المصادفة الثالثة
***
كان ليون جونزاليس كالعالم الشهير، يتمتَّع بموهبةٍ لا حدود لها في جمع المصادفات. كذلك كانت لديه معتقداتٌ غريبة، وكان يعتقد أن الشخص إذا رأى بقرةً وردية اللون بقرنٍ واحد في الصباح، فلا بد أن يُقابل بقرةً أخرى وردية اللون بقرنٍ واحد في وقتٍ لاحقٍ في نفس ذلك اليوم؛ بناءً على الآليات الشائعة لقانونٍ خفي.
قال: «المصادفات، يا عزيزي جورج، أمورٌ حتمية، وليست حوادث عارضة.»
غمغم مانفريد بشيء ردًّا عليه؛ إذ كان عاكفًا على دراسة ملف شخصٍ يُدعى ويليام يابي، الذي ربما يُقال عنه شيءٌ في وقتٍ لاحق.
«ها هي مصادفةٌ أخرى.» لم يكن ليون خجلًا بأي حال؛ إذ كان الوقت حينئذٍ بعد العشاء، وهي الساعة التي يتحلَّى فيها بأعلى درجات الثقة من اليوم. «أخذت السيارة هذا الصباح في جولة إلى ويندسور، وكان الجو فيها رطبًا قليلًا بالأمس. تخيَّلْ ماذا وجدت في لانجلي. رجلًا يجلس أمام نُزُل وفي حالة سُكْر شديد. تخيَّلت أنه عاملٌ زراعي يرتدي أفضل ملابسه، وكان اللافت أنه يرتدي خاتمًا ماسيًّا يُساوي خمسمائة جنيه. أخبرني أنه ذهب إلى كندا، وأقام في فندق شاتو فرونتوز، وهو فندقٌ باهظ التكلفة.»
بدا على بويكارت الاهتمام.
«وماذا عن المصادفة؟»
«لو استمع لي جورج.» رفع مانفريد رأسه مُتذمرًا. «شكرًا لك. لم أكَد أبدأ في الاستفسار من هذا المُزارع المخمور حتى وصلت سيارة رولز ونزل منها رجلٌ حسن المظهر يرتدي خاتمًا ماسيًّا هو الآخر في خنصره.»
قال جورج مانفريد: «شيءٌ مُثير.» ثم عاد إلى ملفه.
«سأغضب إذا لم تستمع. تخيَّلْ أن هذا المُزارع هبَّ فجأةً واقفًا وكأنه رأى شبحًا. قال المُزارع مُتلهفًا: «أمبروز!» هرب الدم من وجهه الذي صار في بياض الحليب. لم يكن من الممكن أن يسمعه أمبروز — إن كان سيغفر له تجرُّؤه عليه من الأساس — ودخل النُّزل. هرب العامل وهو يتعثَّر وكأن الشيطان في أثره، واللافت للنظر أن عقل المرء يستفيق على نحوٍ أسرع بكثيرٍ من قدميه.
دخلت إلى النُّزل ووجدت أمبروز يحتسي الشاي. والرجل الذي يشرب الشاي في الحادية عشرة صباحًا إما أنه من جنوب أفريقيا أو من أستراليا. وتبيَّن أنه من جنوب أفريقيا. كان شخصًا يعمل في التنقيب عن الماس الغريني، كما كان جنديًّا سابقًا، وتبدو عليه سمات النُّبلاء، على الرغم من أنه ليس كثير الكلام. بعدما ذهب خرجتُ أبحث عن العامل، وأدركته وهو يدخل فيلا تنمُّ عن ثراءٍ فاحش.»
«ودخلتها، دونما اعتبارٍ منك لحرمة منزل الرجل الإنجليزي.»
أومأ ليون.
