وتظهر النبوة كشخص في حياة الرسول الخاصة وسيرته
الذاتية، والتي لا تتعلق في كثير من الأحيان بالرسالة
كتبليغ مُتواتِر لها مضمونٌ فعليٌّ يتصل بحياة الناس.
ويُعطي القدماء نماذج لهذه النبوة المشخَّصة في الإسراء
والمعراج، وفي عصمة النبي، وفي تفضيل الأنبياء، وفي سيرته
الذاتية.
(أ) الإسراء والمعراج
لم يظهر هذا الموضوع كجزء من العقائد إلا في العقائد
المتأخِّرة في مرحلة انحسار العقل وزيادة النقل؛ ففي
العقائد المبكِّرة يُذكَر كأحد موضوعات الإيمان في
النبوة، ولكنه في العقائد المتأخِّرة يزداد تفصيلًا في
وصف السموات السبع، وسدرة المنتهى، والبراق، وجبريل،
وميكائيل. وهي مادة مستمَدة أحيانًا من علوم السيرة،
وأحيانًا أخرى من الخيال الشعبي والمصنَّفات فيه.
١ وبتحليل إحدى الروايات الواردة في كتب
العقائد المتأخِّرة يُلاحَظ أن الخلاف في مكان ووقت
وقوعها، قبل الهجرة أو بعدها، في بيت أُم هاني أَم
عائشة، قد يكشف تنافسًا بين الزوجتَين لنيل شرف
الواقعة، أو قد يكشف تنافسًا آخر بين المهاجرين
والأنصار لنيل الشرف، قبل الهجرة للمهاجرين وبعد
الهجرة للأنصار. ولم يبدأ الرسول رحلته إلا بصحبة
ملَكَين؛ جبريل وميكائيل، رسول الوحي ورسول الله. ولا
تكون الصحبة إلا باثنَين يمينًا ويسارًا؛ تعبيرًا عن
مرتبة الصديق ورفعة المنزلة، ثم حملاه إلى المسجد وهو
مكان طاهر لشق صدر قلبه وغسله وملئه علمًا وحكمًا؛
فالحمل إلى المسجد أفضل من السير به إلى المسجد، كما
هو الحال في أفعال الصلاة، ولم يتألم حين شق صدره على
نقيض مناظر الصلب التي تألَّم فيها المسيح، حتى يزداد
تحمُّله لآلام البشر، في حين أن الألم هذه المرة لا
وجود له. وهذا يعبِّر عن تصوُّر الدينَين للألم؛ وجود
أم عدم، فشل أم نجاح. وقام جبريل، وليس ميكائيل،
بالغسل، ووضع فيه العلم والحكمة؛ لأنه ملك الوحي.
وللواقعة نمط سابق في كرامات النبي قبل البعثة في شق
صدره وغسله، ورفع المضغة السوداء منه، وتخليصه من
الشيطان. وكلها أفعال الطهارة من المسجد إلى القلب إلى
السماء؛ نقطة البداية ونقطة النهاية والمحمول بينهما.
وركب الرسول البراق دون أن تُعطي مصنَّفات العقائد
وصفًا له كما تُعطي كتب السِّيَر؛ لأن قدر الخيال
الشعبي فيه لا نهاية له. وفي الطريق إلى المسجد الأقصى
رأى عجائب لا تُذكَر، ولكن من الطبيعي أن يركب البراق
وينظر حوله وهو يقطع هذه المسافات الشاسعة، أن يرى ما
لا يراه غيره من عابري الفيافي والقفار، خاصةً من رسول
تعوَّد على هذه الرحلة، ويعرف ما فيها من مناظر الطريق
قبل البعثة وهو يقود القوافل إلى الشام. وبطبيعة الحال
أن يصلِّي إمامًا في بيت المقدس التي هي قِبلة
المسلمين قبل أن تتحول إلى البيت العتيق. وكيف يصلِّي
والصلاة لم تُفرَض بعدُ إلا بعد الرجوع من الإسراء
والمعراج؛ فقد فُرِضت الصلاة على المسلمين بعدها؟
وصلَّى إمامًا بالأنبياء والرسل؛ لأنه خاتم الأنبياء.
ومن الطبيعي أن تكون الغاية مقدمة على الوسيلة،
والنهاية على المقدمة. أما صلاته بالملائكة مع الرسل
والأنبياء فيتطلب نزول الملائكة من السماء إلى بيت
المقدس أولًا. وهي أفعل تفضيل على الأنبياء والرسل
زيادةً في إبراز الإمامة للجميع. ولا يُذكَر كم من
الوقت أخذ الإسراء ولا أيةَ صلاة كانت؟ أما المعراج
فمِرقاة من ذهب ومِرقاة من فضة؛ فلكلِّ مسارٍ معراج،
ولكلِّ قطارٍ قضيبان، والذهب والفضة أغلى معدنَين يصبو
إليهما كلُّ إنسان راغبًا في الثروة والغنى ومتع
الدنيا. ويبدو أن المعراج ليس روحيًّا خالصًا، بل هو
معراج مادي من معدنَين ماديَّين. وهل يحتاج العروج إلى
السماء طيرًا في الهواء إلى مسار مادي وطريق معدني؟
وحتى يزدان الركب بهاءً وجمالًا وأبهةً تحفُّه ملائكة
يمينًا وملائكة يسارًا، يحفان بالموكب الملكي صحبةً
وزينةً وتكريمًا. وعلى كل عتبة سماء يُخبِر جبريل
ملائكته بقدوم الرسول، فيرحِّبون به ويعظِّمونه، فيظهر
فضله، فيُسَر قلبه، ويزداد شكره لربه. وفي صياغاتٍ
أخرى توصف السماء بالياقوت الأحمر والأخرى من الزبرجد
الأصفر، وإحدى درجاته من الفضة وأخرى من الذهب مكلَّلة
بالدر والياقوت! وهو وصفُ غنيٍّ رأى كل هذه الجواهر
وعرفها، أو وصف تاجر مجوهرات ربما يعبِّر عن حرمان
الناس؛ حتى يستطيع الخيال أن يؤثِّر فيهم ويجذبهم
إليه. وهل السماء مادية حتى تكون فيها درجات من ذهب
وفضة؟ وتُلاحَظ ثنائية المعدن وتمايز الألوان بين
الأحمر والأصفر صراحةً، أو الأصفر (الذهب) والأبيض
(الفضة) بطريق غير مباشر. وقد يكون ذلك وصفًا لألوان
الشفق؛ الحمرة والصفرة، أو لألوان الطيف، كما يُلاحَظ
تنوُّع المعادن من ياقوت وزبرجد، ذهب وفضة، در وياقوت،
وتكرار الياقوت مرتَين. وكيف بالذي يُسرى به ثم يُعرَج
وفي شوق إلى اللقاء، ويلتفت إلى هذا النعيم المادي
الحسي كله الذي يُبعِد النفس عن نعيمها الروحي؟ وقد
تكون السموات سبعًا وبها سدرة المنتهى لوصف نهاية
المطاف. وهنا يتوقف علم أصول الدين ويعتمد على علوم التصوف.
