بعد حياة القبر بكل ما فيه من عودة الأرواح إلى الأجساد،
وسؤال الملكَين، وعذاب القبر، هل ترجع الأموات إلى الدنيا أم
تموت من جديد ثم تعود إلى الآخرة؟ وإذا عادت إلى الدنيا، هل
تعود كلها عامة وخاصة، شعوبًا وقادة، أم لا يعود إلا الأئمة؟
وأين تذهب الأرواح بعد أن تنتهي حياة القبر؟ هل تعود إلى
الدنيا وتتناسخ في أبدانٍ أخرى، أم تُرفَع إلى مكانها
ومستقَرها؟ وأين هو هذا المكان أو المستقَر؟ ومتى يبدأ المعاد
وكيف؟ هل هو معادٌ جسماني يقوم على إمكانية إعادة المعدوم لما
كان العدم شيئًا، أم هو معادٌ روحاني؟ وماذا يعني البعث وكيف
يتم؟ كل ذلك أيضًا إنما يوجد في المرحلة المتوسطة بين الدنيا
والآخرة، ما بعد الدنيا وما قبل الآخرة، قبل علامات الساعة
والحساب والعقاب.
(١) رجعة الأموات
بعد عذاب القبر، وتحقيق الغاية من الحياة فيه بعودة
الأرواح إلى الأجساد، هل ترجع الأموات إلى الدنيا فتُعاقَب
وتُثاب، أو يكون لها حياةٌ أخرى في هذه الأرض في أجسادٍ
أخرى، وهي عقيدة التناسخ، أم تُبعَث الأموات من جديد بعد
حياة القبر ومغادرة الأرواح للأجساد، وتبدأ أمور المعاد في
الآخرة يوم قيام الساعة ليتم الحساب، الثواب أم العقاب؟
الافتراض الأول هو رجع الأموات، والثاني هو المعاد
بشِقَّيه؛ المعاد الجسماني والمعاد الروحاني. وقد تكون
رجعة الأموات للعامة أو للخاصة، لعامة الناس أو لخاصة
الأئمة، أو لعلي بوجهٍ أخص، مثل عودة الإمام الغائب حتى
يقاتل الدجال ويُقِيم العدل والقسط. فإذا مات إمام فإن
جميع الأمة لا يموتون، بل يظل في كل عصر إمامٌ حي؛ فالإمام
هنا لا يحتاج إلى الرجعة، بل يظل في الأرض ليموت موتة أو موتتَين.
١ والحقيقة أنه لو رجع الأموات إلى الحياة
لعُجِّل الثواب والعقاب، ولانتفت الغاية من الإعادة؛
فإحضار المستقبل يُغنِي عن تأجيل الحاضر إلى المستقبل.
والقول برجعة الأموات إنما يعبِّر عن عقائد المجتمعات
المضطهَدة التي مات زعماؤها ولم يحقِّقوا غاياتهم بعد؛
فرجعتهم إنما تعني معاودة رسالتهم واستئناف نشاطهم؛ لذلك
كانت الرجعة للأئمة أكثر منها للجماهير. وبوجود الزعامة
العائدة، وبعودة البطل، تصحو الجماهير، وتلتفُّ العامة
حولها. ويوجد نموذجٌ سابق لذلك في البيئة الدينية والتراث
الحضاري الشائع عند بني إسرائيل الذين يشاركون الشيعة في
عقدة الاضطهاد.
فإن لم تثبت رجعة الأموات جاءت عقيدة التناسخ ثم عقيدة
الرفع. فالتناسخ عود إلى الدنيا وإيثار لها على الآخرة،
والرفع تطهر وإيثار للآخرة على الدنيا، وكلاهما طريقان
متقابلان. فالتناسخ استعجال بالثواب وبالعقاب، ورفض
للانتظار إلى يوم الحساب، وعصفور في اليد خير من عشرة في
الغد، وثواب الدنيا وعذابها مُشاهَدان للعيان؛ فالأولى أن
تعود الأرواح إلى الدنيا؛ الخيِّرة منها في أجسادٍ حسنة،
والشريرة منها في أجسادٍ قبيحة. وهي عقيدة تجمع بين العلم
والأسطورة، بين المشاهدة وعقدة الاضطهاد. والروح الخيِّر
يكون هو الملاك، والروح الشرير يكون هو الشيطان.
ولما كانت النفس لا تتناهى، فهي تعاود الحلول في
الأجسام. وما أسهل بعد ذلك من تأويل الحجج النقلية بحيث
تتفق مع عقيدة التناسخ، خاصةً تلك الآيات التي تتحدث عن
تركيب الصور وخلق الإنسان وخلق الأزواج من نفسه، بتأويلٍ
حرفي يقضي على الدلالة.
٢ وهناك صورةٌ أخرى للتناسخ في عقيدة الدهرية
تمنع من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت.
فلما كان العالم لا يتناهى، فوجب أن تتردد الأنفس في
الأجساد أبدًا، ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي وجب
لها بطبعها وشرفها تعلقًا به وإشراقًا فيه، ولا تحتاج
النفس في هذه الحالة إلى شرائع، يكفيها شرف طبعها وخلودها.
والحقيقة أن هناك تمايزًا بين أنواع النفس، بين النفس
الناطقة وهي نفس الإنسان، والنفس غير الناطقة وهي نفس
الحيوان. وهذا ما يؤكِّده الحس والعقل، وتؤيِّده المشاهدة والبرهان.
٣ أما القول بأن الأرواح تنتقل إلى أجساد
أنواعها، فيُعارِضه إثبات تناهي العلم وحدوثه. فكيف تحل
نفسٌ لا متناهية في عالمٍ لا مُتناهٍ؟ كما أن الاختلاف بين
الأشياء في العالم أكثر من الاتفاق، والفروق أكثر من
التشابهات؛ وبالتالي استحال أن تحلَّ الروح في جسدٍ يشابه.
ولما كانت الأشخاص متفرِّدة بأرواحها، وكانت الأعمال أحد
مظاهر هذا التفرد، استحال أن تحلَّ روح شخص في شخصٍ آخر.
٤ كما لا يثبت التناسخ بمجرد مشاهدة عقاب في
الدنيا لمن لا يستحق، مثل مرض الأطفال وذبح الحيوان، وبأن
يكون بالضرورة عقابًا مستحَقًّا لأرواحٍ اكتسبت هذه
الأجساد. فطبقًا للصلاح والأصلح، كان من الأصلح عدم خلق
مرض الأطفال أو ذبح الحيوان، بدلًا من عذابهما وجعلهما
يتحملان عقاب الآخرين.
٥ إن القول بتناسخ الأرواح هو رد فعل طبيعي على
القول بحدوث النفس؛ فكلاهما خطآن يُلغي أحدهما الآخر.
فالقول بحدوث النفس يسبِّب القول بقِدمها. التناسخ ضد
قانون الاستحقاق، فمن الذي سيُعاقَب؟ أي بدن وأي نفس؟ كما
يؤدي القول بالتناسخ إلى القول بقِدم الكائنات وأزليتها؛
وبالتالي المشاركة في صفات الله، كما ينفي المعاد وكل ما
يتعلق به من بعث وحساب وعقاب. ولو صح التناسخ لتذكَّرنا
الحياة الماضية، ولأصبح الإنسان وعاءً للتاريخ، ومخزنًا
للحوادث لكل الناس. ولو لزم التناسخ للزم أن تكون الأرواح
بعدد الأبدان، وإلا لو زاد عددها لظل بعضها طائرًا في
الفضاء بلا أجساد.
٦ عقيدة التناسخ إذن نظرةٌ أخلاقية للنفس، تبغي
الانتقام والعقاب من النفوس الظالمة التي فقدت براءتها
الأولى. عقابها في النزول؛ فنزولها إلى الأبدان نسخ، وإلى
الحيوان مسخ، وإلى النبات رسخ، وإلى الجماد فسخ؛ وثوابها
في الصعود، التخلص من الأبدان والتعلق بالأجرام. وواضحٌ أن
العقاب أهم من الثواب، فتفصيل العقاب أكثر حضورًا من
عمومية الثواب.
٧
وفي مقابل عقيدة النسخ عقيدة الرفع. الأولى هبوط
والثانية صعود. الأولى عود إلى العالم من أجل الانتقام منه
أساسًا، والثانية هروب منه تطهرًا وتعففًا عن آثامه.
فالبريء الطاهر لا يموت، ولكنه يُرفَع إلى الملكوت، ويعيش
في مجتمع الأطهار بعيدًا عن أرض النفاق والآثام، ويستطيع
أن يبلغ في هذا الرفع أعلى الدرجات، بل أعلى من الأنبياء
والملائكة؛ وبهذا الرفع لا يُقال إن الإنسان يموت.
٨ وبهذا المعنى لا يُفهَم في أمور المعاد
إثباتها أو إنكارها، بل فهم دلالاتها على أنها تعويض عن
الظلم الدنيوي؛ فالأخرويات هي صياغةٌ نظرية لهذا التعويض.
وإن إنكارها والقول برجعة الأموات في عقيدة التناسخ هو رفض
لانتظار الحساب والعقاب الذي تعِد به الأخرويات التقليدية
في آخر الزمان، وانتظار للخلاص في هذا العالم، ورغبة في
الإسراع بعقاب الظالم في هذه الدنيا تشفيًا منه، ورؤية
الانتصار الآن وهنا ما دامت رجعة الأموات ممكنة، وما دام
تناسخ الأرواح ممكنًا. فتحلُّ الروح الظالمة في جسدٍ شرير،
وتحلُّ الروح العادلة في جسدٍ خيِّر.
(٢) المعاد الجسماني
يقوم افتراض المعاد الجسماني على الهوية والاختلاف بين
الإنسان والعالم، بين العالم الصغير والعالم الكبير؛
فالإنسان عالَمٌ صغير، والعالم إنسانٌ كبير. كما يقوم على
جدل الخراب والتعمير، وهو ما سمَّاه القدماء الكون
والفساد، جدل الهدم والبناء. فتخريب العالم الصغير هو موت
الإنسان، وتعميره هو بعثه وإحياؤه من جديد، وتخريب العالم
الكبير هو فناء العالم، إما بتفريق أجزائه، أو عدمه وخرابه
في بعثه وإعادته في اليوم الآخر؛ لذلك يشمل الموضوع
مسألتَين: الأولى إعادة المعدوم كموضوعٍ ميتافيزيقيٍّ
كونيٍّ صِرف، إعادة كل شيء، وهو يتعلق بالعالم الكبير؛
والثاني إعادة الأرواح إلى الأبدان كموضوعٍ إنسانيٍّ خاص.
