أوهام عاملة الآلة الكاتبة
***
كل ستة أشهر تقريبًا ينشغل بال رايموند بويكارت، ويبدأ في نخز الأركان الغريبة، وفتح صناديق وخزانات المستندات القديمة. قبل أيام قليلة من حادث «القتل» الذي شهده شارع كيرزون، ظهر في غرفة الطعام ومعه مجموعةٌ من الأوراق القديمة، ووضعها على ذلك الجزء من الطاولة غير المخصَّص لتناول العشاء.
نظر ليون جونزاليس وتذمَّر.
لم يبتسم جورج مانفريد حتى، على الرغم من أنه كان يضحك بداخله.
قال بويكارت مُعتذرًا: «أعتذر حقًّا عن إزعاجكم يا صديقيَّ العزيزين، ولكن يجب ترتيب هذه الأوراق. لقد وجدت مجموعةً من الخطابات يرجع تاريخها إلى خمسة أعوام؛ أي وقت أن كانت الوكالة لا تزال ناشئة.»
قال ليون مُقترحًا وهو يعود إلى كتابه: «احرقها، لن تُفيدك في شيء بعد الآن على أي حال!»
لم يقُل بويكارت شيئًا. أخذ يتنقل بجدية بين الأوراق ويقرؤها سريعًا، واضعًا الخطاب الذي يقرؤه جانبًا بحيث تتضاءل كومة وتتنامى أخرى.
ليون: «وأظن أنك عندما تنتهي ستُعيد الأوراق إلى حيث وجدتها، أليس كذلك؟»
لم يُجِب بويكارت؛ فقد كان عاكفًا على قراءة خطاب.
قال: «رسالةٌ غريبة، لا أذكر أنني قد قرأتها من قبل.»
سأل جورج مانفريد: «ما هذه يا رايموند؟» قرأ رايموند:
المرسَل إليه: وكالة سيلفر تريانجل. خاص
السادة
رأيت أسماءكم حين ذكرت في إحدى القضايا كمحقِّقين يمكن الوثوق بكم في عملٍ ذي طبيعة سرية. سأكون سعيدًا لو قُمتم بعمل تحريات والكشف لي عن التوقعات المحتملة لحقول النفط الفارسية، وأودُّ معرفة إذا كان بإمكانكم التفاود من أجل بيع ٩٦٧ سهمًا باسمي. السبب في عدم رغبتي في الاستعانة بوسيط أسهم عادي هو كثرة الحيتان في هذه المهنه. كذلك أرجو أن تُخبروني إن كان يمكن بيع أسهم شركة أوكاما بسكويت (الأمريكية) أم لا. أرجو الرد في أقرب وقت.
قال ليون على الفور: «أتذكَّر ذلك الخطاب. كان يحتوي على أخطاءٍ إملائية في كلمتَي «تفاوض» و«مهنة». ألا تتذكر يا جورج حين قلت إن هذا الشخص سرق بعض الأسهم ويريد أن نكون نحن الوسيلة التي يتخلص بها من تلك الأسهم المسروقة؟»
أومأ مانفريد.
قال ليون بصوتٍ مُنخفض: «روك. لا، لم أقابل السيد روك من قبل. لقد أرسل الخطاب من ملبورن وكتب رقم صندوق بريد وعنوانًا تلغرافيًّا، أليس كذلك؟ هل أرسل لنا خطاباتٍ أخرى؟ أظنُّه لم يرسل.»
لم يستطع أيٌّ من الثلاثة تذكر أي مراسَلات أخرى. لقد مرَّت الرسالة مرور الكرام مع الرسائل الأخرى، وربما بقيت منسيَّة إلى الأبد، لولا ذاكرة ليون الخارقة التي تمكِّنه من تذكُّر الأرقام والأخطاء الإملائية.
بعدها وفي ليلةٍ من الليالي:
أُطلقت صافرة الشرطة في شارع كيرزون. سمع جونزاليس، الذي كان ينام أمام المنزل، الصوت وكأنه في حلم، وكان يقف بجوار النافذة المفتوحة قبل أن يُفيق. انطلق صوت الصافرة مرةً أخرى، ثم سمع جونزاليس صوت أقدام تُهرول. رأى فتاةً تجري عبر الرصيف. تجاوزت المنزل ثم وقفت، ثم عادت راكضةً إلى الخلف وتوقَّفت مرةً أخرى.
نزل ليون درجات السُّلم الضيِّق مُتخطيًا درجتين في المرة، وأزال قفل الباب الأمامي وفتحه على مصراعيه. وقفت الهاربة أمامه مباشرةً.
قال ليون: «ادخلي هنا، بسرعة!»
