الفصل الرابع
عمل وجدان في مكتب الأستاذ إسماعيل العدوي، وهو مكتبٌ من أكبر مكاتب المحاماة. فما كاد يُنهي خدمته العسكرية حتى راح يعمل في المكتب، وكان أبوه مُتَّفقًا مع الأستاذ إسماعيل من قبل أن يقضيَ وجدان فترة التمرين عنده.
وبدأ وجدان يكتب المذكرات، وبدأ يتذكَّر القانون شيئًا فشيئًا. فسنتان في الميدان كفيلتان بأن تجعلاه ينسى الكثير. ولولا أنه كان يصحب معه بعض كتب القانون لكان قد نسيَ أنه تخرَّج في كلية الحقوق.
وممارسة المحاماة أمرٌ مختلفٌ كل الاختلاف عن الدراسة النظرية التي يتلقَّاها الطالب في الكلية. ولكن فضل الكلية يتضح في أن المحامي تحت التمرين ما يلبث في بضعة شهور أن يُلمَّ بأسرار العمل ويُتقن مبادئ العمل في المحاكم. وقد قصد إسماعيل العدوي أن يجعل وجدان يكتب المذكرات حتى يخفف عنه رهبة لقاء المحكمة. فهي رهبةٌ يعرف كلُّ من عمِل بالمحاماة مداها.
لاحظ وجدان أن بعض المذكرات التي يطلب إليه أن يكتبها لا تتفق دائمًا مع الحق. ووجد نفسه في صراع. وكان في كل مرة ينشب في نفسه هذا الصراع يقصِد إلى الأستاذ إسماعيل ويناقشه في القضية. ولم يكن إسماعيل يُجشِّمه عناء المناقشة، وإنما كان في كل بساطة يقول له: اترك لي هذه القضية وخذ هذه.
وتكرَّر هذا الحوار القصير فوجد وجدان نفسه يقول لإسماعيل بعد أن طلب إليه أن يترك قضية حاول أن يناقشه فيها: أتراك يا أستاذ إسماعيل تعاملني معاملة خاصة، لأن أبي صديقك؟
– مطلقًا، أنا لا أعاملك معاملة خاصة.
– إذن فلماذا لا تناقشني في القضايا التي أعرضها عليك؟
– هذه هي أصول العمل.
– هذه هي الأصول؟
– أولًا: أنت في أول عهدك بالمحاماة، ولا بُدَّ أن تقتنع كل الاقتناع بالقضية التي تترافع فيها، حتى ولو كانت المرافعة مكتوبة.
– ولماذا لا تحاول أن تقنعني أنت؟ فلا بُدَّ أنك وأنت من أكبر المحامين في مصر قبلت هذه القضية لأسباب قانونية تجعلها مرجحة الكسب.
– هذه هي الخطوة التالية. حين تتقن كتابة المذكرات من ناحية الشكل، وأجد مذكراتك قد أحاطت بكل النقاط القوية في القضية، وردت على مواطن الضعف فيها بالنسبة لنا، تأتي مرحلة مناقشتك.
– أشكرك، أنا فعلًا اقتنعت.
– إن كونك ابن صديقي سيجعلني أضغط عليك بما لا أفعل مع المحامين الآخرين الذين يعملون معي، فلا تخَفْ.
– شكرًا.
استراح وجدان لما قاله له أستاذه، ووجده معقولًا يتمشَّى مع منطق الأمور. وهكذا أصبح يكتب المذكرات التي يطمئن فيها إلى العدالة المطلقة، فسعد بأيامه هذه سعادةً لا مثيل لها. واطمأن بها ضميره لا ينازعه ولا يثير عليه ثائرة من شك.
•••
كان وجدان جالسًا في مكتبه المُخصَّص له في مكتب الأستاذ إسماعيل العدوي حين طرق الباب ودخل عبد السميع وكيل المكتب: أهلًا عبد السميع.
– أهلًا بك يا سعادة البك. بالخارج آنسة عندها قضية في الإصلاح الزراعي، استأذنت لها البك فأمر أن تقابلها أنت.
– عجيبة.