فإذا ثبت الموضوع الأول ثبت الثاني؛ فالثاني ما هو إلا
حالةٌ خاصة من الأول. وفي الموضوع الثاني يظهر افتراضان:
المعاد الجسماني والمعاد الروحاني. الأول حشر الأجساد،
والثاني خلود النفس. والمقصود شرعًا في علم أصول الدين
المعاد الجسماني؛ أي حشر الأجساد، في حين أن المعاد
الروحاني؛ أي رجوع الأرواح إلى ما كانت عليه من التجرد عن
علاقتها بالأبدان واستعمال الآلات، فهو المقصود في علوم الحكمة.
٩
ولكن هل يمكن ثبوت المعاد الجسماني فقط وإنكار النفس
الناطقة؟ إن إنكار النفس الناطقة عادةً ما يكون نظرةً
مادية لا تقول بإعادة شيء، بل بفناء المادة أو بقائها دون
القول بالوجود أو البقاء من عدم. وما الفائدة من القول
بالمعاد الجسماني دون نفس، والنفس هي مصدر حياة البدن وشرط
الإدراك والإحساس بالثواب أو بالعقاب؟ كيف تعود الأجسام
دون إعادة الحياة إليها، والنفس إنما تعني هذه الحياة في
الأبدان؟ ومع ذلك يمكن إثبات المعاد الروحاني دون المعاد
الجسماني، وذلك بعد إثبات تميز النفس عن البدن، وبقائها
متجردة عنه بعد فناء البدن. وفي هذه الحالة لا حاجة إلى
إحياء الأبدان، ولا يكون الثواب والعقاب جسمانيًّا، بل
يكونان روحانيَّين خالصين. والحل الثاني أي إثبات المعاد
الروحاني رد فعل على الحل الأول، وهو إثبات المعاد
الجسماني. أما إثبات المعادين معًا، الجسماني والروحاني،
فهو يجمع بين الاثنين كنتيجةٍ طبيعية لتلافي عيوبهما،
وتأكيدًا لمقتضيات الشرع ولحكمة الإشراق.
١٠ وقد يسبِّب ذلك رد فعل في إنكار المعادَين
معًا؛ وبالتالي يكون الحل الرابع رد فعل على الحل الثالث،
كما كان الحل الثاني رد فعل على الحل الأول. أما التوقف عن
الحكم في الكل فلصعوبة الحكم على النفس؛ هل هي المزاج
المرتبط بالبدن؛ وبالتالي يستحيل إعادتها مع فناء البدن؟
هل هي جوهرٌ باقٍ بعد فساد البنية؛ وبالتالي يمكن القول
بالمعاد الروحاني؟ فإذا كان لا يجوز إعادة المعدوم نظرًا
لأنه لا شبهة في انعدام الجسم، فإن التردد يكون في انعدام
النفس؛ وبالتالي التردد أيضًا في الجزم ببقائها. وبالرغم
من أن هذا الحل الخامس في مصدره التاريخي الأول من خارج
الحضارة، إلا أنه طبقًا للبنية العقلية، وبعد التعرف عليه
وعرضه على العقل، أصبح جزءًا من نسق الحلول، خاصةً وأن
التوقف عن الحكم أحد الحلول المتَّبَعة ذاتيًّا في داخل
الحضارة في عرض مسائلها الخاصة.
١١
فهل الإعادة واجبة؟ وإن كانت واجبة، هل هي واجبة بالشرع
أم بالعقل؟ وإن لم تكن واجبة بالشرع، فهل هي جائزة بالعقل؟
وإذا كان الحق هو المعاد الجسماني مُطلَقًا، فهل يكفر
المُنكِرون لحشر الأجساد؟ إن الوجوب الشرعي يصطدم بالرواية
والسمع الظني، والظن لا يكون أساسًا للوجوب؛ نظرًا لجواز
ضعف السند وتأويل المتن، والوجوب العقلي في حاجة إلى
براهين يقينية من الحس والمشاهدة. لم يبقَ إذن إلا الجواز
الشرعي أو العقلي. ولما كان العقل أساس النقل، يكون الجواز
عقليًّا بالأساس. وإذا كان الابتداء ممكنًا، فالإعادة تكون
أيضًا ممكنة؛ لأن الإعادة مشروطة بالابتداء، والابتداء شرط
الإعادة. ولكن في الواقع، وبصرف النظر عن الحجج العقلية،
يعتمد الجواز العقلي على تحليل التجارب البشرية، مثل
الرغبة في مقاومة الموت، وتجاوز الفناء، والقصد نحو البقاء.
١٢ فالإعادة صياغةٌ نظرية لتجربةٍ إنسانية تريد
الإبقاء على الماضي حاضرًا ومستقبلًا؛ حتى ينكشف الحق،
ويظهر العدل. وما الزمان ذاته إلا مرآة للخلود. ويحيل أقل
الزمان إلى كل الزمان بالضرورة. أما الوجوب العقلي فإنه
لقانون الاستحقاق، ثواب المطيع وعقاب العاصي، وهو قانونٌ
عام بصرف النظر عن أوجه تحققاته وتشخيصها، بإعادة المعدوم
وحشر الأجساد والحساب واليوم الآخر والجنة والنار.
وإذا كانت الإعادة للأجسام، فهل تكون للجواهر أم للأعراض
أم لكليهما معًا؟ وهو مبحثٌ ميتافيزيقيٌّ صِرف، يعود إلى
نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى،
١٣ بل وتغلب عليها المباحث الطبيعية في الجواهر
والأعراض وأنواع الأعراض وأجناس الحركات والتقديم
والتأخير، ممَّا يُخرِج الموضوع من مستواه الإنساني، وهو
الرغبة في مقاومة الموت والاتجاه نحو الخلود، إلى مستواه
الطبيعي أو الميتافيزيقي الصوري الخالص.
١٤ ومع ذلك فإن الإعادة للأجسام دون الأعراض
تجعلها مركِّزة على الأقوى؛ وبالتالي تسهل إعادة الأضعف،
خاصةً وأن الجواهر لا تنفكُّ عن الأعراض، وأن الأعراض لا
تُوجَد دون الجواهر، وأن القادر على إعادة الجواهر يكون
أقدر على إعادة الأعراض. وإذا كان المعاد معنًى، والمعنى
لا يقوم بالعرَض، يكون المعاد فكرة، والفكرة ليست في
العرَض، بل في الذهن. وتُثار قضية جواز إعادة الأعراض على
أساس أنها هي الإشكال؛ لأن الأعراض محمولة على الجواهر،
وإعادتها لا تمثِّل اعترافًا بقدرة أو بعلمٍ زائد؛ نظرًا
لأنها قد تتبع إعادة الجواهر؛ فالجواهر لا تتعرى عن
الأعراض، والأعراض لا تعود بأعيانها، بل بإعادة الجواهر.
وما الفائدة من إثبات قدرة على الأضعف؛ أي إثبات الأعراض
وإعادتها؟ ألا يكون إثبات الجواهر وإعادتها أجدى؟ وما
الفائدة من إعادة الأعراض وهي أضعف من إعادة الجواهر؟ إن
إعادة الجواهر، وليس الأعراض، أقرب إلى العقل، وإلى
التعامل مع الماهيات والأسس. وإن قسمة الأعراض إلى باقٍ
وغير باقٍ، وجواز إعادة الأولى دون الثانية، هي قسمة تدخل
تصور الجوهر في الأعراض؛ إذ إن العرَض الباقي هو الجوهر،
وتكون أقرب إلى إعادة الجواهر دون الأعراض؛ لذلك كان من
تحصيل الحاصل القول بالإعادة الشاملة للأجسام والأعراض
معًا، بالرغم ممَّا يدل عليه القول من تأكيد على الإعادة
دون تفريق بين الموضوعات. فإذا كان الإيجاد الأول للجواهر
والأعراض معًا، فكذلك تكون الإعادة الثانية أسوة بالإيجاد الأول.
١٥ ويبدو أن الغرض من الإعادة ليس فقط تطبيق
قانون الاستحقاق، ولكن إثبات القدرة الإلهية، ورجوع إلى
أصل التوحيد، وإثبات لجهل الإنسان الذي لا يعرف كيفية بعض
الأعراض، ولكن الله أعلم بها. فما كان في مقدور العباد لا
تصحُّ إعادته؛ لأن الإعادة دليل على القدرة الإلهية؛
وبالتالي لا بد من سلبها من الإنسان، خاصةً إذا كانت
أفعالًا فردية خاصة، وليست أفعالًا نوعية. وإذا كان ما
يجهل الإنسان كيفية إعادته يعود، وما عرف الإنسان كيفية
إعادته لا يعود، تكون الإعادة كما هي إثباتًا للعلم
الإلهي؛ فما يجهله الإنسان يعلمه الله، وما يعلمه الله
يجهله الإنسان. والحقيقة أن قضية إعادة المعدوم بعينه
قضيةٌ ميتافيزيقيةٌ خالصة، وما يهمُّ هو إعادة الروح إلى
البدن؛ حتى يمكن الحساب. فهي قضيةٌ خاصة في الإنسان، وليست
قضيةً عامة في الطبيعة.
فإذا ما عادت الأجسام جواهر وأعراضًا، فكيف تتم الإعادة؟
قد تتثبَّت إعادة المعدوم من لا شيء؛ لأن العدم كليٌّ
شاملٌ لا يُبقي على شيء؛
كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. والله هو الأول
والآخر، الظاهر والباطن، لا يبقى معه شيء. بدأ الخلق من لا
شيء، ويُعيده من لا شيء. والأجسام نفسها تقبل الوجود
والعدم، والله قادر على كل الممكنات، عالم بكل الجزئيات.
ألا يتطلب ذلك أن يُهلِك الله كل شيء؛ الملائكة والجن
والشياطين والمرَدة والحور العين والولدان المخلَّدون
والجنة والنار؛ حتى لا يبقى معه شيء قبل البعث والنشور؟
والحقيقة أن هذه الحجج على جواز إعادة المعدوم من لا شيء،
إنما هي حججٌ لاهوتية تُثبِت قدرة الله، وليست حججًا
طبيعية تُثبِت إمكانية الإعادة من عدم، وهي أدخل في أصل
التوحيد لإثبات صفتَي العلم والقدرة أكثر من دخولها في
إثبات المعاد، وهي نفس فكرة الخلق من لا شيء، تُعاد من
جديد بالنسبة للإعادة بطريق الأولى؛ فالقادر على الخلق من
لا شيء يكون أقدر على إعادته من لا شيء.
