الفصل الحادي عشر
لم يذكر وجدان شيئًا من كل هذا الذي حدَث لأبيه ولا لأمه ولا لزوجته، وقصد وجدان أن يُكثر من زيارته لياسر، وكان يصحب معه ميرفت بأمل منه أن يحاول ياسر أن يجعل عَلاقاته في طيِّ الكتمان، على الأقل فلم يكن وجدان من السذاجة إلى درجة يعتقد معها أن ياسر سينقلب إلى شخص آخر لمجرَّد مشاجرة في كباريه. فما هكذا ياسر. فالأمر بالنسبة إليه ليس تجربة عابرة، وإنما هو طريق حياة. إنه يحب أن يعيش هكذا، وإن كانت قلة المال قبل الزواج تحول بينه وبين أحلامه فها هو ذا المال يجري في يده مجرى الماء. فأيُّ شيءٍ يمكن أن يقف في سبيله الآن.
كان وجدان يحب أن يجلس إلى أبيه، فقد كان الحديث معه متعة. كان التفاهم بينهما تامًّا، وكانت اللغة التي يتحدثان بها واحدة، وكانت والدته وزوجته تشاركانهما في الجلسة. وكانت أمه بذكائها وبطول معاشرتها لأبيه تشاطرهما الحديث مشاطرة واعية، أمَّا ميرفت فقد كانت بطبيعة ثقافتها تُعلِّق على ما يدور بين المستشار المتمرس ووكيل النيابة الحديث من مناقشات توشك أن تكون مدارسات.
التأمت الجلسة في يوم كان وجدان فيه متخففًا من العمل، وكان عزام غير راغبٍ في الخروج. وكانت الأحاديث الجارية في هذه الأيام حول محاكمة الذين أثرَوا ثراءً مُروِّعًا مستغلين ظروف قراباتهم أو مقدمين رشاوى إلى المسئولين.
قال وجدان: هذه ظاهرة خطيرة.
وقال عزام: أتراها كذلك؟
وقال وجدان: بل أراها في غاية الخطورة يا بابا.
وقال الأب: لا أعتقد ذلك.
وسكتت ميرفت واثقةً أن وراء كلام عزام ما يؤيده، فهي تعلم أنه لا يُلقي الكلام على عواهنه. ولكن مجيدة بطبيعة مناقشة الزوجة لزوجها قالت: كيف هذا يا عزام؟ لا. أنا من رأي وجدان.
وقال عزام في هدوء: الجرائد جعلت هذه القضايا أشياءَ خارقةً للعادة، وجعلت منها انهيارًا لاقتصاد الوطن، وجعلت منها جرائم لم يسبق لها مثيل. فالذي أقصده أن الأمر ليس بالخطورة التي تصورها به الصحافة.
وقال وجدان: كيف؟ أتعرف سعادتك أنني مُنتدَب في المرافعة في قضية تهرُّب من الضرائب؟
– أكذا؟ عظيم، سأحضر المرافعة.
– طبعًا يهمُّني جدًّا أن تحضرها سعادتك. وأنا الآن أعدها، ولن أعرضها عليك حتى تصبح مفاجأة لك وأنت تسمعها.
– وهو كذلك.
– ولكن هذا لا يمنع أن أرجع إليك في بعض الوقائع لتعاونني في التكييف القانوني.
– الوقائع سأعرفها من الجرائد، وحديثك معي فيها لن يقلل من جمال المفاجأة عندما أسمع مرافعتك.
– أرجو أن تجد هذا الجمال.
– المؤكد أنني سأجده، بقلب الأم إن لم يكن بخبرة المستشار.
– وأنا أحب عندك الشعورين معًا. نعود لموضوعنا، ألا ترى سعادتك أن عدد الذين يُقدَّمون للمحاكمة أعظم كثيرًا مما كنَّا نتوقع؟ وأن في هذا تهديدًا لاقتصاد مصر؟
– أنت محق في أن فيها تهديدًا لاقتصاد مصر، ولكن ليس لما تراه أنت.
– كيف؟
– أين تجد التهديد؟
– أجده في أن هناك كثيرين انتهزوا فرصة الانفتاح وانقضُّوا على أموال الدولة وحقوقها واستغل بعض منهم قراباته. وهذا بلا شك يُضيِّع على الدولة أموالًا ضخمةً.
