبات يحتاج إلى مقدار كبير من الكربون لغذائه وتقوية أعضائه، فيتناول الحامض الكربونيك من الهواء وبحله فيأخذ الكربون لنفسه ويخرج الأوكسجين إلى الهواء فيتم التوازن. ويظن العالم برونيار أن مقدار ما يخرجه النبات من الأوكسجين يسد ما يحتاج إليه الحيوان تمامًا.
(٨-٤) إخراج الأوكسجين
ومن أراد أن يتحقق خروج الأوكسجين من النبات تحققًا عيانيًّا فعليه بالتجربة الآتية:
ضع عشبًا ناميًا تحت قابلة مملوءة ماء مقلوبة في إناء فيه ماء، بحيث يبقى الماء غامرًا العشب في القابلة، وعرِّضه لنور الشمس، فلا تلبث أن ترى فقاقيع غاز صغيرة تظهر على سطوح الأوراق، ثم تصعد إلى أعلى القابلة وتدفع الماء تحتها، ولا يزال الغاز يجتمع هناك حتى تمتلئ القابلة منه، وهو غاز الأوكسجين الصرف، ولكي تتأكد من ذلك أدخل إليه شمعة مشتعلة فتتقد اتقادًا سريعًا بنور لامع شديد.
على أن ذلك التحليل والتركيب لا يتم إلا في نور الشمس، ولولا هذا الكوكب العظيم لانقرضت الحياة عن وجه الأرض.
فلو فرضنا تعطيل وظيفة النبات من هذا القبيل لما عاشت الأحياء بعد ذلك إلا زمنًا محدودًا، وإن يكن طويلًا على تقدير الموسيو دوماس الكيماوي، فإنه يرى مقدار الأوكسجين في الأرض يكفي لتنفس حيواناتها ٨٠٠٠ سنة، وأن ١٠٠٠٠ سنة منها تنقضي قبيل أن يشعر الحيوان بنقصه.
وبعبارة أخرى أن وزن الهواء المحيط بالأرض يعادل وزن ٥٧١٠٠٠ كيلومتر مكعب من النحاس، وفيه ١٣٤٠٠٠ كيلومتر من الأوكسجين الصرف، فلو فرضنا سكان الأرض ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ نفس من البشر و٤٠٠٠٠٠٠٠٠٠ من سائر الحيوان لكان مقدار ما يكفيهم من الأوكسجين في كل قرن يساوي نحو ١٦ كيلومترًا مكعبًا من النحاس، وقد تقدم أن وزن الأوكسجين كله يساوي نحو ١٦ كيلومترًا مكعبًا من النحاس، وقد تقدم أن وزن الأوكسجين كله يساوي ١٣٤٠٠٠ كيلومتر، وهو يكفي البشر ٨٣٧٥ سنة.
وقد بحث بعضهم في مقدار الأوكسجين الذي يفرزه النبات في اليوم، فوجد أن زنبقة الماء التي تطفو على سطوح الأنهر والبحيرات إذا كانت أوراقها ١٥ ورقة فقط، كان مقدار ما تنفثه من الأوكسجين في خمسة أشهر ٥٣٥ ليترًا.
(٨-٥) التنفس الليلي
ومن غرائب الحكمة أيضًا أن تنفس النبات في الليل عكس تنفسه في النهار؛ لأنه يمتص الأوكسجين ويخرج الحامض الكربونيك كما يفعل الحيوان تمامًا، فإذا نمنا في غرفة مقفلة فيها عشرة أعشاب حية، فإن هواء الغرفة يفسد بتنفسها كما يفسد بتنفس عشرة أشخاص.
ولكن التنفس الليلي قليل بالنسبة إلى النهاري، بحيث لا يكاد يؤثر على التوازن بين تنفسي النبات والحيوان.
