الفصل الأول
كان المستشار عزام أبو الفضل وهو يجلس إلى الكرسيِّ الذي تعوَّد أن يجلس عليه في منزله يُفكِّر في حفل الوداع الذي عاد منه في يومه هذا. كان زملاء المستشار مدكور نبهان يحتفلون بإحالته إلى المعاش عند زميلهم عبد العزيز البرعي، وكان عزام يحب زميله الذي صاحبه فترةً طويلة من حياته القضائية، وما هي إلا دقائق من جلوسه حتى وجَد نفسه يقول في صوت مرتفعٍ وكأنه يُكلِّم شخصًا موجودًا معه: كلها كام سنة وتُقام لنا نحن أيضًا حفلات التوديع. الحمد لله قاربنا الشاطئ ونحن ما نزال أصحَّاء في ضمائرنا وفي أجسامنا. وكم شهِدنا … كم شهدنا …
ثم وجد نفسه يمضي مع الذكريات ويستجيب لها. يستعذب الحُلْو فيها ويشعر بالسعادة أيضًا أنه مرَّ من أزماتها وأنه استطاع أن يجتاز عصيبها في صلابة وإباء. وأنه كان قادرًا أن يُخفيَ ما يمور في دخيلة نفسه من اضطرابٍ أو قلَق.
حتى زوجته مجيدة التي كانت تصل إلى البعيد من أغواره لم تكن تستطيع أن تبلغ مواطن الاضطراب في نفسه عند الأزمة.
فارقٌ كبيرٌ بين ابنه ياسر الأصغر الذي تخرَّج في كلية التجارة وابنه البكر وجدان الذي تخرَّج في كلية الحقوق. وقد حصل الابنان على الثانوية العامة من كلية فيكتوريا، فكلاهما يُتقن الإنجليزية كلَّ الإتقان. وقد جعل هو من نفسه مُدرِّسًا لهما في اللغة العربية فأتقناها هي أيضًا إتقانًا لا يتوفَّر لكثير من زملائهما حتى أولئك الذين تلقَّوا تعليمهم بالمدارس المصرية.
وقد كان وجدان هاويًا للدراسة لا يؤديها مُكرَهًا، وإنما كان شغوفًا بها، فلم يكن عجيبًا أن يكون متفوقًا دائمًا. ولم يكن عجيبًا أيضًا أن يحصل على تقدير جيد جِدًّا حين تخرَّج. وكان من الطبيعي أن يلتحق بالنيابة ويسير في الطريق الذي سار فيه أبوه. ولكن وجدان رغِب إلى أبيه أن يكون محاميًا، وكان عزام حريصًا دائمًا أن يترك لولديه حقَّ الاختيار المطلق، ولكنه كان أيضًا يُقدِّم رأيه وكأنه صديق ثم يترك لمن يناقشه منهما الحرية الكاملة في اتخاذ القرار.
ويوم جلس إليه وجدان ليعلنه أنه اختار المحاماة: لماذا؟
– أنا أملِك لغتي العربية وأُتقن الإنجليزية ودرستُ الفَرنسية. وأنا أحبُّ القانون، فلماذا لا أنتفع بكلِّ هذا في ميدان المحاماة؟
– لك ما شئت، ولكن ما مصير القضاء في مصر إذا قال كلُّ متفوِّق ما تقوله؟
– أنت تعرف يا بابا أن القضاء الواقف يخدم العدالة مثل القضاء الجالس.
– على أن يكون القضاء الواقف أمينًا.
– وما رأيك في ابنك؟
– أرى العَهْد الذي نبدؤه اليوم مليئًا بالمغريات المادية.
– ألا تراني أهلًا أن أقاومها؟ ثم أليس لكلِّ عهدٍ مغرياته، ولكل مهنة أيضًا؟
– أنا قاضٍ وعسيرٌ عليَّ أن أحكُم قبل أن أرى ظروف الدعوى.
– ما ظنُّك بي؟
– إن معرفتي بك تزيدني خوفًا عليك.
– هل أمانتي هشَّة؟
– يا ليتها كانت كذلك.
– أكاد أفهمك.
