شيكو – الدير – المؤامرة – تتويج الدوق دانجو
في اليوم التالي الذي مرَّ بما ذكرناه من الحوادث، ذهب الملك بحاشيته العظيمة إلى الصيد يروِّح النفس من عناء السياسة، وأقام في الغياض والمستنزهات إلى المساء.
ثم عاد في مركبته الملوكية التي كان فيها ندماؤه وشيكو يُطرِفه بالأحاديث المضحكة، فيطرب لأحاديثه لاهيًا بها عن كل أمر.
حتى إذا دنَتِ المركبة من أبواب باريس يتقدَّمها الموكب الحافل، أطلَّ شيكو منها اتفاقًا ورأى جماعةً من الناس يهربون من وجه الموكب ويدخلون إلى فندق هناك، كأنهم يخافون مَن أن يراهم أحد من رجال هذا الموكب الملكي.
فوثب شيكو مسرعًا من المركبة من غير أن يستأذن الملك، واختبأ وراء بيت مرتفع كي لا يراه أحد.
فلبث هناك حتى توارت المركبة، فانطلق مسرعًا إلى الفندق المذكور.
وكان شيكو معروفًا لدى الجميع بشدة إدلاله على الملك.
فاستقبله صاحب الفندق بمنتهى الإكرام، وسار به حسب أمر شيكو إلى غرفة ملاصقة للقاعة الكبرى حيث كان يجتمع أولئك الرجال.
وأقام هناك ينصت إلى حديثهم، فسمع منهم أنهم كانوا يخشون أن يراهم رجال الملك.
ثم بعثوا بواحد منهم ليرى إذا كانت المركبة قد توارَتْ … فعاد وقال: لم يَعُدْ من خطر علينا، ولا مانع لنا عن الذهاب.
فساروا جميعهم ولم يتخلَّف منهم غير راهب يُدعَى الأخ غورنفلو كان يشبه شيكو شبهًا عظيمًا، ولا سيما في تقاطيع جسمه.
وكان يعرف شيكو معرفةً تامةً، وله معه صحبة.
وكان مدمنًا للشراب مفرطًا فيه، وهو سليم النية ساذج القلب على سعة معارفه ووفرة اطِّلَاعه.
فلما رآه شيكو سُرَّ لرؤياه وأيقن أنه سيعلم منه سر أولئك الرجال الذين اختبئوا في الفندق هربًا من الملك.
وقابَلَه مقابلة حسنة، ودعاه إلى الطعام فأجاب الدعوة شاكرًا وجلسَا في قاعة منفردة.
وأشار شيكو إلى صاحب الفندق أن يكثر من قناني الشراب على المائدة، ففعل.
وما زال يسقيه وهو يتلطف في سرقة سره، حتى أخذ الشراب منه وباح له بأن كثيرين من أعيان المملكة سيجتمعون هذه الليلة في دير جنفياف، فيدخلون إليه بملابس الرهبان ويقولون عند دخولهم كلمة سرية لا يسوغ لمَن لا يقولها الدخول.
فمالَ عليه شيكو بالشراب، فأخبره بتلك الكلمة.
فعلم عندها أن أعيان المملكة لم يجتمعوا في الدير بهذا الشكل السري، إلا لمؤامرة يعقدونها للإضرار بالملك الذي كان يحبه حبًّا عظيمًا.
فذابَ شوقًا إلى الاطِّلَاع على هذه المؤامرة.
وكان غورنفلو قد أخبره أن الذين يدخلون إلى هذا الدير لعقد هذه الجمعية هم أعضاء معدودون.
فمتى التأمت يعدُّون الأعضاء، فإذا نقص العدد يبحثون عن الغائب ومعرفة اسمه بكتابة أسماء الحضور.
وإذا زاد العدد يبحثون عن الذي تجاسر على الدخول بغير إذن، ويقتلونه في الحال.
وقد ذكر له الموعد المعين للاجتماع وما يجب على الداخل أن يقول عند دخوله، وعند عدد الأعضاء … وأعلَمَه بكل مصطلحات الجمعية المذكورة.
ففهم شيكو كل شيء، ولم يَبْقَ عليه غير أمر واحد، وهو منع غورنفلو من الذهاب والحصول على ملابسه ليرتدي بها ويذهب بدلًا منه، ففكَّرَ شيكو فعلم أن الرشوة لا تفيد في هذا المقام.
ولبث كاتمًا قصده، وجعل يسقي ذلك الراهب المسكين وهو يتظاهر أنه يشرب معه ويكب الأقداح.
حتى اندلع لسان الراهب من السكر ثم تراخت عيناه وضاع صوابه، فسقط على الأرض كالميت من تأثير الشراب.