(٨-٦) بخار الماء
من الأمور البسيطة التي لا تخفى على أحد أن زيادة الشجر تزيد كمية المطر، ومصر أقرب دليل لدينا، فإن الأمطار زادت فيها اليوم عما كانت عليه في الزمن القديم، والسبب الرئيسي في ذلك زيادة الأغراس فيها وخصوصًا الأشجار، ولكن الذين يعرفون حقيقة علاقة المطر بالشجر قليلون، وهو ما نحن آخذون في بسطه.
قلنا فيما تقدم أن النبات يخرج بتنفسه أوكسجينًا، وبرهنَّا على ذلك بالأدلة الحسية والعقلية، ولكنه يخرج أيضًا مع الأوكسجين بخار ماء، والحيوان أيضًا ينفث هذا البخار مع الحامض الكربونيك في زفيره.
وأول من قال بتصاعد بخار الماء عن النبات الأستاذ موشنبروك في ليدن، وبرهن ذلك بقابلة من زجاج غطى بها عشبًا ناميًا في إناء (قصرية)، وغطى تراب الإناء بغطاء محكم، بحيث لا ينفذ منه بخار إلى القابلة، فرأى على سطوح الأوراق قطرات من الماء هي ما يعبرون عنه بالندى، ورأى باطن القابلة تغشوه طبقة من البخار المتكاثف، فالندى الذي تراه على النبات ليس من الهواء، بل هو من البخار المتصاعد عن النبات.
فإذا تقرر تصاعد البخار عن النبات بقي علينا تعيين مقدار ما يتصاعد منه، وأبسط طريقة لامتحان ذلك أن تقطع غصنًا من شجرة، وتختم على موضع القطع بالملاط، فلا تلبث أن ترى الأوراق آخذة بالذبول لما يتصاعد عنها من البخار، وقد جرب ذلك ماريوت فوجد الغصن يفقد ملعقتين صغيرتين من الماء في ساعتين، استدل على ذلك من خفة وزن الغصن بما يساوي وزن تينك الملعقتين.
ولكن هذه التجربة على بساطتها لا تخلو من التساهل والخلل، وقد توفق الأستاذ كوتارد إلى امتحان ذلك في غصن بدون أن يفصله عن أمه، فاصطنع زجاجة ذات أنبوب يتقطر منه الماء، وأدخل في الزجاجة غصنًا من شجرة حية وأحكم السد بين فوهة الزجاجة وأصل الغصن، وأدخل الأنبوب في زجاجة أخرى وضبط مدخله في فوهتها؛ بحيث يمكن جمع قطرات الندى المجتمعة على الأوراق بدون أن يفقد منها شيء.
ووضع كوتارد في هذه الزجاجة غصنًا من شجرة يقال لها شجرة القرانيا، وزنه خمسة دراهم ونصف، فكان مقدار ما يقطره من الماء في اليوم أوقية وثلاثة دراهم؛ أي مضاعف وزنه، وقد يستغرب القارئ ذلك كما استغربه صاحب التجربة نفسه، ولكنه واقع لا شك فيه، وأغرب منه أن يتصاعد من البخار عن أوراق ريحانة واحدة أكثر مما يتصاعد عن رأس الإنسان.
كان في بادوا من أعمال البندقية طبيب اسمه سانكتوريوس قضى قسمًا عظيمًا من عمره في كفتي الميزان؛ لكي يتحقق مقدار ما يتقطر من عرقه، وقد بحث كثير من الأطباء في مثل ذلك بطرق مختلفة حتى تحققوا الآن أن مقدار ما يتصاعد من بخار الماء عن جسم الإنسان كيلوغرام واحد في اليوم.
وأما النبات فقد امتحنوا مقدار تبخره في زهرة الشمس، فوضعوا هذا النبات في قابلة من رصاص وسدوها سدًّا محكمًا إلا جزءًا صغيرًا عند مغرسه؛ لكي يسقوه منه، فوجدوا أن ما يتصاعد عن ورقه فقط عشرون أوقية في ٢٤ ساعة، وبمقابلة هذا المقدار بالنسبة إلى حجم هذا النبات بما يتصاعد عن جسم الإنسان بالنظر إلى وزنه وجدوا نسبة تبخر زهرة الشمس إلى تبخر الإنسان كنسبة ١٧ إلى واحد فتأمل!