– ستدخل في صراعٍ عنيفٍ أخاف عليك منه.
– وأنت يا بابا حين كنت تجلس على كرسيِّ القضاء وتحكُم على إنسان ما بالقتل أو بالحرمان من الحرية، ألم تكُنْ تتعرض لصراع؟
– في أول عهدي بالقضاء نعم، أمَّا فيما بعد …
– بل قد كنت أشهدك وأنت عائدٌ بعد الجلسة ذاهلًا تبتلع لُقَيمات وتُسارع إلى غرفتك متظاهرًا أنك تريد أن تنام، وكنت أكاد أراك تَتقلَّب في فِراشك، وكنتُ أُوشك أن أسمع نبضات قلبك تصيح أنك ربما ظلمتَ أو تشدَّدتَ أو قسوتَ أو تهاونت.
– هل كنتَ تحسُّ هذا جميعًا؟
– كنت أحسُّه أنا وياسر وماما، وينظر بعضنا إلى بعض ولا نتكلم. فقد كُنَّا تعوَّدنا، ولكن التعوُّد لم يستطع أن يجعلنا ننجو من الإشفاق عليك والقلق على صحَّتك.
– لكلِّ مهنةٍ متاعبُها، ولكن أخشى أن يُغريَك المال فتنسى ضميرك. وأنا أعلم أنك تحبُّ ضميرك حُبًّا يكاد يكون قاتلًا.
– سأجرِّب نفسي.
– الميدان الذي تدخله مليءٌ بالأنياب والأظافر الشرسة القاتلة ويندُر أن يجدَ صاحبُ الضمير طريقًا فيه.
– لعلِّي أشقُّ هذا الطريق.
– فشأنك إذن. ولكن ليكن قرارُك النهائيُّ بعد أن تؤديَ الخدمة العسكرية.
– وهو كذلك.
ويذكُر عزام هذا الحوار جميعه وينفطر قلبُه على ولدِه وجدان، فها قد مرَّت سنة وبعض السنة وهو في مكتب إسماعيل العدوي المحامي، وقلَّما يُحدِّثه عن شأنٍ من شئون قضاياه.
إن وجدان يُذكرِّه بنفسه وهو في غضارة الصِّبا ونضارة الشباب ومطالع الفتوَّة.
كان أبوه عبد المجيد أبو الفضل عُمدة الديدمونة علَّمه بعضَ القرآن في القرية، ثم استأجر هو وعمُّه بيتًا أقامت فيه أمه نفيسة وأقام هو معها. فكان الأب يزور أسرته كلما سمح له عملُه وكان يصحبه إلى القرية في كل الإجازات. وكان احترام الناس له منذ هو طفل يجعله دائمًا يشعر بأنه ينبغي عليه ألا يرتكب ما يجلب له الاحتقار. وقد كان هذا في الطفولة والصِّبا أمرًا هيِّنًا، ولكنه حين شبَّ عن الطَّوْق وخطت به السنون إلى الشباب كان الأمر عسيرًا.
شابٌّ في مقتبَل العمر ليس مُضيَّقًا عليه في الرزق، يقيم مع أمه في القاهرة، والشباب فتوَّة وقوَّة وعِرْق ينبض، والرغبة سعير، والإغراء لهيب، وما يهفو إليه قريب قريب لو مدَّ يده لناله. وهو بعدُ فتيُّ السمات جذَّاب الملامح، فيه أصالةُ المصري تضيئها براءة السنوات الخُضْر، ومشاعل الشباب التي تجعل الحياة كلَّها نورًا. وحوله الصِّحاب، وما أكثر ما يروي الصِّحاب! منهم الصادق ومنهم المُبالِغ ومنهم المُختلِق. ولكن كل ما يرويه الصِّحاب يُثير في نفسه ما يحاول أن يكتمه من رغبات.
إنه يريد. بكل ذرةٍ من ذرات جسمه يريد. وبكل قطرةٍ من قطرات دمه يريد، ولكن شيئًا ما يمنعه.
