رسالة إلى من يأتي
كان «تختخ» مرهقًا … ولم يكُن في استطاعته أن يجري طويلًا … خاصةً وخلفه هؤلاء الأعراب الذين يجرون كالشياطين في الرمال … وخطرَت في باله فكرة نفَّذها على الفور … قرَّر أن يعود إلى الخيمة ويختفي فيها … إن أحدًا لن يتصوَّر أبدًا أنه ممكن أن يعود إلى الخيمة … ونفَّذ فكرته على الفور … ولكنه لم يكَد يقترب حتى برز له رجل من بين الصخور … رجل من الملثَّمين يحمل بندقيةً سدَّدها إلى صدر «تختخ» قائلًا: قِف مكانك!
ووقف «تختخ» مكانه … ولكن في هذه اللحظة … انطلق من بين الصخور جسم كالصاروخ انقضَّ على الرجل من الخلف … وسقطا معًا على الأرض … ولم يكن هذا إلا «محب» … وسرعان ما كان «تختخ» يشترك في الصراع … واستطاع أن يصل إلى البندقية التي سقطَت بعيدًا، وبضربةٍ واحدةٍ من قاعدتها الخشبية على رأس الرجل … انهار ساكتًا على الرمال.
وقال «محب»: إنني أعرف مكان الإبل … إنها الطريقة الوحيدة لإنقاذنا.
تختخ: أين هو؟
محب: إنه في الجانب الآخر من الواحة.
تختخ: وكيف سنمر في الواحة؟
محب: جاءتني فكرة!
وانحنى على الرجل الملثَّم وخلع عمامته الواسعة … ثم خلع جلبابه الأبيض … ولبسهما بسرعةٍ فائقة … كانَت الملابس مُتسعةً نوعًا، ولكن كان من الصعب رؤية ذلك في الظلام.
قال «محب»: والآن … أنت أسيري … سر أمامي!
وسار «تختخ» أمام «محب» الذي حمل البندقية وتبعه … وخلفهما مشى «زنجر» مختفيًا في الظلام.
كانَت حالة من الهرج والمرج قد سادَت الواحة … وكل واحدٍ يجري في اتجاه … وصوت طلقات الرصاص ينبعث بين لحظة وأخرى … فمشَوا سريعًا حتى وصلوا إلى مكان الإبل … التي كانَت تجلس تمضغ طعامها في هدوء.
قال «تختخ»: إن ركوب الناقة أمر صعب.
محب: فلْنركب الصعب … هربًا ممَّا هو أصعب منه!
واختارا ناقتَين صغيرتَين … ووضعا عليهما الركَّاب … ثم قفز كلٌّ منهما على ظهر واحدة … وفوجئ «تختخ» ﺑ «زنجر» يقفز خلفه … وابتسم لأول مرة، لقد كان «زنجر» متعبًا ومصابًا في نفس الوقت.
وانطلقَت الناقتان مسرعتَين … اجتازتا دائرة التلال، ثم دخلتا في نفق، ووجد «محب» و«تختخ» نفسَيهما في ظلام دامس … أين ينتهي النفق؟
مضَت الناقتان مسرعتَين … كان واضحًا أنهما تعرفان طريقهما جيدًا … وظلَّ «تختخ» و«محب» يتساءلان عن نهاية هذا النفق … حتى بدَت من بعيد نيران موقدة، وأدركا أنهما مُقبلان على منطقة حراسة … ولم يكن هناك وقت للعودة … وكانَت البندقية ما زالَت في يد «تختخ»، فأعدَّها للإطلاق.
اقتربَت الناقتان من فتحة النفق … وظهر رجل على ضوء النيران كالشبح … وفي يده بندقية … ولكن كان يضعها بجانبه ولا يرفعها … وزاد اقتراب الناقتَين من فتحة النفق … وأمسك «تختخ» بالبندقية من الماسورة … وكان الحارس يقف جانبًا … ومن المؤكَّد أنه سيرى «تختخ» وسيعرف أنهما هاربان … ولم يكن هناك وقت لغير شيء واحد … أن يضربه بطرف البندقية على رأسه … وقد كانَت في متناول يده.
اقتربَت ناقة «تختخ» من الرجل الذي أخذ يُحدِّق في الظلام … وضوء النيران يغشى عينَيه … وفي اللحظة التي تبيَّن فيها شخصية «تختخ» وحاول رفع بندقيته، كان «تختخ» قد نزل على رأسه بضربةٍ أسكتَت حركته.
خرجا من النفق … ووجدا نفسَيهما مرةً أخرى تحت سماء مُرصَّعة بالنجوم … وقد هدأ كل شيء … وقال «محب» بصوت مرتفع: يبدو أنه المدخل الثاني للواحة.
تختخ: ماذا حدث لكَ أنت والمهندس «رضوان»؟
محب: لقد افترقنا كما تعرف … وعندما أصبحتُ وحدي أخذتُ أبحث عنك!
تختخ: وأنا أيضًا بحثتُ عنك.
محب: وفي لحظة وجدتُ نفسي أمام بندقية مصوَّبة إلى صدري وأَمْرٍ بالسير إلى الواحة.
تختخ: لقد رأيتُك صباح اليوم وأنتَ تدخل الخيمة الصفراء.
محب: نعم … كنتُ أتعرَّض لاستجواب عن سبب حضوري إلى هذا المكان.
تختخ: وهل صدَّقوا حكاية الطائرة؟
محب: لا أدري … إنهم على درجة كبيرة من الذكاء والحذر.
تختخ: هل هم مصريون؟
محب: لا … إنهم من أعراب «الطوارق» … وهم أعراب يعيشون في الجزء الجنوبي من الجزائر والمغرب.