على أن بعض أنواع النبات ترسل بخارها ماء يقطر من أوراقها مطرًا؛ منها نبات اسمه «أروم» رباه الأستاذ روتشي في حديقة النبات في أمستردام بلغ ما تقطر من أوراقه مقدار ما كانت تسقى به تقريبًا.
وقد يظن في الحديث مبالغة لغرابته، ولكن أغرب منه أنهم وجدوا بالامتحان المتواتر أن الأروم هذا ينثر عن أوراقه نقطًا صغيرة في الهواء ربما بلغ عددها بضع عشرات في الدقيقة عن كل ورقة.
وأغرب من هذا وذاك شجرة اكتشفوها في جزائر كناريا سموها الشجرة الباكية؛ يتساقط منها الماء كالمطر فيجتمع عند ساقها ويستقي منه أهل الجوار.
وهناك نبات آخر غريب أيضًا يقال له «نبات الأباريق» أوراقه ترسل من أطرافها زوائد تنتهي بأقداح أسطوانية على فوهاتها أغطية تفتح وتقفل في أوقات معينة، في أثناء الليل ينطبق الغطاء على فم القدح فيسده سدًّا محكمًا والماء يتقطر من جدرانه حتى يملأ، فإذا طلع النهار ارتفع الغطاء وتبخر الماء المجتمع في القدح كله أو بعضه، وكثيرًا ما كان هذا النبات وسيلة لإنقاذ أناس كادوا يموتون من العطش في الصحراء حتى إذا عثروا عليه استقوا من أقداحه.
وفي غابات أميركا الجنوبية نباتات أمثال هذا يستقي منه المسافرون عند الحاجة.
وبالجملة أن تبخر الماء عن النبات ليس بالأمر الخفيف، فلا غرو إذا ضاعف رطوبة الهواء وزاد المطر.
(٩) تنفس الحيوان
نشرنا في الماضي فصلًا في تنفس النبات على أن نلحقه بآخر في تنفس الحيوان إتمامًا للفائدة، ونحن فاعلون ذلك في هذه العجالة، فنقول:
قل من ينتبه منا إلى أهمية التنفس بالنظر إلى سائر وسائل الحياة، ويغلب في اعتقاد الناس عادة أن أهم حاجيات المرء لحفظ حياته، إنما هو الطعام والشراب والنوم، وقلما يفقه للتنفس ولو أمعن النظر لرأى للتنفس المقام الأول في حفظ الحياة، ومن أبسط الأدلة على ذلك أن الإنسان قد ينقطع عن الطعام والشراب أيامًا أو أسابيع، وقد يغلب النعاس أيامًا ويبقى حيًّا، وأما التنفس فلا يقدر على مغالبته ساعة أو بعض الساعة، بل هو لا يستطيع حبس نفسه بضع دقائق بلا خطر على حياته، فالحيوان في حاجة إلى إخراج ما فسد من أنسجة جسمه أكثر من حاجته إلى إدخال ما ينوب عنها.
وأما تغافل الناس عن حقيقة قدر التنفس فسببه أن الإنسان من فطرته إنما يقدر أهمية الأشياء بالنظر إلى افتقاره إليها، وهي بعيدة عنه، اعتبر ذلك في المعاملات اليومية، فترى الفقير الصحيح الجسم قلما يرى للصحة قيمة، وإنما همه السعي في تحصيل المال ولا يحلم إلا بالأصفر الرنان، حتى لقد يبيع شبابه في سوق الزواج لفتاة ليس فيها من ضروريات الزوجية إلا «الدوتة»، فإذا تزوجها وقبض المال تنقشع الغشاوة عن بصيرته، فيرى خطأه ويندم حين لا ينفعه الندم.