١٦ وهو التصور القائم على افتراض الانفصال بين
الوجود والعدم، أو بين العدم والوجود، ولا يتم الاتصال
بينهما إلا عن طريق الأمر التكويني الإرادي، وليس عن طريق
التطور الطبيعي، من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى
الوجود. وقد يمكن إعادة المعدوم عن طريق تفريق الأجزاء
وتأليفها، بحيث يحصل منها مثل الهيئة الأولى التي كان
الشخص عليها في النشأة الأولى؛ فتكون عودة النفس إلى البدن
الأول دون أن يتطلب ذلك بالضرورة عودة المعدوم بعينه؛
فالإعادة تركيبٌ ثانٍ، وليس إعادة من عدم؛ فلا شيء يأتي من
لا شيء في الخلق أم في الإعادة.
١٧ ولو وقع إعدام الكل لوقع إعدام الجنة والنار،
ولو وقع إعدام الكل وعودة الكل لاستحال؛ فالمعدوم لا يعود.
وإن لم يعد الشيء بعينه لاستحال الاستحقاق؛ لأن الاستحقاق
فردي وليس كليًّا، ولكن هل يتحلل جسد الأنبياء أم إن لهم
وضعًا خاصًّا؟ والحقيقة أن ذلك تشخيص للنبوة، ليس فقط في
شخص النبي بل في جسده، وقضاء على الرسالة وإحلالها في
البدن. وهل يختلف جسد محمد عن أي جسد كائن حي؟ وهل هناك
فرق بين إعادة الناس البسطاء، وإعادة الحور العين والغلمان
المخلَّدين، وكأن أجسادهم من طبقةٍ أخرى؟ هل يتكون البسطاء
من عدمٍ محض، في حين يتكون الحور العين والولدان
المخلَّدون من تجميع الأجزاء فحسب؛ رغبةً في ألا يفنى
الحور العين والولدان المخلَّدون، وحرصًا عليهم ممَّن
يفنون وهم لا يدرون، وكأن الراغب الفاني يشتهي المرغوب فيه
الذي لا يفنى، فتفنى الذات، ويبقى موضوع رغبتها؟ ويدل ذلك
على أن الموضوع كله إنما يعبِّر عن رغبةٍ إنسانية، وهو ما
سمَّاه القدماء بحسب الذهن الذي لا بحسب الخارج. والواقع
أن هذا التصور أقرب إلى التصور المادي القائم على اتصال
المادة وتطورها من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى
الوجود، وهو التصور العلمي القائم على الاتصال في مقابل
التصور اللاهوتي القائم على الانفصال، وهو تصور لا يحتاج
إلى علةٍ فاعلةٍ خارجية، في حين يحتاج التصور اللاهوتي إلى
علةٍ فاعلةٍ مشخصة.
وبالإضافة إلى التصور الإرادي المشخص والتصور المادي
المتصل، هناك تصورٌ إشراقيٌّ خالص لكيفية الإعادة أقرب إلى
الأسطورة منه إلى الدين أو العلم؛ إذ تتحرك النفوس
والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوحي في كل زمان، دائرًا
على سبعةٍ سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان
القيامة. ترتفع التكاليف، وتضمحل السنن والشرائع. وهي
وسيلة لبلوغ النفس الإنسانية كمالها درجة العقل، وائتمامها
به، ووصولها إلى مرتبه. وتلك هي القيامة الكبرى، فتتحلل
تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات، وتنشق السماء، وتتناثر
الكواكب، وتتبدل الأرض، وتُطوى السماء، ويُحاسَب الخلق،
ويتميز الخير من الشر، والمطيع من العاصي. وتتصل جزئيات
الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل بالشيطان المُبطِل. فمن
وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت السكون إلى
ما لا نهاية له هو الكمال. وفي هذه الحالة، لا يُبعَث إلا
من استطاع بلوغ مراتب الكمال العليا من أولاد آدم وحدهم
دون غيرهم، طبقًا لقدراتهم على تصفية النفس وتخليد الذات.
وهي نظرية في الخلود في العالم عن طريق الكمال، يبلغ عليها
الطابع الكوني الإشراقي، وليس الطابع النظري العقلي الخالص.
١٨ والحقيقة أنه لا يهمُّ كيفية الإعادة، وكيف
تعود الأرواح إلى الأجسام، وكأننا في مبحثٍ طبيعي؛
فالإعادة تصورٌ إنسانيٌّ خالص لتجاوُز الموت واستمرار
الحياة. هي رغبةٌ إنسانية، وليست حدثًا طبيعيًّا، مطلبٌ
إنساني يفرض نفسه على الطبيعة من كثرة التركيز عليه،
واقتضاء تحققه، والاستجابة له.
فإذا ما تم الانتقال من الإعادة كموضوعٍ عام إلى الإعادة
كموضوعٍ خاص، أي حشر الأجساد، ظهر موضوع الزمان. فهل يُعاد
الزمان باعتباره عرَضًا؟ وإذا عاد، فهل يعود بأبعاده؛
الماضي والحاضر والمستقبل؟ هل يعود بأعمار الإنسان والعالم
المتتالية، أم في آخر لحظة فيه؟ هل يعود الزمان وحدةً
واحدة أم في لحظاته المتعاقبة؟ ويُثير موضوع إعادة الزمان
أشكال التتابع والتتالي والمراحل والتطور. هل يعود مرةً
واحدة أم على مراحل؟ هل يعود دفعةً واحدة أم بالتدريج؟ إن
عودة جميع الأزمنة تساعد على الشهادة على الأعمال
المتحقِّقة فيها، وما وقع فيها من طاعات وآثام. ومع ذلك قد
تصعب إعادته؛ نظرًا لاجتماع متنافيات مثل الماضي والحاضر
والمستقبل في آنٍ واحد، وهي صعوبة مَنشؤها قياس الغائب على
الشاهد، خاصةً لو كان الغائب حالةً افتراضية لا يمكن
تصورها، ولكن الزمان تيارٌ جارف، وإذا عاد فإنه يعود كذلك.
أما الزمان المتوقِّف فإنه لا يكوِّن حياة، ربما يكون فقط
تعاقُب الزمان في الإعادة أسرع إيقاعًا منه في الدنيا.
وينعكس الإشكال نفسه على الحشر كله، هل يتم الحشر دفعةً
واحدة أم على فتراتٍ متعاقبة؟
١٩ وبالإضافة إلى سؤال الزمان تبرز أشكال الهيئة:
هل تكون الإعادة كما كان الحال في الدنيا، أم تكون بصورٍ
أخرى متغيِّرة؛ الكافر يزداد قبحًا، والمؤمن يزداد حسنًا؟
ولكن الحساب لم يتم بعدُ حتى تتغير الصور، وعودة صور
الدنيا وقبحها وقذارتها وأمراضها وبؤسها استمرارٌ للبؤس
بعد أن أنهاه موت البائسين، كما أنه استمرار لبهاء
الأغنياء، وكأن الموت لم يكن نهاية للترف ومساواة
بالفقراء؛ وبالتالي يعيش البؤساء في البؤس مرتَين، كما
يحيا الأغنياء في الغنى مرتَين.
٢٠ ولماذا يكون حساب يوم الميعاد بمقدار خمسين
ألف سنة؟ وما الدافع لتضخيم الحساب؟ هل يرجع السبب في ذلك
إلى كثرة العدد؟ قد يكون الهدف هو الدلالة النفسية؛ أي
طيلة الانتظار والإحساس بطول الوقت؛ نظرًا لأهمية الحدث فيه.
٢١
وقد يُنكَر موضوع الإعادة كله، ليس فقط باعتباره كيفية؛
أي استحالة المعدوم من لا شيء، وإمكان ذلك بالتجميع
والتفريق للأجزاء، بل إنكار الإعادة من الأساس كموضوعٍ
ميتافيزيقيٍّ خالص، أو كموضوعٍ جزئي في إنكار حشر الأجساد.
ويأتي إنكار الإعادة نتيجة لعدة عقائد سابقة، منها إنكار
حدوث العالم؛ فما دام العالم موجودًا قديمًا وباقيًا لم
يفنَ، فإنه لا يعود. وهو أقرب إلى المنطق والاتساق ما دامت
الإعادة نتيجةً طبيعية للقول بالحدوث والإيجاد ومن عدم؛
فالإيجاد من عدم يتلوه طبيعيًّا الإيجاد بعد العدم. أما
إذا ثبت حدوث العالم، ثم أُنكِرت الإعادة بعد العدم، فإنه
يكون بين النتيجة والمقدمة عدم اتساق منطقي؛ فما دام إثبات
الوجود من عدم قد تم، فإن الإعادة تكون أسهل؛ وبالتالي لا
يمكن إثبات الحدوث وإنكار الإعادة. أما إذا ثبت حدوث
العالم وإعادة المعدوم، فإنه لا يمكن بعد ذلك إنكار البعث
والقيامة فيما يتعلق بحياة الإنسان بعد الموت، ابتداءً من
حياة القبر حتى الثواب والعقاب في الجنة والنار؛ إذ لا
يمكن إثبات الأساس وهو الإعادة، وإنكار الفرع وهو الحشر،
ولا يمكن إثبات المبدأ العام، وإنكار إحدى حالاته الخاصة؛
فالغاية من إثبات الإيجاد من عدم هي إثبات حشر الأجساد.
أما إثبات صدق العالم وإثبات الإعادة، ثم إنكار البعث
والقيامة وإسقاط الشرائع، فإنه أيضًا يأخذ الوسائل دون
الغايات؛ فالغاية من إثبات حدوث العالم والإعادة هي إثبات
حشر الأجساد، والغاية من إثبات حشر الأجساد هي الثواب
والعقاب جزاءً على الأعمال طبقًا لقانون الاستحقاق،
والغاية من ذلك كله إقامة الشرائع؛ فالعقائد النظرية وسائل
لتحققِ غاياتٍ عملية، والتصورات الدينية إنما هي وسائل
لأفعالٍ خلقية.
٢٢ وإن إثبات حدوث العالم أو قِدمه إنما موضوعه
نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى، وإنما المكان
هنا لإثبات إعادة المعدوم وحشر الأجساد أو
إنكارهما.
ويتم إنكار الإعادة ضرورةً أو استدلالًا. فالضرورة تقوم
على أن تخلل العدم بين الشيء ونفسه مُحال؛ وبالتالي يكون
الوجود بعد العدم غير الوجود الذي قبله، ولا يكون المعاد
هو المبدأ بعينه. وأما الاستدلال فإنه يقوم على ثلاث حجج:
الأولى أن الشيء بعد عدمه نفيٌ محض، ولا تبقَ هويته أصلًا،
فلا يعود، والمحكوم عليه متميِّز عن غيره، والمتميِّز
ثابتٌ غير معدوم؛ فالمعدوم لا يمكن إصدار الحكم عليه
بإعادته؛ لأنه أساسًا غير موجود، وإصدار الحكم لا يكون إلا
على موجودٍ متميِّز، كما أن الحكم بأن المعاد عين الأول
يستدعي تميزه حال العدم، وهو مُحال. والثانية أن إعادة
المعدوم بتقدير وقوعه لا يتميز عن مثله؛ وبالتالي تبطل
الإعادة للشيء الفردي. ولماذا الإعادة بعينها والله قادر
على إيجاد مثله مستأنَفًا؟ وفي هذه الحالة، لا يتميز
العادي من المستأنَف، وتلزم الاثنينية بلا امتياز، وهو
مُحال. والثالثة أنه لو أُعيدَ المعدوم لتمَّت إعادته
والأول معه؛ وبالتالي يكون مبتدأً، وهو تناقض؛ لأن الإعادة
ثانية، وليست أولًا. وإذا كان المعاد معادًا بجميع عوارضه
ومنها الزمان، فلا يكون الوقت الأول معادًا ثانيًا، وإلا
كان خُلفًا.