وللحال قام شيكو وقفل باب الغرفة، ثم جرَّدَ الراهب من ملابسه ولبسها فوق ثيابه ولفَّه بحصير وأرقده بزاوية من الغرفة، ودعا صاحب الفندق وأوصاه أن يحتفظ بالراهب، وأخبره بأنه سكران وأنه جرَّدَه من ثيابه ولبسها بغيةَ إضحاك الملك.
ولم يسع صاحب الفندق مخالفته في شيء، لما كان لشيكو من الشهرة والنفوذ في البلاط.
ثم انطلق شيكو مسرعًا ينظر إلى ملابسه ضاحكًا، وهو غير مكترث بما يحيق به من الأخطار، حتى وصل إلى الدير، وكانت قد دَنَتْ ساعة الاجتماع.
فقال الكلمة السرية للبوَّاب، ودخل إلى ردحة الدير فوجد فيها كثيرًا من أعيان المملكة وكبار رجالها كلهم، وجميعهم بملابس الرهبان، فلم يختلط بهم حذرًا من أن يعرفوه.
وبعد أن تكامَلَ عدد الأعضاء قُرِع جرس الدير ثلاثًا، إشارةً إلى وجوب عقد الجلسة.
فأسرع الحضور إلى الجلوس في كراسيهم، وجلس الدوق دي كيز في كرسي الرئاسة، وعلى يمينه عرش عظيم لم يكن جالسًا عليه أحد، وعلى يساره منبر للخطابة.
ولما انتظم عقدهم وبلغ عددهم حد التمام، قرع الرئيس بجرس أمامه وساد السكوت العميق على الحضور.
ثم أشار بيده إلى أحد الأعضاء، فقام إلى المنبر وانبرى يخطب في القوم خطبة حماسية يظهر فيها فساد الأحكام وشدة استبداد الملك، وأنه يجب خلعه إذ لا يصلح للملك.
فصفَّقَ له الجميع استحسانًا، ولما نزل عن المنبر صعد إليه سواه، ثم تلاه آخَر، إلى أن بلغ عدد الخطباء عشرة، وكلهم قد خاضوا في بحث واحد …
وهو الحث على خلع طاعة الملك، ووجوب التعاضد على تعيين أخيه الدوق دانجو.
ولما فرغ الخطباء، دخل خادم وأسر إلى الرئيس كلامًا أجابه عليه بإشارة الامتثال.
ثم وقف وقال: هو ذا الدوق دانجو قادم إلينا.
ولم يكد يتمُّ كلامه حتى دخل الدوق مصفرَّ الوجه، وعليه ملامح الاضطراب، ودخل معه المسيو دي مونسورو وهو أيضًا بملابس الرهبان.
فأجال الدوق في الحضور نظرًا مضطربًا، ثم صعد إلى العرش فجلس فيه هنيهة ريثما سكن ثائر القوم وفرغوا من التهليل، ووقف المسيو دي مونسورو فقال: أيها الكاثوليكيون الأحرار، إن الدوق الجالس على هذا العرش يحب أن يتكلم فاسمعوه.
فصاح الجميع: ليحيَ الدوق، ليحيَ منقذ فرنسا … ليعِشْ مؤيِّد الكثلكة وحافظ الوطن، وَلْيسقط الظلم ومؤيدوه.
وبعد أن فرغ القوم من هذا الهتاف، وقف الدوق وقال بصوت مضطرب: أيها القوم، إني لم أستطع أن أحيط بنظري الضعيف جميع أنحاء هذا المعمور المتسع … فأوقفته على فرنسا وطني المحبوب الذي نشأتُ فيه، فرأيتُ أن الدين المقدس قد تقوضت معالمه وانهدَّتْ أركانه، وأصبح ألعوبةً بأيدي الكَفَرة الظالمين، ومضغةً في أفواه الهازئين، وأحبولةً لقنص أغراضٍ نصبها ذوو المآرب والغايات.
وهو ديننا القويم، الذي تفيض نفسي حزنًا … لبلوغه إلى هذا الانحطاط.
وحدث هياج بين الحضور؛ لأن كلام الدوق كان فيه إشارة ظاهرة إلى وجوب الانتصار للدين، ولو بإثارة الحرب على الذين قد اتهموا بالزيغ عن محجته.