تردَّدت لثانية وتراجعت إلى الوراء في الممر ثم انتظرت. جذبها ليون من ذراعها وسحبها إلى الردهة.
قال: «لا داعي للخوف مني أو من صديقيَّ.»
ولكنه شعر بالذراع التي في يده تُجاهد للتحرر من قبضته. «دعني أذهب من فضلك، لا أريد البقاء هنا!»
دفعها ليون إلى الغرفة الخلفية وأنار المصباح.
قال بنبرته الهادئة مُتوددًا إليها: «لقد رأيتِ شرطيًّا يجري باتجاهك؛ وهذا سبب عودتك. اجلسي واستريحي. تبدين مُتعَبة!»
بدأت تتحدث بصوتٍ مُرتعش: «أنا بريئة!»
ربت على كتفها.
«بالطبع بريئة. أما أنا، فعلى النقيض منك؛ فأنا مُذنِب؛ لأنك سواء كنت بريئة أم لا فلا شك في أنني أساعد هاربةً من العدالة.»
كانت الفتاة في سنٍّ صغيرة، بالكاد تتجاوز سن الطفولة. كان وجهها الجميل شاحبًا ومُتعَبًا. كانت ترتدي ملابس أنيقة، ولكنها ليست باهظة الثمن، ورأى ليون شيئًا غريبًا أدهشه، حين وجد خاتمًا من الزمرد في إصبعها؛ فلو كان فص الخاتم حقيقيًّا فلا بد أنه يُساوي مئات الجنيهات. نظر إلى الساعة، كانت قد تجاوزت الثانية ببضع دقائق. وعندئذٍ نما إلى سمعهما صوت أقدام مُتسارعة وثقيلة.
تساءلت في خوف: «هل رآني أحد وأنا أدخل؟»
«لم يرَكِ أحد. والآن، أخبريني ما المشكلة.» جعل الخطر والخوف أوصالها مشدودةً من التوتر الذي كاد يُسيطر عليها بالكامل. ظهرت ردة فعلها الآن، حين لم تنفكَّ عن الارتعاش. كانت الرعشة تَسْري في الكتفين واليدين والجسد بأكمله على نحوٍ يُثير الشفقة. كانت تبكي دون صوت وشفتاها ترتجفان، وفي تلك اللحظة كانت عاجزةً عن التعبير عما بداخلها. سكب ليون ماءً في كوب ورفعه إلى أسنانها التي تصطكُّ ببعضها. لو كان الآخران قد سمعاه فلم يكن لتتوافر لديهما النية في النزول لتقصِّي الأمر. أما ليون جونزاليس، فكان فضوله يُضرَب به المثل في ذلك المنزل؛ فكان يمكن لأي مشاجَرة في منتصف الليل أن تُخرجه من السرير إلى الشارع.
بعد فترة كانت قد هدأت بما يكفي لتسرد قصتها، ولم تكن القصة التي توقَّعها.
«اسمي فارير؛ إلين فارير. أعمل كاتبة على الآلة الكاتبة لدى وكالة ميس ليولي للآلة الكاتبة. عادةً ما توجد فتاتان في نوبة العمل؛ إحداهن ذات خبرة مُتقدمة، ولكن الآنسة ليه غادرت إلى منزلها مُبكرًا. من المفترَض أن تعمل الوكالة طوال الليل، ولكننا في الواقع نُغلق في حوالَي الساعة الواحدة صباحًا. معظم العمل لدينا مُرتبط بالمسرح. بعد انتهاء الليلة الأولى لعرضٍ مسرحي، غالبًا ما يتوجب إجراء تغييرات معيَّنة في النص، وفي بعض الأحيان يتم الاتفاق على عقودٍ جديدة على العشاء، ونحن من نعدُّ المسوَّدات الأولية لها. وفي أحيانٍ أخرى يقتصر العمل على كتابة الخطابات. أعرف جميع المُديرين الكبار، وغالبًا ما أذهب إلى مكاتبهم في وقتٍ مُتأخر كي أُنجز لهم بعض الأعمال. بالطبع، لا نذهب مطلقًا إلى غرباء ولدينا في المكتب بوابٌ يعمل مرسالًا أيضًا؛ ليضمن عدم تعرُّضنا لأي مضايَقات. في الساعة الثانية عشرة تلقَّيت اتصالًا من السيد جراسلي من مسرح أورفيوم يسألني إن كان بإمكاني كتابة خطابين له. أرسل لي سيارته وذهبت إلى شقته في شارع كيرزون. غير مسموح لنا بالذهاب إلى منازل عملائنا الشخصية، ولكني كنت أعلم أن السيد جراسلي عميل لدينا على الرغم من أنني لم أقابله من قبل.»
