الفصل الثالث
وُلد وجدان في عام ١٩٥٠، فحين جاءت الثورة كان طفلًا يحملونه على الأكتاف. وحين بلغ السادسة رأى الشعب في حالة ثورةٍ لا يعرف أسبابها، ورأى أباه في حالة حزنٍ وأسًى لم يكن أيضًا يعرف لهما سببًا في ذلك الحين، ثم رأى الشعب يتحوَّل من ثورة في الشوارع والطرقات إلى جنون فرحة تعمُّ الجميع إلا أباه الذي ظلَّ حزينًا دون أن يدريَ وجدان لماذا يجد أباه دائمًا في حالة تختلف عمَّا يراه في المدرسة والشارع. يذكر طبعًا أن المُدرِّسين قالوا لهم شيئًا عن تأميم القناة، ويذكر أنه كان هناك أمر للجميع أن يفرحوا، ففرحوا. ثم قالوا لهم العدوان الثلاثي وتحالف قوى الشر. وكان يسمع الألفاظ ويُردِّدها دون أن يدريَ ماذا يُقال له؟ حتى لقد دخل أبوه عليه مرة في البيت ووجده يقول لمُربيته: يحيا التحالف الثلاثي.
وتسمَّر أبوه مكانه ووجم هُنيهة، ثم انطلق يُقهقه وهو يقول له: وقعتك سوداء.
– هكذا علَّمونا في المدرسة.
ويصيح الأب وهو يضحك: لا يمكن.
– التحالف الثلاثي يا بابا.
– يسقط يا وجدان، علموك في المدرسة أنه يسقط ولا يحيا.
– وهل أعرف يا بابا؟ نقول يسقط كثيرًا ولا نعرف لماذا. ونقول يحيا كثيرًا ولا نعرف لماذا. حاجة تلخبط.
ويقول أبوه وهو يضحك لا يزال: نعم، لكن اللخبطة في هذه المسائل تؤدي إلى مصائبَ لا يعلمها إلا الله.
– مصائب لمن يا بابا؟
– طبعًا لك أنت لا يمكن. كل المصائب ستكون على دماغي أنا.
– إذن يسقط التحالف الثلاثي.
– أتعرف أحسن شيءٍ يا وجدان؟
– نعم يا بابا؟
– نحن يا بني لا شأن لنا.
– أليست بلدنا؟ ألسنا الشعب؟
– لم تعد بلد الشعب يا بني. إنها بلد شخصٍ واحد. ونحن لا شأن لنا.
– إذن فلا أقول يسقط؟
– ولا يحيا.
وقال وجدان في براءة وفي غير مبالاة: أحسن، واحنا ما لنا، بلاش أحسن، واحنا ما لنا.
وذهِل يومذاك عزام، فقد أحسَّ أن الذي قاله الطفل في براءة من غير فهم، والذي ردَّده كأنه ببغاء، كان ضمير الشعب بأكمله، حتى أولئك الذين يصرخون في الشوارع بالهُتافات الموضوعة على ألسنتهم.
وحين بلغ وجدان الثامنة رأى فرحًا مجنونًا يندلع في المدرسة والشوارع، وتحيا الوحدة، وتحيا سوريا. وكانت سن وجدان تجعله يعي بعض الشيء، ولكن الكلمات لم تكن واضحة المعالم بالنسبة إليه.
وحين وقع الانفصال بدأ رأسه يدور وهو يرى تناقضًا عجيبًا في بيانات الانفصال. كان يعجب كيف يحدث الانفصال في سوريا وينزل الحاكم عقابه على مصر؟!
وحين أعلنت حرب اليمن كان قد بدأ يقرأ الجرائد. وكان في أشدِّ الحَيرة، الأفراح تملأ الجرائد بالانتصارات. والأحزان تملأ بيوت مصر على القتلى وعلى مصير مصر.
كان وجدان حائرًا، ولكنه لم يكن رافضًا للحكم. فهو لم يعرف غيره حتى يرفضه، بل ربما تصوَّر أن دول العالم كلها تُحكَم على هذا المنوال. ولم يكن أبوه يتصور أنه يستطيع أن يناقشه. ولكنه كان يفهم من أحاديث أبيه مع أمه أن أباه رافض. وكان يسمع من زملائه في المدرسة أن آباءهم رافضون هم أيضًا. واقتنع هو وزملاؤه أنهم جيل الثورة، وأن آباءهم جيل مُتخلِّف يدين بالولاء للملك الفاسد وللأحزاب المستغلة المؤلفة من الساسة المحترفين.