ثم قال: «هذا ما حدث في الحقيقة. تخيَّلْ، يا عزيزي جورج، فيلا في الضواحي مليئة بأثاثٍ لا فائدة له، بحيث يصعب العثور على مكانٍ للجلوس فيه. أرائك مغطَّاة بالساتان وخزاناتٌ صينيةٌ مقلَّدة، ورفوف ومساحةٌ مُزدحمة بأغراضٍ مُشابهة. رسومٌ زيتيةٌ سخيفةٌ مرسومة في الفناء وموضوعة في إطاراتٍ ذهبيةٍ ثقيلة، وصورٌ فوتوغرافيةٌ مكبَّرة لأشخاصٍ يبتسمون ابتساماتٍ مصطنعةً تُغطي ورق الحائط ذا الشكل البغيض، وسيدتان ترتديان ملابس باهظة وتتزينان بالألماس، ولكن لم يكن بينها أي ألماسات شفافة قيِّمة؛ امرأتان خشنتان كالدنس الذي على حذائي، بما يُصاحب ذلك من صخبٍ وقبحٍ وفظاظة.
لما دخلت إلى الصالة في أثر العامل، سمعته يقول: «إنه لم يُقتل، لقد عاد.» وامرأةٌ تقول: «يا إلهي!» ثم قالت المرأة الثانية: «لا بد أنه قُتِل — لقد كان مُدرَجًا على قائمة ضحايا «رأس السنة الجديدة»!» ثم انشغلتُ في شرح سبب وجودي بحيث لم يكن هناك مجالٌ للمزيد من الاستيضاح.»
ربط جورج مانفريد ملفَّه جيدًا بقطعةٍ من شريطٍ أحمر، واتَّكأ بظهره على الكرسي.
«بالطبع أخذت رقم سيارة أمبروز، أليس كذلك؟»
أومأ ليون.
«وهل كان يرتدي خاتمًا ماسيًّا؟»
«خاتم امرأة، كان يرتديه في خنصره. لم يكن لافتًا للنظر كثيرًا. كان خاتمًا عاديًّا من النوع الذي ترتديه أي فتاة.»
ضحك بويكارت في نفسه.
قال: «لنجلس الآن وننتظر المصادفة الثالثة؛ فلا بد من حدوثها.»
بعد بضع دقائق كان ليون في طريقه إلى شارع فليت؛ فقد كان رجلًا ذا فضول مُستعصٍ على الإشباع. ظل لمدة ساعتين في مكتب إحدى الصُّحف الصديقة يدقِّق في قوائم الضحايا التي نُشرت في يوم رأس السنة الجديدة على مدى أربعة أعوام مضت؛ بحثًا عن جنديٍّ اسمُه الأول «أمبروز».
قال المفوض المساعد مُبتهجًا: «رجال العدالة الثلاثة صاروا الآن منظمةً بارزة لها احترامها، حتى إننا صِرنا نمنحكم حمايةً شُرطية.»
لا بد من الأخذ في الاعتبار حقيقة أن هذا الحديث كان بعد العشاء، عندما يتبسَّط المرء قليلًا في الحديث حتى لو كان مفوضًا مساعدًا، خاصةً عندما يستضيف آخرين في منزله الجميل في بلجرافيا. يجب أيضًا الوضع في الاعتبار تلك الحقيقة الأكثر إثارةً، وهي أن أحد أفراد ذلك التنظيم الشهير قد شُوهِد أمام منزل الكولونيل يينفورد في تلك الليلة.
«إنهم شياطين غُرباء. إن سبب مراقبتهم لهذا المكان يحيِّرني. لو كنت أعلم لسمحت للرجل بالدخول!»
نظرت السيدة إيرين بيلفين إلى إحدى الصور على الحائط. كان يبدو أن اهتمامَها برجال العدالة الثلاثة محدودٌ للغاية، ومع ذلك كانت كل كلمة تفوَّه بها الكولونيل يينفورد محفورةً في ذاكرتها.
كانت امرأة في الخامسة والثلاثين، وأرملةً لرجل كان يشغل منصبًا وزاريًّا؛ ومن ثَم كان يمكن أن تدَّعي أنها ذات حظوةً خاصة. كما تزوَّجت من مليونير وترك لها ثروته كاملة، وكانت ذا وجه نضر خلا من أي تجاعيد، وتتَّسم باتزانٍ هادئ لا ينعم به سوى شخص لم يعرف الهمُّ له طريقًا.
قالت بصوت فيه تشدقٌ خفيف: «لا أعرف ما يفعلونه بالضبط. هل هم محقِّقون؟ ولكن بالطبع أعرف ما كانوا عليه فيما مضى.»