كثيرًا ما كان السيد ليون جونزاليس يرى سيارة السيد جيسي جراسلي الصفراء البرَّاقة؛ فقد كان هذا المُدير المسرحي البارز يعيش في مجمع للشقق الفخمة في شارع كيرزون، وكان يشغل الطابق الأول، ويدفع — كما اكتشف ليون الذي كان فضوله لا يُشبَع — ٣٠٠٠ جنيه إسترليني في السنة. كان قد جاء إلى لندن منذ ثلاثة أعوام، واستأجر مسرح أورفيوم ووضع أموالًا في ستة أعمال فنية فشل معظمها.
سأل: «كم كان الوقت حينئذٍ؟»
قالت الفتاة: «الواحدة إلا الربع. وصلت إلى شارع كيرزون بعد ربع ساعة تقريبًا. كان لديَّ بعض الأعمال التي يجب أن أُنجزها في المكتب قبل أن أُغادر، كما أنه أخبرني أنه لا داعي للعجلة. طرقت الباب وأدخلني السيد جراسلي. وجدته مُرتديًا ملابس السهرة، ويبدو وكأنه آتٍ من حفل. رأيت زهرةً بيضاء كبيرة في عروة معطفه الطويل. لم أرَ خدمًا، وأدركت حينها أنه لا يوجد أحد في الشقة. قادَني إلى غرفة مكتبه وكانت غرفةً كبيرة، وسحب كرسيًّا إلى طاولةٍ صغيرة بجانب مكتبه. لا أعرف ما الذي حدث بالضبط. أتذكَّر أنني جلست وأخرجت مفكرتي من الحقيبة وفتحتها، وانحنيت بحثًا عن قلم رصاص في الحقيبة، ثم سمعت تأوُّهًا. ولما نظرت رأيت السيد جراسلي يضطجع على الكرسي وتوجد علامةٌ حمراء على قميصه الأبيض من الأمام. كان الموقف مروِّعًا!»
ليون: «ألم تسمعي أي صوت آخر، كصوت رصاص؟»
هزَّت رأسها.
قالت: «لم أستطع التحرك من الرعب. بعد ذلك سمعت شخصًا يصرخ. ولما نظرت حولي رأيت سيدةً ترتدي ملابس جميلة للغاية وتقف في الطرقة. سألت: «ما الذي فعلتِه به؟ أيتها المرأة الشنيعة، لقد قتلتِه!» ذُعرت لدرجة أنني لم أستطع الكلام، ولا بد أنني قد انتابتني حالةٌ من الهلع؛ إذ جريت وتجاوزتها وخرجت من الباب الأمامي.»
سأل ليون: «هل كان الباب مفتوحًا؟»
قطَّبت جبينها.
«نعم، كان مفتوحًا. أظن أن السيدة هي من تركته مفتوحًا. سمعت شخصًا يُطلِق صافرة الشرطة، ولكني لا أتذكَّر كيف نزلت على السُّلم أو خرجت إلى الشارع.» ثم سألت وهي لا تتمالك نفسها: «لن تتخلى عني، أليس كذلك؟»
انحنى وربت على يدها.
قال بنبرةٍ رقيقة: «صديقتي الصغيرة، ليس هناك ما تخشين منه. ابقَي هنا ريثما أرتدي ملابسي، ثم سننزل أنا وأنت إلى شرطة سكوتلاند يارد كي تُخبريهم بكل ما تعرفين.»
«ولكن لا أستطيع. سيُلقون القبض عليَّ!»
كانت على شفير حالة من الهستيريا، وربما ارتكب خطأً لو جادَلها.
«يا إلهي، شيءٌ مروِّع. أنا أكره لندن. ليتني لم أترك أستراليا. الكلاب أولًا ثم الرجل الأسود، والآن هذه …»
ذُهِل ليون، ولكن لم تكن هذه اللحظة المناسبة لاستجوابها. كان ما عليه أن يفعله حينها هو تهدئتها لفهم الموقف.
«ألا تعلمين أنهم لن يُلقوا اللوم عليك، وأن قصتك هذه لا تجعل أي ضابط شرطة في العالم يفكر في الاشتباه بك؟»
قالت: «ولكني هربت.»
قال وهو يحاول تهدئتها: «بالطبع هربتِ. ولو كنت مكانك لربما هربت أنا أيضًا. انتظري هنا فحسب.»
لم يكَد يرتدي نصف ملابسه حتى سمع صوت الباب الأمامي يُغلَق بقوة؛ ومن ثَم جرى على السُّلم ليجد الفتاة قد اختفت.
لما دخل إلى الغرفة وجد مانفريد مُستيقظًا، وروى له القصة.