لا ينسى يوم صحِبه عثمان صديقه إلى الماخور ودفع الأجر وجلس ينتظر دَوْره. ولكن ما هي إلا دقائق معدودات حتى وجَد نفسه يفتح البابَ الخارجيَّ ويجري هاربًا ومن ورائه عثمان يناديه وهو لا يلوي عليه ولا يُجيب. كان في هذه اللحظة لا يريد شيئًا إلا أن يهرُب، وهرب.
وفي يوم آخر قال له فريد: أتكون خائبًا يا ولد يا عزام؟
ونظر إليه عزام طويلًا ثم قال: يا ليت.
– فما هذا الذي يرويه عنك عثمان؟
– لا أدري، لا أتصور أن أصنع شيئًا إذا عرَفه عنِّي أهلُ بلدتي يحقرون أمري.
– الظاهر أن الولد عثمان لم يعرف كيف يتصرف معك.
– كيف؟
– المسألة تحتاج إلى تمهيدٍ.
– لا أفهم.
– وكيف يمكن أن تفهم؟ اسمع، ما رأيك أن نسهر الليلة في الأريزونا؟
– في الأريزونا؟
– في الأريزونا.
– وماذا سنفعل؟
– لا، لا تخف. لن تذهب إلى الراقصات هناك. ما زال الطريق أمامك طويلًا حتى تصل إلى الراقصات.
– فلماذا نذهب إذن؟
– اليوم حفلةٌ خيرية. ومعي تذكرة اعتذر صاحبها.
– وماذا في الحفلة الخيرية؟
– سأعرِّفُك بفتيات من رائدات الحفل مثلنا.
– فتيات مرة واحدة.
– ولك أنت أن تختار.
الليل نهار من كثرة النور. والضياء يخبو مع الجمال الساطع من أولئك الفتيات. كلُّ مليحةٍ منهن بمذاق. رائحات غاديات كأفكار جميلة تخطر على أذهان شعراء. كأملاك السماء إن تجسَّدت الملائكة في أزياء آدمية. السمراء عذبةٌ رقراقة مُشرِقة كفرحة، مُقبِلة كقُبلة، مُدبِرة كحُلم. والشقراء أملٌ تحقَّق، أو دنيا تُغدِق بالعطاء، أو موسيقى تعزفها السماء.
عزام في تيهٍ من البَهْر، وفريد يمسك بيده وكأنه طفل لا يعرف الطريق، وقد كان فعلًا في هذه اللحظات طفلًا لا يعرف الطريق. وفي لسانٍ مُتعثِّرٍ وعقلٍ غائب يقول لفريد: أين نحن؟
ويقول فريد وعيناه تجوسان خلال الحفل جميعًا: اسكت.
– وهل أنا قادر على الكلام؟ أنحن في مصر؟
– في مكامن أضوائها، بين المصابيح المصرية والجمال الذي لم ترَه خيبتك من قبل.
– ولكن أنا تائه.
– طيب اسكت قبل أن أتوه أنا الآخر.
– إياك، فلا أملَ لي هنا إلا أنت.
– اسكت، انتظر، ها هما.
– من هما؟
– تعالَ.
وقاد يده المطيعة وجسمه الذي أصبح بلا وزنٍ إلى مائدة جلسَت إليها فتاتان؛ إحداهما شقراء والأخرى سمراء. وقبل أن يصلا وقَف فريد وسأله: أترى هاتين الفتاتين؟
– ما لهما؟
– أتريد الشقراء أم السمراء؟
– ماذا؟
– انطق قبل أن تراني إحداهن.
وقال دون وعي: الشقراء.
– إذن تعالَ.
ورحَّبت الفتاتان بهما ترحيبًا عجيبًا لا مبالغة فيه، ولكنه في نفس الوقت يحمل كلَّ معاني الإقبال. وقالت السمراء: تأخرت.
وقال فريد: أنا أبحث عنكما منذ نصف ساعة، صديقي وزميلي عزام أبو الفضل.
وصاحت الشقراء: أهو أنت؟
وفغَر عزام فاه ووقف مشدوهًا، ثم وجد نفسه يقول: وتعرفينني يا ست؟
وتضحك ضحكة فارهة يضيع صداها في ضجيج الحفل، ويرتجف قلب عزام، وتُكمِل الفتاة: كل المعرفة.