– لا عجب هناك.
– لماذا؟
– يبدو أن والدها كان صديقَ البك، ويبدو أن المكتب سيطلع بالقضية بلا شيء.
– بلاش.
– آه من القضايا التي نسميها قضية مكتب.
– وهل هذا يعني ألَّا يقابلها الأستاذ إسماعيل؟
– هو عادةً يقابل للاتفاق على الأتعاب. والقضية هذه بلا أتعاب، ففيمَ المقابلة ووجع القلب؟
– ألم تقل إن أباها صديقه؟
– أقول كان صديقه.
– يعني …
– يعني أبوها تعيش انت.
– ما زلت لا أرى معنى ألا يقابلها، بل لعل مقابلتها أصبحت أكثر وجوبًا.
– هذا عند المحامين الطيبين أمثالك.
– تقصد تقول السُّذَّج أمثالي.
– العفو يا سعادة البك.
– وبلا عفو أيضًا. عبد السميع، لا بُدَّ أن أرى الأستاذ أولًا قبل أن أقابل الآنسة التي تنتظر. فأنا لا أتصور أن أقابل زبائن، فهذا من شأن صاحب المكتب وحده في المقابلة الأولى، وأخشى أن تكون أنت قد فهمتَ خطأ.
وابتسم عبد السميع ابتسامةً ساخرةً مستخِفَّةً وحاول أن يخفيَها وقال: أنا يا وجدان بك وكيل محامٍ من أكثر من عشرين سنة، ومثلي لا يُخطئ الفهم أبدًا. وعلى كل حال سعادتك تفضَّل قابل البك.
وقصد وجدان إلى مكتب إسماعيل: مساء الخير، أهلًا وجدان. هيه، هل قابلت الآنسة ميرفت؟
– إذَن فعبد السميع لم يخطئ.
– ولماذا تصورت أنه أخطأ؟
وقال وجدان في تردُّد: موكل جديد، وطبيعي أن تقابله حضرتك.
– عجيبة، إنك مع حداثة عملك في المحاماة تعرف آداب المهنة هذه المعرفة. على كل حال أشكرك، أولًا: أنت إنسان شريف غاية الشرف، بل لعلك مبالغ بعض الشيء في الشرف، ولا يمكن أن يحاول مثلك أن يأخذ مُوكِّلًا من المكتب لحسابه الخاص مثلما يفعل بعض المحامين تحت التمرين، وثانيًا: والد الآنسة ميرفت رحمة الله عليه كان صديقي، وقد كلمتني والدتها أمس واتفقتُ معها أن تأتيَ ميرفت إليك وتسلمك أوراق القضية. والمكتب لن يتقاضى أتعابًا على القضية.
– حسنًا، سأذهب لمقابلتها إذن.
– اقرأ الملف وأخبرني عن رأيك فيه.
وخرج وجدان من مكتب الأستاذ إسماعيل وقصد إلى مكتب عبد السميع، وبهره وهو على عتبة الباب وجه ملاك يشعُّ فيه نور فيه مصالحة مع الحياة وتملكته نورانية شفيفة وردَّد في نفسه: سبحان الخلاق العظيم. وأوشك أن يلحظ الجالسون جميعًا ما ارتسم على وجهه من بهر. أمَّا عبد السميع فقد أدرك في اللحظة الأولى ما أصاب الأستاذ، ووقف عبد السميع، ومرت لحظات قبل أن يقول وجدان: عبد السميع.
– أفندم يا وجدان بك.
– الآنسة ميرفت تتفضل في مكتبي.
واستقر به المُقام في الكرسي، ولكن ذرات كيانه جميعًا كانت مشغولةً بهذا الجمال الذي رآه عند عبد السميع، والذي لا يعرف عنه شيئًا، والذي منعه مكانه في المكتب وحياؤه أن يحاول التعرف به.
وطرق الباب ودلفت ميرفت إلى حجرة المكتب. إنها …
– أنتِ؟!