قاطَع اعتذار ليون قائلًا: «لا، لا أظن أن عدم استدعائك لي في وقتٍ مبكر أمرٌ يدعو إلى الأسف. لم يكن بإمكاننا احتجازها تحت أي ظرف. أنت تعرف أين تعمل. حاوِل الوصول إلى وكالة ليولي عبر الهاتف.»
وجد ليون رقم الهاتف في الدليل، ولكن لم يردَّ أحد على اتصاله.
حين انتهى من ارتداء ملابسه نزل إلى الشارع، واتخذ طريقه إلى مجمع الشقق بشارع كيرزون. تفاجأ لما لم يجد شرطي حراسة على الباب على الرغم من أنه رأى شرطيًّا عند ناصية الشارع، ولم يجد أي دليل على حدوث مأساة. وجد الباب الأمامي للشقة مُقفَلًا، ولكن الجدار كان به عدد من أزرار الأجراس الصغيرة، وبدا واضحًا أن كل جرس منها يتصل بشقة من الشقق. ولما وجد الزر الذي يحمل اسم جراسلي وكاد أن يقرع الجرس، وجد الشرطي الذي كان قد رآه يعبر الطريق من الجانب الآخر في هدوء. من الواضح أنه كان يعرف ليون.
قال: «مساء الخير يا سيد جونزاليس. ألم يكن أنت من أطلق صافرة الشرطة؟»
«نعم، ولكني سمعتها.»
قال الشرطي: «سمعتها أنا وثلاثة أو أربعة من زملائي. إننا نجوب هذه الشوارع منذ ربع ساعة، ولكننا لم نعثر على مَن أطلقها.»
«ربما سيُمكنني مساعدتك.»
في تلك اللحظة سمع قفل الباب يُفتَح، وكاد يسقط لما رأى أن الشخص الذي فتح له الباب هو جراسلي نفسه. كان يرتدي الروب ونصف سيجار في جانب فمه.
قال مُتفاجئًا: «مرحبًا! هل هناك مشكلة؟»
لما استفاق ليون من المفاجأة، قال: «هل يمكنني مقابلتك لبضع دقائق؟»
قال «الرجل الميت»: «بالتأكيد، على الرغم من أنني لا أحب استقبال زائرين في هذا الوقت. تفضَّلْ بالدخول.»
تبعه ليون مُتعجبًا على السُّلم إلى الطابق الأول. لم يرَ خدمًا، ولكن لم يكن يوجد أي دليل يربط المكان بالمشهد الدرامي الذي وصفته الفتاة. بمجرد أن دخلا إلى غرفة مكتب كبيرة روى ليون قصته. لما انتهى هزَّ جراسلي رأسه.
«تلك الفتاة مجنونة! لقد اتصلت بها بالفعل، وفي الحقيقة ظننتها هي حين قرعت أنت جرس الباب. أؤكد لك أنها لم تكن هنا الليلة. نعم، سمعت صافرة الشرطة، ولكني لا أُقحم نفسي مطلقًا في تلك المشاكل التي تقع في منتصف الليل.» كان ينظر إلى ليون بنظراتٍ حادَّة. «أنت واحد من رجال العدالة الثلاثة، ألست أنت السيد جونزاليس؟ ما شكل تلك الفتاة؟»
وصفها ليون، وهزَّ المُدير المسرحي رأسه مرةً أخرى.
قال: «لم أسمع عنها مطلقًا. أخشى أنك قد وقعت ضحيةً لخدعة يا سيد جونزاليس.»
عاد ليون كي ينضمَّ إلى صديقيه في حيرةٍ بالغة.
في صباح اليوم التالي ذهب إلى وكالة ليولي، التي كان يعرف من سُمعتها أنها مؤسسةٌ ذات إدارة جيدة، وتحادث مع صاحبتها العزباء الرقيقة الحاشية. كان عليه أن يتوخى قدرًا جيدًا من الحذر؛ إذ كان حريصًا أشد الحرص لئلا يتسبَّب في مشكلة للفتاة. لحسن الحظ، كان يعرف عميلًا مُهمًّا لدى وكالة الآنسة ليولي، وتمكَّن من استخدام هذا الرجل غير المقصود كأداة لاستخلاص المعلومات التي يريدها.
قالت: «الآنسة فارير تعمل في المناوَبة الليلية هذا الأسبوع، ولن تكون هنا حتى المساء. إنها تعمل لدينا منذ شهر تقريبًا.»
«منذ متى والسيد جراسلي عميل لديكم؟»
قالت مُبتسمةً: «المدة ذاتها بالضبط. أظن أنه يُعجبه عمل الآنسة فارير؛ لأنه قبل ذلك كان يُرسل كل عمله إلى وكالة دانتون التي كانت تعمل لديها، وحوَّل أعماله إلى وكالتنا لما جاءت هي للعمل لدينا.»
