مروج الأوراق المالية
***
كان الرجل الذي أدخله رايموند بويكارت إلى حضرة مانفريد يبدو سيدًا نبيلًا وسيمًا ذا مظهر عسكري على مشارف الستين. كان لباسه في غاية الأناقة لا غبار عليه، كما كان له مِشية الجندي وحضوره. اعتقد مانفريد أنه جنرالٌ مُتقاعد، ولكنه رأى به شيئًا يتجاوز ما يُفشيه التصنع الخارجي الذي غلَّف أسلوبه ومظهره. كان هذا الرجل محطَّمًا. كان على وجهه تعبيرٌ معيَّن لا يمكن تخمينه، ألمٌ مُتفاقم في أعماقه، لم تعجز فطنة أكثر أفراد رجال العدالة الثلاثة دهاءً ومكرًا عن تفسيره في لمح البصر.
وضع بويكارت كرسيًّا للضيف وانسحب مُتباطئًا، ثم قال الضيف: «اسمي بول؛ اللواء سير تشارلز بول.»
قال مانفريد على الفور: «وأتيت لمقابلتي بشأن السيد بونسور ترو.» وضحك حين انتفض الآخر مُتوترًا. قال مانفريد بلطف: «لا، أنا لست ذكيًّا للدرجة. لقد جاء كثيرون لمقابلتي بشأن السيد بونسور ترو، وأظن أن بإمكاني توقُّع قصتك. كنت تستثمر في واحدة من منشآته النفطية وخسرت مبلغًا كبيرًا من المال. هل كان الاستثمار في النفط؟»
قال الآخر: «القصدير، القصدير النيجيري. هل سمعت عن المصيبة التي حلَّت عليَّ؟»
هزَّ مانفريد رأسه.
«سمعت عن المصائب التي حلَّت على رءوس العديدين ممن وثقوا في السيد ترو. كم المبلغ الذي خسرته؟»
أخذ العجوز نفسًا عميقًا.
قال: «خمسة وعشرون ألف جنيه؛ كل فلس أمتلكه. أبلغت الشرطة ولكنهم قالوا إنهم لا يمكنهم فعل شيء. كان منجم القصدير موجودًا بالفعل، ولم يقدِّم ترو أي معلومات مضلِّلة في أي خطاب أرسله إليَّ.»
أومأ مانفريد.
قال: «قضيتك مكرَّرة أيها الجنرال. لا يوقع ترو نفسه بين براثن القانون مطلقًا. إن جميع معلوماته المضلِّلة تُصاغ على طاولة غداء، حين لا يوجد أي شهود، وأظن أنه أشار في خطاباته التي أرسلها إليك إلى الطبيعة المضاربية لاستثمارك، وحذَّرك من ألا تضع كل أموالك في أوراقٍ مالية من الدرجة الأولى.»
قال الجنرال: «كان على طاولة العشاء. ساوَرني بعض الشك في المسألة، وطلب مني أن أتناول العشاء معه في فندق وولكلي. أخبرني بوجود كميات هائلة من القصدير في متناوَله، وأنه على الرغم من أنه لا يستطيع التنبؤ بمبلغ الأرباح — إنصافًا لشركائه — الذي يمكن أن تحقِّقه الشركة على نحوٍ دقيق، فقد طمأنني بأن أموالي ستتضاعف في غضون ستة أشهر. لم أكن لأمانع كثيرًا.» تابَع العجوز وهو يرفع يده المُرتعشة إلى شفتيه: «ولكن يا سيد مانفريد، أنا لديَّ ابنة؛ فتاةٌ شابَّة ذكية لها مستقبلٌ باهر، في رأيي. لو كانت ولدًا لأصبحت مخطَّطًا استراتيجيًّا. تمنَّيت أن أترك لها ما يُغْنيها في حياتها، ولكن ما حدث يعني الخراب، الخراب! ألا يوجد أي شيء يأتي بهذا المجرم بين يدَي العدالة؟»
لم يردَّ مانفريد على الفور.
