الفصل السادس عشر
مخلوق عجيب هذا الإنسان، لا يعرف أبدًا ماذا يريد. وكلما وهبَت له الحياة من نِعَم نظرَ إلى ما لا ينبغي له أن ينظر إليه. وهكذا تسقط الحضارات. فحين تبلغ دولةٌ القمة في مجدها تنظر إلى ما لا تطيق فتنفجر من داخلها وتزول حضارتها ويسقط مجدها وتحلُّ مكانها حضارة أخرى.
والدول كل الدول هي مجموعة من الأناس، والإنسان هو العامل الأساسي فيها. وهو هو الذي يرتفع بمجد دولته حتى يبلغ بها أعلى علِّيين، وهو هو الذي يمزقها فينخفض بها إلى أسفل سافلين.
وسبحان بارئ النفوس العالم بأسرارها يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى فهو سبحانه يعلم أن الإنسان لا يرضى، ولهذا وعد نبيه والمتقين بالرضا لا بالعطاء. والرضى أقصى ما يطلبه الإنسان عند نفسه، وغاية ما يتمناه مخلوق من الخالق، فقد يكون الإنسان ذا ثروةٍ لا تُحصى. فإذا نسج الرضا ثيابه على نفسِ إنسانٍ جعل منه أغنى الناس طُرًّا وإن كان لا يملك قوت يومه.
فالحياة حين تُعطي فتغدق وتمنع الرضا فإنها تكون قد حرمت من أعطته وأغدقت كل شيءٍ. إنه لا يملك شيئًا. إنه فقيرٌ مُعدِم، وهو وماله ومجده هباءة.
وإن أعطت السطوة والشهرة والجبروت وحجبت الرضا فالطاغية الجبار المتكبر المتغطرس ذو السطوة قطعة حقيرة من الهمل لا يساوي شيئًا، وهو نفسه الذي يحقر نفسه. وإن نفسه هي التي تدمر له نفسه.
هكذا الإنسان، وهكذا حطم الإنسان الدول.
وهكذا سوسن بنت صفوت المعلاوي. عندها المال لا تعرف ماذا تصنع به، ووهب الله لها وجهًا ليس فيه عوج ولا قبح، وتزوجت من فتًى جميل الطلعة متعلم. وهي وحيدةُ أبيها. وهي لا تعلم شيئًا عن عَلاقات زوجها بالراقصات أو الكباريهات، وهي لا ترى منه إلا حُبًّا. هي عندها كل شيء إلا الرضا.
هو لم يعرفني إلا من البنك، ولم تمرَّ على معرفتنا إلا أسابيع لم تكتمل شهورًا، فما الذي جعله يطلب منِّي أن ألقاه؟! طبعًا أعرف أنا ابنة من؟ لا، لا أظن أنه أحبَّ جمالي. إن مثله يستطيع أن يعرف من هي أجمل مني. يقولون إن للجمال مقاييس تختلف من رجل إلى رجل. ولا بُدَّ أن الأمر كذلك، وإلا ما تزوجت الكثرة الكاثرة من البنات. نراهنَّ قبيحات غاية القبح ويراهن أزواجهن جميلات غاية الجمال. أمَّا هو فأعتقد أنه تزوجني لمالي. لا بأس في هذا، نعم، فمالُ أبي جزء من مُقوِّمات شخصيتي. ولكنني أحب أن يحبَّني الرجل لنفسي، لي أنا، ليس لمال أبي ولا لسيارتي ولا لأيِّ شيءٍ إلا أنا، فأنا أستحق أن يحبني الرجل من أجلي أنا.
مثلًا باهر حمدي في النادي يغازلني، أنا أردُّه، من الطبيعي أن أردَّه في أول الأمر. تعلَّم الإسكواش خصوصًا ليلعب معي. وما البأس؟ باهر حمدي ليس فقيرًا. وإن كان فهو يعلم أنه لن يتزوجني، فهو يغازلني بعد أن تزوجت. ولا يمكن أن يفكر في الزواج مني وأنا زوجة جديدة. وطبعًا هو لا يطمع أن ينال مني مالًا، بل إنني منذ لعبت معه الإسكواش أصبح يُقدِّم لي الهدايا، هدايا بسيطة ولكنها معبرة؛ زجاجة برفان، إيشارب. فيها تعبير، فيها حب، حب لي أنا.
لم أردَّ الهدايا، وأصبحت أقبل غزله، وتمادى.
•••
حين نقل ياسر الحديث إلى صفوت: أتظل طول عمرك عبيطًا؟
– لماذا؟
– لماذا لم تسمع له؟
– ماذا أسمع؟
– إنه يريد أن يعرض عليك صفقة ويجعلك تعتمد على نفسك حتى تقف معه ضدي.
– وما حاجته إلى ذلك؟
– حتى لا تجعلني أذله.
– لم تعجبني طريقة الكلام.
– أتريد أن يسمعك غناء؟
– وماذا ترى؟
– لا شيء، اسكت الآن. إذا كان مُصِرًّا فهو الذي سيسعى إليك.
في المكتب وياسر جالس في الحجرة التي خصصت له، والتي جرى فيها حديثه الأخير مع متولي، سمع ياسر طرْقًا على الباب، ولم ينتظر الطارق، بل دخل ولم يسمح لياسر أن يقول شيئًا وإنما قال وهو يُقفِل الباب بالمفتاح: لا تقل شيئًا حتى تسمع.
– كلامك جارح.
– هكذا الحقيقة دائمًا. وما سأقوله أشدُّ إيلامًا. هل أنت رجل تحتمل أم أنصرف؟
– أحتمل ماذا؟
– زوجتك تخونك.