«هل تعرفين أي شيء عنها؟»
تردَّدت المرأة.
«إنها أسترالية. أعتقد أن أسرتها كانت فاحشة الثراء في وقتٍ ما. لم تقُل لي أي شيء مطلقًا عن مشاكلها، ولكن أعلم أنها ستحصل على مبلغٍ كبير من المال يومًا ما. واحد من الشركاء في شركة «كولجيت» للمحاماة جاء لمقابلتها ذات مرة.»
تمكَّن ليون من الحصول على عنوان الفتاة، ثم ذهب إلى المدينة للعثور على السادة أصحاب شركة «كولجيت». كان الحظ حليفه؛ لأن شركة كولجيت استعانت برجال العدالة الثلاثة في عدة مناسبات، وكانت مهمةٌ واحدة على الأقل من المهام التي أوكلوها إليهم ذات طابع حسَّاس للغاية.
كانت واحدة من تلك الشركات القديمة التي توجد مكاتبها في منطقة بيدفورد رو، وعلى الرغم من أنها كانت تُعرَف عمومًا باسم «كولجيت» فقد كانت تتألف من سبعة شركاء، كُتبت أسماؤهم جميعًا على اللوحة النحاسية أمام المكتب.
كان السيد كولجيت نفسه في الستين من عمره، من النوع الذي يتحفظ في الكلام في البداية. اهتدى ليون إلى أن يُخبره بما حدث في الليلة الماضية. وتفاجأ ليون لما رأى التغير المُفاجئ الذي طرأ على وجه المحامي.
قال: «هذا سيئ للغاية، سيئ للغاية حقًّا، ولكن للأسف ليس لديَّ ما يمكن أن أقوله غير ما تعلمه أنت.»
ليون: «ما السوء في الأمر؟»
زمَّ المحامي شفتيه مفكرًا.
«أنت تفهم أنها ليست من عملائنا، على الرغم من أننا نمثِّل شركة ملبورن للمحاماة التي تتولى قضايا تلك الفتاة. لقد مات والدها في مستشفًى للأمراض العقلية، وترك الأمور معقَّدةً خلفه، لكن خلال السنوات الثلاث الماضية ارتفعت قيمة بعض ممتلكاته على نحوٍ ضخم للغاية، ولا يوجد سببٌ يجعل هذه الشابَّة تعمل على الإطلاق إلا لأنها ترغب في الابتعاد عن مسرح هذه المشاكل العائلية على حسب ظني، وأنها مضطرَّة للعمل كي تشغل عقلها. تصادف أن علِمت أن وصمة الجنون تسبِّب محنةً حقيقية للفتاة، وأظن أنها جاءت إلى إنجلترا بناءً على نصيحة من قريبها الوحيد على أمل أن تغيير البيئة المحيطة سيُخرج من عقلها تلك المحنة التي تؤرِّق حياتها.»
«ولكن هل أتت لرؤيتك؟»
هزَّ المحامي رأسه.
«زارها أحد عملائي. أحد الممتلكات في سيدني التي سقطت سهوًا في التسوية الخاصة بممتلكات والدها عُرضت للبيع. يبدو أنه يمتلك عُشْر أسهمها. حاولنا الاتصال بمنفِّذ الوصية، السيد فلين، ولكننا لم نستطع الوصول إليه نظرًا لسفره إلى الشرق؛ ومن ثَم حصلنا على توقيع الفتاة لنقل الملكية.»
«فلين؟»
كان السيد كولجيت كثير الأعباء، وكان يلمِّح بذلك كثيرًا؛ ومن ثَم بدأ يُظهر قليلًا من الجزع.
«إنه ابن عم الراحل جوزيف فارير؛ القريب الوحيد الآخر. في الحقيقة، كان فارير يُقِيم في غرب أستراليا عند ابن عمه قبل أن يُصاب بالجنون مباشرةً.»
أصبح لدى ليون تصوُّر، ولكن على الرغم من وضوحه لم يستطع سد الفجوات في القصة التي كان يراها غريبة وغير مألوفة.
قال المحامي: «انطباعي الخاص، وأقول لك ذلك بثقةٍ تامة، هو أن تلك الفتاة ليست …» وضرب على جبهته. «لقد أخبرت الكاتب لديَّ — وهو رجلٌ ماهر في كسب ثقة الشباب — أن رجلًا أسود ظل يتبعها لأسابيع، وفي مناسبةٍ أخرى كان يتبعها كلبُ صيد أسود. من الواضح أن كلب الصيد هذا كان يظهر ولا يتركها أبدًا كلما خرجت للتمشية يوم السبت كعادتها. على حسب ما أرى، لم يرَ أي شخص آخر الرجلَ الأسود ولا الكلب. ولا تحتاج إلى أن تكون طبيبًا كي تعرف أن التوهم بتعقُّب أحدهم لك من أكثر علامات عدم الاتزان العقلي شيوعًا.»