ومن لم يكن يعرف هؤلاء الثلاثي الشرس في تلك الأيام عندما كان الجميع ضدهم؟ عندما كان الموت السريع يعقب تهديدهم، وكان كل من يُخالف القانون في الخفاء يرتجف عند ذكر أسمائهم.
قال أحدهم: «لقد أصبحوا مروضين الآن بما يكفي. إنهم لا يُمارسون ألاعيبهم الخبيثة الآن، أليس كذلك يا يينفورد؟»
لم يكن الكولونيل يينفورد واثقًا من ذلك تمام الثقة.
قالت إيرين مُتأملةً: «هذا غريب. لم أفكر فيهم.»
وغرقت في أفكارها تمامًا حتى إنها لم تشعر بعلوِّ صوتها وهي تتحدث.
تساءل يينفورد وهو مُندهش قليلًا: «ولمَ التفكير فيهم بحق السماء؟»
وعند ذلك انتفضت فجأةً وغيَّرت الموضوع.
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل عندما وصلت إلى شقتها الجميلة في بيكاديلِّي، ووجدت جميع الخدم قد خلدوا إلى النوم باستثناء وصيفتها. لما سمعت الوصيفة صوت المفاتيح وهي تدور في القفل أسرعت إلى الصالة، وبوَجلٍ شديد عرفت إيرين بيلفين أن ثَمة خَطبًا ما.
قالت الفتاة بصوتٍ مُنخفض: «إنها تنتظر منذ التاسعة يا سيدتي.»
أومأت إيرين.
سألت: «أين هي؟»
«أدخلتها غرفة المكتب يا سيدتي.»
ناولت المِعطف للوصيفة، ثم عبَرت الممر الواسع وفتحت بابًا ودخلت إلى غرفة المكتب. نهضت المرأة التي كانت تجلس على الأريكة المغطَّاة بالجلد في حرج عندما رأت المرأة المتألِّقة التي دخلت الغرفة. كانت الزائرة ترتدي ملابس رديئة، ولها وجهٌ طويلٌ غير نظيف، وفمٌ متهدِّل على نحوٍ يُثير الشفقة. ألقت نظرةً ماكرة من تحت جفنيها المخفَضين، وعلى الرغم من التواضع في نبرة صوتها فقد حملت أيضًا إيحاءً بالتهديد.
قالت: «لقد ساءت حالته مجددًا بدرجةٍ مُخيفة هذه الليلة يا سيدتي. لقد تركنا جميعًا عملنا من أجل إبقائه في السرير. قال إنه يريد المجيء إلى هنا وهو في حالة هذيان. يقول الطبيب إنه يجب إرساله إلى …» وهنا رفعت عينيها سريعًا وأخفضتهما مرةً أخرى: «جنوب أفريقيا.»
قالت إيرين في هدوء واتزان: «كانت كندا المرة الماضية. كانت رحلةً مكلِّفة يا سيدة دينيس.»
تمتمت المرأة بشيءٍ ما وهي تفرك يديها بمزيد من التوتر.
«لا شك أنني قلقة للغاية بشأن المسألة برمَّتها بصفتي عمته، كما أنني متأكدةٌ من أنه لا يمكنني تحمُّل خمسة آلاف جنيه تكلفة إرساله إلى جنوب أفريقيا.»
خمسة آلاف جنيه! صُدمت إيرين عند سماع الطلب. لقد تكلَّفت الرحلة إلى كندا ثلاثة آلاف، ولكن الطلب في الأساس كان لرحلةٍ واحدة.
قالت بإصرارٍ مُفاجئ: «أريد أن أراه بنفسي.»
ألقت تلك النظرة الماكرة السريعة مرةً أخرى.
«ما كنت لأسمح لك بالإتيان ورؤيته يا سيدتي إلا إذا حضر معكِ رجل. كنت لأخبركِ بأن تُحضري زوجك، ولكني أعلم أنه لم يعُد موجودًا. ما كنت لأتحمَّل المسئولية، ما كنت لأفعل ذلك في الحقيقة. وهذا ما جعلني لا أخبركِ مطلقًا بالمكان الذي نعيش فيه؛ تحسبًا لئلا يُغويكِ عقلكِ لفعل ذلك يا سيدتي؛ فهو لم يعُد يفكر في قطع رقبتكِ بقدر ما يفكر في رؤيتك!»