٢
والحقيقة أن هذه الرؤية لها نمطها التقليدي في تاريخ
الأديان، مثل صعود باروخ ودانيال إلى السماء على عمود
أو مركبة من نار؛ رمز القوة عند اليهود. ولها ما
يُشابِهها أيضًا في أساطير اليونان، بل إن السماء في
ديانات الشرق (كوريا) لتُصبِح هي المُبتغى والمطلب.
فهي بهذه الصيغة أقرب إلى الأساطير الشعبية التي
يخلقها الرواة للتأثير في النفوس، واللعب بعواطف
الإيمان، واستعمال كل الواقع النفسي والاجتماعي
للحاضرين من أجل الإقناع والتأثير. هل هو رمز على
هزيمة الكفار في غزوة بدر، ورؤية النبي لنفسه وهو
سيدخل مكة فاتحًا، كما هو الحال في رُؤًى عديدة من
قبل، مثل رؤية يوحنا التي تبشِّر بانتصار المسيحية على
الإمبراطورية الرومانية؟ الحقيقة أن الرواية كلها
مُعارِضة لروح الإسلام ومنهجه وطبيعته ورسالته؛
فالإسلام دين واقعي ورسالة إنسانية. اكتمل فيه الوحي
واستقل فيه العقل وأصبح للإرادة حرية الاختيار، ولكن
الرواية عود إلى الوراء، إلى قصص الأنبياء عند بني
إسرائيل؛ حتى لا يكون خاتم الأنبياء أقل من الأنبياء
السابقين في مجتمعٍ تصل المنافسة فيه بين الدين الجديد
والديانات القديمة، خاصةً اليهودية، حد العداء السافر
والحرب العلنية. تُشير الرواية إلى جوانب غيبية
والإسلام ليس دينيًّا غيبيًّا. هل هي مشاهدة للعالم
على نحوٍ تجريبي بالرؤية الحسية؟ ولكن التجربة هنا
فردية صرفة، مثل تجارب الصوفية التي لا يُمكِن إيصالها
إلا رمزًا. وماذا رأى وماذا شاهد؟ لقد كان قاب قوسَين
أو أدنى؛ أي إنه لم يرَ الموضوعات ذاتها، ولكنه رأى
صورًا وخيالات لها، كما يفعل الأنبياء بعد البعثة،
وكما يحدث للشعراء والأدباء والصوفية. هل أخذ منها
علومًا يستفيد منها الناس، أم أنها تجارب ذوقية خالصة؟
وما هي هذه العلوم التي أخذها ولم يبلِّغها للناس؟ وما
الفائدة العامة من التجارب الذوقية الفردية؟ هل هي
مكافأة للرسول؟ وكيف تُعطى المكافأة والرسالة لم تتم
بعد؟ هل هي معجزة من معجزاته مثل باقي المعجزات
القديمة؟ ولكن المعجزة بهذا المعنى لم يعُد لها وجود.
وقد أتى الإعجاز الجديد بديلًا عنها، وفي إعجاز القرآن
الكفاية، وهو التحدي البشري الأدبي والتشريعي، من حيث
الشكل ومن حيث المضمون. وإذا كانت الغاية منها تعليمية
تجريبية صرفة، وهو ما يُطابِق منهج الإسلام في النسخ،
فإن فرض الصلاة أثناءها، ثم سماع النبي تجارب الأمم
السابقة على لسان أنبيائها في قدرات الأفراد والشعوب
على تحمُّل العبادات، وتخفيض عدد الصلوات من الخمسين
إلى الخمس صلوات، تكون العبادات كلها قد حقَّقت الهدف
منها، وهو فرض الصلوات الخمس على الأمة بناءً على
تجارب الأمم السابقة وطبقًا لخبراتها؛ وبالتالي تُصبِح
الرواية كلها في حاجة إلى تفسير وتأويل.
لذلك يُؤثِر البعض تصوُّر الإسراء والمعراج روحيًّا
خالصًا، فهما صورتان فنيتان لتميُّز النفس عن البدن،
ولصعود الروح إلى الملأ بحثًا عن المعرفة وطلبًا
للسعادة، ورمزان للتعالي والمفارقة يُشيران إلى يقظة
الشعور، وإلى قدرته على التعالي والمفارقة. وهذا جائز
على طريقة الفلاسفة، وما حاولوه من قبل في نظريات
الاتصال بين العقل المُنفعِل والعقل الفعَّال، أو ما
حاولوه من قبل في نظرية النبوة. وقد تمَّت هذه الرحلة
الروحية في النوم لا في اليقظة، وتمَّت الرؤية بالروح
لا بالعين. وعلى أقصى تقدير لم تصل الرواية إلى حد
التواتر؛ وبالتالي لا تُفيد اليقين. وإذا كان الإسراء
من مكة إلى بيت المقدس قطعيًّا نظرًا لإمكانية رؤية
النفس عن بعد، فإن المعراج من بيت المقدس إلى السماء ظني.