كانت معرفة ليون بعمل الشرطة تفُوق المألوف. كان يعلم أن اكتشاف لغز ما ليس لحظةً درامية تأتي فجأةً، بل هو نتاج أدلة تُجمَع بالصبر، وقد تتبَّع مسار التحقيقات نفسه الذي كان ليتبعه محقِّق من سكوتلاند يارد.
عاشت إلين فارير في لاندسبيري رود بكلافام، وتبيَّن أن المنزل رقم ٢٠٩ هو منزل يقع في منطقةٍ راقية. وقد شعرت صاحبة المنزل، التي بدت امرأةً عطوفًا، والتي تحاورت معه في الردهة، بارتياحٍ واضح حين ذكر سبب زيارته.
قالت: «زيارتك غمرَتْني بالسعادة. هل أنت قريب لها؟»
نفى ليون وجود أي قرابة بينهما.
تابعت صاحبة المنزل: «إنها شابَّةٌ غريبة للغاية، ولا أعرف ما الذي حدث لها. ظلَّت مستيقظةً طوال الليل تتجول في غرفتها — فهي تنام في الغرفة التي تعلو غرفتي — ولم تتناول الإفطار هذا الصباح. لا يَسَعني إلا الشعور بأن ثَمة خَطبًا ما. إنها شخصيةٌ غريبة جدًّا.»
سأل ليون بأسلوبٍ فظ: «هل تقصدين أنها مُختلة عقليًّا؟»
«نعم، هذا ما أقصده. فكَّرت في إرسالها إلى طبيبي، ولكنها لم تكن لتُذعن لذلك. لقد أخبرتني أنها تعرَّضت لصدمةٍ كبيرة. هل تعرفها؟»
ليون: «لقد قابلتها. هل تسمحين لي بالصعود إلى الطابق العُلوي؟»
تردَّدت صاحبة المنزل.
«أعتقد أنه من الأفضل أن أخبرها بأنك هنا. ما اسمك؟»
قال ليون: «أعتقد أن من الأفضل أن أراها دون إبلاغها بوجودي، إذا كنت ستصحبينني إلى باب غرفتها. أين هي؟»
علِم أن إلين فارير في غرفة الجلوس. كان بإمكانها تحمل رفاهية استئجار غرفة إضافية. طرق ليون الباب وأتاه صوتٌ مُجفِل يتساءل: «من الطارق؟»
لم يُجِب، ولكنه لفَّ المقبض ودخل إلى الغرفة. كانت الفتاة تقف بجانب النافذة وتُحملق في الخارج. من الواضح أن السيارة الأجرة التي أقلَّت ليون أثارت مخاوفها.
قالت في فزع لما رأت زائرها: «يا إلهي! أنت الرجل … أنت لم تأتِ كي تُلقي القبض عليَّ، أليس كذلك؟»
رأى من زاوية عينه أن الأرض مبذورة بالصحف. من الواضح أنها اشترت كل جريدة مُتاحة لتستجلي أنباء الجريمة.
قال ليون بنبرةٍ هادئة: «نعم، لم آتِ كي أُلقي القبض عليك. أنا لا أعرف بالضبط التهمة التي يمكن اعتقالكِ من أجلها. السيد جراسلي لم يمُت. إنه لم يُصَب بجرحٍ حتى.»
حملقت فيه في دهشة.
ردَّدت بنبرةٍ بطيئة: «لم يُصَب بجرح حتى؟!»
«وجدته في خير حال لما رأيته ليلة أمس.»
مرَّرت يدها على عينيها.
«لا أفهم شيئًا. لقد رأيته، يا إلهي، هذا رهيب!»
«حسب ظنك، لقد رأيتِه مُثخَنًا بالجروح. سعدت بلقائه بعد بضع دقائق من رؤيتك، ولم أجد به أي إصابات، والأكثر من ذلك أنه …» لم يُنزل عينيه عنها وهو يتحدث «قال إنه لم يرَكِ مطلقًا.»
لاحَتْ في عينيها علامات التعجب وعدم التصديق والرعب.
«والآن هلَّا جلست يا آنسة فارير وأخبرتني كل شيء عنك؟ كما ترَين، أنا أعرف الكثير. أعرف، على سبيل المثال، أن أباكِ مات في مصحَّة.»
ظلَّت تُحملق فيه كما لو كانت لا تستطيع استيعاب كلماته. وفي الحال أصبح ليون مباشرًا في حديثه معها.