تصلَّب الوجه الجميل بابتسامة ازدراء.
قالت إيرين بهدوء: «لست واثقةً تمامًا من أن هذا يُخيفني حقًّا. أنت تريدين خمسة آلاف جنيه، متى ستنطلق الرحلة؟»
قالت المرأة مُتلهفةً: «السبت القادم يا سيدتي. ويقول جيم إنه ينبغي دفع المال نقدًا.»
أومأت إيرين.
قالت: «حسن جدًّا، ولكن يجب ألا تأتي إلى هنا مرةً أخرى حتى أرسل في طلبك.»
«أين سأحصل على المال يا سيدتي؟»
«هنا في الثانية عشرة غدًا. وأيضًا، أرجو أن تجمِّلي مظهركِ قليلًا عند قدومك.»
ابتسمت المرأة.
قالت ساخرة: «ليس لديَّ مظهركِ ولا ملابسكِ يا سيدتي. كل فلسٍ أكسبه يضيع على جيم المسكين، في محاولةٍ لإنقاذ حياته، في حين أنه لو حصل على حقوقه لأصبح لديه ملايين.»
اتجهت إيرين إلى الباب وفتحَتْه، وانتظرت في الممر إلى أن أوصلت الوصيفة الزائرة غير المرغوب في وجودها إلى الخارج.
قالت إيرين: «افتحي النوافذ وجدِّدي هواء الغرفة.»
صعدت إلى الطابق العُلوي، وجلست أمام مزينتها وهي تتطلع إلى صورتها في المرآة مُتأملةً.
بعد بُرْهة نهضت فجأةً واتجهت إلى الهاتف. رفعت السماعة ثم أدركت أنها لا تعرف الرقم. بعد البحث في دليل الهاتف، حصلت على المعلومات التي أرادتها. كان مقرُّ وكالة تريانجل للتحقيقات في شارع كيرزون. وقالت في نفسها إنهم سيكونون نائمين في هذا الوقت، وحتى لو لم يكن أعضاء هذا الاتحاد غير العادي نائمين، فهل من المحتمل أن يشغلوا أنفسهم بالرد في هذه الساعة المتأخرة؟
وما كادت تطلب الرقم حتى أُجيبَ اتصالها. سمعت صوت السماعة وهي تُرفَع وسمعت رنينًا مميزًا لجيتار، ثم سمعت صوتًا مُتحمسًا يسأل مَن المتحدِّث.
قالت: «السيدة إيرين بيلفين. أنت لا تعرفني، ولكن …»
«أعرفكِ جيدًا يا سيدة إيرين.» استطاعت أن تستشفَّ أن هذا المجهول الذي يُخاطبها كان يبتسم وهو يُجيبها. «لقد تناولتِ العشاء في منزل الكولونيل يينفورد الليلة وغادرت المنزل في الثانية عشرة إلا اثنتَي عشرة دقيقة. وأمرت السائق أن يعود بك من طريق هايد بارك.»
توقَّف صوت الجيتار. سمعت صوتًا بعيدًا يقول: «استمعي إلى ليون؛ إنه لا يختلف عن شيرلوك هولمز.» ثم سمعت صوت ضحكة. ابتسمَت في انسجام مع الموقف.
«هل تريدين رؤيتي؟» كان ليون جونزاليس من يتحدث وقتئذٍ.
سألت: «متى يمكنني رؤيتك؟»
«الآن، سآتي على الفور إذا كنت في مأزقٍ خطير. أعلم أنكِ في مشكلة.»
تردَّدتْ؛ ومن ثَم اتخذت قرارها على الفور وعقدت العزم.
«حسن جدًّا. هل ستأتي؟ أنا في انتظارك.»
بسبب توتُّرها، أسقطت السماعة بينما كان يُجيبها.