وحين أعلن الحكم الثورة الثانية على الإقطاع كان وجدان قد بلغ سنًّا تسمح له بالمناقشة، ولهذا تصدَّى لأبيه حين وجده ثائرًا ثورةً عارمة، غاضبًا كل الغضب، لا يكفُّ عن مهاجمة ما يحدث لأعراض الناس وحياتهم وكرامتهم.
قال لأبيه: أليس من حق الثورة أن تحميَ نفسها؟!
– تحمي نفسها من ماذا؟!
– من أعدائها.
– أين هم؟
– هؤلاء الإقطاعيون.
– ماذا يملكون؟
– المال.
– ألم تأخذ الثورة أموالهم؟
– ولكنها وجدت عندهم غيره.
– وإن كان هذا صحيحًا، فما الذي يستطيعون أن يصنعوه به؟
– يستطيعون أن يحاربوا الثورة بالمال.
– ثورة يحميها جيش بأكمله يحاربها بضعة أفراد ببقايا مال تتوهم الثورة أنهم يملكونه.
– أهي تتوهم؟!
– لا شك، بعد قوانين الإصلاح الزراعي والمصادرات والتأميم والاستيلاء، أي ثروات يمكن أن تبقى؟
– بابا، أنا أعرف أنك قمة في العدل، ولست أنا فقط الذي يقول عنك هذا، بل كل من يعرفك. ثم إن الثورة لم تمَسَّ شيئًا من أرضك ولا من أرض أمي.
– أرضنا معًا أقل من كل القوانين.
– ولكني مع ذلك أخاف أن يكون كرهك للثورة سببه أنها جعلت الفلاحين أصحاب كرامة.
وأوشكَ عزام أن يغضب، ولكنه مال إلى بعض الهدوء وهو يرى ابنه يحاول أن يستنتج ويحاول أن يناقش: الفلاحون أصحاب كرامةٍ طول حياتهم. وكانت صلتهم بأصحاب الأرض صلة مشاركة. والكرامة لا يعطيها أحد لأحدٍ. الكرامة بذرة في النفس لا تزول عن صاحبها مهما ناله من ظلم. والبلاء الذي يقع اليوم يقع على الفلاحين؛ لأن كل المصريين فلاحون. ولم يكن بينهم أحد لا يعتبر فلاحًا إلا الأسرة المالكة؛ لأنها أسرةٌ غبيةٌ، لم تحاول أن تلتحم بالشعب، بل كوَّنت لنفسها طبقة مستقلة، وأحاطت نفسها بسورٍ من العظمة الكاذبة، وابتعدت عن الشعب، حتى اللغة العربية لغة الشعب لم تحاول أن تتعلمها. تعلَّمت لغات العالم أجمع ولم تحاول أن تتعلم لغة البلاد التي جعلت منها أسرة مالكة.
وفي فرحةٍ غامرةٍ صاح وجدان: الله! بابا، إذَن فأنت لا تحب الملِك.
– وما الذي جعلك تظن أنني أحبه.
– زملائي يقولون: إن آباءنا جيل ملكيٌّ يرفض الثورة.
– بل إنني أكره الملِك، وأعتقد أنه هو السبب الرئيسي فيما حلَّ بنا. ولكني يا بني أكره الظلم. ليس لأنني قاضٍ، ولكن لأنني إنسان.
– أترى في الاستيلاء على بعض الأموال ظلمًا؟
وقال القاضي: الاستيلاء على مليم ليس لك ظلم. هكذا شرع الله، ومن شريعة الله جاء القانون، والقانون يُطبَّق لينشر العدالة، وما لا يتفق مع العدالة ظلم. ويا ليت الأمر وقف عند الاستيلاء على الأموال، وإنما تَعدَّاه إلى الاعتداء على أعراض الناس. أتتصور أن ترى أمك عارية أمام شهود يهددك أحدهم بالاعتداء عليها؟
وانتفض وجدان قافزًا صائحًا: لا، لا، لا!
– ألم تسمع أنهم يصنعون هذا؟
– إنه تشنيع.
– يا ليت يا وجدان يا بني، يا ليت! ولكني أنا أعرف، فأعضاء النيابة في هذه الأماكن هم الذين يخبرونني. إنهم يعرفون كل ما يقع في البلاد، في الأرياف والسجون والمعتقلات.
– لا يمكن، غير معقول، لا يمكن.
– والاعتداء على الأرواح، والاعتداء على الكرامات، وبيَد مَن؟ بيد الحكم الذي قال إنه وهب الكرامة للشعب المصري.
– ولكن أننكر يا أبي أن اسم مصر أصبح على كل لسان؟
– قل لي يا وجدان أيهما المهم، الشهرة أم نوع الشهرة؟
– لا أفهم.
– أقصد هل هو شيءٌ عظيمٌ أن تصبح لصًّا شهيرًا وقاتلًا شهيرًا؟
– طبعًا لا.
