ماكس نورداو
١
الاستقلال في الرأي صفة نادرة في الناس، وأندر منها أن تقع على آثارها في التراجم التي يُترجم بها عن حياة العظماء، فلطالما فنيت شخصيات المترجمين في شخصيات الذين يترجمون عنهم، حتى قال لورد ماكولي كبير نقاد الإنجليز في القرن الفارط: إن الإغراق فى مدح المشاهير مرض اجتماعي لم يخلص منه إلا قليل من الكاتبين، كَثُرَ ما ساقت بهم فكرة الاستقلال في الرأي إلى الإغراق في النقد، فأسرفوا فيه، حتى أوقعهم حذرهم من المحاباة في مَعَرَّة البعد عن الإقساط في القول والإنصاف في الحكم.
على أن ادعاء العصمة، كشأن الادعاء في كل شيء، رذيلةٌ كبرى، وهي أشنع ما يبلغ إليه الإنسان من مدارج الإسفاف والسقوط.
إن كل كلمة من هذه الكلمات تدل على أن الرجل قد أنصفه التاريخ. وإن كان كل ما في العالم أثر مما فيه، صح مع ذلك ما قاله العلَّامة ستيوارت ميل: «لا تطمع أن تنال من الدنيا أكثر مما في استطاعة الدنيا أن تعطيك.»
والدنيا قد أعطت «نورداو» أكثر ما في استطاعتها أن تعطيه، كالت له المدح وزفَّت له الثناء، كما أنها لم تبخل عليه بالنقد مكيلًا في بطون الأوراق الخالدة.
ومما لا ريبة فيه أن الحكم على الآثار العقلية بنسبة زمان واحد خطأٌ نفساني فاشية آثاره بين الناس، لذلك يصح أن يترك الحكم على الرجل للتاريخ، وللتاريخ البعيد أيضًا؛ لأن الحكم على منتجات الفكر كما قامت في عقول واضعيها أمر بعيد عن النَّصَفَة والإقساط، فقد يتفق أن يكون للفكرات السلبية التهديمية ذاتها نصيبًا من العمل على رُقِي الإنسان، لذلك كان الواجب أن يتكوَّن الحكم على العظماء حسبما تُخلِّف أعمالهم من الآثار لمستقبل الأجيال.
كم ذاع من فكر، وكم انتشر من مذهب لو حكمت عليه كما كان في عقل واضعه لحكمت بأنه ضارٌّ لا نافع، في حين أنك لو قيَّمْته بالقياس على ما أنتج من حركة في عالم الفكر، أو على ما ساق إليه من مختلِف الجهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وأردت أن توازن بين ذلك وبين ما فيه من خطأ؛ لأَرْبَت ناحية النفع على ناحية الضرر. إذن فالواجب أن يترك الحكم المطلق للتاريخ، أما الحكم النسبي فذلك ما في مستطاعنا أن ندلي فيه بقول أو نقضي فيه برأي.
نسوق الكلام في «نورداو» كما هو في هذا العصر، وبنسبة ما خلَّف من أثر في عقول أبنائه، غير عالمين ماذا يكون من أمره في المستقبل. وغاية ما في مستطاعنا أن نقول في هذا الشأن إن حكم التاريخ على «نورداو» سوف يكون حكم التطرف والمغالاة بنسبة ما حكم هو على الدنيا وعلى الجَلَبَة الاجتماعية التي قامت من حوله، فإمَّا إلى البقاء الخالد وإما النسيان الدائم، وكلا الأمرين عظيم؛ لأن البقاء بالأثر الفكري، إن كان خلودًا، فإن في طي الشخصيات في نواحي النسيان لَنوعًا من الخلود؛ لأنه لا ينسى إلا من شَعَر الناس بوجوده، فلا نسيان إلا بعد وجود، وكفى بالمرء فخرًا أن ينبه مشاعر الناس بوجوده الحقيقي ليكون خالدًا.