والإنسان لا يشعر بأهمية التنفس ولا يعرف قيمة الهواء الذي يتنفسه لأنه لا يبتاعه ولا يشقى في سبيل الحصول عليه، بل هو مبذول لديه مجانًا، بخلاف الطعام فإنه لا يناله إلا بالتعب وإعمال الفكرة، وقد قيل: «ما لا تتعب عليه الأيدي لا تحزن عليه القلوب.»
فإذا سلمنا أن الإنسان يخرج غاز الحامض الكربونيك بالزفير يخطر لنا البحث في مصدر هذا الحامض، وقد علمنا أن الأوكسجين جاء من الهواء فمن أين أتى الكربون؟ والجواب على ذلك أن معظم الأنسجة الحيوانية التي تتألف منها أعضاء البدن مركبة من مواد كربونية أكثر أجزائها الهيدروجين والكربون، فإذا لامس الأوكسجين ما يندثر منها، فإنه يتحد بالكربون ويولد غاز الحامض الكربونيك، ويتحد بالهيدروجين فيولد بخار الماء؛ لأن الماء مركب من هذين العنصرين كما لا يخفى.
فالحيوان يأخذ الأوكسجين من الهواء وينفث فيه الحامض الكربونيك وبخار الماء، ويسهل تحقق ذلك بأبسط الوسائل، أما بخار الماء فإنك إذا أدنيت من فمك زجاجة نظيفة وبحثت عليها رأيت البخار يتكاثف على سطحها ذرات صغيرة إذا تكاثرت بتكرار التنفس تجمعت نقطًا ظاهرة، وأما الحامض الكربونيك فالكشف عنه صعب بالنظر لغازيته وشفافته فلا تراه العين، ولكننا لانعدم وسيلة للكشف عنه على أهون سبيل.
وتمهيدًا لذلك نقول إن حجر الطباشير الأبيض مركب من الحامض الكربونيك والكلس (الجير) ويسمى كربونات الكلس، فإذا صببت عليه شيئًا من الحامض الكبريتيك (زيت الزاج) حدث من الامتزاج فوران شديد وبقي من المزيج بعد تمام الفوران مادة بيضاء صلبة، وسبب الفوران أن الحامض الكبريتيك أشد من الحامض الكربونيك ألفة بالكلس؛ فيطرده ويحل محله، فيفلت هذا بحالته الغازية وهو علة الفوران، ويتحد ذاك بالكلس فتتكون من اتحادهما كبريتات الكلس، وهو الجص (الجبس).
وهذا هو السبب أيضًا في فوران مزيج السدلس المألوف، فإن في إحدى مادتيه كربونات الصودا والمادة الأخرى حامض الليمون، وبالامتزاج يحل هذا الحامض محل الحامض الكربونيك، فيتكون ليمونات الصودا ويفلت الحامض الكربونيك بالفوران.
ولا يهمنا من ذلك كله إلا أن الطباشير مركب من الحامض الكربونيك والكلس، فإذا ثبت ذلك فإن علينا الكشف عن هذا الحامض في نفسنا. ضع قليلًا من ماء الكلس الصافي (وهو كثير في الصيدليات) في قدح وانفخ في داخله بأنبوب، فلا تمضي برهة حتى يتعكر الماء، ثم يرسب منه مسحوق أبيض هو مسحوق الطباشير إذا جففته وصببت عليه الحامض الكبريتيك أفلت الحامض الكربونيك بالفوران، وظل الجص جامدًا.
فتقرر بالامتحان أن الإنسان يُخرج بالتنفس غاز الحامض الكربونيك وبخار الماء، وهي طبيعة يشترك فيها سائر أنواع الحيوان من الديدان الصغيرة فالهوام فالحشرات فذوات الفقر إلى الإنسان.
وقد بالغنا في بسط الكلام تمهيدًا وإيضاحًا حتى لا يشكل فهمه على أبسط العوام.
بقي علينا النظر في آلة التنفس واختلافها باختلاف أنواع الحيوان.
فنقسم الكلام في ذلك إلى قسمين، نتكلم في الأول عن آلات التنفس في الحيوان، وفي الثاني نتكلم عنها في الإنسان.