واندلع ياسر قافزًا على الكرسي: ألهذا الحد؟!
وجلس متولي وقال في هدوء: اجلس واسمع.
– أنا لا أقبل.
– تقبل ماذا؟ وهل تراني أُقدِّم لك وجهة نظر؟! أنا أقدِّم لك حقيقة، والحقيقة حقيقة، سواء قبِلتها أم لم تقبلها.
– ألأنك غاضب من …؟
ويقاطعه متولي: إذا كان ما أقوله لمجرد الغضب أكون أهبل. أنا أقول لك حقيقة وأريد لك الخير مع ذلك، وإذا استمعت إليَّ فستعرف إن كنت معك أم عليك.
– وماذا يمكن أن أسمع؟ ليس أمامي إلا الطلاق.
– هكذا، بهذه السرعة؟
– لا طبعًا، بمجرد أن أتأكد.
– وكيف تريد أن تتأكد؟
– هذا بيدك أنت.
– طيب اسمع الكلام المفيد، هي تخونك مع ولد اسمه باهر حمدي، تلعب معه في النادي. وشقته أمام النادي مباشرة. قبل اللعب يخرجان معًا ويذهبان إلى شقته التي يعيش فيها وحده، ثم يعودان إلى اللعب. والذي رأى هذا لم يسكت وإنما حكى للنادي، والكل يعرفون ويتندَّرون بك.
– أولاد الكلب!
– وما لهم هم حتى تشتمهم؟
– إذن أراقبها؟
– وحدك؟
– بالطبع، هذا أمر لا أتصور أن يعرفه أحد.
– فإذا تأكدت؟
– أطلقها.
– وتضيع عليك الشقة وشهادات استثمار بنصف مليون جنيه.
– وماذا تريدني أن أصنع؟!
– لمَّا جئت لي في السنبلاوين كنت سأقول لك، ولكنني تذكرت أن سوسن نُفَساء وأنت لا تستطيع أن تتأكد إلا بعد أن تزول مدة النِّفاس. وقد بدأت المقابلات فعلًا ويمكنك أن تفعل الآن ما يحفظ لك المال والشقة.
– كيف؟
– ألا تعرف ضابط شرطة صديقك؟
– أعرف طبعًا.
– تخبره.
•••
حين قالت سوسن لوالدتها إنها ذاهبة إلى النادي بعد الظهر لتلعب إسكواش كان ياسر بجانب التليفون بعيدًا عن الجميع. طلب رقمًا وقال جملة واحدة: أنا ياسر، اليوم الساعة الخامسة.
•••
وضبط الزوج زوجته في حالة تلبُّس بمعاونة الشرطة وحرَّر المحضر.
وقال ياسر لأمه: هذا ابني صفوت، أنتِ التي تربينه لا أمه؟
– وهل عرفت كيف أربِّي أباه حتى أربيه؟! النهاية، الولد ما ذنبه؟ هذا قدَرُنا نحن، هات الولد.
•••
وقال وجدان لياسر: أما كان الأولى أن تُطلِّق دون هذه الفضيحة التي سيواجهها ابنك حين يكبر؟
– وأترك هذه الأم تربيه؟!
– لا يا ياسر، أنت طمعت في مال الولد وفي الشقة.
– أنا.
– لا عليك، لقد عملتها وما كان كان.
•••
قال وجدان لأبيه: قدمت استقالتي اليوم.
– أعرف أنك كنت ستفعل هذا. مسكين أنت يا بني، تعيش في زمن لا يحتملك.
– أنا كنت أريد فقط أن أظلَّ نظيفًا. أنا لا أدَّعي المُثُلَ العليا، ولا أحاول أن أغيِّر شيئًا مما حولي. كل ما كنت أطمح إليه أن أسير طريقي أنا نظيفًا، ولكن الطريق مليءٌ بالأصداف القاطعة كحد الموس، وأنا حافي القدمين، لأني لا أحاول أن أخدع الناس بغير حقيقتي.
– اسمع يا وجدان، حين يبلغ الشر أقصاه اطمئن!
– وكيف؟
– لا بُدَّ أن ينحسر. شهور وربما عام أو عامان وتنحسر هذه الموجة وتعود إلى مكانك في النيابة.
– أتظن أن حزني من أجل النيابة وحدها؟ حزني من أجل أخي وجيل أخي الذي هو جيلي.
– أعرف؛ ولهذا أُبشِّرك أن هذه الموجة لا بُدَّ أن تنحسر، فكما أن للخير موجات للشر موجات ثم تنحسر. الحياة لا تستطيع أن تسير في هذا المستوى إلا لفترة ثم تبدل هي نفسها بنفسها. والناس هم الحياة، والناس هم الذين سيجدون أنفسهم سائرين على نفس الأصداف القاطعة التي سِرت عليها، وسيعرفون أنهم حفاةٌ وأن أحذيتهم خداع، حين يجدون أقدامهم كلها مُمزَّقةٌ كنفوسهم سترى. هم تمزَّقَت نفوسهم وأنت لم تتمزق منك سوى الأقدام. وسرعان ما تزول جراحك.
– أبي، أتعرف؟
– أعرف أنك واحد من جيلك، وما دام فيه مثلك فلا تخشَ عليه.
– أحسُّ أن ما تقوله هو الحقيقة. أبي، أتعرف؟
– ماذا؟
– إني أرجو الله ألا يطول انتظاري. ولكنني واثقٌ ثقتي بالله وبك، أنك على حق، وأني سأعود لأعمل وكيلًا للنائب العام.