٣ وقد يُحاوِل البعض تفسير ذلك علميًّا؛ بأن
يُماثَل بانتقال إبليس من مكان إلى مكان، وبحركات
الأفلاك السيارة، على قدرٍ عالٍ من السرعة، دون أن
نشعر بها، وبصعود الجسم الخفيف إلى السماء؛ بسبب ضغط
الهواء، أو حتى برجال الفضاء وهم يسبحون.
٤ ومع ذلك تظل من جنس تأويلات الحكماء،
ولكنها مُرتبِطة بنتائج العلم، وإليه يرجع الفضل في
فهم السمعيات. ولما كان العلم نسبيًّا، متغيِّرًا
طبقًا لتقدُّم العلم، أصبحت السمعيات كذلك، وغاب عنها
طابع الإطلاق واليقين حتى ولو كانت متواترة. والرؤية
موجودة في أصل الوحي في عمومها، وهي الإسراء فقط دون
الإعراج، وما سوى ذلك من الآيات تؤخذ قياسًا كما يفعل
الصوفية، ويُدِيرونها حول واقعة الإسراء.
٥
(ب) عصمة الأنبياء
والحديث عن عصمة الأنبياء هو من مظاهر الحديث عن
النبوة كشخص لا كرسالة، مع أن النبي مثل باقي البشر
ينطبق عليه قانون الاستحقاق، وهو بشر معرَّض للصواب
والخطأ، ولكن له ميزة التصحيح لإعطاء الدرس وتعليم
الناس؛ فهو على اتصال دائم بالوحي، وسلوكه قدوة.
الأنبياء بشر كغيرهم من البشر، ليس لديهم أية ميزة إلا
أنهم وسائل تبليغ للرسالة. ولما كانوا هم أول من
حقَّقوها وطبَّقوها، فمن الطبيعي أن يكون سلوكهم هو
السلوك الأمثل بالنسبة إلى الجماعة، فسلوكهم بهذا
المعنى أكمل سلوك بشري؛ بدليل نجاح رسالاتهم، واتخاذ
الجماعات لهم قدوة ومثلًا، خاصةً في السلوك العام الذي
لا يؤثِّر في الرسالة في شيء.
ولكن هل يصل حد النموذج أو القدوة أو الأسوة إلى حد
العصمة؟ وما هي العصمة؟ هل العصمة خلق من الله في
النبي، وبالتالي هي هبة له من الله؟ لو كانت كذلك لكان
النبي معصومًا بالضرورة، ولما استحق أي فضل أو جزاء
على عصمته. ولما كان السؤال نفسه مُمكِنًا لغياب
احتمال الخطأ أصلًا، ولما كان الفعل موجودًا للحساب؛
لانعدام حرية الإرادة منذ البداية، ورجوع أصل العدل
إلى أصل التوحيد. هل هي ملَكة نفسية تمنع من الفجور،
وتحصل بالعلم بمثالب العاصي ومناقب الطاعات؛ وبالتالي
تكون مكتسَبة بجهد النفس وبعد معاناة؛ وبالتالي تستحق
الجزاء؟ إذا كانت الملَكة أقرب إلى الفضل واللطف
والهبة والعون والتيسير، فهي أقرب إلى أفعال الله داخل
أفعال الشعور الداخلية؛ وبالتالي لا تكون أفعالًا حرة،
ولا تستحق جزاء. وإن كانت أفعالًا مكتسبة للإنسان
بجهده وبناءً على حرية إرادته، استحقَّت الشكر، وأصبح
الخطأ فيها مُمكِنًا؛ وبالتالي استحالت العصمة؛ بمعنى
عدم الوقوع في الخطأ عمدًا أو عن غير عمد.
٦ ويعتمد إثبات العصمة على عدة حُجَج، منها
ما يتعلق بالنبوة كنظرية في الاتصال؛ علاقة النبي
بالله وهي الأضعف، ومنها ما يتعلق بالنبوة كتبليغ
رسالة، وهي الأقوى. فإذا كان الله قد قرن بكل إنسان
شيطانًا، وأن الله أعان النبي على شيطانه، فأسلم فلا
يأمره إلا بالخير، فذاك أيضًا قضاء على حرية الفعل
الإنساني أصلًا؛ وبالتالي يضيع الاستحقاق. ووضع النبي
في مرتبة أعلى من سائر البشر، أقرب إلى «الملائكة»
منهم إلى سائر الخلق، فيستحيل التكليف؛ وبالتالي
يستحيل الثواب والعقاب. ولا يرجع الفضل في العصمة
حينئذٍ إلى الرسول بل إلى الله، وتكون هذه ميزة له
وحده دون سائر الأنبياء، مثل داود وسليمان. وتظل حجة
الخطأ قائمة طالما أن أفعالًا خاطئة قد تمَّت، سواء
صغيرة أم كبيرة، عن عمد أو عن غير عمد. وإذا كان
الرسول قد تم شق قلبه من قبلُ لاستنزاع الشيطان مرة
قبل البعثة من كراماته، ومرة بعد البعثة في بداية
الإسراء والمعراج؛ فكيف يعود إليه من جديد كي يُخطئ
النبي، فيُعِينه الله عليه ويعصمه منه؟ أما الحُجَج
الأخرى المتعلِّقة بالنبوة كتبليغ رسالة فهي أقرب إلى
العقل، ولكن يُمكِن أيضًا ردها. صحيحٌ أنه لو صدر عنهم
الذنب لحرم اتباعهم، ولو أذنبوا لرُدَّت شهادتهم؛ فلا
شهادة لفاسق، ولو صدر عنهم لوجب زجرهم؛ لعموم الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكانوا أسوأ حالًا من
العصاة، لا يألون عهد الله، ولكانوا غير مُخلِصين، ولا
يكونون أنبياءً، ولكانوا من حزب «الشيطان» وليس من
«حزب الله» مع أن الله وصفهم بأنهم يسارعون إلى
الخيرات، ولكن ذلك كله يقوم على افتراض مُسبَق، وهو أن
النبي أكثر من بشر، ولا يجوز عليه ما يجوز على سائر
البشر من خطأ وسهو ونسيان، مع أنه بشر رسول؛ يأكل
الطعام، ويمشي في الأسواق، وابن امرأة كانت تأكل
القديد. صِدقه مِن صدق رسالته، وتصديق الناس له من
تصديقهم لها. التوحيد أصل والعدل أصل آخر؛ في التوحيد
اللهُ قادر على كل شيء، وفي العدل الإنسانُ حر
الإرادة، مُستقِل العقل، يُخطئ ويُصيب، كما يجوز عليه
الصحة والمرض، القوة والضعف، الشباب والشيخوخة، الحياة والموت.