بعد خمس دقائق، أدخلت الوصيفة رجلًا نحيفًا حسن المظهر. كان يرتدي بذلةً سوداء، وكان هناك تشابهٌ غريب بينه وبين مُحامٍ بالمحكمة العليا كانت تعرفه. كانت تحيَّتها له مُرتبكةً ومُفتقدةً للباقة؛ إذ كان الفاصل الزمني أقصرَ من أن تقرِّر ما يجب أن تُخبره به وكيف يجب أن تبدأ.
كانت في المكتبة حين أدلت باعترافاتها لزائرها القادم في وقتٍ متأخر الذي عبق المكانُ برائحته الكريهة لأنفها الحساس، وأنصت إليها دون أي تعبيراتٍ على وجهه.
«… كنت صغيرة. هذا عذري الوحيد، وكان هو شابًّا في غاية الوسامة والجاذبية، والسائق لا يُعتبر خادمًا؛ أعني أنه يمكن لشخصٍ أن يكوِّن صداقةً معه بينما لا يمكنه ذلك، حسنًا، مع الخدم الآخرين.»
أومأ ليون.
«يمكنك أن تُسميه جنونًا وقبحًا وكل شيء آخر تشاء. لما طرده أبي أحسستُ أن قلبي سينفطر.»
سأل جونزاليس بنبرةٍ جادَّة: «هل عرف والدك؟»
هزَّت رأسها.
«لا، أبي كان سريع الغضب، وعنَّف جيم بسبب خطأ لم يرتكبه وانتهى الأمر. تلقَّيت منه خطابًا واحدًا، ولم يصلني منه أي أخبار بعد ذلك حتى عامين أو ثلاثة بعد زواجي، حين تلقَّيت خطابًا من تلك المرأة تُخبرني فيه بأن ابن أخيها مُصاب بداء السُّل، وأنها تعرف كم كنا صديقين حميمين.»
لدهشتها، كان زائرها يبتسم؛ وتأذَّت لذلك في البداية.
قال ردًّا على دهشتها: «أنت لم تُخبريني بأكثر مما خمَّنته.»
«خمَّنت … ولكنك لم تعرف …»
قاطَعها بأسلوبٍ فظ.
«هل كنت سعيدةً في زواجكِ الثاني يا سيدة إيرين؟ أنا لا أحاول الخروج عن الموضوع.»
تردَّدت.
«كنت سعيدة للغاية. كان زوجي يكبرني بحوالَي ثلاثين عامًا. لماذا تسأل؟»
ابتسم ليون مرةً أخرى.
«أنا عاطفي، وهذا اعترافٌ صادم لشخصٍ يتباهى بعقله العلمي. أنا شغوف بقصص الحب، سواء الخيالية أو الحقيقية. ألم يكن جيم هذا سعيدًا؟»
هزَّت رأسها.
قالت: «نعم.» ثم أضافت ببساطة: «لقد أحببته، وما زِلت أحبه. هذا هو الجزء المروِّع من القصة. يروعني التفكير فيه وهو يرقد مريضًا وهذه العمة الفظة تعتني به …»
قاطَعها ليون بهدوء: «إنها صاحبة المنزل؛ فليس له أقارب.»
حينئذٍ هبَّت واقفةً وحملقت فيه.
«ما الذي تعرفه؟»
أصدر إشارةً كان لها تأثير السحر في تهدئتها.
«لقد ذهبت إلى منزل الكولونيل يينفورد الليلة، وتصادف أن علِمت بأنكِ ضيفة لديه، وأردت أن أرى فمك. أعتذر عن غموضي، ولكني أحكم على النساء من أفواههن؛ التجربة خير برهان؛ ولذلك عرفت الساعة التي غادرت فيها.»
نظرت إليه إيرين بيلفين عابسةً.
قالت: «لا أفهم يا سيد جونزاليس. ما شأن فمي بتلك المسألة؟»
أومأ ببطء.
«لو كان لكِ فمٌ من نوعٍ معيَّن، فما كنت لأهتم؛ لأن …»
انتظرت، ثم تحدَّث بعد قليل.
«ستجدين جيمس أمبروز كلينز في جناحه بفندق بيكاديلِّي. خاتمكِ الذي أعطيته إياه في إصبعه الخنصر، ولا توجد صور في غرفته سوى صورتك.»