تختخ: وما سبب وجودهم هنا؟
محب: لا أدري … ولكن يبدو أنهم يبحثون عن شيء ما في هذا الوادي … فقد فهمتُ أنهم يحفرون بين فترة وأخرى، ويُقيمون هنا فترةً من الوقت، ثم يعودون إلى موطنهم الأصلي.
ساد الصمت بعد هذا الحديث … ثم قال «محب»: ماذا سنفعل الآن؟
تختخ: لا أدري … ليس أمامنا إلا العودة إلى الطائرة … ثم إنني مرهق جدًّا، وجائع جدًّا، ولا أستطيع عمل أي شيء إلا بعد أن آكل وأرتاح.
مضت الناقتان … ولم يكن «محب» و«تختخ» يعرفان أين تتجهان، وفكَّر «تختخ» أنه من الممكن أن تمضيا بعيدًا عن اتجاه الطائرة … فالتفتَ إلى «زنجر» الذي كان قابعًا خلفه وقال: «لوزة» … «لوزة» … يا «زنجر»!
وزام الكلب الأسود … ولكنه لم يتحرَّك … ومضت الناقتان … وبعد نحو ربع ساعة عاد «تختخ» يقول: «لوزة» … «لوزة» … يا «زنجر»!
في هذه المرة استجاب الكلب الأسود … ونزل مستخدمًا ساق الناقة الخلفية إلى الأرض … ثم مضى يسبق الناقتَين رغم تعبه … وبين فترة وأخرى يُعلن عن اتجاهه بالنباح … ومضَت نصف ساعة أخرى … وقد أحسَّ «تختخ» أنه سيسقط من على ظهر الناقة إلى الأرض … فقد كان جسده كله ينضح بالتعب، خاصةً وأنه يتثنَّى أمامًا وخلفًا طول الوقت مع اهتزاز الناقة … وأخذ يُقاوم النوم العنيف الذي هبط عليه … ولكن فجأةً فتح عينَيه على آخرها … فقد شاهد هيكل الطائرة الأسود … رابضًا على أديم الصحراء. ودقَّ قلبه سريعًا … فسوف يلتقي الآن ﺑ «نوسة» و«لوزة» … ويأكل وينام.
اقتربا من الطائرة … لم يكن هناك أثر لأي صوت … وأحسَّ «تختخ» بقلق … ماذا حدث ﻟ «نوسة» و«لوزة»؟
أناخا الناقتَين … فنزلا وربطاهما … ثم أسرع «محب» يصعد سلالم الطائرة صائحًا: «نوسة» … «لوزة» … «عاطف»!
ولكن لم يكن هناك أي أثر للفتاتَين ولا ﻟ «عاطف» … وكان «تختخ» يصعد سُلَّم الطائرة مجهدًا عندما وجد «محب» يقف أمامه قائلًا: لا أثر للفتاتَين ولا ﻟ «عاطف»!
لم يردَّ «تختخ» … بل سار متثاقلًا داخل الطائرة وهو يستند بيدَيه على المقاعد حتى لا يسقط … كان يعرف مكان مخزن الطعام … فمدَّ يدَيه يبحث عن أي شيء، ووجد بعض الخيار وعلب اللحم المحفوظ … فسلَّم علبةً منها إلى «محب» قائلًا: افتح هذه ﻟ «زنجر»؛ إنه مثلنا يكاد يموت جوعًا.
وأمسك «تختخ» بثمرة من ثمار الخيار وأخذ يقضمها في نهَم … كان فمه متصلِّبًا من الجوع والعطش … وكانَت هذه الخيارة بمثابة طعام وشراب معًا … وأمسك بثمرة خيار ثانية … ولكنه لم يستطِع إكمالها … فقد سقط على الأرض … وذهب في سُبات عميق.
إلى «تختخ» … أو «محب» أو أيٍّ من الأصدقاء ركاب الطائرة … لقد استطاعَت إحدى طائرات الإنقاذ أن تجد طائرتنا … ولم يكن في إمكانها الهبوط، فاتصلَت بمطارٍ حربي قرب أسيوط حيث حضرَت طائرة هيليكوبتر ونزلَت.
لقد قام رجال القوات الجوية بإصلاح اللاسلكي … وسيتم الاتصال بكم مرةً كل ساعتَين … فانتظروا الرسالة … وستقوم دوريات استطلاع جوية بالبحث عنكم، حيث تمَّ الاتصال بمعسكر البترول … وبواحة «سيوة» … ولم يكن أحدٌ منكم قد وصل إلى هناك.
سنعود بالطائرة الهيليكوبتر إلى القاعدة الحربية … لأن قدم «نوسة» في حالة سيئة … وقد نعود بالطائرة إلى معسكر البترول إذا أمكن.
تحياتي وتحيات «نوسة» و«لوزة» إلى من تصله هذه الرسالة منكم، وأرجو أن تكونوا في خير.
ارتمى «محب» على أحد المقاعد وقد أحسَّ براحةٍ عميقة … لقد تمَّ إنقاذ «نوسة» و«لوزة» و«عاطف» … أمَّا هو و«تختخ» فسيجدان وسيلةً للذهاب إلى معسكر البترول … أو تأتي إحدى طائرات الهيليكوبتر لإنقاذهما …
وفجأةً زايله الارتياح … فقد تذكَّر المهندس «رضوان» و«كوكس» والطيار «حسني» والعُمَّال الثلاثة … ماذا حدث لهم؟ وهل أصابَت نيران «الطوارق» أحدًا منهم؟ وهل يوقظ «تختخ» ويخبره بهذه الرسالة؟
وقبل أن يُواصل تفكيره كان قد استولى عليه النعاس، فنام وهو جالس على مقعده … وسقطَت الورقة منه على أرض الطائرة …