الحشرات
تطلق الحشرات عند العرب على صغار دواب الأرض، وقد يقال لها الهوام، والمراد بها هنا طائفة من الدويبات الدنيا عديمات الفقرات، كالنمل والذباب والبعوض والجنادب والعناكب والخنافس والنحل والجعلان ودود القز ونحوها، ولا تشتمل اليرابيع والفيران والضباب، كما قد يراد بها في معناها اللغوي. والحشرات أنواع كثيرة ربما زاد عددها على مجموع أنواع سائر أصناف الحيوان من الدود إلى الإنسان، فقد حسبوا من الخنافس وحدها نحو ٨٠٠٠٠ نوع؛ ولذلك فهم يقدرون أنواع الحشرات المعروفة بنحو ٢٠٠٠٠٠، ويتوقعون أن تبلغ بما سيكتشفونه من أنواعها الصغيرة إلى مليون نوع.
وللحشرات خصائص شتى تختلف باختلاف الأنواع مما يطول شرحه، وإنما نذكر من غرائب ظواهرها كيفية ولادتها ونموها فإنها تشترك في ذلك على السواء، وتختلف فيه عما في سائر طوائف الحيوان. وذلك أنها تمر في «طفوليتها» على ثلاثة أدوار تنقلب فيها على ثلاثة أشكال بينها فرق كبير لا يخطر للناظر إليها أنها حيوان واحد اختلف شكله باختلاف أدوار حياته، ولا يقتصر ذلك الاختلاف على شكل الحشرة، ولكنه يتطرق إلى خصائصها ونوع معيشتها، فبين هي دودة لدنة الملمس تنسل بين الأتربة أو الأعشاب، فإذا هي جندب صلب القشر يثب وثبًا، فإذا هي فراشة ذات أجنحة تتلألأ بالألوان الزاهية، وقد تأكل في دورها الأول التراب فتهضمه وتصبح في دورها الثاني أو الثالث لا تهضم إلا أوراق العشب الندية.
ومع غرابة تلك التقلبات، فالحشرات كثيرة بين أيدينا وقل من ينتبه إليها وخصوصًا الذباب والبعوض؛ فإنها تتشكل قبل بلوغها ثلاثة أشكال، لكل منها خصائص ليست للآخرين، ومن الحشرات المشهورة في تقلبها دود الحرير فإن الذين يربونه يرون تقلبه من الدودة إلى الشرنقة فالفراشة، ثم تبيض الفراشة بزورًا، والبزور تصير دودًا، والدود يفرز لعابًا يصير خيوطًا هي الحرير يصنع منها غلافًا يكمن فيه وهو الشرنقة، ثم يخرج من الشرنقة فراشًا بأجنحة يتزاوج ويبيض.
ويقال نحو ذلك في سائر أصناف الحشرات مع اختلاف خفيف في بعض الظواهر، ولكن المبدأ واحد فيها كلها، فالذباب الاعتيادي فراش يلقي بيوضه بزورًا صغيرة بيضاء تصير دودًا أبيض هو الدود الذي يشاهد في اللحوم المنتنة أو الجبن القديم، ثم يتحول ذلك الدود إلى جنادب تدب لا أجنحة لها ثم يتحول إلى فراش يتطاير.
وفي تدرج النمو في الذباب الفارسي بعد انتقاله إلى الدور الثاني، فإن الذبابة بعد أن كانت دودًا خلعت ثوبها وصارت جندبًا يدب تحت الماء يتسلق الأعشاب المائية، وله قوائم قصيرة بلا أجنحة ولا يعيش إلا في المياه أو الأوحال، فإذا جاء أجل الانتقال إلى الفراش تسلق أوراق العشب وخلع ثوب «الجندبية» فإذا هو من تحتها ذو أجنحة صغيرة جميلة، لا تلبث بعد قليل أن تصير كبيرة يطير بها إلى حيث شاء، وكان القدماء يعدون كل دور من أدوار الحشرة حيوانًا مستقلًّا، كما يتوهم بعض العامة أن الدود الذي يظهر في اللحوم المنتنة يتولد منها، ولا يخطر لهم علاقته بالذباب المتطاير. وكذلك الناموس فإنه يتولد من ديدان تعيش في الماء أصلها بزور وضعها الناموس فيه؛ ولذلك كانت الوسيلة المثلى لتقليل الناموس ردم المستنقعات والآجام أو تغطية سطوحها بزيت الغاز لإماتة البزور أو إبعاد الناموس عنها.