مد يده كي يسندها وهي تجلس على الكرسي بعدما شحب لونها وأخذت ترتعش.
«إنه رجلٌ ثري للغاية ولطيف للغاية، وغبي للغاية، وإلا لأتى لرؤيتك.»
توقَّفت سيارة أمام فيلا مزخرَفةٍ في قرية لانجلي ونزلت منها امرأةٌ رديئة الثياب. فتح البابَ رجلٌ ضخم، ودخل الاثنان إلى الردهة الصغيرة المليئة بالأثاث. ارتسمت ابتسامة رضًا على وجه السيدة دينيس.
قالت وهي تُلقي معطفها القديم: «كل شيء على ما يُرام؛ ستدفع.»
التفت الرجل ذو المظهر الرث الذي يرتدي الخاتم الماسي إلى أخته الأخرى.
قال بنبرة تُنذِر بسوء: «بمجرد أن نحصل على المال سنُغادر إلى كندا. لا أريد أن أُصاب بالخوف الذي أُصبتُ به في يوم الثلاثاء، لماذا كل هذا التأخير يا ماريا؟»
قالت وهي تفرك يديها عند المدفأة: «انفجر الإطار على طريق جريت ويست. ما الذي يُقلقك يا شاءول؟ لم نقترف شيئًا. لم يحدث أن هدَّدناها قط، وإلا لأصبحت جريمة. لم نطلب منها سوى مساعدة شخص مسكين مريض، وهذه ليست جريمة.»
استمرَّ النقاش بينهم في إيجابيات المسألة وسلبياتها لمدة ساعة تقريبًا، ثم سمعوا طَرقًا على الباب.
كان الرجل هو من ذهب كي يُقابل الضيف القادم.
قال ليون جونزاليس مُبتهجًا: «إذا لم أدخل فستدخل الشرطة. سيصدر أمر ضبط وإحضار في صباح الغد، وسيُلقى القبض عليكم بتهمة التآمر والاحتيال.»
بعد بضع ثوانٍ، كان يستجوب مجموعةً من أشخاصٍ يرتعدون من الخوف.
كان بويكارت وجورج مانفريد ينتظرانه حين عاد في الساعات الأولى من الصباح.
قال ليون وهو يمرِّر عينه سريعًا على ملاحظاته: «إنها قضيةٌ فريدة. أمبروز رجلٌ مُتعلم، وقع في حب ابنة إيرل كارسليك. يفقد وظيفته، ولأنه يحب الفتاة يقرِّر ألا يتواصل معها. يلتحق بالجيش، وقبل إرساله إلى خارج البلاد يكتب إلى صاحبة المنزل الذي يعيش فيه ويطلب منها أن تأخذ مظروفًا مغلقًا مليئًا بخطابات من إيرين وتحرقه. في الوقت الذي تتلقى فيه هذه التعليمات، تصِلها أخبار بأن أمبروز قُتِل. ونظرًا للفضول الذي يُميز الطبقة التي تنتمي إليها صاحبة المنزل السيدة دينيس، تفتح المظروف وتعلم ما يكفي لكي تستطيع ابتزاز هذه الفتاة البائسة، ولكن أمبروز لم يمت، بل أُعفيَ من الخدمة في الجيش بسبب جروح أُصيبَ بها؛ وبناءً على دعوة قبلها من جندي من جنوب أفريقيا ذهب إلى كيب وتحسَّنت صحته هناك.
في هذه الأثناء، تعاظمت ثروة عائلة دينيس. لقد زعموا أن «جيم» — كما يُسمونه — مريض بشدة، وكلهم ثقة في أن إيرين لم تسمع بموته. وبهذه الوسيلة، وبناءً على تهديدها بإخبار زوجها، استولَوا منها على ما يُقارب عشرين ألف جنيه.»
سأل بويكارت: «ما الذي سنفعله معهم؟»
أخرج ليون شيئًا من جيبه وكان خاتمًا ماسيًّا برَّاقًا، ثم قال: «أخذت هذا مقابلًا لمشورتي.»
ابتسم جورج.
«وماذا كانت مشورتك يا ليون؟»
قال ليون: «أشرت عليهم بالخروج من البلاد قبل أن يعثر عليهم أمبروز.»