(٩-١) آلات التنفس في الحيوان
يظهر من استقراء البحث في آلات التنفس من الإنسان إلى أدنى رتب الحيوان أن أبسط تلك الآلات وأعمها «الجلد»؛ لأن الحيوانات الدنيئة تتنفس من جلودها؛ أي إنها تمتص الأوكسجين بواسطة مسام الجلد، فتتناول هذا الغاز وتُخرج الحامض الكربونيك وبخار الماء. وإذا تدرجنا في مراتب الحيوان إلى ما هو أرقى من ذلك رأينا آلات التنفس تجتمع رويدًا رويدًا حتى تنحصر في آلة خاصة به، هي الرئة في الإنسان وسائر ذوات الثدي والخياشيم في الأسماك، على أن الجلد لا يزال يعمل عمله القديم في أكثرها؛ لأن الإنسان لا يتنفس بالرئتين فقط، ولكن الجلد يساعده على ذلك فيمتص الأوكسجين ويخرج الحامض الكربونيك وبخار الماء، وإن تكن العمدة في التنفس على الرئتين.
وتقسم آلات التنفس في الحيوان إلى قسمين كبيرين «آلات موضعية» تحصر في موضع واحد، كالرئتين في الإنسان و«آلات متشعبة» تنتشر في كل أعضاء الجسد كما في الحيوانات الدنيا.
(أ) آلات التنفس المتشعبة
تنحصر هذه الآلات في مراتب الحيوانات الدنيا، وأدنى أشكالها ما كان منتشرًا على سطح الجلد، كما ترى في بعض الديدان الرخوة التي تعيش في البحور ولا خياشيم لها ولا آلة أخرى للتنفس، ولكنها تتناول الأوكسجين امتصاصًا أمام الجلد، ولبعضها أهداب منتشرة على سطح الجلد تقوم مقام الرئة في ذوات الثدي، وقد يكون جلد بعض هذه الديدان صلبًا لا سبيل للهواء إليه فينوب عن مسام الجلد فيه زوائد عند الرأس أو الذنب.
ويلي الحيوانات الرخوة في سلم الحيوان من حيث آلات التنفس الهوام والحشرات، كالبعوض والفراش والخنافس ونحوها. وآلات التنفس فيها عبارة عن أنابيب رئوية متشعبة منتشرة في أجزاء الجسد ترافق أعضاءه في سائر الأطراف وتستطرق إلى الخارج بفوهات، يدخل الهواء فيها، فتتناول أوكسجينه وتُخرج الحامض الكربونيك.
وقِس على ذلك آلات التنفس في سائر الهوام والحشرات.
(ب) آلات التنفس الموضعية في الحيوان
ذكرنا في الماضي مبدأ التنفس في الحيوان وآلاته المتشعبة في الأحياء الدنيا، ونحن باسطون الآن آلات التنفس الموضعية في الحيوانات العليا.
آلات التنفس الموضعية
ونريد بها الجهاز التنفسي المستقل المحصور في موضع واحد، كالرئتين في صدر الإنسان، وتقسم الآلات التنفسية الموضعية باعتبار أشكالها إلى خيشومية، وهي آلات التنفس في الأسماك، ورئوية مثل رئة الإنسان وسائر ذوات الثدي والطيور.
التنفس الخيشومي
كل من يأكل السمك يعرف خياشيمه، وهي ما يستتر أسفل جنبي رأسه من الأهداب الحمراء طبقات بعضها فوق بعض، وقد نشاهد في الأسماك الاعتيادية، وهي تسبح في البرك والبحيرات، وقد تكون الخياشيم ظاهرة بارزة من جانبي الرأس بشكل ريشي هدبي، وتغلب الخياشيم الظاهرة في صغار السمك في أوائل أدوارها.