«لا أعلم أيها الجنرال إن كنت تعلم أنك الشخص الثاني عشر الذي أتى إلينا خلال الأشهر الثلاثة الماضية. السيد ترو محصَّن تمامًا بقوة القانون وبالخطابات؛ ما يجعل ملاحقته أمرًا شِبه مستحيل.» وابتسم ابتسامةً باهتة ثم أضاف: «مرَّ علينا وقتٌ كنت أنا وأصدقائي سنتَّخذ أشد الخطوات للتعامل مع هذا الرجل، وأعتقد أن طريقتنا كانت لتصبح فعَّالة، ولكن الآن»، وهزَّ كتفيه مُردِفًا: «نحن مقيَّدون نوعًا ما. من الذي عرَّفك بهذا الرجل؟»
«السيدة كالفورد كرين. قابَلتها على العشاء عند صديقٍ مشترك، وطلبت مني تناول العشاء معها في شقتها في مجمع هانوفر مانشنز السكني.»
أومأ مانفريد مرةً أخرى، فلم يتفاجأ البتةَ بهذه المعلومة.
قال: «أخشى أنه لا يمكنني منحك وعدًا قاطعًا. الشيء الوحيد الذي سأطلبه منك هو أن تبقى على اتصال معي. أين تسكن؟»
في ذلك الوقت كان الزائر يعيش في منزلٍ صغير بالقرب من ترورو. دوَّن مانفريد العنوان، وبعد بضع دقائق كان يقف بجوار النافذة يُراقب العجوز المُنهَك وهو يسير ببطء في شارع كيرزون.
دخل بويكارت.
قال: «لا أعرف شيئًا عن أعمال هذا الرجل، ولكن لديَّ إحساسًا بأنه يتعلَّق بصديقنا ترو. جورج، يجب أن نتمكن من الإيقاع بهذا الرجل. لما كنا على الإفطار هذا الصباح، قال ليون إنه توجد بركةٌ عميقة في نيو فورست، حيث يمكن لرجلٍ مثبَّت جيدًا بالسلاسل والأوزان أن يبقى لمدة مائة عام دون أن يكتشفه أحد. من وجهة نظري، لا أؤيد الإغراق مطلقًا.»
ضحك جورج مانفريد.
قال: «ضع القانون في اعتبارك يا صديقي. لن يكون هناك قتل، على الرغم من أن الرجل الذي سرق هذا البائس الجديد بطريقةٍ منهجية يستحقُّ الموت بإغراقه في رصاصٍ مغلي.»
لم يستطع ليون جونزاليس هو الآخر تقديم أي حلول عندما استُشير بعد الظهيرة.
«الشيء الغريب أن ترو لا يملك أي أموال في ذلك البلد. إنه يمتلك حسابين بنكيين وكلاهما مكشوف. ولا ينبغي أن أتفاجأ لو أنه كان يمتلك أموالًا سائلة في مكانٍ ما، وفي هذه الحالة كان سيصبح بسيطًا. إنني أُراقبه منذ نحو عام، وهو لم يسافر إلى الخارج قط، وفتَّشت شقته المُتواضعة في ويستمنستر مراتٍ كثيرة، لدرجة أنني يمكنني الذهاب إلى المكان الذي يحتفظ فيه برابطات عنقه وأنا معصوب العينين.»
حدث كل هذا في العام الماضي، ولم ترِد مزيد من الشكاوى بشأن مروج الأوراق المالية المُحتال هذا. ولم يتوصل أحد من الرجال الثلاثة إلى حل لتلك القضية عند اختفاء مارجريت لين، الذي كان لافتًا نوعًا ما.
لم تكن مارجريت شخصًا بالغ الأهمية. كانت بكل المعايير الاجتماعية شخصًا غير مهم، مثل شخص قد تُقابله خلال نزهة عبر ويست إند في لندن. كانت تشغل وظيفة خادمة لدى السيدة الموقَّرة كالفورد كرين، وقد خرجت في مساء أحد الأيام إلى الصيدلية لشراء زجاجة من أملاح الشم لسيدتها، ولم تعُد مرةً أخرى.
كانت جميلة، وفي التاسعة عشرة من عمرها، ولم يكن لها أصدقاء في لندن؛ نظرًا لكَوْنها يتيمةً على حد قولها، وعلى حد ما هو معلوم، لم يكن لديها أي مقرَّبين بالمعنى العام للكلمة، ولكن حسبما أشارت الشرطة لم يكن من المحتمل تمامًا أن تُمضي خادمةٌ جميلة، ذات لسان عذب وأسلوب ساحر، بالإضافة إلى مفاتنها الجسدية الجذَّابة، عامًا في لندن دون أن تكتسب «معجبًا».