٧
وقد يخفُّ هذا الموقف المبدئي الإيماني شيئًا
فشيئًا، بالتخلي تدريجيًّا عن إثبات العصمة حتى نفيها،
ابتداءً من التفرقة بين ما قبل البعثة وما بعدها. فإن
جاز بعض الخطأ قبل البعثة فلا يجوز بعدها؛ فقبل البعثة
لم يكن الرسول مكلَّفًا، ولا متعبَّدًا بشريعة، ولا
مُخاطَبًا برسالة؛ وبالتالي انتفى موضوع الصواب
والخطأ؛ ولكن في نفس الوقت ينفي ذلك وجود الدين
الطبيعي وشريعة العقل؛ دين الفطرة، بل ينفي وجود
كرامات قبل البعثة، فلا تجوز المعصية والكرامة في نفس
الوقت، كما ينفي حجة مكارم الأخلاق التي عُرِفت عن
الرسول قبل البعثة، والتي تُستعمَل أحيانًا كأحد
مبرِّرات اختيار الرسول كرسول، كما يُناقِض بعض عموم
الآيات، مثل:
وَإِنَّكَ لَعَلَى
خُلُقٍ عَظِيمٍ دون تخصيص لما بعد البعثة
أو قبلها.
٨ وقد تجوز السهوة والغفلة؛ أي الأخطاء لا
عن قصد وعن غير عمد، في حين لا تجوز الأخطاء المقصودة
المتعمَّدة؛ فلا يرتكب النبي خطأً وهو عالم به أو عن
عمد، بل يفعله عن سهو وخطأ وسوء تقدير. وهذا يتفق مع
المسئولية عن الفعل بوجه عام، ليس عند الرسول فحسب، بل
عند باقي المكلَّفين؛ فشرط الفعل هو القصد، والأفعال
غير المقصودة ليست أفعالًا تكليفية، وقد يقع الخطأ عن
تأويل واجتهاد، وليس عن قصد وعمد.
٩ والاجتهاد أصلٌ من أصول التشريع، وللمُخطي
أجر وللمُصيب أجران. وقد تجوز عليهم الصغائر دون
الكبائر؛ إذ لا يجوز عليهم الكفر والفسق، وهو ما ينتج
عن ارتكاب الكبائر.
١٠ ولكن ماذا يحدث عند الذي لا يفرِّق بين
الصغيرة والكبيرة؟ وكيف تجوز الصغائر وفي نفس الوقت
يكون النبي قدوة، وأفعاله سنة، وقد بُعِث ليُتمِّم
مكارم الأخلاق؟ وإن جازت الكبائر مع الصغائر فلا يجوز
الكذب في التبليغ؛ لأنه خيانة وكتمان، وهي صفة تمس
الرسالة، لا يُمكِن تجاوُزها وإن أمكن التجاوز عن
الأخطاء التي تمس الشخص.
١١ وقد تقع منهم الأخطاء ويغفرها الله لهم،
كما يغفر لباقي البشر، دون زيادة أو نقصان، بعد إعلان
التوبة والندم. والحقيقة أن كل ذلك إن وقع فهي دروس
تعليمية للناس، وتوجيه للأمة وإرشاد لها، ولا أحد
معصوم من الخطأ ما دام بشرًا يُمارِس حريته ويعمل
عقله؛ فقد ينسى النبي، كما ينسى البشر، حتى في حفظ
الوحي، وقد ينتابه ما ينتاب البشر من أهواء وانفعالات،
وقد يرجِّح مرجوحًا، وقد يُخطئ في التحليل وفي إدراك
موازين القوى، وقد يتسرع أو يهتم، وقد يشك، وقد يعزم
ويجزم ويقطع. ويأتي درس التصحيح في حالة النبي كتعليم
وتوجيه وإرشاد. وعلى هذا النحو ترى الأجيال بعده
التوتر بين الواقع والمثال، بين ما هو كائن وما ينبغي
أن يكون. وقد تكون كثير من الأفعال مشروطة أو محتملة
ولم تقع بعد، ولكن التنبيه عليها وذِكرها كحالة
افتراضية قد تقع فيما بعد، يدخل في إطار هذا الدرس
التعليمي، وهو منهج الوحي في التعليم من المحاولة
والخطأ، وفي إعادة التكليف طبقًا للواقع، وكما هو واضح
في النَّسخ.