وصبر الدوق هنيهة ثم عقَّبَ قائلًا: ولقد وصل صوت تمرمر الشعب إلى أذني … وهاجت عواطف الدين مكامني … وسألني نبلاء فرنسا وأعيانها أن أُسرِعَ إلى الأخذ بناصر الكثلكة، وأضعها في مقامها الذي يجب أن تكون فيه، فدفعتني تلك العواطف إلى تلبية هذه الدعوة وإجابة أولئك النبلاء … فمددتُ ذراعي إلى أولئك المستنصرين …
وها أنا الآن بينكم …
فهاج الحضور هياج سرور لهذا الخطاب الوجيز … وكان بينهم ثلاثة من أسرة لورين، كان أقربهم إلى البرنس الكردينال دين لورين فخطا خطوة إليه وقال له: هل أتيتَ أيها البرنس إلى هذا المجتمع عن رضًا؟
– نعم، وبملء الرضا.
– ومَن الذي أخبرك بهذا الاجتماع السري؟
– رجل هو من أشد الناس غيرة على غايتكم وتحقيق أمانكم، وهو الكونت دي مونسورو الواقف بجانبي.
– إذًا تفضَّلْ يا مولاي وقُلْ لنا ما الذي ستصنعه من الخير لهذه الجمعية المقدسة التي أنت رئيسها الآن؟
– إني سأخدمها أجلَّ خدمة … وأردُّ للكثلكة مقامَها الرفيع … ولست أخدم الدين فقط، بل إني أريد أيضًا خدمة موطني وبلادي … لأن الشخص الشريف هو مَن يخدم دينه الذي نشأ عليه … وموطنه الذي رُبِّي فيه؛ لأن خدمة الأوطان من الإيمان، وهي خدمة مقدسة أيضًا؛ ولذلك فإني سأبذل قصاراي وأفرغ مجهودي فأجعل هذه الأوطان الجميلة تذوق ما فقدته من حلاوة الأمن والهناء بذنب رؤسائها، وهي الغاية الجُلَّى والقصد الوحيد الذي يدفعني إلى الانخراط في سلككم، وهذا الذي جاء بي إلى هذا المكان.
فصفَّقَ الجميع استحسانًا لهذا الخطاب حتى ارتجَّتْ جوانب الدير وصاح جميعهم بصوت واحد: ليسقط هنري وليحيَ فرنسوا.
وبينما الشعب يصيح هذا الصياح دخل الكردينال إلى غرفةٍ، ثم رجع وهو يحمل تاجًا ملكيًّا، فدَنَا بذلك التاج من الدوق وقال له: إن رأسك جدير بأن يزدان بهذا التاج الملكي؛ لأن جميع المحيطين بك وهم من رؤساء فرنسا يخضعون لك أتم الخضوع، فالبس هذا التاج وسِرْ بهم وبأوطانهم وبدينهم إلى حيث يشاء المجد، وأنا الآن ألبسك هذا التاج برضا أولئك النبلاء وبمصادقة الحبر الأعظم الذي أنا وكيله في هذه البلاد، فَلْيكن مباركًا عليك، وَلْتهنأ به أنت وبلادك.
وعندها وضع التاج على رأسه وصاح، فصاح معه الجميع: ليحيَ فرنسوا الثالث ملك فرنسا العظيم.
فنزل الدوق من العرش والتاج على رأسه وعليه عظمة الملوك، فجعل يتهادى بين الحضور فيعيِّنهم بالمناصب العالية، ويمنُّ عليهم بالرتب والألقاب، وبعد أن فرغ من هذا الطواف دعا الكردينال الحضور إلى الصلاة، فصلوا جميعهم وختموا هذه الصلاة بالدعاء للملك الجديد.
ثم خرج الدوق فخرج الجميع في إثره ولم يَبْقَ منهم غير عشرة أنفار من الأعيان، وثلاثة من أسرة لورين، فاختبأ شيكو ليعلم ما يقصدون من بقائهم في الدير، فتبيَّن له أن تلك الأسرة القادرة لم تُرِدْ بتتويج الدوق غير إلقائه إلى التهلكة، وإسقاط الملك هنري بإثارة الأحزاب عليه، والسعي لحصر المُلْك بتلك الأسرة التي كان يساعدها في الوصول إلى هذه الغاية البابا في رومية بسعي الكردينال دي لورين أحد أعضائها.
وقد كان بينهم محامٍ شهير يعلم الأنساب، فكتب فصلًا مطولًا أظهر فيه نسب أسرة لورين، وأنها أقرب إلى عرش فرنسا من أسرة فالوا المالكة.
ففحص جميع الحضور هذا الفصل ونقحوه بما عَنَّ لهم من الآراء، ثم أعطوه الكردينال ليطَّلِع عليه الحبرُ الأعظم.
وأُطفِئت المصابيح فارفضَّ الجميع وذهب كلٌّ في سبيله يبنون من آمالهم قصورًا مشيدة من الأوهام، وخرج شيكو وهو يعجب من هذا الاتفاق الغريب.