وقد يأتي الإنكار من أن الإعادة كلها من عمل الوهم، وأن
الهلاك إنما يعني التقابل لكل ممكن، وأن ذلك يتطلب إعدام
الجنة والنار، وأنه يستحيل إعادة المعدوم.
٢٣ ويستمر إنكار الحالة الخاصة، وهي حشر الأجساد،
بحججٍ جديدةٍ مستمَدَّة من حجج المبدأ العام، وذلك مثل
قِدم العالم؛ وبالتالي يستحيل الحشر، أو إن الجنة والنار
إما في هذا العالم أو في عالم آخر، وإذا كانتا في هذا
العالم فإما أن تكونا في عالم الأفلاك أو في عالم العناصر،
والأول ليس فيه فساد ولا فناء ولا ألم؛ وبالتالي لا إعادة
له؛ لأنه باقٍ، والثاني يُوجِب التناسخ. ويستحيل في عالمٍ
آخر؛ لأنه لا وجود للشكل الكروي خارج العالم. وقد تكون
الحجج أكثر حسية بعيدة عن موضوع العالم، مثل لو أكل إنسان
إنسانًا، وأصبح المأكول جزءًا من الآكل، فكيف يعود
المأكول؟ وهل إذا عاد الآكل يعود المأكول ضرورة؟ وهل يكون
المأكول إذا عاد فردًا مشخَّصًا؟ وإذا كان القصد من الحشر
الإيلام أو الإلذاذ، فالإيلام لا يصحُّ من الحكيم،
والإلذاذ باطل لورود العقاب.
٢٤ والحقيقة أنها في معظمها حججٌ صوريةٌ طبيعيةٌ
ميتافيزيقية للإنكار، يُرَد عليها إما بحججٍ مثلها، أو
بحججٍ أخرى تعتمد على التجربة الإنسانية. فالإعادة أسهل من
الابتداء، والقادر على الأول قادر على الثاني بطريق
الأولى. وقد يؤدي إنكار الإعادة وحشر الأجساد إلى القول
بوجود أبعاد وامتدادات لا متناهية لضرورة وجود أجسام لا
تتناهى؛ وبالتالي القول بقِدم العالم؛ ممَّا ينافي القول
بالحدوث، وهو ما يحيل إلى نظرية الوجود من جديد في
المقدمات النظرية الأولى. ولكن قد تُئوَّل الإعادة مع حشر
الأجساد بأن الغاية منها ليست العقيدة النظرية التي
تُطابِق واقعةً مادية يمكن معرفتها بالعلمَين الطبيعي أو
الإلهي، بل الغاية منها عمليةٌ صِرفة؛ فالإعادة وحشر
الأجساد الغاية منهما الترغيب والترهيب، وحث الناس في
حياتهم على العدل، وإبعادهم عن الظلم؛ حتى يصلح حالهم في
الدنيا. وتأويل أمور المعاد على هذا النحو مثل تأويل
الصفات؛ فالغاية من العقليات والسمعيات واحدة، وهي توجيه
النفس في الدنيا، وليس إعدادهم للآخرة. أما حجة الاحتياط
فهي رهان على الحشر، حتى إن خسر الإنسان في حالة عدم وقوعه
لا يخسر شيئًا، وإن كسب في حالة وقوعه فإنه يكسب كل شيء.
وهناك تكون الحياة مقامرة، والعقائد رهانًا، الغاية منها
أيضًا المَكسب العملي في الدنيا؛ فحساب الآخرة إنما يتم
تحصيله في الدنيا؛ فلا وجود ليقينٍ نظري في أمور المعاد،
إنما اليقين عمليٌّ خالص.
٢٥ وكأن القرآن من قبل قد جادل المُنكِرين للحشر
كما يجادل المتكلِّمون الفلاسفة؛ وبالتالي دخل الموضوع في
علم العقائد من مناقشتَين تاريخيتين؛ الأولى في بداية
الحضارة في أصل الوحي، والثانية بعد اكتمالها.
٢٦
(٣) البعث
ثم تتحدد المسألة أكثر فأكثر، وتتحول من مجرد مسألة
ميتافيزيقية، إعادة المعدوم بوجهٍ عام إلى حشر الأجساد
بوجهٍ خاص، إلى موضوع البعث الذي يجمع بين العام والخاص؛
ففي إعادة المعدوم الأولوية للفعل وللقدرة الإلهية، في حين
أنه في البعث الأولوية للشيء. والبعث والنشور معنًى واحد،
وهو الإخراج من القبور. وحشر الأجساد يعني سوقها إلى
الموقف المُسمَّى بالحشر بعد بعثهم من القبور المُسمَّى
بالنشر. فهي كلها معانٍ متقاربة، والخلاف بينها في
التوقيت؛ أي في وقت الحدث. فالبعث والنشر أولًا ثم الحشر
ثانيًا. الأول الخروج من القبور، والثاني الوصول إلى
الموقف. والمهم هو عموم البعث، وليس بعث فرد بعينه؛ لأنها
قضية مبدأ، وليست قضية شخص.
٢٧ ويتم البعث عن طريق تجميع الأجزاء الأصلية من
أول العمر إلى آخره حتى ولو قدمت، ويتم البعث ابتداءً من
العظم بعد أن يتحلل اللحم وتأكله الديدان؛ فالعظام هي التي
تحيا يوم القيامة، كما أنها ما يُخلَق قبل أن يكسوه اللحم.
٢٨ والحشر على أربعة أنواع: اثنان في الدنيا،
واثنان في الآخرة. ففي الدنيا إخراج اليهود من جزيرة العرب
إلى الشام، وسوق النار التي تخرج من أرض مدن باليمن للكفار
وغيرهم من كل حي قربَ قيام الساعة إلى المحشر، فتُثيب
معهم، وتقيل معهم، فتدور الدنيا كلها وتطير، ولها دويٌّ
كدوي الرعد القاصف، وحكمتها الامتحان والاختبار. مَن علِم
أنها مُرسَلة من عند الله وانساق معها سلِم منها، ومن لم
يكن كذلك أحرقته وأكلته. وبعد سوقها لهم إلى المحشر يموتون
بالنفخة الأولى بعد مدة. هذان النوعان في الدنيا، وواضح في
المكان الأول هو المعنى الحرفي للحشر؛ أي إخراج الناس من
مكان إلى مكان، مثل إخراج اليهود من الجزيرة العربية أحد
أهداف الإسلام السياسي الأولى، ثم إخراج الكفار بالنار من
مدن اليمن خارج الجزيرة إلى يوم القيامة. من تعرَّف عليها
سلِم منها، ومن لم يعرفها احترق بها. وهذا النوعان يدلان
على أن النوعَين الآخرين إنما هما امتداد لحشر الدنيا في
الآخرة قياسًا للغائب على الشاهد. أما نوعا الآخرة، فهما
البعث والخروج من الأرض إلى يوم الحشر، راكبًا أو ماشيًا
أو منكفئًا على وجهه، وصرف الناس من الموقف إلى الجنة
والنار. الأول يبدأ من الأرض خارجًا عنها. وصور الخروج
تُطابق نوع الأعمال؛ أفضلها الراكب، وأقلها الماشي، وآخرها
المنكفئ على الوجه. الراكب هو التقي، والماشي على رجلَيه
هو قليل العمل، والمُنكبُّ على وجهه هو الكافر. الركوب
دلالة العظمة، والمشي للرجل العادي، والانكفاء على الوجه
علامة الذل والمهانة. والثاني حشر الناس من الموقف قبل
الحساب إلى الجنة أو النار بعد الحساب. وقد فصَّل الصوفية
أنواع الحشر، واعتمد علم أصول الدين في هذا الموضوع على
خيالات التصوف.
٢٩ ويكون البعث بالأجساد والأرواح معًا، وليس
بالأجساد وحدها؛ لأن الأجساد لا تحيا إلا بعودة الأرواح
إليها، وليس بالأرواح وحدها؛ لأن الثواب والعقاب للأجساد
والأرواح معًا. والبعث غير التناسخ؛ ففي التناسخ تعود
الأرواح إلى أجسادٍ مختلفة في الدنيا؛ الروح الحسنة في
قالب حسن، والروح السيئة في قالب سيئ؛ أي انتقال الروح من
بدن إلى بدنٍ مُخالف للأول دونما جنة أو نار، في حين أن
البعث هو عود الروح إلى الأجزاء الأصلية من أول العمر إلى آخره.