١٢
والحقيقة أن القول بعصمة الأنبياء هو رد فعل على
القول بعصمة الأئمة؛ فإذا كانت هناك عصمة كتعبير عن
التبجيل والتعظيم للقائد والزعيم، فالنبي أولى بها من
الإمام. والقول بعصمة الإمام تستدعي القول بجواز الخطأ
على النبي، والقول بعصمة الإمام في الحقيقة إنما هي
نتيجة لزعامته لمجتمع الاضطهاد، وضرورة سيطرته على
الجماعة وقيادته لها؛ فالعصمة تُعطيه قوة معرفية
وعملية، وتسمح له بالقيادة والإرشاد أكثر مما يُعطيه
جواز الخطأ والمراجعة عليه من الناس، وهو نتيجة لاتجاه
المجتمع العظيم لتبجيل الزعماء والقادة، ورؤية خلاصه
فيهم ومن خلالهم، ورفعهم إلى مستوى الأنبياء بل
والآلهة؛ ففي كل المجتمعات المُضطهَدة تبرز أهمية
الإمامة وصفاتها مثل العصمة، وطالما كان الإمام
معصومًا كان مطاعًا، ويبرز ذلك في كل مجتمعات التسلط
عندما يدَّعي الزعيم السياسي أنه هو وحده العالم
والقائد والمُلهَم والمُرشِد والمعلِّم، وأنه لا تجوز
مراجعته أو نقده أو الخروج عليه، وأنه لا يجوز حتى لمس
بغلة السلطان أو نقدها بكلمة، بل إن النبي يجوز أن
يكفر ويعصي ويرتكب الكبائر، في حين لا يجوز ذلك على
الإمام. وإن حاجة الإمام إلى العصمة أكثر من حاجة
النبي؛ فإذا كان للنبي وحيٌ يصحِّحه فإن الإمام ليس له
إلا العصمة. العصمة إذن سلاح سياسي لزعزعة الثقة في
القيادة المعارضة؛ أي النبوة أو الخلافة، ولزرعها في
قيادة جديدة هي الإمامة، فكل زعيم يدَّعي قومُه أنه
أولى بالعصمة من الآخر؛ وبالتالي أولى بالطاعة لأمره
والانتصار له، وبالتالي يتنازع العصمةَ الخصمان؛ دعاة
النبوة ودعاة الإمامة، مجتمع التسلط ومجتمع الاضطهاد.
كلٌّ منهما يبغيه دفاعًا عن ذاته؛ فدخلت العصمة كسلاح
سياسي في الصراع من أجل السلطة.
١٣
ثم يُطرَح موضوع العصمة من الحاضر إلى الماضي، ومن
آخر مراحل النبوة إلى أولها عبر التاريخ، ومن خاتم
الأنبياء إلى الأنبياء السابقين، والغرض من ذلك تأصيل
موضوع العصمة الحالية تاريخيًّا إثباتًا أم نفيًا؛
وبالتالي تُستعمَل أخطاء الأنبياء السابقين؛ إما
لإثبات العصمة أو لنفيها وتأويلها. والحقيقة أن موضوع
العصمة لدى الأنبياء السابقين مُرتبِط بتاريخ النبوة؛
فكان لا يُعيِّر النبيَّ السابق أفعالُ العصيان؛ لأنها
مظهر من مظاهر القوة والعظمة، مثل داود وسليمان في
علاقاتهم النسائية، ومثل موسى في القوة والتشيع لقومه
على حساب الحق وشمول المبادئ وعموم القيم. فكل نبي
يعبِّر عن مرحلة نبوته؛ فهناك أنبياء لهم صفة الملك
دون الفضيلة، مثل داود وسليمان، وأنبياء لهم صفة القوة
دون الحق، مثل موسى. أما محمد خاتم الأنبياء؛ أي
النبوة في مرحلتها الأخيرة، فقد بُعِث ليُتمِّم مكارم
الأخلاق. ففي المراحل السابقة: النبوة — الملك، أو
النبوة — القوة، يجوز فيها العصيان؛ وبالتالي تنتفي
العصمة. أما في المرحلة الأخيرة في مرحلة النبوة — القدوة، أو النبوة — فلا يجوز فيها
العصيان.
١٤ كما يُطرَح السؤال بالنسبة ﻟ «الملائكة»
بدافع المبالغة، بمقارنة الأنبياء بالملائكة، وإن كان
الاتفاق على عصمة الملائكة أسهل؛ فهم ليسوا مكلَّفين؛
وبالتالي ليسوا مُحاسَبين، وهم ليسوا بشرًا؛ وبالتالي
ليسوا أحرارًا عاقلين في موقف الاختيار بين الحسن
والقيبح. لا يفعلون الخير إلا جبرًا، باستثناء إبليس
الذي أثار استعمال حريته في الاعتراض والرفض؛ فكان
جزاؤه استعمال الحرية إلى أقصى حد، وإمهاله وإعطاءه
الزمان كله لتحدي حرية الإنسان ذاتها.
١٥ ولو أن إبليس عند البعض لم يكن من
الملائكة بل كان من الجن، وباستثناء هاروت وماروت، ولو
أنهما أيضًا عند البعض لم يكونا من الملائكة. وإدراج
إبليس مع الجن في اللغة تغليبًا. وقد زادت التفاصيل
فيه في العقائد المتأخِّرة إلى حدٍّ جعل الجن
متعبَّدين بالإسلام، طعامهم الروث والعظام. وربما لم
يسأل إبليس الله النظِرة، وربما لم يعصِ إبليس بتركه
السجود لآدم، ولكن لجحده بالله. وكذلك زاد التفصيل في
قصة هاروت وماروت، وأنهما ليسا ملَكَين عصيا الله
وشرِبا الخمر، وحكما بالزور، وقتلا الناس، وزنَيا،
وعلَّما زانيةً اسم الله الأعظم، فطارت به إلى السماء،
فمسخت كوكبًا وهي الزهرة، وأنهما عُذِّبا في غار بابل،
وأنهما يعلِّمان الناس السحر. والحقيقة أن إبليس هو
رمز الحرية والرفض وتحدي الإنسان. أما هاروت وماروت
فإنها قصة في نفس السياق؛ يتلو الشيطان على ملك
سليمان، ويعلَّمان السحر، فيفرِّقون بين المرء وزوجه،
ويضرِّرون بالناس، ولكن الإنسان قادر على الدخول في
التحدي ومقاومة الشر والدفاع عن صالحه وكيانه.