•••
كان «نورداو» حر الرأي بعيدًا عن التقاليد، لذلك كان بلا دين، رجل رضي من الدنيا بأن يعيش فيها ناقدًا، لا أقل من هذا ولا أكثر، وأول ما أدى به إليه نقده أن يكون بلا دين، فكذلك عاش، وعلى هذا طواه التراب.
كما أن «نورداو» قد استصغر الإنسان في جانب الله، كذلك استصغر العقل الإنساني في جانب الكون، فقضى بأن العقل محدود لا يبلغ مداه إلا دائرة صغيرة من النظر، لا يصح أن يُحكم من ناحيتها على العالم، مثله كمثل العُمْي الذين أخذوا يصفون فيلًا: فمن أمسك منهم بذَنَبه قال إنه كالحبل، ومن لمس بطنه قال إنه كالكرة، ومن وقع على رجله قال إنه كالشجرة، فالكل صادقون على درجة محدودة، ولكنهم مخطئون على درجة غير محدودة؛ فإذا قال الفلكيون إن العالم عبارة عن قانون الجاذبية، وإذا قال الكيماويون إن العالم هو الجوهر الفرد، وإذا قال الميكانيكيون إن الكون عبارة عما فيه من سُنَن القوة والطاقة … إلى غير ذلك، فليسوا مخطئين بل هم مصيبون، ولكن بنسبة ما وإلى حدٍّ محدود، في حين أنهم مخطئون؛ لأنهم حكموا حكمًا عامًّا في شيء نظروا فيه من جهة خاصة، فإذا سألت هؤلاء مثلًا: لماذا يكون للجاذبية يدٌ في نظام العالم؟ ولماذا خُصَّت المادة بسُنن الجذب والدفع؟ أو لماذا تتكون المادة من جواهر فردة؟ ما وجد هؤلاء من جواب أَرْوَح عليهم، وأخرج بهم من ضيق ما يُوقِعُهم فيه العقل؛ إلا القول بأنها كذلك سبقت في إرادة الله.
•••
لقد أشرف «نورداو» من شرفة عقله الكبير وقوة ابتكاره على أبناء جيله، وهم مُقْدِمون على عصر انقلاب اجتماعي لم يعهد له التاريخ مثيلًا، أشرف على نهر الحياة الأوروبية الفائض فلم يجرفه التيار، بل ظل واقفًا على الشاطئ يتأمل مِنْ تدافُع أوجه تلك الحياة وتجاذبها، من تجانسها وتنافرها، فاستنتج أن هنالك انحطاطًا وتدهورًا وفسادًا وضُئُولة في الملكات، مثله كمثل «روسو» في أول رسالة نال عليها جائزة جامعة «ديجون» العلمية، إذ أشرف على أبناء جيله وهم مُقْدِمون على عصر الثورة فاتخذهم عنوانًا على الحياة البشرية، فقضى بأن الإنسانية سائرة في طريق التقهقر والفساد.
إن عصور الانقلاب في الجماعات أشبه شيء بسير الحُمَّى في الأفراد، تُلْقِيهم في المرض وتتدرج بهم فيه شيئًا فشيئًا حتى إذا أدركهم عصر الانقلاب أخذهم الهَذَيَان فعَمَدوا إلى التحطيم والهدم، فإذا تقشَّعت غَيَامة الانقلاب رجعوا إلى البناء والتشييد، ناظرين في أنقاض ما تهدَّم ليستخلصوا منه النافع وينبذوا الضار.
أشرف «نورداو» على الجماعات في هذا العصر وهم في بدء الانقلاب وكاد يدركهم هذيان الحُمَّى، وحكم فيهم حكمه، وهم في حالهم تلك شغوفين بالإفلات من مساوئ الانقلاب، وأَنَّى لهم أن ينفذوا من أقطار الطبيعة وهم أبناؤها الثائرون؟ فخُيِّل إليهم أن العلم منجِّيهم، فأكَبُّوا على العلم الإنساني يستنزلون وحيه، فلم يخرجوا من ذلك إلا بعَمَاء صرف وفوضى لا نهاية لها، أوقعهم علمهم في الخلاف وأسلم بهم إلى التشاؤم. ولم يصلوا إلى هذا الحد إلا ليحكم عليهم «نورداو» بأنهم آخذون في الفساد، ضاربون في أصول الانحلال الأخلاقي.