لما لم ترضَ السيدة كالفورد كرين عن تحقيقات الشرطة، اتصلت برجال العدالة الثلاثة لمساعدتها. بعد أسبوع من اختفاء مارجريت لين، جاء مُحامٍ مشهور عبر حلبة الرقص المصقولة في مَلهى ليتر لتحية الرجل الذي جلس منعزلًا وحيدًا على طاولةٍ صغيرة جدًّا بالقرب من حافة الحلبة.
ابتسم وقال: «سيد جونزاليس! هذا آخر مكان في العالم أتوقَّع أن أراك فيه! في لايمهاوس، نعم، التجول في غياهب عالم الجريمة والرذيلة، نعم، ولكن ملهى ليتر … في الحقيقة، ظننتك شخصًا آخر.»
ابتسم ليون ابتسامةً باهتة، وسكب المزيد من نبيذ الراين في كأسه الطويلة الرفيعة وارتشفه.
قال مُتشدقًا: «عزيزي السيد ثيرلس، هذا عالم الجريمة الخاص بي. هذا الرجل البدين الذي ينفث الدخان بتأنُّق وكبرياء مع تلك السيدة المُمتلئة هو بيل سايكس. صحيحٌ أنه لا يقتحم المنازل ولا يرتدي قميصًا مضادًّا للرصاص، لكنه يبيع الأسهم الهابطة للأرامل المقتصدات والساذجات، وقد تضخَّمت ثروته من تلك العائدات. يومًا ما سآخذ هذا الرجل وأحطِّم قلبه.»
حاول ثيرلس ذو الوجه الأحمر إخفاء ضحكه وهو جالس بجوار الآخر.
«سيكون هذا صعبًا. السيد بونسور ترو رجلٌ فاحش الثراء، ولا يمكن تدميره مهما بلغ من الحقارة ما بلغ.»
ثبَّت ليون سيجارة في أنبوبٍ كهرماني طويل، وبدا غارقًا تمامًا في العملية التي أجراها بعنايةٍ بالغة.
قال: «ربما لم يكن يجدر بي أن أتفوَّه بهذا التهديد المروِّع. ترو صديق لأحد عملائك، أليس كذلك؟»
تفاجأ ثيرلس تمامًا وقال: «السيدة كرين؟ لم أكن أعلم بهذا الأمر.»
قال ليون: «لا بد أنني أخطأت.» ثم غيَّر الموضوع.
كان يعلم جيدًا أنه لم يكن مُخطئًا؛ فذاك المروِّج البدين للأسهم المالية كان ضيفًا بمفرده على السيدة كرين في الليلة التي اختفت فيها مارجريت لين عن الأنظار، والأمر الغريب أن السيدة كرين لم تذكُر هذه الواقعة المُثيرة للشرطة ولا لوكالة تريانجل.
كانت أرملةً شابَّة وجميلةً ذات ملامح قاسية، تعيش في شقةٍ مُتواضعة بالقرب من محكمة هانوفر، ويُعتقد أن مصدر دخلها هو تركةٌ تركها لها زوجها الراحل. كان ليون رجلًا فضوليًّا للغاية، ومع كل التحقيقات الشديدة الدقة التي أجراها لم يكتشف أنها كانت مُتزوجة أو أن زوجها قد تُوفي. كل ما كان يعرفه عنها أنها ذهبت في رحلاتٍ كثيرة إلى الخارج، وأحيانًا إلى أماكن بعيدة مثل رومانيا، وأنها دائمًا ما كانت تصطحب مارجريت المفقودة، وأنها أنفقت المال — ليس بحريةٍ ولكن ببذخ — واستمتعت بأشكالٍ رائعة من الترفيه في باريس وروما، ومرةً واحدة في بروكسل، وبدت راضيةً تمامًا عن العودة من حياة لا بد أنها كلَّفتها ما لا يقل عن سبعمائة وخمسين جنيهًا إسترلينيًّا في الأسبوع، إلى المنزل المُتواضع الكائن بالقرب من محكمة هانوفر الذي كان إيجاره سبعمائة وخمسين جنيهًا في السنة، ولم تتجاوز فواتير منزلها عشرين جنيهًا في الأسبوع.