ويخشى فريد من الرَّبْكة التي غمرَت عزام، ويسارع قائلًا: الآنسة نرمين.
وفي ذهول يقول عزام: تشرفنا.
وتقول الأخرى: أهلًا، وأنا سعيدة.
ويقول عزام وكأنه يردُّ التحية ولكن دون أن يقصِد إلى النكتة: سعيدة مباركة.
ويحسُّ الجميع أن الإجابة صدرت منه وكأنه جالسٌ على مصطبة أبيه في البلدة، ودون أن يقصِد إلى المفارقة التي وضحَت في اللهجة، فينفجر ثلاثتهم في قهقهةٍ عاليةٍ ارتفع صداها على صخَب الحفل، حتى لقد بدأَت بعضُ العيون تنظر إليهم. فينتبهون إلى ارتفاع ضحكهم، وعزام في غمرته لا يزال، وتضع نرمين يدها على فمها وتصدر عنها تلك «الهش» التي يُطالب الناس بها بعضهم البعض بالصمت، أو بخفض الصوت. وينتبهون أيضًا أنهم ما زالوا واقفين. وتقول سعيدة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اقعد، اقعدوا.
وتنظر إلى فريد.
– هذا موديل لم أرَه في حياتي.
ويقول فريد: ابعدي عنه فهو ليس قدك. عليكِ أنتِ به يا نرمين، فربما فَهِم لغتك. إنما سعيدة لا يفهمها إلا أنا.
وتفهَّم الفتاتان أن الصديقين قد اتفقا على هذه القسمة وهما في طريقهما إليهما. ولم تكن الصلة بين أيٍّ من الفتاتين وبين فريد وثيقةً، إنما هي صلةٌ مُحدَّدةِ المعالم لا تسمح لنرمين بالغضب من فريد أنه اختار سعيدة. صلة الفتاتين بفريد صلة مُحدَّدةُ المعالم واضحةُ الأغراض. وليس من بين معالمها حبٌّ يُثير الغَيرة أو حتى يدعو إلى التظاهر بها. وكان عزام يظنُّ أن نرمين ستُثير حملةً شعواء على فريد، ولكنه دهِش أنه وجد الأمور تجري طبيعية. بل وجَد من نرمين إقبالًا عليه وسعادة للتعرُّف به جعلَته يترك دهشته ويلتفت بجميعه إلى الجديد من تجارب الحياة. وأدرك أنه لا بُدَّ أن يكون في كامل استعداده حتى لا يُثير سخرية الفتاتين وصديقه فريد.
وقال فريد: هل نشرب شيئًا؟
وقالت سعيدة: إذا كنت تريد.
وقال فريد: أظن أن كأسًا من الويسكي لا بأس به.
وقالت نرمين: لا يكون هناك بأسٌ مع الويسكي أبدًا.
وقال فريد: وهو كذلك يا متر.
وقال عزام: متر! ما متر هذه؟
وضحكوا جميعًا. وقال فريد: وكيف أناديه؟
وقال عزام: ولكن متر هذه لقب المحامين.
وضحكوا مرَّة أخرى. وقال فريد: ولقب الخادم هنا أيضًا.
وفي ذهولٍ حقيقيٍّ يقول عزام: متر؟!
ويستمر الضحك ويقول فريد: متر.
ويقول عزام: مثل المحامي.
ويقول فريد: ولو أن المعنى مختلف.
ويقول عزام: كيف؟
ويستمرُّ الضحك. ويقول فريد: المتر هنا اختصار لمتر دي أوتيل؛ أي رئيس الخدم أو رئيس المكان.
ويقول عزام: وهل نحن في أوتيل؟
ويقول فريد: هذا لقب اصطلاحي.
ويقول عزام: لقب اصطلاحي يجعل خادم السكارى مثل المحامين الذين نشقى ربع قرن من حياتنا لنُصبح مثلَهم حاملين لقب متر. يناله هذا النادل القريب في اسمه العربي من النذل دون أيِّ جهد.
ويرتفع الضحك على المنضدة مرَّة أخرى. ويقول فريد: وأي فارقٍ بين الاثنين؟
– أنت لا ترى فارقًا؟
– مطلقًا.