ولا مُشَاحَّة في أن كتاب «نورداو» لَخير كتاب يخرج من عقل مبتكِر في عصر انقلاب تُشْرف عليه الجماعات، بعد أن يُعْنِت الباحثون أنفسهم في البحث عن مخرج من فوضى النزعات الفائرة القائمة فيه. أما الصورة الحقيقية التي تخيلها «نورداو» فلا يُظْهِرُك عليها مثل تأملك من الحالات الاجتماعية التي قامت من حوله، وكل ما فيها يدل على أن جماعات المدنية الحديثة مشرفة على انقلاب وأن هذيان الحمى كاد يدركها.
•••
يقوم الآن عند الناس شعور طبيعي يوحي إليهم بأن درجة محتومة من درجات النشوء الاجتماعي واقعًا في المدنية الحديثة قد آن اختتامها وأن أبناء القرن العشرين يستقبلون عهدًا جديدًا. غير أنه من أبعث الأشياء القائمة في هذا العصر على التأمل والعجب أنك لن تجد من خَطْرة فكر يفيض بها علينا أولئك الذين يتكلمون باسم العلم ورسوخ القَدَم فيه يفصحون بها عن المتَّجَه الذي تتمشى فيه حالات التقدم والارتقاء المستقبلة، فإنك أينما ولَّيْت وجهك باحثًا في أية جهة من جهات المعرفة الإنسانية التي تتجشم مئونة التأمل من المسائل الاجتماعية والبحث فيها، لا تقع إلا على مظاهر جلية من التغير والقلق بارزة في جبين هذا العصر. وعلى الرغم من تلك الخطى الحثيثة التي خطاها العلم في القرن الماضي، وهذين العقدين اللذين فَرَطَا من القرن العشرين، فإنك لن تجد محيصًا عن الاعتراف بأنه لم يقم بعدُ علم نستطيع بحق أن ندعوه «علم الجماعات الإنسانية»، إذ أي أثر للعلم اليقيني الحق في موضوعات استحكمت فيها فوضى المباحث المتناثرة تحت كثير من مختلِف العناوين والتعاريف؟
بيد أن الاستنتاجات العامة التي قُصد بها وضع فكرة خاصة في وحدة تخضع للسنن التي تمضي مؤثِّرة في المظاهر الاجتماعية المختلطة القائمة في هذا العصر؛ لم تكن إلا نتاجًا لتفكير مدارس علمية عُنيت بدرس المشكلات الاجتماعية، وصرفت همها نحو معرفة أصل الاجتماع الإنساني، وتعقُّب خطى تطوره ونشوئه، ذلك ما تقوم عندنا عليه أوجه الترجيح مهما تلكَّأْنا في الاعتراف بأنه واقع. على أن تلك المستنتجات العامة لم يتقدم وجه النظر فيها إلا من طريق تلك المدرسة الاجتماعية الثورية التهديمية التي كان «كارل ماركس» زعيمها الأول وعَلَمَها الفرد.
أما إذا أردنا أن نحكم على العلم بمقتضى أقوال المُتَنَطِّسِين فيه، فإننا نجده رغم أن أكبر مفاخرة في القرن التاسع عشر قد انحصرت في الكشف عن خطى النشوء والتطور الحيوي حتى انتهى إلى الاجتماع الإنساني؛ قد وقف واجمًا إزاء المسائل التي تمثلها الجماعات في حالتها الحاضرة. والظاهر أن ليس لدى العلم من شيء يزودنا به عن حالات التطور المنتظرة التي سوف تمضي فيها الجماعات في المستقبل.