«والآن، أريدكِ أن تُخبريني يا آنسة فارير، ما السبب في جنون أبيك. هل سبق أن أُصيبَ أحدٌ في العائلة بالجنون؟»
كان هدوء ليون من النوع المُهيمن؛ فقد استعادت بعضًا من رباطة جأشها بفضل تأثيره.
«لا، السبب هو سقوطه من ظهر حصان؛ لم يتضح التأثير الكامل لهذا السقوط لمدة سنوات بعد حدوثه.»
أومأ وابتسم.
«لا أظن ذلك. أين كنتِ حين أُرسِلَ إلى المصحة؟»
قالت: «كنت في المدرسة في ملبورن، أو بالأحرى على حدود ملبورن. لم أرَ أبي منذ كنت في السابعة. ظل في ذلك المكان اللعين وقتًا طويلًا، ولم يكونوا ليسمحوا لي برؤيته.»
«أخبريني الآن، من هو السيد فلين؟ هل تعرفينه؟»
هزَّت رأسها.
«إنه ابن عم أبي. لا أعرف عنه سوى أن أبي اعتاد أن يُقرضه المال، وأنه كان مُقِيمًا في المزرعة لما أصابه المرض. وصلتني عدة خطابات منه بشأن المال. دفع تكاليف سفري إلى إنجلترا، وهو من اقترح ضرورة عودتي إلى موطني ومحاولة نسيان جميع المشكلات التي تعرَّضت لها.»
«ألم ترَيه مطلقًا؟»
قالت: «مطلقًا. جاء مرةً واحدة إلى المدرسة، ولكني كنت في نزهة.»
«هل تعرفين قدر الأموال التي تركها أبوكِ؟»
هزَّت رأسها مرةً أخرى.
«لا، ليست لديَّ فكرة.»
«أخبريني الآن يا آنسة فارير عن الزنجي الذي رأيته يتبعك وعن الكلب.»
لم يكن في جعبتها الكثير لتُخبره به؛ فلم تُخبره إلا بالحقيقة المجردة. بدأَت الملاحَقة منذ عامين، واتصل طبيبها ذات مرةٍ للاستفسار عن السبب. وهنا أوقفها ليون سريعًا.
«هل أرسلت إلى الطبيب؟»
قالت مُتفاجئةً: «لا، ولكن لا بد أنه عرف من شخصٍ ما، ولكني لا أعرف من أخبره؛ لأنني لم أخبر سوى عدد قليل جدًّا من الأشخاص.»
«هلَّا أريتني أيًّا من الخطابات التي أرسلها لك السيد فلين؟»
كانت تحتفظ بالخطابات في أحد الأدراج؛ ومن ثَم قرأها ليون قراءةً متأنِّية. كانت لهجة الخطابات غير عادية، لم تكن باللهجة المتوقَّع أن تصدُر من وصي أو من شخصٍ يتولى زمام حياتها ومصيرها. لم تكن في مجملها سوى تذمُّرات من الصعوبات التي يُواجهها الكاتب في توفير مصروفاتها الدراسية وملابسها، وأخيرًا تكاليف السفر إلى إنجلترا، وكان يؤكد في كل خطاب على حقيقة أن والدها لم يترك لها من المال سوى النَّزْر اليسير.
قالت: «وهذه كانت حقيقة. لقد كانت تصرفات أبي المسكين غريبة في مسألة الأموال. لم يحتفظ بمدَّخَراته في البنك مطلقًا، بل كان يحملها معه دائمًا في صندوقٍ حديدي كبير. في الحقيقة، لقد كان كتومًا إلى حدٍّ بالغ، ولم يعرف أحدٌ حجم الأموال التي يمتلكها بالضبط. أظن أنه كان بالغ الثراء؛ لأنه كان …» تردَّدت عندئذٍ «تقريبًا … لا أحب قول شيء يذمُّ في أبي الحبيب المسكين، ولكنه لم يكن سخيًّا في إنفاق المال مطلقًا، وكم ذُهلت لما عرفت أنه لم يترك سوى بضع مئات من الجنيهات وعددٍ قليل جدًّا من الأسهم، وأن تلك الأسهم ليست ذات قيمة كبيرة للدرجة! وبالطبع ذُهِل الجميع في ملبورن؛ أقصد كل شخص يعرفنا. في الحقيقة، دائمًا ما كنت أعتبر نفسي فقيرةً حتى بضعة أشهر مضت؛ فقد اكتشفنا أن والدي يمتلك نصيبًا كبيرًا في منجم الذهب في غرب أستراليا، ولم يكن أحدٌ يعرف عن ذلك الأمر شيئًا. لقد اكتُشف بالصدفة. وإذا كان ما يُقال صحيحًا فسوف أكون في غاية الثراء. كان المُحامون يُحاولون الاتصال بالسيد فلين، ولكن لم يصِلهم منه سوى خطاب أو اثنين؛ أُرسلَ أحدهما من الصين وكان مرسَلًا لي، والآخر من اليابان على ما أظن.»