شاهَد ليون الرقص لمدةٍ أطول قليلًا، وأشار إلى النادل ودفع الفاتورة. عاد المُحامي إلى حفله. رأى السيد بونسور ترو في وسط طاولة الشواذ، وابتسم في نفسه وتساءل ما إذا كان مروِّج الأسهم المالية سيظل مُبتهجًا لو علِم أن الجيب الأيمن لمعطف ليون جونزاليس يحوي نسخةً من عقد زواج عثر عليه هذا الصباح.
كان ما قاد ليون جونزاليس إلى سومرست هاوس هو إلهامه.
نظر في ساعته، وبعد مرور ساعة لم ينقطع الأمل في العثور على السيدة كرين. كانت سيارته تنتظر في المرآب في ويلينجتون بليس، وبعد عشر دقائق توقَّف أمام أبواب هانوفر مانشنز. أخذه المصعد إلى الطابق الثالث. دقَّ جرس الشقة رقم ١٠٩. ظهر ضوء في النافذة المشبكة، وكانت السيدة كرين هي من فتحت له بنفسها. من الواضح أنها كانت تنتظر شخصًا آخر؛ إذ أخذتها المفاجأة لبرهة.
«يا إلهي، السيد جونزاليس!» ثم قالت بسرعة: «هل لديك أخبار عن مارجريت؟»
قال ليون: «لست متأكدًا تمامًا إن كان لديَّ أخبار أم لا. هل يمكنني التحدث معكِ بضع دقائق؟»
لا بد أن شيئًا في نبرة صوته أثار قلقها.
«أظن أن الوقت متأخِّر، أم لك رأيٌ آخر؟»
توسَّل إليها قليلًا: «هذا سيوفِّر عليَّ رحلة في الصباح.» وببعض التردُّد سمحت له بالدخول.
لم تكن الزيارة الأولى له إلى شقتها، وهو يعلم جيدًا أنه على الرغم من تواضع طريقة عيشها نوعًا ما، فإن الشقة نفسها مؤثَّثة بأثاثٍ فاخر.
قدَّمت له الويسكي والصودا، وقبِل المشروب ولكنه لم يحتسِه.
لما جلست، قال: «أريد أن أسألك منذ متى ومارجريت تعمل في خدمتك.»
ردَّت: «منذ أكثر من عام.»
«هل هي فتاةٌ جيدة؟»
«جيدة جدًّا، ولكني أخبرتك بشأنها من قبل. لقد كان غيابها صدمةً شديدة لي.»
«هل يمكن أن نُطلِق عليها أنها بارعة؟ هل كانت تتحدث أي لغات أجنبية؟»
أومأت السيدة كرين.
«إنها تتحدث الفرنسية والألمانية بطلاقة؛ وهذا ما جعل منها كنزًا. لقد نشأت مع أسرة في الألزاس، وأظن أن أحد والديها فرنسي.»
«لماذا أرسلتِها إلى الصيدلي لإحضار أملاح الشم؟»
تململت المرأة في مكانها وقد نفد صبرها.
«أخبرتك من قبل — كما أخبرت الشرطة — أنني كنت أُعاني صداعًا شديدًا، ومارجريت بذاتها هي من اقترحت أن تذهب إلى الصيدلي.»
«ألم يكن هناك سببٌ آخر؟ ألم يكن من الممكن أن يذهب السيد ترو؟»
كادت تقفز من مكانها عند سماع هذا.
قالت: «السيد ترو؟ لا أعرف ماذا تقصد.»
«كان السيد ترو معكِ في تلك الليلة. كنت تتناولين العشاء معه «بمفردكما». في الحقيقة، لقد كنتما تتناولان العشاء وكأنكما زوجان.»
شحب لون المرأة وانقطعت عن الكلام لبضع لحظات.