وقد يستغرب الناس لأول وهلة أن يتنفس السمك في الماء على حين أن الإنسان إنما يتنفس في الهواء، ولو مكث في الماء دقائق قليلة لمات من قلة الهواء، ولكن الخياشيم في الأسماك مخلوقة لاستخراج الهواء من الماء؛ لأن الماء لا يخلو من مقدار كبير من الهواء ذائب فيه، ناهيك بالأوكسجين الذي تفرزه النباتات البحرية في قاع البحر، فيصعد بشكل كريات غازية صغيرة تتناولها الأسماك حالًا.
ولا بدَّ من التمييز بين الأوكسجين الذي يتناوله السمك من الهواء الذائب في الماء وبين الأوكسجين الداخل في تركيب الماء؛ إذ قد يتبادر إلى أذهان البعض أن الأوكسجين الذي يتناوله السمك من الماء إنما هو أوكسجين الماء نفسه؛ لأن الماء مركب من الأوكسجين والهيدروجين، فربما توهم بعضهم أن السمك يحل الماء فيأخذ أوكسجينه ويطلق الهيدروجين، والحقيقة أنه إنما يتناول أوكسجين الهواء الذائب في الماء أو ما تطلقه نباتات البحر بتنفسها الحامض الكربونيك، كما فصلناه في «تنفس النبات».
ومن الأدلة على تنفس السمك الهواء الذائب في الماء أنك إذا غليت الماء حتى يطير هواؤه ثم بردته بحيث لا يمتص هواء آخر، ووضعت فيه سمكًا، فإنه يموت خنقًا كما يموت الإنسان غرقًا في البحار.
والمقدار الذي يتناوله السمك من الأوكسجين قليل بالنظر إلى الحيوانات الأخرى، فقد حسبوا مقدار ما يتناوله الإنسان من الأوكسجين في اليوم، فإذا هو يزيد على ما تتناوله سمكة صغيرة بنحو خمسين ألف ضعف، على أن الأسماك تتفاوت في مقدار ما تحتاج إليه من الأوكسجين؛ فالحيات المائية (الانكليس) قد تعيش أيامًا بدون أوكسجين على حين أن بعض الأسماك ذوات الخياشيم الكبيرة تموت حالما تخرج من الماء، وهناك أسماك كثيرة الحركة يكثر امتصاصها الأوكسجين بحيث تعلو حرارتها على حرارة الماء الذي تسبح فيه.
وكيفية تنفس الأسماك أن الماء يدخل في أفواهها بما يشبه الازدراد وينصرف إلى الخياشم ثم إلى الخارج فتمتص الخياشيم هواؤه في أثناء مروره.
وفي الأسماك كيس هوائي يسمونه «المثانة الهوائية»، وهي عبارة عن كيس غشائي مملوء ماء مقره التجويف البطني خارج الغشاء البريتوني، ولا علاقة بينه وبين الأحشاء الطبية، جداره مرن يقبل الانضغاط والانبساط؛ بحيث يصغر حجم المثانة أو يكبر عند الاقتضاء، وفائدة المثانة الهوائية موازنة الثقل النوعي للسمكة بالنظر إلى الماء الذي نسج فيه، فإذا كانت عند سطح الماء وأرادت الغوص إلى أسفل ضغطت على تلك المثانة تصغر لانضغاط الغاز فيها ويزيد ثقلها النوعي، فيزيد به ثقل السمكة فتغوص، وبعكس ذلك إذا كانت في القاع وأرادت الصعود إلى السطح، فإنها تخفف الضغط عن المثانة فتفتح ويقل ثقلها النوعي فتخف السمكة فتعوم.
وأما الغاز المذكور فتفرزه المثانة من حجمها الداخلي وأكثره من النتروجين، يمازجه شيء من الأوكسجين والحامض الكربونيك وأشكال المثانة الهوائية تختلف باختلاف أنواع السمك، فقد تكون غرفة واحدة مؤلفة من غرفتين فأكثر، وتسهل مشاهدتها في أنواع السمك الاعتيادية إذا فتح جوفها.