على الرغم من هذا فإن كل ما استطاع «سبنسر» أن يُلقي من نور الاختبار على تلك المعضلات التي كانت قائمة في عهده والتي تولَّدت عنها الحالات القائمة في عصرنا، وهي حالات لم تبلغ من الشدة في عصر من العصور مبلغَها في العهد الحاضر؛ لم يكن إلا شعاعًا ضئيلًا وسرابًا خلَّابًا، حتى إنك لتجد أن مباحثه وثمار أفكاره وتأملاته، من أية ناحية قلَّب الاجتماعيون والمصلحون أوجه الرأي فيها، لم تَسُقْ إلا إلى ازدياد الخَرْق؛ إذ أنتجت تَيْنِك المدرستين المتنابذتين: مدرسة القائلين بالفردية، تسلط الفرد واستقلاله ونماء كفاءاته ومواهبه، ومدرسة القائلين بالاشتراكية، تَسَوُّد الجمعية المشتركة على الفرد وخضوعه لها.
ومذ قام «هربرت سبنسر» في إنجلترا ينظر إلى النزعات الاشتراكية التي قامت في عصره نظرة البغض، لا بل نظرة الجَزَع والاستكراه، ومذ انقسم الباحثون الذين تخرجوا في مذهبه إلى معارضين ومؤيدين، إلى قيام الأستاذ «شافل» في ألمانيا ينظر إلى المستقبل نظرة من يعتقد أنه لا محالة مُفْضٍ بالناس إلى المبادئ الاشتراكية المنتقاة، حتى ظهور «ماكس نورداو» لِيبشر أبناء جيله بأنهم منحطون متدهورون؛ لا تقع في أحوال ذلك العصر إلا على ضروب من تباين الآراء، وألوان من الأفكار المضطربة.
أما وقوف العلم إزاء ذلك وقفة الواجم الذي تملَّكته قوى السلب من كل ناحية، فإن الأستاذ «هكسلي» المشرِّح المشهور والباحث الاجتماعي الكبير؛ لَيمثلها أفضل تمثيل، إذ أَكَبَّ في بعض مباحثه على تسفيه آراء المدرستين، القائلين بالفردية والقائلين بالاشتراكية، معتبرًا أن كلا المبدأين من المضادات لبديهة العقل، بل من المستعصيات عملًا المتناقضات عقلًا.
ولن تستطيع أن تعتبر كل هذه الجهود كأوليَّات رَمَتْ نحو استيضاح أية فكرة مقبولة فيما تنحصر فيه واجبات الإنسان إزاء ما يحيط بالمدنية من ظروف وما يَحِفُّ بها من حالات، فإن الأستاذ «هكسلي» رغم حملته الشعواء على هاتين المدرستين لم يَزِد يقينه في المستقبل إلا غموضًا، حتى إنه لَيسوق بقرائه زاعمًا هدايتهم، متعمدًا تنوير أذهانهم بمبادئ يأْتَمُّون بها، إلى مزالق لا يجدون فيها من يقين يستمدون وحيه، ولا من أمل يرتقبونه.
إن أكمل صورة من صور المدنيات الحديثة لَتصور حالة من حالات النوع الإنساني لا تتضمن نزعة خيالية مثالية ذات وزن ما، ولا تملك شيئًا من روح الاستقرار والثبات. ولن أجد لديَّ من الاعتبارات ما يجعلني أتلكَّأ في القول بأنه إذا لم يكن لدينا من أمل في تهذيب حالات أكبر مجموع من السلالة البشرية، وإذا صح أن تقدم العلم والمعرفة، وازدياد سلطة البشر على الطبيعة الذي تستوجبه تزايد المعلومات واستجماع الثروات التي يستغلها الإنسان من تسوُّدِه على قوى الكون، لا تحدث فرقًا في مطالب الإنسان وحاجاته العظمى، مع ما هو مقترن بذلك من الاضمحلال التكويني والسقوط الأدبي؛ فإني لَأرحب بمذنَّب عظيم يكتسح في صفحة العالم ذلك الأمر كله.