٣٠ ويبدأ الحشر بأنواعه الأربعة من مكانٍ معيَّن
هو القدس المبدَّلة، التي لم يعصِ اللهَ أحدٌ عليها، وهي
غير القدس المدينة الأرضية. هذا من حيث المكان. أما من حيث
الزمان، فيبدأ بالنفخة الثانية، وهي نفخة البعث؛ إذ تُجمَع
الأرواح في الصور، وفيها ثقوب بعددها، تخرج الأرواح إلى
أجسادها، فلا تخطئ روحٌ جسدها. أما النفخة الأولى، نفخ
إسرافيل في الصور النفخةَ الأولى، فعندها قد تفنى النفس،
وقد لا تفنى. إنما لا خلاف في بقائها بعد النفخة الأولى
بعد فناء الجسم، حتى الأنبياء والملائكة الأربعة الرؤساء
والحور العين وموسى. النفخة الأولى إذن فناء الأرواح
كليةً، ما بقي منها قبل موت أجسادها، أو ما بقي منها بعد
موت أجسادها. والنفخة الثانية بعث الأرواح من ثقوب الصور
بعددها، وكأن الصور بها آلاف الملايين من الثقوب. ماذا
يكون طوله إذن؟ وهل وظيفة الصور إصدار الصوت أم بعث
الأرواح؟ هل هو آلةٌ سمعية أم آلةٌ بصرية؟ المهم في
النفختَين أن البعث يتم في الزمان، وما بين النفختَين
أربعون عامًا! ولكن بحساب مَن؟ بحساب الدنيا أم بحساب الآخرة؟
٣١ وكيف يكون مصنوعًا من نور، والنور ليس مادة
تكون بها ثقوب، ويُمسِك بها إنسان، وينفخ فيها بفمه؟ وكيف
يكون عرضها ما بين السموات والأرض؟ وماذا يكون طول إسرافيل
وعرضه وهو الذي يُمسِك بها بيدَيه، ويحرِّك على ثقوبها
أصابعه؟ وهل الروح تحتاج إلى مثل هذه الضخامة، أم إن كل
تضخيم هو تشخيص لمدى الهول الذي يلاقيه الإنسان بعد الموت،
وما ينتظره من حساب؟
ثم يبدأ الخروج من الأرض والحشر إلى الموقف. ولكن من هو
أول من تتشقق عنه الأرض؟ بطبيعة الحال هو النبي، كما أنه
أول داخل إلى الجنة، وبعده نوح. ولماذا نوح دون موسى أو
عيسى؟ ألا تقول كل أمة عن نبيها إنه أول من يخرج إلى
الحشر، وأول من يدخل الجنة؟ ولما يرِد بعده الصحابي
أبو بكر قبل باقي الأنبياء؟ ولماذا لا يأتي عمر بعد أبي
بكر قبل الأنبياء، وفضل عمر ورؤيته يشهد بها الجميع،
وما زالت حتى الآن قدوة ونبراسًا على الجرأة على الواقع،
والدفاع عن مصالح الناس، ونموذج الحاكم؟ أليست هذه
المفاضلة إسقاطًا في الدنيا على الآخرة طبقًا لتصور
المجتمع لأفضلية الأنبياء وترتيب الصحابة؟ ويكون الحشر في
صورٍ مختلفة حسب الأعمال؛ فإذا كان الإنسان زانيًا فإنه
يخرج في صورة قرد؛ ربما لأن الحياة الجنسية للقرود وحياة
المشاع، ومؤخرتهم ظاهرة حمراء مكوَّرة، تدل على العري وعدم
الحياء، وهو مصدر التهكم الإنساني عندما يُوصَف إنسان بأنه
قرد. وإذا كان من آكلي السحق والمكس فإنه يُحشَر في صورة
خنزير؛ لما كان الخنزير آكل القذارات والأوساخ. وإذا كان
جائرًا في الحكم فإنه يُحشَر أعمى؛ نظرًا لأن الجور عماء،
والظلم فقدان للبصيرة والرؤية. وإذا كان مُعجَبًا بعمله
فإنه يخرج أصم أبكم؛ حتى لا يستمر في الإعجاب، فلا يتحدث
بثناء النفس، ولا يسمع ثناء الآخرين، وكأن نعمته في الدنيا
قد حُرم منها في الآخرة. وإذا كان واعظ سوء منافقًا،
تُخالف أفعاله أقواله، فإنه يُحشَر ماضغًا لسانه، مدليًا
على صدره، يسيل القيح من فمه؛ جزاءً له على لوكه بالكلام
دون إتمامه بالأفعال. وإذا كان مؤذيًا لجيرانه فإنه يخرج
مقطوع الأيدي والأرجل؛ جزاءً له على سعيه بالسوء،
واستعماله الأطراف للأذى. وإذا كان ساعيًا بالناس إلى
السلطان فإنه يخرج مصلوبًا على جذوع من نار، يُلاقي من نفس
العذاب الذي سبَّبه للآخرين. وإذا كان مُقبِلًا على
الشهوات واللذات مانعًا حق الله من أمواله، فإنه يخرج أشد
نتنًا من الجيف، وكأنه أكل في بطنه نارًا وسعيرًا. وإذا
كان من أهل الكبر والعُجب والخيلاء، فإنه يخرج لابسًا جبةً
سابغة من قطران لاصقةً بجلده؛ إذلالًا له وكسرًا لنفسه
وقلبًا لدنياه في آخرته.
٣٢
ولكن، هل سيبقى المكلَّفون وحدهم العقلاء البالغون، أم
سيُبعَث غيرهم من المجانين والصبيان؟ ولمَ يُبعَثون إذا
كانوا لا يُحاسَبون؟ وفي أية صورة يخرجون وهم غير
مكلَّفين، ولا ينطبق عليهم قانون الاستحقاق؟ هل يُبعَث
الملائكة وهم غير مكلَّفين أيضًا وإن كانوا يحيون ويموتون؟
وكيف يموتون ولا أجساد لهم؟ ما رسالاتهم؟ وهل يقصِّرون في
أدائها حتى يستحقوا الثواب والعقاب؟ وهل لهم عقل وحرية
وإرادة حتى يعقلوا ثم يعترضوا كما فعل إبليس؟ وهل يُحشَر
الجن والشياطين؟ من هم أنبياؤهم ورسلهم؟ وما هي رسالاتهم
التي أُرسلت إليهم؟ وهل لهم عقل واستطاعة على الفعل حتى
يكونوا مُحاسَبين؟ هل تُبعَث البهائم والحشرات والطيور؟ هل
تُبعَث الوحوش الكاسرة والحيوانات المفترِسة؟ من هم رسلهم
وأنبياؤهم؟ وما جوهر رسالاتهم؟ وهل لديهم عقل ورؤية أو
قدرة واستطاعة على الفعل؟ وماذا عن السقط الذي تتم أعضاؤه
ولم يرَ النور بعد، ولكن دخلت فيه الروح؟ هل هو مسئولٌ
بالغٌ عاقل حتى تُعاد إليه الحياة، ويُبعَث ويقف يوم الحشر
انتظارًا للحساب؟ ولكن هل تُقاس الأمور الأخروية على
الأمور الدنيوية؟ إذا كان الصبية والأطفال والمجانين
والسقط كل ذلك غير مكلَّف في الدنيا، ألا تُرَد إليه الروح
في الآخرة لما كانت الآخرة هي دار الحياة والبقاء؟ وإذا
كان السقط الذي دخلت فيه الروح قبل أن يرى الدنيا يُرَد في
الآخرة في مثل أهل الجنة طولًا وعرضًا، وبهاءً وجمالًا،
ألا يكون ذلك استحقاقًا؛ وبالتالي يتساوى مع أهل الاستحقاق
على الأعمال؟ والحقيقة أن كل هذه الصور إنسانيةٌ خالصة،
تقوم على قياس الغائب على الشاهد، خاصةً في صور الحشر،
وطريقة الوصول إلى المحشر، وفي تصور الأطفال في الجنان،
والحشرات في دورات المياه.
٣٣
فكما أن الموت قد لا يكون مجرد حادثة طبيعية بتوقف وظائف
الحياة، بل يكون موتًا شعوريًّا، فكم من الناس أحياء وهم
أموات، وكم من الناس أموات وهم أحياء، فكذلك قد لا يكون
البعث واقعةً مادية تتحرك فيها الجبال، وتموج فيها البحار،
وتخرج لها الأجساد، بل يكون البعث هو بعث الحزب، وبعث
الأمة، وبعث الروح. فهو واقعةٌ شعورية تمثِّل لحظة اليقظة
في الحياة في مقابل لحظة الموت والسكون؛ ولذلك كانت مشاهد
البعث كلها حياة وحركة؛ يعني البعث استمرار الحياة، وأن
الموت ما هو إلا حالةٌ عارضة؛ لذلك آثر كثير من الأدباء
تسميتهم رواياتهم «البعث»، وكثير من السياسيين تسمية حزبهم
«البعث»، وهو الاسم المفضَّل عند جميع رواد النهضة
الحضارية لدى كل شعب وعند كل أمة.
(٤) المعاد الروحاني
وفي مقابل رجعة الأموات والمعاد الجسماني والبعث، وكلها
تتطلب إعادة الحياة إلى الجسد، ممَّا يسبِّب صعوباتٍ نظرية
ومشاكل يصعب حلها، يأتي المعاد الروحاني واضعًا حدًّا لهذه
الصعوبات، ومستبعِدًا معظم الإشكاليات، مستغنِيًا عن الجسد
كليةً؛ فالمعاد للأرواح وحدها، وهي التي ستنال الثواب أو
العقاب، ولكن استبعاد إشكاليات إحياء الجسد أوقع في
إشكالياتٍ أخرى بالنسبة للروح. فإذا كانت الإعادة ممكنة
بشكلٍ ما، فماذا تعني الروح في المعاد الروحاني؟
(أ) ماذا تعني الروح؟
التصورات تتفاوت بين التصورات المادية والتصورات
الروحية؛ فقد تكون الروح جسمًا لطيفًا شفافًا ينتشر في
البدن ويتشابك معه، يصعد ويهبط، ويعرج ويُرَد إلى
البرزخ، وهو جسمٌ ذو صورة وشكل وهيئة، لا في الظلمة
والكثافة والرقة واللطافة؛ فالصورة أقرب إلى طبيعة
الروح من المادة، والشكل أنسب لها من الثقل والوزن،
والهيئة أكثر ملاءمة لها من الكثافة والظلمة. وإن رفع
الروح والعروج به في حواصل طيور خضر إلى الجنة،
والهبوط به إلى سحيق النار، يدل على أن الروح جسم، كما
أن إقبال بعضها في يوم «ألست بربكم» بوجهها والبعض
الآخر بظهرها، دليل آخر على أنه جسم. الروح هنا صورة
الجسم أو هيئته، لما كانت الصورة هي مبدأ التفرد للجسم
والتعين للمادة. ولكن يظل الإشكال قائمًا: هل الروح
جسم؟ وما صلته بالبدن؟ هل هما متَّحِدان ما دامت الروح
جسمًا أم متمايزان؟ وما وجه التمايز؟ قد تكون أقرب إلى
الاتحاد كما هو الحال عند المتكلِّمين، أو أقرب إلى
التمايز كما هو الحال عند الحكماء. ولكن لا يوجد مكان
للروح في الجسد، وإلا إذا قُطع عضو في حيوان قُطع عضو
في الروح؛ وذلك لأن لطافتها تقتضي سرعة انجذابها من
العضو المقطوع قبل انفصالها. وإذا كانت بالجسم، هل
تكون بالبطن أو القلب؟ ولماذا لا تكون في الدماغ وهو
آخر ما يموت من جسد الإنسان؛ إذ تصعد الروح من
القدمَين إلى الرأس؟ قد يكون اتصال بعضها تنجيزيًّا،
أي دفعة واحدة، والبعض الآخر تدريجيًّا. الأول بالطفرة
والثاني بالتطور. الأول بالخلق والثاني بالطبيعة. وقد
تظهر الحياة في الجسد عادةً، وليس بملامسة الروح له؛
وبالتالي تكون الروح علةً مقارنة، وليست علة فاعلة.