(ﺟ) تفضيل الأنبياء
فإذا كان الأنبياء يسري عليهم ما يسري على باقي
البشر من الأخطاء، فهل يتفاضلون فيما بينهم أو
يتفاضلون مع غيرهم؟ يعرض القدماء أولًا مسألة التفضيل
بين الأنبياء والملائكة؛ أيهما أفضل، قبل أن يعرضوا
لتفضيل الأنبياء فيما بينهم، ثم يأتي بعد ذلك التفضيل
بين الأنبياء والأئمة ما دام كلاهما يُشارِكان في
العصمة أو في القيادة والزعامة، ويأتي ثالثًا التفضيل
بين الأنبياء والأولياء ما دامت لكلِّ فريقٍ كرامات
ومعارف وسلطة على البشر.
والحقيقة أن تفضيل الأنبياء على الملائكة أو تفضيل
الملائكة على الأنبياء لا أساس له؛ لأنه تفضيل بين
طرفَين غير متساويَين، وليسا من نفس النوع. فالأنبياء
بشر والملائكة ليسوا من البشر. الأنبياء أشخاص مرئية،
لها أفعال في التاريخ، ويُمكِن الحكم عليهم، في حين أن
الملائكة أشخاص معنوية، لا يُمكِن الحكم عليها إلا
ظنًّا. ولا يُمكِن مقارنة المادي بالمعنوي، المرئي
باللامرئي، فهما ليسا من نفس النوع. الأنبياء معروفون
برسالاتهم وأعمالهم، وآثارهم في التاريخ؛ أي تأسيس
الدعوات وإقامة الدول وتشكيل عقائد الناس وتوجيه
سلوكهم. أما الملائكة فلم يرَها أحد، ولم تؤثِّر في
التاريخ، ولم تُعرَف إلا سمعًا من النبوة؛ وبالتالي لا
يوجد إلا طرف واحد، هو النبوة أو الأنبياء الذين
وُجِدوا في التاريخ، وأخبروا عن الملائكة. وما هو
مقياس التفضيل؟ العصمة؟ درجة الخطأ؟ الرتبة عند الله؟
شرف الوظيفة؟ وإذا أمكن معرفة ذلك في حال الأنبياء،
فكيف يُمكِن التعرف على كل ذلك في حال الملائكة؟ كيف
يُمكِن معرفة عصمتهم أو درجة أخطائهم أو رتبتهم عند
الله؟ أما الوظائف فلا تتفاوت فيما بينها شرفًا ورتبة،
بل هو نوع من تقسيم المهام وتوزيع الأعمال؛ فالنبوة
للتبليغ للناس، والمَلاك للتبليغ للنبي، وليس هذا
بأفضل من ذاك. وبطبيعة الحال لا يكون التفضيل بين
المادة والروح، بين المرئي واللامرئي، فليست الروح
بأفضل من المادة، ولا المادة بأفضل من الروح، ولكن
يكفي التفضيل من حيث الفعل والغاية والرسالة. وقد يكون
الكائن الحر العاقل مثل الإنسان أفضلَ من الكائن
المُجبَر مثل الحيوان أو النبات أو الجماد أو الملاك.
وما الهدف من التفضيل؟ الاختيار أم الترجيح أو التمثل
في السلوك؟ هل الهدف مجرد معرفة نظرية من عقليةٍ تتصور
الموضوعات في سلَّم شرف وترتيب رأسي صاعد أو نازل، أم
أنه تفضيلٌ ينتج عنه أثر عملي سلوكي في حياة الناس
العملية؟ هل هو نتيجة لعملية التعظيم والتبجيل لرفع
الأنبياء درجةً أعلى، أو للتقرب إلى الملائكة صعودًا
إليهم وزلفى؟ وما هي نتيجة التفضيل؟ وكيف يتم الاختيار
بين الأنبياء والملائكة في الأفضلية؟ وهل هي أفضلية
فعلية أم مجرد حكم قيمة طبقًا للهوى والمزاج ودرجة
الإحساس بالتعظيم والتبجيل والاغتراب عن
الواقع؟
فإذا ما تم تفضيل الملائكة فلأنَّ اللامرئي أفضل من
المرئي، والمجرد أفضل من العيني، والروحانيات متعلِّقة
بالهياكل العُلوية في حين تتعلق النفوس بالهياكل
السُّفلية، والروحانيات مبرَّأة عن الشهوة والغضب ومن
الشرور كلها، وهي نورانية لطيفة، على عكس الجسمانيات
المركَّبة، تقوى على الأفعال الشاقة وتعلم المجردات
والكليات. وكل هذه الأسباب في الحقيقة إنما تنبع من
النظرية الإشراقية، ومن المواقف الصوفية التي تكشف عن
اغتراب عن الواقع وبُعدٍ عنه، وتطهُّر فيه، وهروب منه.
١٦ وقد يتخصص الحكم بتفضيل الملائكة على
الأنبياء؛ بأنهم الملائكة الذين لا يعصون ربهم نظرًا
لواقعة إبليس. وقد يعمُّ الحكم في تفضيل الملائكة ليس
فقط على الأنبياء، بل على جميع الناس وعلى عامة الخلق.