– أتعرفني؟
وتلعثم لحظات ثم قال: لا، أبدًا، مطلقًا! ولكن الحقيقة يا آنسة أنتِ حين رأيتكِ الآن في مكتب عبد السميع لم أتمالك نفسي من الإعجاب والتسبيح بصنع الله جل جلاله. أنا لم أقل هذا الكلام لأحدٍ قط. ولا أظن أنني سأقوله لأحد أبدًا؛ ولذلك أرجوك أن تنسيه وتعتبريه مجرد إبداء رأيٍ لا شك أنكِ سمعتِ مثلَه كثيرًا.
ابتسمت، فكأن السماء أرسلت إلى قلب وجدان لحنًا لم يسمعه أحد من قبل. وتماسك. وقالت ميرفت: أكذب عليك لو قلت لم أسمع مديحًا من قبلك، ولكن الحقيقة لم أشعر أنه صادر عن صدق وشرف مثلما أشعر الآن. وأكذب أيضًا إذا لم أقل لك إنني سعيدة بما أرى وما أسمع.
– الحمد لله، والآن هل أنت مجرد رسول أم موكل؟
– لا أفهم.
– أعني هل ستسلمينني أوراق القضية وأقرؤها أنا، أم ستشرحين القضية؟ ربما تكون الوالدة هي التي تُعنى بهذه الشئون وأنت لا شأن لك.
– ماذا تظنني يا أستاذ؟ إني محامية مثلك.
– صحيح؟ غير معقول.
– أنا تخرَّجت في آخر دفعة وبتقدير أيضًا.
– ولماذا لا تعملين؟
– سأعمل طبعًا، فقط أعطي نفسي بعض الوقت.
– ألف مبروك. وما القضية؟ لا شكَّ أنك تعرفين أسرارها جميعًا.
– إنها شغل البيت الشاغل منذ ست سنوات، وربما دخلت أنا كلية الحقوق من أجل هذه القضية.
– هل هي معقدة؟
– هي بسيطة بساطة تجعلها في غاية التعقيد.
– لقد بدأت شغل المحامين فعلًا.
– حين صدر القانون ٥٠ لسنة ١٩٦٩ كان أبي وأمي يملكان أكثر من المائة فدان بحوالي مائة وسبعين فدانًا.
– يا خبر!
– منها عشرون فدَّانًا لأمي والباقي لأبي. أجرَوا التنسيق وأبقوا لأمي أرضها. وقبل أن تتم الإجراءات تُوفي أبي.
– البقية في حياتك.
– شكرًا. وهنا تبدأ القضية التي ستضطلع بها.
– وأين كانت القضية طَوال هذه السنوات؟
– في مكتب محامٍ يعلم أننا أصبحنا فقراء، أهمل القضية غاية الإهمال. كان دائم التأجيل لها بينما أعتقد أنا أنها تنتهي في جلستين.
– ولماذا قلت جلستين ولم تقولي جلسة واحدة ولو على سبيل المبالغة المعروفة في هذا السياق؟
– لأن القضية لا بُدَّ أن تُنظَر في لجان الطعن في مصلحة الضرائب وفي محاكم الإصلاح الزراعي.
– كيف؟
– استولى الإصلاح الزراعي على الأرض الزائدة.
– معقول.
– وقَّعت مصلحة الضرائب الحجز على بقية الأرض المُحتفَظ بها وفاءً لضريبة التركات مُعتبِرةً أن أبي حين مات كان يملك الأرض كلها التي احتفظ بها والتي استولى عليها الإصلاح الزراعي.
– ما هذا؟ أهذا معقول؟!
– لم تعترف مصلحة الضرائب بالاستيلاء وقدَّرت ضريبة التركات على هذا الأساس.
– هناك سؤال يفرض نفسه.
– طبيعي، ولك أن تسأله. نعيش من العشرين فدانًا التي تملكها أمي. وخالي أعزب، فجعلنا نعيش معه وأجَّرت أمي شقتنا مفروشة.
– سبحانه لا يُقفِل بابًا إلا فتح آخر.
– الحمد لله.
•••
لم تعمل ميرفت، وإنما تزوجت من وجدان بعد أن عرَف عنها كل شيء.