٣٤ وقد ظهر هذا التصور المادي للروح في إطار
التصورات المادية القديمة التي انتشرت في البيئة
الحضارية؛ فقد كانت الروح جسمًا ماديًّا يُوصَف بالطول
والعرض والعمق. وهو تصورٌ طبيعيٌّ صِرف، لا يُدخِل في
الاعتبار صِلتها بالبدن. وقد تكون لها صفة الحد
والنهاية؛ وبالتالي لا تُفارِق البدن عند الموت؛ ومِن
ثَم لا تميِّز الحيوان في شيء.
٣٥
وقد يتحدد الروح بالنفس، ويكون هو مصدر الحياة
ومبدأها. ولا يختلف في هذه الحالة أيضًا عن الجسد أو
أحد عناصره مثل الدم أو المزاج، وهو اجتماع العناصر
الأربعة في معنًى خامس، أو الحرارة الغريزية، أو
الأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ، والذي يتولد من حركة
الدم في الشرايين والأوردة التي بها حياة كل حيوان،
ولا تختص بنوع الإنسان وحده، وهو موضوع علم التشريح.
٣٦ ولكن تظل الروح جسمًا والحياة عرضًا لها.
ومع ذلك تظهر بدايات التمرد على هذا التصور حين اعتبار
البدن آفة على الروح وباعثًا على الاختيار، وكأن الروح
تتململ من وجودها في البدن، وتتمرد عليه، وتبغي
التمايز عنه والاستقلال منه والخروج عليه. ولو خلص
الروح من البدن لكانت كل أفعاله على التولد والاضطرار.
وقد تصبح النفس معنًى بين الجسم والجوهر؛ حتى يمكن
الجمع بين التصورَين المادي والروحي. وقد يحدث التمايز
بين النفس والروح، وبين الروح والحياة؛ فالحياة عرض.
وفي هذه الحالة، يكون النوم سلوب النفس والروح دون
الحياة. ولكن، هل النفس عرَض للجسم، آلة يستعين بها
على الفعل؟ هل هناك روحان في كل جسد؛ روح اليقظة تغيب
عند النوم، وروح الحياة التي تُفارقه عند الموت؛
فالموتة موتتان؛ موتة عند النوم، وموتة عند الموت؟ وقد
ارتبط هذا التصور المادي النسبي، الروح باعتباره نفسًا
وحياةً وعرَضًا، بالبيئة الحضارية القديمة بعد عرضها
على العقل والسمع وإيجاد بعض المشروعية لها، خاصةً
وأنها تجمع بين المطلبَين العلمي والديني، العقلي والسمعي.
٣٧ وقد تكون جوهرًا متعلقًا بالبدن غير داخل
فيه ولا خارج عنه، ولا تكون جسمًا ولا عرضًا. وهو
أيضًا تصورٌ متوسط بين المادي والروحي، لا يبعد عن
المادي، ولا يصل إلى الروحي.
٣٨ وفي وسط هذه التصورات للروح لا يُنسى
الموضوع الأساسي، وهو المعاد والثواب والعقاب والغاية
من إعادة الروح إلى الأجساد، ولكنه أيضًا يتم تصوره
على نحوٍ ماديٍّ مكاني؛ فهناك أماكن للروح بعد الموت،
وتختلف أماكن أرواح السعداء عن أماكن أرواح الأشقياء.
قد تكون أرواح السعداء بأفنية القبور، أو في البرزخ
عند آدم في السماء الدنيا، ولكنها لا تستقر على حال،
تسرح حيث شاءت، وقد تصل إلى الشام، وقد تعود إلى بئر
زمزم، وهي متفاوتة في مكانها أعظم التفاوت، كسبق على
تفاوت مراتبها في الجنة. أما أرواح الكفار ففي بئر في
حضرموت، سجين في الأرض السابعة السفلية. الأرواح
السعيدة حرة تسرح كيفما شاءت، والأرواح الشقية سجينة.
الأولى في السماء، والثانية في الأرض. الأولى في
الارتفاع، والثانية في الانخفاض.
٣٩ والحقيقة أن كل هذه التصورات لمكان الروح
إنما هي شخصيةٌ خالصة طبقًا لاختيار المكان. فكيف تكون
أرواح السعداء فوق أبنية القبور، وهي كما تعلم من حال
المقابر مكان المُوبِقات والفارِّين والهاربين واللصوص
والأشقياء؟ وإذا كان اختيارها لزمزم ما يبرِّره، فما
سبب اختيارها لجابية الشام؟ هل لأن هناك بيت المقدس؛
وبالتالي تكون هناك عدالة في التوزيع والاختيار بين
القبلتَين مكة والقدس؟ ولماذا تصعد في البرزخ عند آدم
في السماء الدنيا وتترك الأرض؟ وهل السماء مكان؟ وأين
يكون التفاوت في الأرض، على أفنية القبور أو في مكة أو
في القدس؟ ولماذا تكون أرواح الأشقياء في حضرموت؟ هل
لأسبابٍ جغرافيةٍ صِرفة؛ الحر، الجفاف، أم لأسبابٍ
سكانية؛ الوحدة والعزلة ووحشة الصحراء، أم لأسبابٍ
سياسية؟ ولماذا لا تتفاوت مراتب الأرواح في الأرض
طبقًا لسوء الأعمال؟ وإذا كانت الأرض عيبًا تبقى فيها
الأرواح الشريرة ولا تصعد إلى السماء، فإنها أيضًا
إحدى اختيارات الأرواح الطيبة. وكيف يمكن التمييز بين
الأرواح الطيبة والأرواح الخبيثة والحساب لم يتم بعد،
والأعمال لم تُعرَض بعد، وكأن الحكم قد صدر قبل
الدفاع؟ ونظرًا لهذه الصعوبات كلها في تصور الروح
مُسبَقًا يمكن التوقف عن الحكم، وتفويض الأمر،
والإمساك عن الخوض فيه.
٤٠ وقد يُستدل على عدم الخوض فيها، وبأنها سر
ضد الاعتقادات الشائعة، بأنها شيء يخرج من فم الميت،
وبأنها كالهواء أو الأثير عند الطبائعيين المتأخرين،
أو كالحيوانات الصغيرة جدًّا التي توجد في الحياة،
والتي لا تُرى حتى بالمجسمات والمكبرات للمرئي، أو
كالعقار الصغير، أو شرارة النار، أو الجزء الصغير من
السم، أو المغناطيس غير المرئي وخاصية الجذب ولا يُرى بالعين؛
٤١ فالتفويض نفسه يقوم على تصورٍ مادي للسر
الذي يُراد الإمساك عنه!
وإذا كان التصور المادي للروح قد غلب على علم أصول
الدين، فقد ظهر التصور العقلي للروح في علوم الحكمة
بتعريف الروح على أنها هي العقل، وبعد أن طغت علوم
الحكمة على علم أصول الدين في المرحلة المتأخِّرة،
وقبل مرحلة العقائد والشروح. وفي الوقت نفسه يسهِّل
هذا التعريف إثبات خلود النفس والقول بخلود العقل
كحلٍّ وسط بين الفناء والبقاء، وكردٍّ على البيئة
الحضارية القديمة؛ وبالتالي ينتقل موضوع الروح من
مستوى البيولوجيا والفيزيقا إلى مستوى الميتافيزيقا
والحكمة، ومن شهادة الحس إلى بداهة العقل، ومن النفس
الحية إلى النفس الناطقة؛ فالعقل أحد قوى النفس، وقد
توجد النفس دون عقل كما هو الحال في المجنون والصبي
والطفل. والعقل نظري أو عملي. الأول قوة على أفعال
الفكر والرؤية، أو الحدس والاعتقادات؛ والثاني قوةٌ
عملية على الأفعال السلوكية. قد يُطلَق على الأول
الجوهر المتعلق بالجسم تعلُّق التدبير والتصرف، وهو
المُشار إليه في حديث «أول ما خلق الله العقل»، وحال
النفوس بالقياس إليه حال الإبصار بالقياس إلى الشمس.
والثاني مستمَدٌّ من المعنى اللفظي للعقل المستمَدِّ
من «العقال»؛ أي المنع، في فك العقال؛ أي في حرية
السلوك. لذلك ارتبط العقل بالعلم والتكليف؛ فهو أداة
العلم وشرط التكليف. وإن تفضيل العقل على العلم أو
العلم على العقل لهُو إدخال حكم قيمة في حكمٍ واقع.
العقل وسيلة العلم وأداته، وليس أحدهما بأفضل من
الآخر. أما أنواع العقل فهي كلها إسقاطاتٌ إنسانية
وصورٌ فنية لشيءٍ واحد هو الوعي العاقل والتجربة
العاقلة. العقل الغريزي الذي يتهيأ به الإنسان لإدراك
العلوم النظرية هو الوعي في بداية تعقله. والعقل
الكسبي الذي يكتسبه الإنسان من معاشرة العقلاء هو
التجربة العاقلة والقدرة على التعلم. والعقل العطائي
الذي يُعطى للإنسان لتوجيهه العلمي هو العقل الحدسي،
الذي به يُدرِك الإنسان الحقائق النظرية فجأةً بلا
تعمد وروية، والذي به يتوجه نحو الخير بالإرادة
الطبيعية. وعقل الزهاد الذي يكون به الزهد هو العقل
الفاعل، العقل الإرادي الذي به يأخذ الإنسان موقفًا من
العالم. والعقل الشرفي هو العقل الكامل الذي لا يكون
لشخص بعينه فحسب، مثل النبي، بل يكون للحكيم الذي
يستطيع أن يصل به إلى أعلى درجات الكمال النظري
والعملي. وهو في كل الحالات عقلٌ إنسانيٌّ صِرف، وعيٌ
خالص، أكثر من العقل البيولوجي المرتبط بقُوى النفس
الحية، وأقل من العقل الإلهي الحاصل على النور
الرباني. هو أقرب إلى عقل الحكماء منه إلى عقل
المتكلِّمين أو الصوفية.
٤٢
(ب) هل الروح متميِّزة عن البدن؟
والحقيقة أنه لا يهمُّ معرفة الروح وحدها أو البدن
وحده، بل ما يهمُّ هو معرفة هل الروح متميِّزة عن
البدن من أجل إثبات المعاد الروحاني. فإذا تميَّزت
الروح عن البدن، وكان البدن فانيًا، ثبت بقاء الروح
بعد فناء البدن؛ وبالتالي يثبت المعاد الروحاني. يتوجه
السؤال الآن ليس إلى الروح وحدها أو إلى البدن وحده،
بل إلى الأنا؛ هل هي واحد أم مركَّب من اثنين؟ هل
الأنا جسم، أم نفس وجسم، أم نفسٌ خالص؟
٤٣ فإذا كانت الأنا جسمًا، فهل يكون البدن هو
الأنا؟ هل يكون الأنا هو البدن من أول العمر إلى
منتهاه، في كل أجزائه وصوره؟ هل هو البِنية المحسوسة
أو العضو الحي؟ وكيف تكون الأجزاء الداخلة فيه
والخارجة عن هويته أجزاءً من الأنا؟ وقد يكون الأنا
جزءًا لا يتجزأ من القلب، أو أجزاءً لطيفةً سارية في
الأعضاء، أو روحًا لطيفةً في الجانب الأيسر من القلب
أو الدماغ، وقد يكون هو الأخلاط الأربعة في المزاج أو
الدم، وقد يكون عبارة عن الحياة. وهنا تظهر الأنا على
أنها الأنا البيولوجي الذي يتحدث عنه الأطباء،
ويتعاملون معه في حالة التشخيص والعلاج.