– هنا أختلف معك. أولًا وقبل أن أذكر لك موضع الخلاف بيني وبينك لا بُدَّ أن نتفق أن كل دولة فيها الكثيرون من أمثال هؤلاء، ويتواءم العدد مع كبر الدولة وصغرها وضخامة اقتصادها وضآلته. فهؤلاء موجودون في أمريكا وفي إنجلترا وفي فرنسا وفي كل دولة، بل هم موجودون أيضًا في روسيا التي لا انفتاح فيها.
– نعم لا شك في ذلك.
– الفارق بيننا وبينهم أن النظام الاقتصادي الذي بدأنا الأخذ به يخالف النظرية الشيوعية التي سار عليها اقتصادنا طوال الفترة الماضية. قبل الانفتاح كانت سرقات أضخم من هذا تقع، وإنما تقع بأيدي الحكام وحدهم، فهي تقع في السر، وإذا عرَفها واحد فإنه يعلم مصيره إن هو حاول إذاعتها أو الكلام عنها.
– هذا صحيح.
– ولهذا فسرقة الأفراد من غير الحكام أصبحت بالنسبة إلينا شيئًا جديدًا لا يعرفه الجيل الحالي. قد كان قبل الثورة موجودًا بصورةٍ ضعيفةٍ باهتة؛ لأن البرلمان كان رقيبًا عنيدًا يصعُب مع وجوده الفجور في السرقة.
– وهذا حق أيضًا.
– ثم إننا نحن حتى اليوم ليس لنا نظام اقتصادي واضح، فلا نحن نماثل حرية الدول الديمقراطية كل المماثلة، ولا نحن أبقَينا على النظام المُغلَق الذي تُمثِّله الدولة الشيوعية. نحن نظام لا نظام له واضحًا. ومجيء التجربة الاقتصادية جعل الذي يقع الآن أمرًا غريبًا لمن عاش في وضع اقتصادي مغلق قُرابة عشرين سنة.
– كل هذا صحيح.
– من طبيعة النظام الجديد أن يوجد معه أمثال هؤلاء المستغلين. ومن الطبيعي أن يُحاكَموا ويُحكَم على المذنب فيهم، والقانون كما تعلم مانع رادع. فهذه الأحكام كانت من طبيعتها ستجعل الآخرين يفكرون كثيرًا قبل أن يُقدِموا على هذه الجرائم مرة أخرى.
– أنا أوافق.
– الذي أختلف معك فيه أن تهديد الاقتصاد ليس آتيًا من الجرائم نفسها؛ لأن مرتكبيها سينالون جزاءهم، وإنما هو آتٍ من الضجة التي تثيرها الصُّحُف حول هذه القضايا مما يجعل رأس المال الأجنبي يخاف ويجعل العاملين في الاقتصاد عندنا سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص في حالة رعبٍ أن يقعوا في خطأ غير مقصود يؤدي بهم إلى هذه الفضائح التي لا يصلح منها بعد ذلك الحكم ببراءتهم.
ونظر وجدان إلى والدته وقال لها: أرأيت يا نينا أن سعادة المستشار كان قد فكَّر كثيرًا قبل أن يصدر حكمه؟ وإنني أنا وأنت تعجَّلنا في المعارضة، بينما ميرفت الماكرة تروَّت في الأمر وانتظرت الحيثيات.
وضحكوا، وأكمل عزام: وهكذا أظهرت الصحف بما صنعت أنها تستغل الانفتاح الاقتصادي لتنقضَّ به على الانفتاح السياسي، ولم يلتفت كثير من الكُتَّاب وفي غمرة اندفاعهم أن البديل عن الانفتاح الاقتصادي هو النظام الشيوعي.
ولهذا كنت تراني أرى كتابة الشيوعيين متفقة تمامًا مع مذهبهم حين يهاجمون الانفتاح. وكنت أضحك كثيرًا وأنا أرى كُتَّابًا كِبارًا من أصحاب الرأي الحر أوقعهم الشيوعيون في الفخ وجعلوهم يهاجمون الانفتاح، وهم لا يدرون أنهم بما يكتبون إنهم يهاجمون الحرية التي عاشوا يدافعون عنها، والتي عانَوا من غيابها القهر والهوان وسفك الدماء.
وأراد عزام أن يستطرد لولا أنْ دقَّ جرس التليفون واستدعى وجدان إلى مكتبه.