«لا أعرف لماذا تُخفين أمر زواجك يا سيدة كرين، ولكن أعلم أنكِ مُتزوجة من السيد ترو منذ خمسة أعوام فحسب، وأعرف أنكِ كنتِ شريكته؛ بمعنى أنكِ ساعدتِه في … في أعماله المالية. والآن يا سيدة ترو، أريد منكِ أن تكشفي أوراقك. عندما سافرت إلى الخارج أخذت هذه الفتاة معك، أليس كذلك؟»
أومأَتْ من دون أن تتكلم.
«ما سبب سفركِ إلى باريس وروما وبروكسل؟ هل كان لديكِ سببٌ آخر غير الترفيه؟ هل كانت هناك أسبابٌ تتعلق بالعمل لسفرك؟»
رآها تلعق شفتيها الجافَّتين، ولكنها لم ترُد.
«دعيني أوضِّح لك الأمور أكثر. هل لديك في تلك المدن أي خِزانة خاصة في أيٍّ من شركات الخدمات المصرفية أو لديكِ ودائع في صناديق أمانات مؤجَّرة؟»
هبَّت واقفةً وقد فغرت فاهها من الدهشة.
سألته بسرعة: «من أخبرك؟ وما هو عملك بالتحديد؟»
لما كانت تتحدث جاء صوت جرس لطيف، واستدارت نصف استدارة.
قال ليون: «اسمحي أن أفتح لكِ الباب.» وقبل أن تتحرَّك كان في آخر الردهة، وفتح الباب على مصراعيه.
كان ثَمة خبيرٌ ماليٌّ مذهول يقف على الباب. صُعِق من الذهول لما رأى ليون.
قال ليون بلطف: «تفضَّلْ يا سيد ترو. أعتقد أن لديَّ بعض الأخبار المهمة لك.»
قال الرجل العجوز مُتلعثمًا: «من … من أنت؟» وأخذ يُحملق في الزائر، وفجأةً تعرَّف عليه. «يا إلهي! أحد أفراد رجال العدالة الأربعة، أليس كذلك؟ حسنًا، هل وجدت تلك الفتاة؟»
أدرك في تلك اللحظة أن السؤال في ذاته كان خطأً فادحًا. ما كان له أن يبدو مهتمًّا بتلك الخادمة المفقودة.
قال ليون: «لم أجِدها، وأظن أن العثور عليها مهمةٌ صعبة على أيٍّ منا.»
في ذلك الوقت كانت السيدة كرين قد تمالكت نفسها.
«إنني سعيدة للغاية بمجيئك يا سيد ترو. كان هذا الرجل يُدلي بأقوالٍ من أعجب ما يكون عني وعنك. إنه يظن أننا مُتزوجان. هل سمعت شيئًا مُضحكًا كهذا من قبل؟»
لم يُحاول ليون أن يفنِّد سخافة كلامه حتى عادوا إلى غرفة الاستقبال الصغيرة.
قال السيد بونسور ترو مُتباهيًا بنفسه: «والآن يا سيدي، ما الذي تقصده بقولك …»
قاطَعه ليون.
«سأُخبرك باختصار بما أخبرت به زوجتك، وفيما يتعلَّق بمسألة زواجكما؛ فهذه حقيقة لا جدال فيها، لدرجة أنني أُحاول أن أُريك عقد الزواج الموجود في جيبي. لست هنا كي أوبِّخك يا ترو أو أوبِّخ هذه السيدة. ومسألة معاملتك لتُعساء الحظ الذين استثمروا الأموال معك هي مسألةٌ تتعلق بضميرك. ما أرغب في معرفته هو ما إذا كانت توجد مدنٌ معيَّنة خارج البلاد تمتلك فيها خزائن أو صناديق ودائع تحفظ ثروتك أم لا.»
لم يخفَ مَغزى السؤال على السيد ترو ذي الجسم المُمتلئ.
قال: «توجد ودائع معيَّنة لي خارج البلاد، ولكني لا أفهم تمامًا.»
«هل ستكون صريحًا معي تمامًا يا سيد ترو؟» كان في نبرة صوت ليون لمحةٌ من نفاد الصبر. «هل لك خزائن في باريس أو روما أو بروكسل؟ وهل من عادتك أن تحمل مفاتيح تلك الخزائن معك؟»
ابتسم السيد بونسور ترو.