٤٤ ولكن، هل الأنا هو مجرد هذا الجسم الحي أو
البدن العضوي؟ يبدو أن الأنا ليس هذا البدن المحسوس؛
لأن له ذاتًا يُعبَّر عنه بضمير المتكلم، الشخص الأول
بالرغم من الغفلة عن الأعضاء؛ فعندما يقول الإنسان
«أنا»، فإنه يعني هويته، ويعبِّر عن ذاته، ولا يشير
إلى بدنه أو أعضائه. وقد تُقطَع الأعضاء الظاهرة، وقد
تفنى وتنحلُّ إلى عناصر بسيطة، وتظل الأنا أو النفس
باقية من أول العمر إلى آخره، بل إن مسار البدن غير
مسار النفس؛ فإذا كان البدن كلما تقدَّم العمر ضعُف
وذبل، فإن النفس تقوى وتنضج؛ ممَّا يدل على أنهما من
طبيعتَين مختلفتين، يوجدان في الزمان في مسارَين
مستقِلَّين ومتقابلين. وإذا كان البدن قادرًا من خلال
الحواس على إدراك المحسوسات، كل حس يُدرِك محسوسًا،
فإن النفس هي القادرة على إدراك المحسوسات الكلية
الظاهرة والباطنة؛ أي المعقولات. وإذا اقتصر عمل
الحواس على الإدراك، فإن نشاط النفس يمتد إلى إدراك
الكليات والحكم بها ابتداءً من الجزئيات. وإذا كانت
أفعال البدن غريزية أو انعكاسية، فإن أفعال النفس
إراديةٌ اختيارية. وإذا كان نشاط النفس يتمثل في إدراك
المُدرَكات الحسية والعقلية، الجزئية والكلية، وكانت
هي الفاعل لجميع أنواع الأفعال، فإن البدن لا يُوصَف
بمثل هذه النشاطات، كما تدل عديد من الشواهد النقلية
على بقاء الحياة بعد الموت متمثِّلةً في حياة الشهداء.
هناك إذن جوهرٌ ناطق بعد الموت، مستقِلٌّ عن البدن
ومتميِّز عنه، وهو النفس.
٤٥ هناك نفس مستقِلَّة عن البدن تحتاج البدن
كآلة؛ فالجوهر لا تأثير له إلا من خلال البدن.
٤٦ ولكن تظل المشكلة قائمة في حالة التركيب؛
أي الجمع بين الأنا النفسي والأنا الجسمي، وهي كيفية
الجمع والتركيب؛ لذلك آثر الحكماء تميُّز النفس عن
البدن كمقدمة لإثبات بقائها والاستغناء عن البدن كلية.
فإذا كان العلم بالله لا ينقسم، وكان محله هو النفس،
تكون النفس كذلك، والحال كذلك أيضًا بالنسبة لكل علم
وفعل. كما أن القوة العقلية تقوى على أفعالٍ غير
متناهية، في حين تكون قُوى البدن محدودة لا تقوم إلا
بأفعالٍ متناهية.
٤٧ وتكون العلاقة بين النفس والبدن علاقة
الاستنباط بالاستقراء، العقل بالحس، الكل بالجزء،
الجدل النازل بالجدل الصاعد.
(ﺟ) هل تفنى الروح بفناء البدن؟
كان الهدف من السؤال السابق عن تميز الروح عن البدن
هو طرح هذا السؤال الأخير: هل تفنى الروح بفناء البدن؟
فالقول بعدم التمايز والتوحيد بين الأنا والجسم، يؤدي
إلى القول بفناء الروح مع فناء البدن، وأنه ليس عند
الله أرواح شهداء تُرزَق.
٤٨ وبالتالي يكون للموت الكلمة الأخيرة، وهو
ما يُضاد التجربة الإنسانية، والرغبة في تجاوز الموت
واستمرار الحياة، والكشف عن الحقائق، واسترداد الحقوق
والقصاص من مُغتصبيها. أما القول بالتمايز، فإنه يؤدي
بالضرورة إلى القول ببقاء النفس، سواء كان ذلك مع حشر
الأجساد أو بدونها كجوهرٍ خالص. فإذا كان المتكلِّمون
قد ركَّزوا على إثبات حشر الأجساد، فإن الحكماء قد
ركَّزوا على بقاء الأرواح بعد فناء الأجساد. فالنفس
الناطقة لا تقبل الفناء عند المتكلِّمين الأشاعرة؛ لأن
المواظبة على الفكر تُفيد كمال النفس ونقصان البدن؛
فلو فنيت النفس بفناء البدن لامتنع أن يكون المُوجِب
لنقصان البدن سببًا لكمال النفس، وإذا كان عدم النوم
يُضعِف البدن فإنه يقوِّي النفس؛ مما يدل على أنهما
يسيران في خطَّين متعاكسين. وفي سن الأربعين يزداد
كمال النفس، ويبدأ البدن في الضعف والوهن. وعند
الرياضات الشديدة تحدث للنفس كمالاتٌ عظيمة، وتلوح لها
الأنوار، وتنكشف لها المغيَّبات، في حين يضعف البدن.
وهي حججٌ مُشابِهة لحجج الحكماء في إثبات تميُّز النفس
عن البدن. هذا بالإضافة إلى أقوال الأنبياء والحكماء
ممَّا يُثبِت الجزم بعدم فناء النفس بفناء البدن،
وببقائها بعد فنائه.
٤٩ أما حجج بقاء النفس عند الحكماء، فإنها
تعتمد على أن النفس بسيطة لا تركيب فيها؛ فالنفس
الناطقة لا تقبل الفناء لأنها بسيطة. ولو قبِلت الفناء
لكان للبسيط فعل وقوة، وهو مُحال. ولو صح عليها العدم
لكان إمكان العدم مقدَّمًا لا محالة على العدم،
واستدعى ذلك الإمكان محلًّا باقيًا، مع أن الشيء لا
يبقى عند عدمه. ولو صح العدم على النفس لكانت مركَّبة
من مادة وصورة، وذلك غير صحيح؛ لأنها ليست جسمًا. ولو
عُدم جزء لكان قابلًا للعدم، ولافتقر إلى عدمٍ آخر
باقٍ، وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وهو مُحال.
فالإمكان هنا وجود وليس مجرد حكم ثبوتي، والنفس
الإنسانية باقية بعد البدن، ولا تفنى بفنائه، ولا لسبب
من أسبابه؛ لأنه لا وجود لتعلق بينهما، لا بالتقدم
والتأخر، ولا بالمعية والتكافؤ. التقدم إما بالزمان أو
المكان أو الشرف أو الطبع. وإن كان التقدم بالذات لكان
علةً صورية أو فاعلية أو مادية أو غائية. وإن كان
التعلق بالتكافؤ فهما متطابقان. وفي كل الحالات، لا
يجوز ذلك في تعلق النفس بالبدن؛ فالنفس حادثة ليس لها
مكان، وليست متكافئة مع البدن، أو علةً مادية له. إنما
النفس تتقدم عليه بالشرف والطبع، وهي أقرب إلى العلة
الصورية أو الفاعلة، لما كانت النفس صورة البدن أو أحد كمالاته.
٥٠
والحجة العظمى حجةٌ إشراقيةٌ خالصة، وهي إثبات سعادة
النفوس بعد المفارقة نتيجة للعلم. فالنفس إما جاهلة،
فتتألم بعد المفارقة لشعورها بالنقص، ولا مطمع لها في
زواله؛ أو عالمة لها هيئات رديئة مُكتسَبة من ملامسة
البدن، فإذا ما فنى البدن رسخ العلم، وشعرت بسعادتها.
سعادة النفوس إذن لا تكون إلا بعد الموت بعد تخلصها من
علائق البدن. وإذا كانت اللذة إدراك المُلائم، وكان
المُلائم إدراك المجردات، فالمجردات لا تحصل إلا بعد
الموت. وعلى عكس ذلك يكون شقاء النفوس الجاهلة بسبب
الهيئات البدنية المتعلقة بالنفس.
٥١ فسعادتها بحصول كمالها؛ أي أن تكون عالمة
بالعقليات، متَّصِلة بالجواهر الروحانية. وبعد
المفارقة تكون أقدر على ذلك، وتكون إمَّا قد عقلت
شيئًا من كمالها ليس بطبعها، أو أن تكون حصلت عليه
بطبعها مشتغلة بالرياضات. وقد يتقدم الحجةَ تقسيمُ
قُوى النفس إلى ثلاث: شهوانية، ومحلها الكبد، وهي أدنى
المراتب؛ وغضبية، ومحلها القلب، وهي أوسطها؛ وناطقة،
ومحلها الدماغ، وهي أشرفها. فإذا فنيت القوتان
الأوليان بفناء البدن، فإن القوة الثالثة، وهي النفس
الناطقة، تبقى بكمالاتها. كما قد تنقسم قُوى النفس إلى
نظرية وعملية، ثم تنقسم النظرية إلى مراتب، أشرفها
النفس القدسية الإلهية، ثم يتلوها شرف النفس التي حصلت
لها اعتقاداتٌ حقة في الإلهيات والمفارقات دون برهانٍ
يقيني، بل اعتقادًا وتقليدًا، ثم تتلوها النفوس
الخالية من الاعتقادات الحقة أو الباطلة، البرهانية أو
التقليدية. وأخيرًا تأتي أقل النفوس درجة من حيث
الشرف، وهي النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة.