ويقال بالإجمال إن الحشرة تمر في ثلاثة أدوار؛ تكون في أولها دودة، وفي الثاني جندبًا أو شرنقة، وفي الثالث فراشة. وتختلف طبائعها وخصائصها في كل منها عما هي في الآخرين، فالدودة لا عمل لها إلا الاغتذاء والنمو كما تفعل ديدان الحرير؛ حتى إذا أدركت أجلها انكمشت وخلعت ثوبها القديم وأصبحت جامدة لا حراك بها.
وقد تكتسي ثوبًا تنسجه حولها من خيوط لعابها، ويقال لها حينئذ الشرنقة، وهي أشبه بجثة محنطة ملفوفة بالأكفان ثم لا تلبث أن ترى الحياة أخذت تدب في تلك الجثة رويدًا رويدًا حتى تهب وتنتفض من أكفانها، وقد لبست ثوبًا جديدًا ذا ألوان زاهية زاهرة، وفيها الأزرق والأخضر والأحمر والذهبي والعقيقي والبنفسجي مما يبهر العقول، وأغرب ما فيها أن تلك الفراشة المرقشة المخملية اللمس الملأى من الحياة نشأت من رمة جافة لا يظهر للحياة فيها أثر، ولعل ذلك ما حمل القدماء على القول بالتقمص. والظاهر أن المصريين إنما قدسوا الجعلان لأنهم رأوها تنشأ من رمم مائتة، فرمزوا بها عن الحياة أو الخصب وأكثروا من رسمها في كتاباتهم على البابيروس، ونقشوها على الهياكل واصطنعوا لها التماثيل بأقدار مختلفة وكانوا يصلُّون لها.
وتختلف أشكال كل دور من هذه الأدوار باختلاف الحشرات وأنواعها مما لا محل لاستيفاء الكلام عليه هنا.
(١) دفاع الحشرات عن نفسها
لكل من أنواع الحيوان وسيلة للدفاع عن حياته؛ ولذلك وجدت المخالب والأظافر ونحوها من الأسلحة الطبيعية، واعتبر ذلك في الطيور والأسماك كما في ذوات الأربع حتى الحشرات والهوام، فإنها تدافع عن نفسها دفاعًا شديدًا، ولها في الدفاع طرقًا مدهشة، وأشهر أسلحتها الإبر اللاسعة كما في العقارب والزنابير والنحل. والإبرة المذكورة ليست عضوًا بسيطًا كما يتبادر إلى الذهن، لكنها مركبة من عدة أعضاء تعمل معًا لتوليد السم وغرس الإبرة في العدو وقذف السم فيه.
ومن أغرب ضروب الدفاع في النمل أن بعضه له في مؤخره مستودع لمادة حريفة يفرزها عند الاقتضاء، وهو لا يفعل ذلك إلا إذا داهمه عدو ولم يجد له مفرًّا منه، فيطلق عليه تلك المادة فتؤثر فيه تأثيرًا سيئًا يشغله عن مطاردة النملة.
(٢) العناكب الوثابة
وللعناكب عادات غريبة في الدفاع عن أنفسها أو اصطياد الذباب وغيره تدهش الباحث المتأمل، ناهيك بنسيجها الدقيق الذي تحار العقول في أشكاله الغريبة، وإنما يهمنا في هذا المقام درس طبائع ضرب من العناكب اسمه «العناكب الوثابة»، وهي ضخمة الجسم مكسوة بالشعر، رأسها مربع الشكل، ويغلب فيها أن تكون ملونة وعيونها براقة حادة، فهذه لا تنسج العنكبوت لاصطياد فريستها، لكنها تثب عليها من مسافة بعيدة وتقبض على خناقها بقوائمها حتى تخمد أنفاسها وتأكلها.
ومن غريب طبائعها ما تجريه في اختيار الزوج، والعادة الطبيعية في الانتخاب الجنسي بين الحشرات أن يتخذ الذكر كل وسيلة تحسنه في عيني الأنثى من رشاقة الحركة والألوان الجميلة الزاهية، يبذل الذكور جهدهم في اكتساب هذه المحسنات ويتبارون في إتقانها بين يدي الأنثى، وهي تختار من يحسن في عينيها منهم، أما العناكب الوثابة فإنها فضلًا عن ذلك لا يتمكن الذكر من اكتساب رضى الأنثى منها إلا بعد أن يرقص بين يديها رقصًا يعجبها، يتصدى للرقص طائفة من الذكور ويبذل كل واحد منها جهده في إتقان حركاته؛ والأنثى واقفة تراقب ذلك على مهل فإذا وقع اختيارها على واحد دنت منه مظهرة رضاها، وهي لا تختار إلا أجملها لونًا وأرشقها حركة، فسبحان الخلاق العظيم.