•••
استمر وجدان في العمل بالمكتب، ولكن الأمور راحت تنكشف له، ومرت السنتان اللتان لا بُدَّ منهما للتمرين، إلا أن وجدان في السنة الأخيرة كان في صراع قاتل مع نفسه.
لقد أصبحت قضايا المكتب جميعًا أو أغلبها على الأقل بين يديه. لا، ما هكذا ينبغي أن تكون المحاماة.
وقال أبوه: ولكن من يدافع عن المجرم إذا لم يدافع المحامي؟!
– يدافع بالحق.
– أيمكن هذا؟
– هذا ما يجب.
– أتظن أنك تستطيع أن تستمر؟
– في مكتب غير مكتبي، مستحيل.
– ماذا تريد من المحامي؟ أن يرفض القضية الخاسرة.
– هذا ممكن.
– أليس من واجبه أن يحاول إقالة عثرة المخطئ لعله يستقيم؟
– يطلب التخفيف ولا يغير الحقائق. هذا في القضايا الجنائية، أمَّا في القضايا المدنية فعليه أن يقف في جانب الحق. وإذا رأى موقف مُوكِّله ضعيفًا فعليه أن ينصحه بالصلح، أو يتخلَّى عن القضية.
– ما هو عمل المحامي في رأيك؟
– أن يقدم للقضاء وجهة النظر الأخرى، سواء كان ذلك في القضايا الجنائية أم القضايا المدنية.
– هذا تعريفٌ دقيق.
– على أن يكون شريفًا. فالقاضي إنسان، وعمل النيابة والمحاماة في الجنايات أن يُقدِّما وجهتَي النظر. أمَّا في القضايا المدنية فعلى كل محامٍ أن يفتح أمام القاضي جوانب القضية من وجهة نظر موكله. بالحق، على هذا أقسمنا، وبهذا ينبغي أن نلتزم.
– أتريد أن تكون نبيًّا؟!
– أنا جزء منك. وأنا لا أحاول أن أصلح الآخرين، ولكن أحاول أنا أن أكون شريفًا. النبي يصلح الآخرين، أنا لا أفكر في هذا، كل ما أحاوله ألَّا أقوم أنا بعملٍ وأنا غير مقتنع به.
– قبل أن تؤديَ الخدمة العسكرية كُنَّا اتفقنا أن تعيد التفكير.
– أذكر هذا الحوار، ولكنني كنت مُصمِّمًا. ومن أين لي أن أعرف سراديب المحاماة!
– أنا كنت أعرفها.
– وأنت خير من يعرف أن الإنسان يجب أن يخوض تجربته بنفسه.
– لو أن الأبناء انتفعوا بتجارب الآباء لأصبحت الدنيا نعيمًا مطلقًا.
– وبما أنها دنيا وليست عليا، فلا بُدَّ فيها من الخطأ، ولو انتفع الناس بتجارب من قبلهم لانتفى الخطأ وأصبحت جنةً لا أرضًا.
– هذا حق. والآن ماذا ترى؟
– لو فتحت مكتبًا فلن يدخله أحد. فمن يعرفني حتى يأتيَ إلى مكتبي.
– وهذا ذكاء منك.
– إذن فليس أمامي إلا النيابة، فأنا الآن محامٍ ابتدائي، فلأعمل في النيابة بأقدميتي مؤقتًا ثم أعود للمحاماة.
– لا أظن أن هناك صعوبة في ذلك، فالنيابة والقضاء في حاجةٍ دائمة إلى عناصر جديدة مستوفية لشروطها.
– أعلم ذلك.
– أتحب أن أكلم أحدًا؟
– أطال الله عمرك. لا أظن الأمر محتاجًا إلى كلام من سعادتك؛ سأتولى أنا الأمر، وأعتقد أن تقديري في التخرج ومشاركتي في المعركة وعملي في المحاماة ستكون جميعًا شفيعًا لي. وطبعًا اسم سعادتك سيفتح لي جميع الطرق. وأنا لن أستعمله ولكنه هو سيعمل وحده. فالانتساب إلى قاضٍ شريف شرَفٌ في ذاته.
– على بركة الله.