إن مجموع تلك الأفكار الكبيرة المتضخمة التي يبعث بها إلى عقول الناس هذا النوع من الشعور، لَهي التي تُقيم جماعات المدنية الحديثة وتَعْقِدُها، بالغةً في التأثير فيها أبعد مبلغ، وما من شيء أثبت في عقائد الاجتماعيين والمصلحين من أن هذه الأفكار سوف تؤثِّر أثرها المحتوم.
ولقد نظر مستر «هنري جورج» المؤلف الأمريكي الكبير، في الاجتماع من ناحية القوميات متسائلًا إلى أي حدٍّ سوف تبلغ خطوات كل شعب من الشعوب الضاربة في أصول الارتقاء المدني؟ لأن «تعليم أناس تُفْرَض عليهم معيشة الشقاء والفقر لا يزيدهم إلا كُنودًا وكفرانًا»، كما أن «اتخاذ أبعد حالة من حالات عدم المساواة الاجتماعية أساسًا لارتكاز النظامات السياسية التي يُفرض من الوجهة النظرية أن الناس متساوون أمامها، لَأمر فيه في البعد عن العقل بمقدار ما تحاول ابتناء هرم يرتكز فوق الأرض على قمته لا على قاعدة.»
هذا طرف من الحالات التي أحاطت بالجماعات التي أصدر فيها «نورداو» حكمه، جماعات هاذية محمومة يكتنفها عصر انقلاب أخذ بأسباب حياتها، إذن فهي جماعات خير ما يخرج فيها كتاب الانحلال الأخلاقي.
٢
لولا الفكر الإنساني لتعطل التاريخ؛ لأن التاريخ في حقيقة أمره نسيج من الرغبات والبواعث والانفعالات، تتعارض في خيوطه منتجات العقل بما فيه من تصوُّر وإدراك، لتكوِّن من مجموعها صورة هي التاريخ، لا تاريخ الملوك والدولات، والحروب والثورات، بل تاريخ الكون والفساد، تاريخ الصخور والبحار والحيوان والنبات والإنسان ونشوء صفاته العقلية والأدبية وخصائصه الأخلاقية، وعلى الجملة كل ما في الإنسان من الظواهر التي نعرفها بالصفات النفسية؛ لأن الفكر لا حدَّ له، ولكل شيء في الوجود مظهر فكري خاص.
وكما أن الفكر منشأ التاريخ، كذلك تجد أن التاريخ قياس الفكر، فلو أنك استعرضت حوادث التاريخ منذ أبعد الأزمان واستقرأت فيها متَّجه الفكر خلال العصور، لَاستطعت أن تعرف إن كان في الإنسان نزعة إلى التقدم والارتقاء، أو كان فيه رُجْعَى إلى الانحلال الأخلاقي والفساد.
أما التاريخ، قياس الفكر، فيدلنا على أن الإنسان متَّجه نحو الارتقاء، ضارب في أصول التقدم، قِسْ بين حاله في العصر الظراني الحديث من الوجهة الأدبية أو الصفات العقلية، وبين حالته في عصور المدنيات البائدة، كمدنية بابل وأشور ومصر، فلا تلبث أن تتكون عندك فكرة صحيحة عما نريد أن نثبت من ارتقاء الإنسان.
ولا ريبة في أن الارتقاء الإنساني من حيث الآداب المدنية أو الأخلاق وإدراك المعنويات، يدل على أن كفاءات العقل البشري قد تشكَّلت خلال كل عصر من العصور بمقتضى ما وصل إليه التكوين العضوي في مدارج النشوء. والقياس بين حالة الإنسان الهمجي والإنسان في القرن العشرين، لَأبْين برهان على أنه يرتقي، وأنه ضارب في أصول التقدم بقدم ثابتة، وإن كانت بطيئة الخطى.
كذلك إذا رجعت إلى عصر التاريخ المعروف، تجد أن الآداب والمثاليات في عصر التمدن اليوناني أحط منها في عصر شارلمان مثلًا. ولا نقصد بالآداب المثالية قواعد الفلسفة الغيبية التي لم تقُمْ إلا في عقول واضعيها، بل نقصد بها كل ما لم يحكم العُرْف بأنه خارج عن حدود الذوق العام.