التنفس الرئوي
هو أرقى وسائل التنفس، ويتم برئات هوائية مثل رئة الإنسان (الفشة الحمرة)، ويشمل التنفس الرئوي أرقى أنواع الحيوان من ذوات الثدي والطيور.
والرئة في أبسط أحوالها وأدنى رتبها تشاهد في بعض الحيوانات الرخوة، وهي فيها أقنية هوائية مستقرة في نسيج وعائي يشبه شبكة العنكبوت، وتكون أرقى من ذلك في الضفادع، فإنها عبارة عن وعائين يفصل كل منهما حواجز تتكون منها أخلية، وهي في مثبت وأمثالها كيس مستطيل مؤلف من خليات عديدة، وفي السلحفاة كيس مزدوج، أما في ذوات الثدي والطيور، فالرئة عضو إسفنجي، كما ترى في رئات الضأن والبقر.
(١٠) تنفس الطيور
للرئة في الطيور صفات خاصة تمتاز بها عن الرئة في ذوات الثدي، بما يوافق أمزجة الطير لما يحتاج إليه من الطيران ونحوه مما يستدعي صحة البدن، وهي فيه على الإجمال جسمان إسفنجيان موضوعان في الصدر يتصل ظهراهما من الأضلاع الظهرية، ويتصلان بالفم بقصبة غضروفية يدخل الهواء منها، فالقصبة تتشعب عند اتصالها بالرئتين إلى شعبتين تخترق كل منهما واحدة من الرئتين، وتتحول مادتها الغضروفية حال دخولها في الرئة إلى مادة صفافية، وتخترق الرئة وتصغر وتضيق حتى تبرز من الطرف الخلفي للرئة، وهناك تنفتح بشكل كيس يستقر في التجويف البطني، فيكون هذا الكيس مستطرقًا إلى الهواء الخارجي بأنبوبة صفافية تخترق الرئة؛ حتى تخرج منها في أعلى الصدر، ويتكون من اجتماع الأنبوبتين القصبة الغضروفية المتقدم ذكرها.
وتتشعب الأنبوبة المذكورة، وهي داخل الرئة إلى شُعب أنبوبية تذهب عرضًا وطولًا على سطح الرئة، وتنفتح هناك بشكل أكياس هوائية أخرى، وهي ستة؛ أربعة صدرية؛ اثنان إلى كل جانب؛ أحدهما أمامي والآخر خلفي، ومقرها جميعًا التجويف الصدري، واثنان علويان مقرهما في مقدم الرئة، أحدهما دماغي والآخر ترقوي، وهذا الأخير يتحد برفيقه الترقوي من الجانب الآخر فيصيران كيسًا واحدًا، فتكون الأكياس الهوائية في الطيور تسعة اثنان عليان وأربعة صدرية واثنان دماغيان وواحد ترقوي.
وهناك أنابيب هوائية تتشعب من الرئة ولا تنتهي بالأكياس، ولكنها تسير على ظاهر الرئة من كل جانب، وتتفرع منها فروع تتشعب إلى فروع أصغر منها، وهكذا على التوالي تنتهي إلى أنابيب دقيقة جدًّا، وفي أكثر أنواع الطيور تتشعب من هذه الأنابيب شعب تخترق العظام في الجناحين والساقين، وشعب أخرى تنتهي بأكياس دقيقة تحت الجلد، والحكمة في ذلك مساعدة الطير على الطيران لأنه إذا تنفس ملأ الهواء كل أعضائه، فيخف ثقله النوعي ويسهل عليه التحليق في الجو، وإذا كان محلقًا وأراد النزول أرسل نفسه فيثقل وزنه فينزل، وما أشبه هذه الأكياس بالمثانة الهوائية في الأسماك! ولكن السباحة في الهواء أصعب من السباحة في الماء؛ ولذلك كانت الأكياس الهوائية في الطيور أكثر منها في الأسماك.
