الفصل الخامس عشر
حين تفاوَض رئيس النيابة ووجدان الرأي فيما رواه له وجدان عن مكالمة متولي، انتهى الرأي بينهما أنهما لا يملكان إزاءها إلا الصمت بعد إبلاغ الأمن العام، ليكون متولي تحت المراقبة، وقد أبلغ رئيس النيابة الجهات المُختصَّة وانتهى الأمر في النيابة عند ذلك.
ولم تكن مفاجأة لوجدان أن يزوره ياسر في البيت بعد يومين من مكالمة متولي لوجدان. وحاول ياسر أن يفتح الحديث، فكان ردُّ وجدان حاسمًا ومريرًا.
– أرجوك أبعدني عن هذا المستنقع الذي يسبح فيه حموك وموظفوه. ويكفيني خجلي أمام كلِّ من يعرف صلتي به.
– هل الخلاف مع الضرائب يدعو إلى هذا الكلام الجارح؟
– أنت تعرف ما يدعو إلى هذا الكلام الذي يعبر بعض التعبير عما أنا فيه. وربما يكفيك أن تعلم أنني فكرت في الاستقالة. وأنا متمسك بالنيابة لأنها المرفأ الوحيد لي من حياة مثل حياتك وحياة جيلي. فلا مرفأ لي من هذه الحياة إلا بأن أحاكم الحياة.
– أنت تبالغ.
– أنا شخص لا أريد شيئًا إلا أن يكون اسمي واسم أسرتي سليمًا من كل ما يشين. وكنت أعتقد أن هذا مطلب يسير على الحياة أن تحققه لي ما دمت أنا لا أرتكب إثمًا وما دام أبي خرج على المعاش شريفًا. وما دمت أنت حتى قبل زواجك في حالة مالية تستطيع أن تفيَ بحاجاتك المشروعة مع البحبوحة في العيش وبالطبع دون كباريهات. ولكن الحياة ترفض أن أنال هذا المطلب. وتصرُّ على أن أتعرض لأشياء لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أتعرض لها.
– ما كل هذا يا وجدان؟ أمِنْ أجل مكالمة تليفونية كان يمكن أن تأتيَك من أيِّ إنسان تغضب كلَّ هذا الغضب؟!
– إذا جاءتني من أي إنسان ما اهتممتُ لحظة؛ فوظيفتي هي أن أتلقَّى البلاغات، أمَّا أن يلجأ إليَّ موظف عند حميك ليطلب مني أن أشاركه في جريمة ابتزاز فهذا هو ما يحزنني، وأكرر لك أن هذا هو ما جعلني أفكر في الاستقالة. وأعرف بعد ذلك أن متولي كلمني ليحميَ نفسه من القتل. فحموك إذن قاتل أيضًا.
– وما ذنب نسيبي إن متولي كلَّمك؟
– إنها ليست جريمة واحدة التي رواها متولي لي دون أن يشعر. إنها سلسلة جرائم، حياة أخرى غير الحياة التي أتصور أن يعيشها أخي. عالم أعرفه كوكيل نيابة ولا أتصور أنني عضو في أسرته. ياسر، اعمل معروف فيَّ ولنبتعد عن هذا الحديث. أصبح الكلام الآن لا داعي له، فقد أصبحت أبًا لطفل من هذه الأسرة والحديث الآن لن يُفيد شيئًا إلا أن يزيدني ألمًا ويجعلني أقول لك عن حميك ما أعتقد أنه شديد عليك. وهو الآن جَدُّ ابنك.
– على كل حال نحن سوَّينا الموضوع.
– لا أعتقد أنكم سويتم شيئًا.
– فعلًا والله، الأمر انتهى.
– هيهات! إن ما سمعته في التليفون يجعلني واثقًا أن هذا الأمر لن ينتهيَ إلا بمصيبة كبرى.
– يا راجل لا قدر الله.
– أرجو ألا يُقدِّر الله. ولكنني واثق أنه قدَّرَ فعلًا وستريك الأيام أنني على حق.
•••
مرَّ شهران ولم يفكر صفوت أن يدفع شيئًا لمتولي غير المبلغ الذي أعطاه له عن طريق ياسر. وأدرك متولي أنه يريد أن يطلب منه. ويريد أن يجعل منه كلبًا يبصبص بذيله للمأكل في يد صفوت. وحسان لا يسكت على متولي، واليوم الذي يمر يومًا على الناس يمرُّ عامًا على متولي.
دخَل متولي إلى مكتب ياسر في الشركة: ماذا جرى يا ياسر بك؟
– نعم، فيم؟
– أنت الآخر نسيت فيم؟ ألم تقل لي أسبوعين أو شهرًا على الأكثر.