وقد يتم التخصيص برسل الملائكة؛ فهم أفضل من عامة البشر.
١٧
وتفضيل الأنبياء على الملائكة أكثر واقعية من
التفضيل الأول، وهو أكثر مثالية، ويعتمد هذا التفضيل
أيضًا على حُجَج نقلية؛ فقد أُمِرت الملائكة بالسجود
لآدم، كما أن الله علَّم آدم الأسماء كلها، والذي يعلم
أفضل من الذي لا يعلم، وأن عوائق البشر عن العبادة من
شهوة وغضب، وقدرته على العبادة وتكليفه، لَتجعله أكثر
استحقاقًا من الملائكة التي لا يُوجَد لديها مثل هذه
العوائق، وأن وجود الإنسان في عالم الاختيار بين
المَلاك والحيوان يجعله أكثر حرية وحركة وغنًى عن
الملائكة التي لا تُوجَد إلا في عالم واحد، وليس لها
هذا الاختيار؛ وبالتالي فهي مُجبَرة على الخير وعلى
الثبات فيه. وقد يُزاد التخصيص في التفضيل، فتُصبِح
رسل البشر أفضل من رسل الملائكة، وعامة البشر أفضل من
عامة الملائكة. لقد كان هاروت وماروت عجلَين في بابل
وليسا ملائكة، أو كانا ملَكَين عاصيَين. وكيف تكون
زبانية النار أفضل من الأنبياء؟ وحين يتم التخصيص
بالملائكة السُّفلية فالأنبياء حتمًا أفضل منهم، ويظل
الخلاف فقط في الملائكة العُلوية.
١٨ الملائكة رسل إلى الأنبياء، لا يؤثِّرون
في العالم كما يفعل الأنبياء، ليست لهم إرادة وعقل ولا
موت ولا حياة كما لسائر البشر، بل قد يكون الإنسان
العادي أفضلَ من الملائكة والأنبياء؛ فكلاهما رسول
إليه مباشرةً أو بتوسط. والإنسان صاحب رسالة وأمانة
مثل الملائكة والأنبياء، ولكنه ليس معصومًا مثل
الملائكة، أو مؤيَّدًا من الله مثل الأنبياء. هو موجود
في العالم يعتمد على إرادته الحرة وعقله المُستقِل؛
وبالتالي كان امتحانه أعظم، وكان جزاؤه ربما
أكبر.
ثم يُصبِح التفضيل داخل كل نوع؛ تفضيل الملائكة على
بعضهم البعض، وتفضيل الأنبياء بين بعضهم البعض، فيكون
السؤال: من هو أفضل الملائكة ثم من هو أفضل الأنبياء؟
والسؤال بهذا الوضع يكون أكثر اتساقًا مع نفسه؛ لأن
التفاضل بين كائناتٍ من نفس النوع، فيصحُّ التفضيل من
حيث المبدأ وإن ظل خاطئًا من حيث الواقع. وكيف يُمكِن
تفضيل الملائكة فيما بينهم؟ وعلى أي مقاس؟ وهل يتم
التفضيل وظيفيًّا بناءً على تقسيم الأعمال وتوزيع
المهام؟ ولكن الوظائف مُتكامِلة، ولا فضل لإحداها على
الأخرى. الفضل فقط في أداء الوظيفة أو في عدم الأداء.
ولما كانت الملائكة كلها مُطيعة فالكل في الفضل سواء؛
فجبريل وعزرائيل وإسرافيل وميكائيل كلها وظائف لا
تفاضُل بينها، مثل وظائف الحواس؛ وظيفة العين ووظيفة
أذن … إلخ.
١٩ وماذا يعني تفاضُل الأنبياء فيما بينهم؟
الأنبياء هم مجرد وسائل لتبليغ الوحي، وليس لهم أي فضل
بأشخاصهم على غيرهم، وليس بينهم تفاضُل؛ إذ إن كل نبي
يمثِّل مرحلة من مراحل تطوُّر الوحي، ولا تفاضُل بين
المراحل، بل تكامُل بينها، بل إن المرحلة المتقدِّمة
لأنها أقل رقيًّا ليست بأفضل من المرحلة المتأخرة
لأنها أكثر رقيًّا، ولا المرحلة المتأخِّرة لأنها أكثر
رقيًّا أفضل من المرحلة المتقدِّمة لأنها أقل رقيًّا،
بل إن المرحلة الأخيرة والتي فيها يتم اكتمال الوحي
وتتحقق الغاية منه، ليست بأفضل من المراحل السابقة
التي لولاها لما اكتمل الوحي، بل ربما كان الأمر أكثر
صعوبة في المراحل السابقة عنه في المرحلة الأخيرة، بعد
أن تعوَّدت البشرية على الوحي وارتقت بفضله. وكم لاقى
من الأنبياء السابقين من العذاب والهوان والقتل ما لم
يُلاقِه آخر الأنبياء، وكم عُوقِبت أمم الأنبياء
السابقين بالطوفان أو الغرق في البحر أو بالربح أو
بالجراد والقمل ما لم تُعاقَب به آخر الأمم. وعند كل
أمة نبيها أفضل من جميع الأنبياء؛ لأنها أفضل من جميع الأمم.
٢٠
وقد يمتد التفاضل فيشمل الملائكة والأنبياء والبشر؛
فيأتي جبريل في المقدمة، وبعده ميكائيل، ثم بقية رؤساء
الملائكة، ثم عوام البشر؛ وقد يأتي الأنبياء أولًا،
كلٌّ حسب فضله، وفي مقدمتهم خاتم الأنبياء، ثم الخلفاء
الأربعة، ثم التابعون، ثم يقل الفضل قرنًا بعد قرن؛
وقد يأخذ الأولياء مكانًا عليًّا بين البشر قبل
الصحابة أو بعدهم؛ وقد يتفاضل مَن صحِب الرسول من الجن
مع أصحابه من الإنس، أو على الأقل يتساوون فضلًا؛
فكلاهما صحابة! ويستمر التاريخ في النزول انحدارًا من
السماء إلى الأرض، وتُلحَق النبوة بالإمامة، ويُصبِح
التاريخ تاريخ انهيار وسقوط بعد أن كان تاريخ رفع وعلو.