– فاترك كلية الحقوق يا أخي واعمل هنا.
– يا ليت.
– هل جُننت؟
– أتعرف أن هذا الذي تسخر منه يَكسِب خمسة جنيهات في اليوم على الأقل. وقد يَكسِب أكثر؟
– يا نهار أسود من الحبر الكوبيا.
ويضجُّ الثلاثة بالضحك حتى تلتفت إليهم العيون مرَّة أخرى. ويُكمل عزام: مائة وخمسون جنيهًا في الشهر … مائة وﺧﻣﺴ…
ويقول فريد وهو يغالب الضحك: ماذا يَكسِب المحامي؟
– إنْ كسَب عشرة جنيهات في الشهر في أول حياته تكون نعمة.
– أرأيت؟
– وبِئس ما رأيت.
– ومع ذلك، أي فارقٍ بين الاثنين؟
ويقول عزام في غضب: يا أخي لا تجنني.
ويقول فريد: أليس كلٌّ منهما يؤدي حاجة للمجتمع؟
ويقول عزام في غضبه لا يزال: شتان، هذا يسقي الناس الخمرة.
وتضحك الفتاتان. ويقول فريد: لا تقل هذه اللفظة هنا أبدًا.
– لماذا؟ أليست خمرة؟!
ويهمس فريد في جِديَّة: يا أخي اخفِض صوتك، لا تفضحنا.
ويخفض فريد صوته: أليست خمرة؟!
ويهمس فريد: ولكننا هنا نُسمِّيها مشروب أو الكول؛ يعني الكحول، أو ويسكي ونخلص.
– خلاص على كيفك، نُسمِّيها مشروب، ونسأل كيف تقارن هذا الذي يحمل المشروب بالمحامي؟
– أليس المحامي يؤدي ما يطلبه الزَّبون؟
ويقاطعه عزام: الموكل.
– لن نختلف، ولكن أليس الموكل زبونًا؟
ويصمت عزام قليلًا ويقول: لنفرض.
ويقول فريد كأنه ينتصر: وهذا أيضًا يؤدي للزبائن طلباتهم.
ويقول عزام: خلاص، انتهى الأمر. لا فارق بين محامٍ درس القانون ويخدم العدالة ويُبيِّن للقضاء وجهة النظر القانونية في القضية المطروحة و…
ويقاطعه فريد: نهارك أسود! هل ستترافع؟ خلاص يا سيدي، أنا غلطان. ولكن ماذا أصنع الآن؟ لا بُدَّ أن أقول يا متر حتى يأتيَ ويكون مشكورًا لو أتى أيضًا. فماذا تريدني أن أناديَه؟ آه لو عرَفت الوظائف الأخرى التي يقوم بها.
وتنفجر الفتاتان بالضحك، ويقول عزام في دهشة زادت من ضحكهما: وله وظائف أخرى أيضًا؟!
– هامة كل الأهمية.
– غير الخمرة، أقصد المشروب.
– أهم بكثير.
– مثل ماذا؟
– يُوفِّق بين الرءوس.
– في الحلال؟
– ليس هنا حلال.
– يا نهار أسود! يعني … يعني …
– نعم.
– وتقول له متر؟ خيبة الله عليك وعليه في لحظةٍ واحدة!
– اسمه كذا.
– تشرَّفنا.
– هل تسمح أن أناديَه؟
– تفضل.
وكانت الفتاتان قد كادتا أن يُغمى عليهما من كثرة الضحك. وصاح فريد: يا متر!
وجاء الساقي وقال فريد: أربعة ويسكي.
ويصيح عزام في صوت مرتفع: انتظر، انتظر يا ريس. لمن الرابع يا أستاذ فريد؟
وبحسمٍ يقول فريد: لي أنا! أنا سأشرب اثنين. هل عندك مانع؟
وتنخذل غضبة عزام وهو يقول: إن كان الأمر كذا فأنت حر، اشرب عشرة إذا أردت. أنا أريد ليمونًا.
ويقول الساقي: ليس عندنا ليمون يا بك.