– إذن المهم هو نوع الشهرة. إن تشتهر بالأمانة، بالحق، بالخُلُق. انظر إلى شهرتنا، قلنا لرئيس أمريكا إذا لم يعجبه البحر الأبيض يشرب من البحر الأحمر. وترجموه هناك بالإنجليزية: فليذهب رئيس أمريكا إلى الجحيم. ورئيس الدولة هو رمزها. والاعتداء عليه اعتداء على الدولة كلها. وهكذا هاجمنا أقوى دولة في العالم، وربما في التاريخ، ولم نترك زميلتها في القوة، فهاجمنا رئيس الاتحاد السوفيتي، وقلنا عن الشعب الإنجليزي تحكمه امرأة، وقلنا للشعب الألماني ينفلق، لن ندفع له دَينه، وقلنا: إن موقف المدين أقوى من موقف الدائن. وفي الساحة العربية عيَّرنا الملِك حسين باسم والدته. ولا أدري أي عيبٍ أن يكون اسمها زين. واعتدينا على ملِك بلاد الإسلام المقدَّسة الرجل الوقور الذي يحظى بالتقدير من كل العالم وتحدَّثنا عن ذقنه. وبهذا يا وجدان يا بني نلنا الشهرة. ولم نكتفِ بهذا، بل أَقحَمنا أنفُسَنا في حروبٍ لا شأنَ لنا بها، ونحن شعبٌ فقير، ولكننا مع ذلك أخذنا الأموالَ التي يجب أن تُنفَق على مَرافقنا من كهرباء وماء وصرف وتليفونات، نُنفِقها في حرب اليمن والكونغو ومالي. وبهذا يا بني نلنا الشُّهرة. أتُعجِبك هذه الشُّهرة؟!
وأطرَق وجدان لحظاتٍ في وجومٍ شديد، ثم قال: يا أبي، إنني من جيلٍ نشأ في هذه الثورة. وهي أملي، وإن فقدتُ أملي فيها فقدتُ أملي في مصر. أنا أصغر من أن أناقشك، ولكنني ما زلت مقتنعًا أن الثورة ورئيسها هما أملنا الوحيد.
– وأنا يا بني لن أحاول أن أخيب أملك. ولكن أرجو أيضًا ألا تخيب الثورة نفسها ثقتك فيها، فليس هناك أبشع من جيل بلا أمل.
وحين وقعت كارثة ٦٧ قال وجدان لأبيه: اليوم يا بابا أصبحنا جيلًا بلا أمل.
ونظر إلى أبيه فوجد الدموع تجري مدرارًا على وجنتَيه.
– تبكي يا أبي. ألم تكن تتوقع؟!
– فرق كبير يا وجدان يا بني بين توقُّع الكارثة ووقوعها.
منذ ذلك الحين لم تعد السياسة تشغل وجدان، بل إنه في كثير من الأحيان كان يقرأ الجرائد من آخرها ولا يكاد يُلقي نظرةً على الصفحة الأولى فيها.
وسار وجدان طريقه في الدراسة وحصل على ليسانس الحقوق في عام ١٩٧١، وكان لا بُدَّ أن يؤديَ الخدمة العسكرية.
وارتمى مع زملائه خريجي المدارس على شاطئ القنال، يرون الممر المائي العظيم الذي حفره أجدادهم، والذي سالت من أجله الدماء منذ قريب، والعدو اليهودي على الشاطئ الآخر منه ينعم به. وتشتعل في نفوس الشباب نيران لا يعرفها إلا من زار هذه المناطق في تلك الأيام السود الداكنة السواد. إذا تمثَّل الخزي في أرض ما فهو هذا المكان، وإذا تجسَّد العار محسوسًا ملموسًا فهو هذا المكان، وإذا اجتمع الجهل والغباء والحمق والفجور لتكون أشياء تُرى بالعين، فهي هذا المكان.
خيانة القيادة للشعب كانت هذا المكان، استهانة صاحب القرار بأصحاب المصير كانت هذا المكان.