«هل وصلك الخطاب الذي أُرسلَ لك؟»
أبرزت الخطاب. كان مكتوبًا على ورقٍ سميك. أمسكه ليون بالقرب من الضوء ورأى العلامة المائية.
«ما الأسهم التي تركها والدك؟ أقصد ما الأسهم التي عُرِف أنه تركها؟»
انتابتها حيرةٌ من هذا السؤال.
«أعلم أنه ترك بعض الأسهم التي لا قيمة لها على الإطلاق. أتذكَّرها بالرقم ٩٦٧. ما الأمر؟»
أخذ ليون يضحك.
«أعتقد أن بإمكاني أن أعِدَك بعدم تعرُّضك لأي ملاحقة مرةً أخرى يا آنسة فارير، ونصيحتي لك أن تتواصلي على الفور مع أفضل شركة محاماة في لندن. أعتقد أن بإمكاني إعطاءك عنوانهم. لديَّ شيءٌ أريد أن أخبرك به …» لاحت ابتسامةٌ لطيفة للغاية في عينَي ليون جونزاليس وتابع قائلًا: «هو أنكِ لست مجنونة، وأن الزنجي الذي يتعقَّبكِ والكلاب السوداء ورؤيتك للسيد جراسلي مقتولًا، كل ذلك لم يكن محض أوهام. ثَمة سؤالٌ واحدٌ آخر أريد أن أطرحه عليك، وهو يتعلَّق بالسيد فلين. هل تعرفين ماذا يعمل؟»
قالت: «كانت لديه ما يمكن أن تعتبره مزرعةً صغيرة. أعتقد أن أبي اشتراها له ولزوجته. وقبل ذلك أظن أنه كان يستأجر مسرحًا في أديليد، وخسر مبلغًا كبيرًا من المال.»
ليون: «شكرًا لك. هذا كل ما أريد معرفته.»
عاد مباشرةً إلى مجمع الشقق في شارع كيرزون، والتقى بالسيد جراسلي وهو يُغادر شقته.
قال ذلك الرجل البشوش الوجه بضحكةٍ عالية: «مرحبًا! هل أتيت كي تُخبرني عن جريمة قتل أخرى؟»
قال ليون: «بل شيء أسوأ من القتل.» انطفأت الابتسامة من بين شفتَي جراسلي من شيءٍ أحسَّه في نبرة ليون.
تبعه ليون إلى غرفة المكتب وأغلق الباب بنفسه.
قال: «سيد فلين، هل أفهم الآن؟» وحينها رأى الدم يهرب من وجه الرجل.
قال جراسلي بتبجُّح: «لا أعرف ماذا تقصد. إن اسمي …»
قال ليون بلطفٍ بالغ: «اسمك فلين. منذ بضع سنوات نما إلى عِلمك أن الرجل الذي سرقته — والد إلين فارير — كان أغنى مما كنت تظن؛ ومن ثَم وضعت خطةً خرقاء، ولكنها شيطانية بالتأكيد، لتضع يدك على ممتلكات إلين فارير. لا شك لديَّ في أن رجلًا محدود الذكاء مِثلك تخيَّل أنه بسبب جنون الأب من الممكن أن تُساق الابنة أيضًا إلى مصحةٍ عقلية. لا أعرف من أين جئت بالرجل الزنجي، ولا أين عثرت على كلبك المدرَّب، ولكني أعلم من أين حصلت على المال كي تستأجر مسرح أورفيوم. أريد أن أخبرك شيئًا آخر يا سيد فلين، وبإمكانك نقل هذه المعلومة إلى زوجتك التي أستشفُّ أنها مُتآمرة معك. تُكتب كلمة «تفاوض» بحرف «ض»، وكلمة «مهنة» تنتهي بحرف «ة». لقد وردت كلتا الكلمتين في الخطابات التي أرسلتها إلى الآنسة فارير.»
تصاعدت أنفاس الرجل، وكانت يده التي تُحاول التقاط عُقْب السيجار المُنطفئ ترتعش.
قال مُتبجحًا: «يجب أن تُثبِت كل هذا.»
قال ليون أسفًا: «للأسف يجب عليَّ هذا. في الأيام الخوالي التي لم يكن رجال العدالة الأربعة يتقيَّدون فيها بالقانون كما هو الحال الآن، ما كنا لنأخذك إلى المحكمة. بل أتخيَّل أنني وأصدقائي كنا سنفتح بالوعة صرف في شارع كيرزون ونُسقطك فيها.»