«لا يا سيدي، لديَّ أماكن أضع فيها الودائع، وهي خزائن في الحقيقة، ولكن لها كلمات سرية.»
تهلَّل وجه ليون: «أها! وهل تحمل الكلمات السرية بأي حال في جيبك؟»
تردَّد ترو لبرهة، ثم أخرج من جيب معطفه دفترًا ذهبيًّا صغيرًا بحجم طابع البريد تقريبًا، ومثبَّتًا بسلسلة من البلاتين.
«نعم، أحملها هنا، ولكن ما الذي يجبرني على مناقشة أعمالي الخاصة؟»
«هذا كل ما أردتُ معرفته.»
حدَّق في الزائر. كان ليون يضحك ضحكةً خفيفة لكنها نابعة من القلب، وأخذ يفرك يديه وكأنه استمع إلى أفضل مزحة في العالم.
قال: «أعتقد أنني فهمت الآن، وأعرف أيضًا لماذا أرسلتِ الآنسة مارجريت لين إلى الصيدلي كي تجلب بعض أملاح الشم. لقد كانت هذه الأملاح لك!» وأشار بإصبعه متَّهِمًا الخبير المالي.
صُعِق ترو من الذهول.
«هذا صحيح؛ أصابني تعبٌ مُفاجئ.»
تدخَّلت السيدة كرين: «لقد أُغشيَ على السيد ترو، وأرسلت مارجريت إلى غرفتي كي تجلب بعض أملاح الشم، ولكنها لم تجد. وهي من تطوَّعت لشرائها من الصيدلية.»
مسح ليون على عينيه.
قال: «هذه مزحةٌ رائعة، وبِتُّ أستطيع الآن إعادة ترتيب القصة بأكملها. متى زُرْت السيدة كرين في ذلك المساء؟»
فكَّر ترو.
«حوالَي السابعة.»
«هل من عادتك أن تشرب عصائر الكوكتيل؟ وهل تنتظر هذه العصائر في غرفة الطعام عادةً؟»
صحَّحت السيدة كرين: «غرفة الاستقبال.»
تابَع ليون: «تناولت عصير كوكتيل ثم خرجت فجأةً. بعبارةٍ أخرى، شخصٌ وضع لك نقاطًا من مادةٍ مخدِّرة في شرابك. بالطبع لم تكن السيدة كرين في الغرفة. لما أُغشيَ عليك تفحَّصت مارجريت لين دفترك، وحصلت على كلمات فك الشفرة التي أرادتها. بعد ذلك سافرت إلى الخارج مع السيدة كرين. وهكذا عرفت طريقتك التحايلية الصغيرة في تخزين أموالك غير المشروعة.»
تجرَّد وجه ترو من حُمْرته الزاهية، وصار شاحبًا شُحوب الموتى.
قال بصوتٍ أجش: «شفرة كلمة السر؟ حصلت على شفرة كلمة السر؟ يا إلهي!»
ودون أن يتفوَّه بكلمةٍ أخرى اندفع خارج الغرفة، وسمعا دويَّ الباب الأمامي وهو يُغلِقه خلفه بقوة.
قضى ليون وقتًا طويلًا في اللهو، ولكنه وصل إلى شارع كيرزون في وقت العشاء.
قال: «لن أُجري تحقيقات بعد الآن، ولكن ربما أصبحت تلك الخزائن في باريس وروما فارغةً الآن، وربما أصبحت تلك الفتاة الألمعية الذكاء في وضعٍ يسمح لها بمساعدة والديها، ولا شك أنها ابنة أحد العملاء الذين خدعهم السيد ترو.»
سأل مانفريد: «وكيف تعرف أن لها والدين؟»
ردَّ ليون بصراحة: «لا أعرف، ولكني متأكدٌ من أن لها أبًا. لقد أرسلت برقيةً إلى الجنرال بول الأسبوع الماضي كي أعرف إن كانت ابنته الذكية تمكث معه؛ ومن ثَم ردَّ عليَّ ببرقيةٍ يقول فيها إن ابنته «مارجريت سافرت إلى الخارج كي تُكمِل دراستها التي فاتتها السنة الماضية.» وأعتقد أن عملها خادمةً لدى شريكٍ مُحتال في الأسهم المالية هو دراسة في حد ذاته.»