– آه صحيح.
– وأنت ماذا يهمك؟ لو كنت في الجحيم الذي أنا فيه أمام ابني وأمه.
– أيُلحُّ عليك حسان؟
– حسَّان يُلحُّ بالصمت، وأمه تُلحُّ بالشتم.
– أنا آسف يا عم متولي، الحقُّ عليَّ أنا.
– يا ياسر يا بني المبلغ الذي يبدو كبيرًا بالنسبة لصفوت أقل من ملاليم.
– أعرف.
– إذن فالمسألة إذلال؟
– يا رجل لا تقل هذا.
– هي إذلال، وأنا أعرف.
– تعرف.
– نعم أعرف أنه يريد أن يُذلَّني، وأنا قابل؛ لأنني أرى أن الطريق معه هو أقرب الطرق من ناحية الوقت. ولكن عند اللزوم ملعون أبو حسان وأم حسان، وأنا أعرف كيف أحصل على أضعاف هذا المبلغ.
– غدًا صباحًا يكون الأمر انتهى وأحضرت لك ما تريد.
•••
قال ياسر لصفوت: لماذا لا تعطيه المبلغ كله وتخلص؟
– وبماذا أمسكه بعد ذلك؟
– بمرتبه، بحاجته إليك، إنه سينفق المبلغ فورًا وسيصبح في حاجة إلى مرتبه منك ليعيش.
– يتهيأ لك، هذا ابن كلب. سيُبقي من المبلغ شيئًا ويسوق العوج ويعود إلى التهديد.
– يا عمي صفوت، ما دام الرجل ابن كلب كما تقول ألا نحايله أحسن؟!
– هذا لو كنت عبيطًا مثلك. هذه الأصناف أنا تربيت فيها وأعرفها كما أعرف نفسي. اتركني أعامله المعاملة التي تضمن لي أن يظل محتاجًا إليَّ.
– ماذا تعني؟
– أعني خذ هذا المبلغ وأعطه له.
وفتح الخزنة وأعطى ياسر مبلغًا نظر فيه ياسر وقال لصفوت مذهولًا: ما هذا؟ خمسة آلاف جنيه؟
– نعم.
– وهل هذا معقولٌ؟ رجل يطلب منك ثمانين ألف جنيه تعطيه خمسة! طيب اجعلها عشرين مثل أول مرة.
– اسمع كلامي أنت. خمسة وسيرجوك هو أن أزيدها إلى عشرة وأنت تقول إنك ستحاول معي وستحلفني بصفوت الصغير أعطيك خمسة أخرى وهكذا.
– يا عمِّي، الرجل أنت لا تعرف حالته. الشر في عينيه ويقول إنك تريد أن تُذلَّه.
– إذن فهو يعرف.
– يا عمي صفوت، أنا طبعًا لست في خبرتك ولا في عُشرها، ولكن الذي أراه من متولي مخيف.
– هذا لأنك جديد في الصنعة.
– الإنسان لا يحتاج أن يكون جديدًا في صنعة أو قديمًا فيها ليعرف الشر في عيون الناس.
– افعل ما أقوله لك وسترى أن عمك على حق.
– أمرك.
•••
أمسك متولي المبلغ ونظر إلى ياسر: ما هذا؟!
– لا عليك. الخزنة ساعة ما كلمته لم يكن فيها إلا هذا المبلغ.
– نعم؟!
– كذا والله.
– اسمع يا ياسر بك إذا كنت تريد أن تُصبح في غنى صفوت فلا تأخذ عنه الصنعة.
– ماذا تقول؟
– أنت تزوجت ابنته من أجل المال طبعًا. هل كنت عمرك رأيتها إلا شهرًا وبضعة أيامٍ في البنك؟
– هل جُننت يا رجل، وأنا ما ذنبي حتى تتطاول عليَّ؟
– لأنك لا ذنب لك أقول لك ما أقوله الآن.
– أنت من عائلة كلها ناس أشراف، أخوك لم يخبرك وبلَّغ النيابة، أنا عارف لأنني الآن تحت الرقابة وهذا ما أردته من إبلاغ أخيك. وأبوك خرج على المعاش ولم يُكوِّن ثروةً، فأنت من عائلة كلها أشراف وأنا مُشفِق عليك.
– أنا ما دخلي في غضبك؟
– اسمع الكلام لآخره.
– أهناك كلام آخر؟
– أنا لم أقل شيئًا.
– أنا لا أريد أن أسمع شيئًا. سلام عليكم.
وخرج ياسر مغضبًا ولم يسمع شيئًا. مع أنه كان سيسمع عجبًا.