(١١) تنفس الإنسان
بقي علينا بعد الفراغ من تنفس الطيور أن ننظر في تنفس ذوات الثدي، ومنها الإنسان والماشية وذوات الحافر، كالفرس والحمار وغيرها، ولكننا نظرًا إلى تشابه مبدأ التنفس وآلاته فيها كلها اكتفينا بالكلام عن تنفس الإنسان.
والرئة في الإنسان تشبه رئة الضأن، وهما رئتان موضوعتان في الصدر بينهما القلب، فإن الرئتين فيه مشدودتان إلى الجانبين بصنابير لكي يظهر القلب بينهما وفوقه القصبة وشعبتاها.
وقد ذكرنا في صدر هذه المقالة الفائدة من التنفس من حيث تطهير الدم وغيره بوجه الإجمال مما لا يدعو المقام إلى أسهب منه، ونحن عامدون في ختام القول عن التنفس إلى النظر في بناء الرئة وكيفية حصول التنفس بها.
وإذا نظرت إلى الرئة في صدر ماعز أو ضأن رأيتها عبارة عن جسم إسفنجي محمر بالدم، وهما رئتان واحدة إلى كل من جانبي الصدر يتصلان نحو منتصفهما بفرعي القصبة، فيتكون من الفرعين أنبوب غضروفي مستطيل هو القصبة وتنتهي في الحلق.
خذ إحدى الرئتين وانظر في ظاهرها؛ فتراها مؤلفة من فصوص أو فصيصات، ولو نظرت في بنائها بالتشريح لتبين لك أن القصبة قبل وصولها إلى الرئتين تنقسم إلى نصفين تسير كل منهما إلى إحدى الرئتين، ثم تنقسم كل شعبة إلى شعبتين وتنقسم كل من الرئتين إلى اثنتين أخريين والفروع وفروعها تخترق نسيج الرئة من كل ناحية بدون أن تستطرق بعضها إلى بعض، وهو ما يعبر عنه بالشعب الرئوية، ويكون بناء الشعبة في أول دخولها غضروفيًّا يشبه العظم وكلما تشعب رق ولان حتى تنتهي في الشعب الدقيقة، ولم يبقَ فيها إلا غشاء متين مرن فيه ألياف عضلية دقيقة تنتشر عليها الأوعية الشعرية بشكل شبكة كثيرة الاندماج، وتنتهي أطراف الشعب الدقيقة بخلايا دقيقة يقال لها الخلايا الهوائية، ومن ذلك تسمية تلك الشعب بالمسالك بين الخلايا الهوائية.
ولا بدَّ من إمعان النظر هنا لفهم معنى تطهر الدم، وكيف يحصل التبادل بين الدم والهواء، فيأخذ الأوكسجين وينفث الحامض الكربونيك.
لما يعود الدم من أطراف الجسد بواسطة الأوردة يصب في الأذين اليمنى من القلب ويسير منه إلى البطين الأيمن، وينشأ من البطين المذكور شريان كبير يقال له الشريان الرئوي يسير إلى الرئتين، ويتفرع فيهما كما تتفرع شعب القصبة فتنتهي الشعب بالأنابيب والأخلية الهوائية وتنتهي الشرايين بالشبكة الشعرية التي تقدم ذكرها.
فإذا دخل الهواء في المسالك الهوائية وانتهى إلى الخلايا الهوائية؛ لا يكون بينه وبين الدم في الأوعية الشعرية إلا غشاء الخلايا الهوائية وطبقة من الابيثيليوم لطيفة، تبطن تلك الخلايا فيمتص الدم أوكسجين الهواء وينفث فيه الحامض الكربونيك بقوة حيوية لا تدركها عقولنا.
وللتنفس حركتان؛ إحداهما لإدخال الهواء وهي الشهيق، والثانية لإخراجه وهي الزفير، وهما عبارة عن تمدد التجويف الصدري وانقباضه، وسبب هاتين الحركتين انقباض الحجاب الحاجز وانبساطه — وهو عضلة منبسطة فاصلة بين الصدر والبطن — وحركة العضلات الصدرية والعضلات بين الأضلاع وغير ذلك مما لا محل لتفصيله الآن.