جملة قرآنية كانت دائمة الوجيب في قلب وجدان في هذه الأيام، حين يصف سبحانه وتعالى من شاء له عذاب جهنم بقوله: لا يموت فيها ولا يحيا. كان الشاب هناك في جهنم من الخزي والعار والجهل والغباء والحمق والفجور والخيانة، ثم هو لا يموت هناك ولا يحيا. وكان كل شابٍّ قد أصبح والموت في سبيل مصر حين عاد إليها اسمها مصر أملًا. وأعجب شيء أن يصبح الموت وهو الموت أملًا، وأعجب من ذلك أنهم يعلمون أنه أمل مستحيل التحقيق، ويذكر منهم من يحب الشعر بيت المتنبي الخالد العملاق:
سيناء أرض مصر، ومسرى النبيين، والمتشرفة بذكر كتاب الله، ومجلى روحانية مصر، ومبعث الفخر لنا نحن المصريين. إن أرضنا مصر أثيرة عند صاحب العرش ذي الجلال والإكرام، يدنسها شراذم كانت في الأرض بددًا، تتسول الانتماء إلى وطن، أي وطن. والشباب من جيل وجدان يشهدون بأعينهم كيف تُنتهك أعزُّ حرماتهم؟ وكيف تدنس الأرض الطهر؟ وهم يعرفون التاريخ، ويا ليتهم كانوا لا يعرفون. فالجرح في نفوسهم يزداد في كل لحظة عمقًا حتى يبلغ الأغوار البعيدة من كرامتهم المصرية، وحتى يدمر أحلامهم الوردية التي موَّهتها عليهم الدعاية الكاذبة والهُتاف الصارخ واللافتات التي يتبيَّنون اليوم أنها كانت مرفوعةً على فراغ فنكَّستها الكارثة. ويسخرون من أيامهم الماضية، ويقول قائلهم للآخَر: لم تكن الحرب هي النكسة، وإنما كانت نوعًا من الخزي والعار لا تعرف اللغة له وصفًا؛ لأن اللغة لم تشهد له مثلًا. إنما النكسة كانت تنكيس هذه اللافتات ليتضح أنها كانت تخفي وراها اللاشيء إلا الاعتداء على أعراض الناس وحرمات الدين وكرامات الإنسان وأمجاد مصر. ويجد الشباب نفسه يُصلِّي، ويتجه إلى السماء يسألها العون على ما يلاقون، فقد ضاقت بهم الأرض أن تُنبِت لهم أملًا ولو كان من سراب.
هناك يتجه الشباب إلى الله وقد رسخ في الثوابت من يقينهم أنه لا يردهم إلى كرامة الإنسانية إلا معجزة. وهو وحده سبحانه القادر أن يصنع هذه المعجزة.
سنتان والشباب من زملاء وجدان في هذا الجحيم يموت بما يرى ويحيا بلا إله إلا الله وبمحمد رسول الله. سنتان كلمة تُكتب في خمسة أحرف، وتُنطق في هُنيهة من زمن، ولكنهما مرَّتا بهم هناك واللحظة تزحزح اللحظة فلا تتزحزح، والدقيقة تدفع الدقيقة فلا تمضي.
ثم أصدر السادات القرار. ثم جاءت الأوامر بالحرب، ثم صدَق الله عباده أبناء مصر وعْدَه، وتم العبور من تاريخ إلى تاريخ ومن زمن إلى زمن ومن هوان إلى كرامة. ودوَّت «الله أكبر» بالنصر لتظل طنينًا عاليًا في أسماع الحاضر والمستقبل، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها.
•••
كان عزام في أثناء الحرب ملهوفًا لهفة أبٍ يحب ابنه ويُعجب به ويعتبره وأخاه أمله الوحيد الذي يعيش له. وكان في الوقت نفسه فخورًا أنه يشارك في هذه الحرب التي بدأت تباشيرها بعلامات الانتصار.
أمَّا مجيدة فكانت بين الأمهات عجبًا. كان الذعر يُفتِّت نفسها. وكان الرعب يسدُّ عليها أقطار الحياة، وكان قلبها لهفة ولحظات أيامها قلقًا مبيدًا آخذًا. إنها الأم. ولكنها بكل قوة المرأة وبكل ثقافة العلم وبكل عزم مصر لا تُبدي لزوجها إلا الثبات والإشراق والأمل والرضاء بحكم الله، مُرحِّبةً بما يأتي به. وعند ثباتها يجد عزام المرفأ، ويخفي وقد كان عاجزًا أن يخفي، ويتماسك وقد كان أضعف من أن يتماسك لولا زوجته مجيدة.
أمَّا ياسر فقط كان مذعورًا لا يُخفي ذعره. وكلما شهِد ثبات أمه وقناع الصلابة على كيان أبيه عجب من أمرهما. أتراهما لا يحباننا؟! أترانا وأخي عندهما عبئًا يسرُّهما أن ينزاح نصفه؟! ولكن إنهما فيما نرى منهما هما الحب والإشفاق والإيثار والتضحية في سبيلنا وتكليف النفس بما لا تُطيق في سبيل ابتسامةٍ منِّي أو من أخي.
وغاب عن ياسر أن الإيمان في نفس أمه وأبيه يفعل من العجائب التي يحسبها أمثاله ممن يحسبون الحياة أرقامًا ما لا يستطيع هو أن يفهم وما يستحيل عليه أن يصل إلى أسراره.