يحسم فريد الموقف في خبرة: هات كازوزة يا متر.
وينصرف الساقي وهو يقول: أمرك يا سعادة البك.
وتمسك نرمين بيد عزام بكلتا يديها وهي تقول: شربات، شربات مكرَّر.
ويقول عزام: وهل أجد هنا شربات؟ يكون أحسن.
ويعود الضحك وتقول نرمين: ليس هنا شربات إلَّا أنت.
ويسعد عزام ويحسُّ بدبيبِ نشوةٍ تتسرَّب في أعراقه: يا ست الله يخليكِ، كل ما في الأمر أنكِ أنتِ دمك خفيف.
وتقول سعيدة: الله! إذَن فأنت تُشنِّع عليه يا فريد. إنه يُغازل في براعة لا تقدر عليها أنت.
ويقول عزام: أنا والله أقول الحق.
وتقول نرمين: أو الباطل، لا يهمك، المهم أنني أُصدِّقك. قل أنت ما تشاء ولا تهتم بسعيدة، فهي تغار مني لأن فريد لم يقل لها شيئًا.
ويقول عزام: فريد، فريد في هذا الميدان أستاذنا. وأين أنا من فريد؟ طيب والله يا ست نرمين أنا لم أُكلِّم حرمة غريبة عني طول عمري إلا ذا الوقت.
ويعود إليهم الضحك وتقول نرمين: الذي يبدو من كلامك أنك قديم في الكار.
ويصيح عزام في شبه سخرية بنفسه: يا ست الله يفتح عليك! أنا والله ما أعرف هذا الكار إلا اليوم.
وتجيء الطلبات. ويضع الساقي أمام كل فتاة كأسًا، ويضع كأسين أمام فريد، ويضع الكازوزة أمام عزام، وينصرف.
ويقول فريد: عزام.
– أفندم.
– لي معك كلمتان.
– قل مائة.
– بشرط.
– وهو؟
– تسكت حتى أنتهيَ من كلامي.
– موافق.
– وبشرطٍ آخر.
– نعم؟
– إذا اقتنعت تُنفِّذ ما أقوله لك.
– وإذا لم …
– ترفض ولن أتكلم في الموضوع أو أُلحُّ عليك فيه.
– الشرطان عادلان ومقبولان.
– إذَن قُل لي لماذا جئت معي اليوم؟
ويرتج على عزام لا يجد جوابًا ويُنقذه فريد: إنك تمرُّ بتجربةٍ جديدة لتعرف نوعًا من الحياة جديدًا عليك. أليس كذلك؟
– كذلك.
– لا تتم التجربة حتى تكون خُضتَها إلا بكأس من الويسكي.
وينتفض عزام: أنا.
– اسكت حتى أنتهي.
– سكتنا.
– أليس لكل قاعدة قانونية أركان؟
– طبعًا.
– من أركان هذه التجربة كأس ويسكي.
– وإن سكرت؟
– عيب أن تظهر كأنك مُغفَّل وأنت الذي أوشكتَ على الانتهاء من دراسة الحقوق، وأنت الذي تقف دائمًا في الصدارة من دفعتك.
– وهل يمنع هذا جميعه أن أسكر.
– هل عمرك سمعت أن إنسانًا مهمًّا يكن شأنه يسكر من كأس واحدة؟
– أظن لا.
– إذن.
– واحدة.
– واحدة.
– اشرب.
– عظيم. اشرب رشفة رشفة وانسَ تمامًا أنك تشرب ويسكي واتركه يصنع مفعوله دون أن تُضايقه.
ويقول عزام: وهل الويسكي أيضًا يتضايق؟
– مثلي ومثل نرمين ومثل سعيدة، إذا كنت رفضت أن تشرب هذه الكأس.
– وهل أجرؤ على مضايقة الست نرمين والست سعيدة؟
وتقول سعيدة: أنا ونرمين نتضايق ونتعب ويُصيبنا الغم من كلمة الست التي تمسك بها هذه.
ويقول عزام: ولا أقول ست؟ ولكن يعني … أهذا يصح؟
وتقول نرمين: بل لا يصحُّ إلا هذا يا أخفَّ دم في الدنيا.