٥٢ والحقيقة أن هذه حجةٌ إشراقيةٌ
«أفلاطونيةٌ» خالصة، لما كانت المعرفة الحقة لا تتم
إلا بعد الموت. والسؤال الآن: هل كمال المعرفة
والسعادة في العلم أم في العلم والعمل؟ وهل العلم هو
الرياضي والإلهي؛ وبالتالي هو العلم الديني وليس
الدنيوي، الصوري وليس المادي، العقلي وليس الحسي؟ هل
المعرفة لذة أم وسيلة للعمل؟ ولماذا لا تكون السعادة
في العمل والتحقيق والدخول إلى العالم، بدل الخروج منه
والتأمل فيه؟ لماذا لا تكون السعادة في الثورة والغضب
والتمرد، وليس في الإشراق والنقاء والصفاء؟ وإذا كانت
النفوس تختلف من حيث طباعها وماهياتها، وليس فقط من
حيث قدراتها ومجاهدتها، فكيف يكون هناك ثواب وعقاب
طبقًا لقانون الاستحقاق؟ إن هذه الحجة تطهريةٌ خالصة
تكشف عن الرغبة في قسمة الإنسان والعالم إلى قسمين:
الأول دنيءٌ مملوء بالشهوات لا يصدر منها إلا بالجهل
والموت، والثاني طاهرٌ متعفِّفٌ زاهد لا تصدر منه إلا
الحكمة والخلود. ويخضع ترتيب قُوى النفس وحالاتها
وطباعها إلى هذه النظرة التطهرية التي تستنكف من
العالم وتهرب منه، باحثةً عن شيءٍ آخر خارج العالم،
فتطير منه فارغة من غير مضمون، وتتركه وراءها. ولما
كانت النفس أيضًا مشدودة إلى العالم من خلال البدن،
فسرعان ما يتكالب الجسد عليه؛ وبالتالي يكون الإنسان
متطهرًا من جانب النفس، متكالبًا على العالم من جانب
البدن، ويصبح مقسَّمًا بين السماء والأرض، مشدودًا بين
الله والعالم، فتضيع وحدته.
لذلك غلبت الإِشراقيات والنظريات الصوفية على علوم
الحكمة؛ وبالتالي على علم أصول الدين. ولم يسلم ذلك من
دخول بعض جوانب السحر والطلسمات ما دامت الروح
المتجردة أو النفس القادرة قد وصلت إلى كمالاتها
النظرية والعملية، وتجرَّدت عن علائقها في البدن وعن
صلتها بالعالم. وقد ظهر ذلك في العقائد المتأخِّرة بعد
أن توقَّف تطور علم التوحيد، وتسرَّبت الفلسفة إليه
بعد استبعادها منذ القرن الخامس، وعادت إلى علم
التوحيد الذي لا يشك فيه أحد من وراء ستار، بل تحوَّلت
مسألة النفوس الناطقة في العقائد المتأخِّرة إلى
مسألةٍ مستقِلَّةٍ معتمدة على الاستعارة من التحليلات
الفلسفية. وينضم المعاد النفساني إلى المعاد الروحاني،
ويظهر خلود النفس مع حشر الأجساد.
٥٣ وما أسهل بعد ذلك من تأويل الحجج النقلية
التي تتفق مع هذه الحجة الإشراقية. ويتجاوز الأمر من
مجرد حجة لإثبات بقاء النفس بعد فناء البدن إلى إثبات
للثواب والعقاب في هذه المفارقة ذاتها، فنعم النفوس
الطاهرة في معرفتها، وشقاؤها في جهلها، دونما حاجة إلى
ثواب أو عقاب حسِّيَّين حيث لا بدن.
٥٤ وتنتهي حجج بقاء النفس بعد فناء البدن إلى
غايتها القصوى، وهي إثبات المعاد الروحاني، وهذا الذي
ركَّزت عليه مراحل الوحي السابقة، في حين ركَّزت
المرحلة الأخيرة على المعاد الجسماني. فالمعاد
الروحاني وارد، والمعاد الجسماني وارد أيضًا، والجمع
بينهما بناءً على العقل والشرع. وكلاهما يدل على رغبة
الإنسان في تجاوز الموت واستمرار الحياة.
٥٥ الأول ليس موضوعًا للتكليف، ولا يرفضه
الشرع رفض الحكماء لحشر الأجساد. يدل عليه العقل
والشرع، وتؤيده بداهة الوجدان.
والحقيقة أن المعاد الروحاني يقوم على تصورٍ ثنائي
للعالم، الحط من شأن البدن والإعلاء من شأن النفس. وهي
نظرة متطهِّرة للعالم، ترى المادة شرًّا والروح خيرًا؛
ممَّا يؤدي في أغلب الأحيان إلى رد فعل عكسي؛ تصبح
المادة خيرًا والروح شرًّا، كما هو الحال في المذاهب
المادية، أو تتحول إلى نفاق ورياء عندما يعيش الإنسان
على مستوى المادة، ويتظاهر بأنه يسلك على مستوى الروح.
فطالما هناك ثنائيةٌ متعارضة لا يسلم الإنسان إما
الوقوع في الخلط بينهما بدعوى التمييز، فيعيش في مستوى
المادة مغطِّيًا نفسه بمظاهر الروح، وهو النفاق؛ أو
تتسرب إليه المادة كلما أغرق في الروح، وكأن الصورة لا
تعيش إلا بمضمون، حتى ولو على نحوٍ خفي. وكثيرًا ما
تنتهي تحليلات الروح إلى وصف للمادة. والتصور الثنائي
للعالم تصورٌ طفولي للإنسان قائم على ثنائية الخير
والشر والثواب والعقاب، في حين أن الإنسان البالغ
العاقل يعمل الخير لِذاته، ويتجنب الشر لذاته، دونما
انتظار لثواب أو خوف من عقاب، دونما ترغيب أو تخويف.
وهذا لا يمنع من حدوث ردود أفعال للأفعال الحسنة أو
القبيحة في الدنيا، في الحال أو في المآل تكون في رأي
الناس جزاءً أو عقابًا، وهي أفعال متولِّدة في الطبيعة
ومنتجة في التاريخ. والتصور الثنائي للعالم موقفُ صادٍ
يقوم على الالتذاذ بعذاب الآخرين؛ وبالتالي فهو موقفٌ
يقوم على الكراهية لا المحبة؛ فالآخر غير قادر على
الوصول إلى المعاد الروحاني مثل وصول الأنا، وهذا ما
يعطي الأنا نوعًا من السرور والرضا عن الذات في مقابل
عذاب الآخر وإحباطه؛ لذلك منع الصوفية العذاب للآخرين
عندما أحبُّوا كل البشر. ومنهم من رغب فداء البشر كلهم
بعذابه وحده، ويصبح الإنسان بطلًا منقذًا، مركز
العالم، ومحور التاريخ. وفي الوقت نفسه، يكون التصور
الثنائي للعالم موقفًا ماسوشيًّا يقوم على تعذيب البدن
في سبيل إعلاء الروح، وكلما عُذِّب البدن درجة صعدت
الروح درجة، وكلما اشتد العذاب كمًّا قويت الروح
كيفًا، وكلما اشتد العذاب كيفًا تجلَّت الروح وجودًا؛
فالألم البدني لذة في سبيل سعادة أعظم هي رقي الروح.
والتصور الثنائي للإنسان تصورٌ تشاؤمي؛ لأنه يقوم على
أن البدن شر والروح خير، وأن هذا العالم ميئوس منه،
وأن لا أمل فيه، وأن الرجاء كله خارج العالم، في
العالم الآخر. يقوم باليأس من إنقاذ العالم، ثم يعوِّض
هذا اليأس في إنقاذ الروح؛ لذلك يظهر هذا التصور
الثنائي للعالم في لحظات الضعف والهزيمة عندما يتحد
الإنسان بالجزء الفاني، ويعشق الجزء الخالد؛ تعويضًا
له عن الهزيمة، أو عندما يتحد القاهر بالجزء الخالد،
ويفعل في المقهور الذي اتحد مع الجزء الفاني ما يشاء،
ثم يودُّ المقهور أن يصبح قاهرًا؛ كي يحوِّل القاهر
إلى مقهور بالفعل. يعبِّر إذن هذا التصور الثنائي عن
جدل الهزيمة والنصر، ويكشف عن أن الحياة معركة، ولكنه
يجعلها مشخَّصةً فردية خارج العالم من أجل إنقاذه!
والتصور الثنائي للعالم تصورٌ «رأسمالي» يقوم على
المنافسة والمسارعة إلى الكسب، يعوِّض الخسارة إلى
مكسب وبأسرع الطُّرق، لا عن طريق النزول إلى الأسواق،
بل عن طريق المضاربة والمراهنة واحتوائها من أعلى.
ففهم قوانين اللعبة مقدَّمة لاحتوائها، وكأن اللاعب
الكبير يترك اللاعبين الصغار يتنافسون على الفتات، وهو
يتمتع بالقسط الأكبر، ويمتلك القسط الأعظم. يتعامل
الصغار مع «الصرف»، في حين يتعامل الكبير مع «الأوراق
البنكية». وإذا كان الصغار فقراء، فالخوف على الأغنياء
أن تكون أوراقهم المالية غير مغطَّاة، أو أن تكون
شبكاتهم بلا رصيد. وأخيرًا التصور الثنائي للعالم
تصورٌ طبقي يقوم على افتراض طبقات في العالم الآخر
يتميز الإنسان بأعلاها عن غيره، وتنتقل المنافسة من
الأرض إلى السماء، ومن الدنيا إلى الآخرة؛ فالصعود
دائمًا إلى أعلى وعلى درجات، دون أن يكون هناك هبوط.
ويتربع على القمة الفرد الأقوى والأغنى والأكمل، وكأن
التصور الثنائي للعالم ينتهي إلى تصورٍ فردي خالص؛
إنقاذًا للذات على حساب الآخرين.
وكردِّ فعل على هذا التصور الثنائي، سواء في المعاد
الجسماني أو المعاد الروحاني، أصبح الخلود للنفس
الكلية المتحدة بالنوع، وليس للنفس الفردية. لا يتحقق
الخلود بتشخيص الرغبات، بل يتحقق بالفعل من خلال
الزمان بالنشاط والجهد؛ وذلك بتحقيق الإنسان وغايته في
الحياة، وبتحوله إلى تاريخ وحضارة. ويمكن للإنسان أن
يخلِّد نفسه من خلال حياته بنشاطه وفعله وعمله، عندما
يُنتِج فكرًا ويترك أثرًا؛ وبالتالي يتحول وجوده
الزماني إلى وجودٍ حضاري، كما يفعل الفلاسفة والشعراء
والثوار والشهداء. ليس الخلود واقعة يمكن الحصول عليها
أو لا يمكن لكل فرد، بل هي عملية تخليد، إمكانيةٌ
محضةٌ مشروطة بجهد الإنسان وفعله، وكلٌّ قادر على
الخلق والتأثير. فالمعاد ليس جسمانيًّا أو روحانيًّا،
بل المعاد إنسانيٌّ خالص تكشف عنه رغبة الإنسان في
مقاومة الموت واستمرار الحياة عن طريق أفعاله في
الدنيا وآثاره في الناس، فيتحول وجوده الفردي إلى
وجودٍ جماعي، ويُخلَّد الفرد في الجماعة، ويبقى في الأمة.
٥٦