٢١ والحقيقة أن موضوع التفضيل إنما يكشف عن
عقلية التدرج والمراتب، وتصنيف البشر حسب درجات الكمال
والشرف، وهو تصوُّر يقوم على أخطاء عدة؛ منها تصوُّر
الناس على درجات رأسية، يتفاضلون فيما بينهم علوًّا
وسفلًا، مع أن البشر جميعًا متساوون لا يتفاضلون إلا
أفقيًّا أمامًا أو خلفًا؛
لِمَنْ
شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ، وتكون المنافسة على أخذ
الدرجات العليا، وليس على السبق إلى الأمام وخلق
الأفعال، وذلك كله إحساس بالتعويض والعجز. فالمُحاصَر
في الواقع يفك حصاره إلى أعلى، فيتقدم نحو الوهم، ثم
يتشخص ذلك كله في موضوع التفاضل بين الملائكة والرسل،
وداخل عناصر كل مجموعة فيما بينها.
كما يظهر التفضيل بين الأنبياء والأئمة. والتفضيل من
حيث المبدأ مُمكِن؛ لأنه تفضيل من نفس النوع؛ أي
مفاضلة بين البشر. وتشتد المفاضلة خاصةً عندما تُوضَع
الإمامة كاستمرار للنبوة، وعندما يُوضَع الإمام وريث
النبي. وإن تفضيل الأئمة على الأنبياء هو تفضيل للفرع
على الأصل؛ فالأئمة خلفاء الرسل كما أن العلماء ورثة
الأنبياء، ولا إمام ثانيًا بلا نبي أولًا. وإذا ما
اشتد التفضيل وأصبحت الأمة أفضل من الملائكة، فلأنَّ
الأنبياء أفضل من الملائكة؛ وبالتالي تكون الأئمة
بالضرورة أفضل من الملائكة. وإذا ما تم تفضيل الأنبياء
على الأئمة فذلك تفضيل للأصل على الفرع، وللسابق على
اللاحق، وللنبوة على تأويلها، ولكن يُصبِح السؤال نفسه
بغير ذي معنًى إذا ما كانت نتيجة التفضيل علاقة
التساوي بينهما، من حيث إن كلَيهما بشرٌ لا يألو جهده
في تحقيق الرسالة، ولكن يظل للنبي ميزة الاتصال
والبداية، في حين أن ليس للإمام هذه الصفة. يوجد النبي
في المحورَين الرأسي والأفقي معًا، في حين يُوجَد
الإمام في المحور الأفقي وحده، ولكن نظرًا لظروف
المجتمعات المُضطهَدة فقد يصل الأئمة إلى درجة
التأليه؛ فهم قادة الجماعة الذين سيحوِّلون الاضطهاد
إلى حرية، ويقلبون الجور إلى عدل، ومن الطبيعي أن تكون
الأئمة حركة تصحيح لانحراف مسار النبوة، ولكن في
المجتمعات السوية يقتضي التنزيه أن يظل الإمام إنسانًا
بشرًا خالصًا؛ تحقيقًا لرسالة النبي واستمرارًا لها.
٢٢
وكما يظهر التفضيل بين الأنبياء والأئمة تحت أثر
الإمامية، فكذلك يظهر التفضيل بين الأنبياء والأولياء
تحت أثر الصوفية. وكيف تكون الولاية أفضل من النبوة،
والولاية الفرع والنبوة الأصل؟ إن الوضع النفسي
والاجتماعي للولي مُشابِه إلى حد كبير للوضع النفسي
والاجتماعي للإمام، إلا أن الولي كان في مجتمع العجز،
وكان الإمام في مجتمع الاضطهاد، وكلاهما مجتمع هزيمة.
فإذا كانت النبوة السلاح الرئيسي للنظام القائم
والدولة المسيطرة، فقد كان من الطبيعي أن ترتفع درجة
الإمام في مجتمع الاضطهاد، وأن يرتفع الولي في مجتمع
العجز، فيُصبِح الإمام والولي أعلى درجة من النبي
وأفضل منه. وعلى هذا النحو يُمكِن للناس اتِّباع
الإمام والولي دون النبي؛ وبالتالي ينضمون إلى
المعارضة ضد السلطة، ولكن في المجتمع السويِّ
الأنبياءُ أفضل من الأولياء لو كان التفضيل يعني
الاتصال بالوحي وتبليغ الرسالة، وهذا ما يحدث للنبي
دون الولي. وإذا كان الصحابة أفضل من الأولياء، فكيف
يكون الأولياء أفضل من الأنبياء؟ النبي كامل ومكمِّل،
في حين أن الولي كامل فقط ولا يكمِّل أحدًا، وليست له
رسالةٌ يبلِّغها للناس. النبي كامل عقيدةً وشريعة،
تصوُّرًا ونظامًا؛ فكماله أشمل، في حين أن الولي كامل
روحيًّا فقط، ولكنه ليس قائدًا وزعيمًا ومؤسِّس دولة
كما هو الحال عند النبي. إن موضوع التفضيل لا يتعدى
كونه سلاحًا سياسيًّا من أجل الصراع على السلطة، وإن
تفضيل القادة إنما يعبِّر في حقيقة الأمر عن أحقيةِ
مجتمعِ كلٍّ منهم في السلطة بقاءً أو انقلابًا، طاعة
أو خروجًا.
٢٣