•••
نرى أن الشخصيات الكبيرة والعقول الفياضة بالمعاني الفاضلة أكثر ما تكون ظهورًا في آخر عصور الانحلال وبدء الانقلابات الاجتماعية. ولا حاجة لنا بإثبات ذلك بشواهد من التاريخ؛ لأن أقل الواقفين على مبادئ التاريخ الأولية وأكثرهم علمًا بحقائقه شَرَعَ في التسليم بتلك الحقيقة. لهذا نقضي بأن الإنسانية تتقدم، وأن تقدمها أشبه شيء بالتموُّجات الأثيرية ذوات التعاريج، وأنها تتجه بالمجموع نحو السَّمْت العالي من الأخلاق، وأن ظهور الشخصيات الكبيرة إثر عصور الانحلال لَدليل على ذلك. تلك سُنَّة النشوء العام، وما كان للإنسان أن ينْفَلت عن طَوْقها أو يخرج عن قُطْر الطبيعة ذاتها.
أما إذا أردنا أن نطبق هذه الحقيقة على فكرة «نورداو» في الانحلال الأخلاقي، فإننا ننتهي إلى نتيجة واحدة، هي أن فكرة «نورداو» لا تصح إلا وضعًا يُطبَّق على عصور الانحلال التي يعقبها الارتقاء المادي والأدبي دائمًا؛ فإن الصورة التي أبرزها عقل «نورداو» لصورة تعبر أبلغ تعبير عن الحالات التي تقوم خلال عصور الفساد والانحلال.
ولا جرم أننا في عصر انتقال أنذرنا «نورداو» بسوْءاته وأبان لنا عن أصول الانحلال الضاربة في أخلاق أبنائه، ولكنه انحلال سوف يَعْقُب مظاهر الانقلاب التي يُنْتظر وقوعها فيه ارتقاءٌ في الغايات الأدبية، تدلنا كل الشواهد القائمة من حولنا على أنها تتجه نحو تقرير مبدأ «الشعوبية»، الحب المتبادل والتعاون بين الشعوب، وأن عصرنا الحاضر إنما تتحلل فيه أخلاق القومية والوطنية لتحقق الإنسانية مرة أخرى في تاريخ ارتقائها مبدأً قام في عقول الفلاسفة منذ خمسة وعشرين قرنًا من الزمان.
•••
نستطرد من ثَمَّ إلى الكلام في الصورة التي صور بها «نورداو» عصور الانحلال، متخذًا في الحالات التي قامت في عصره أمثالًا أبرز بها من الفساد الأخلاقي صورة إنْ قصرت على عصر خاص من العصور فإنها ولا ريبة أدق صورة جاد بها عقل نَقَّاد مبتكر وخلق ثابت، في زمان أخذ يتمخض فيه الماضي المنهوك المتداعي عن جنين المستقبل المملوء حياة وقوة.
إن أية فكرة إنما تستمد صورتها وتكوينها من لغة الأمة التي سِيقت إلى وضعها، فإن المؤرخين في العادات واللغات إنما يلجئون إلى هذه القاعدة؛ لأنهم يبحثون عن الأصول الاشتقاقية في اللغات راجعين إلى منشئها وأصلها متتبعين خطى نشوئها.
أما اصطلاح «آخر زمن» ففرنسوي صرف؛ لأن الحالة العقلية التي يعبر عنها هذا الاصطلاح وينطق بلسانها الصامت قد نبتت في العقل الفرنسوي.
ولقد شاع هذا الاصطلاح فعمَّ استعماله في كل اللغات الحية، حتى في اللغة العربية. وأما الحالة العقلية التي تتخذ هذا الاصطلاح وسيلة لإبراز ذاتيتها، فذائعة في كل زمان، غير أنها لا تخرج في أكثر الحالات عن مجرد تقليد لعادة أجنبية.
ولا يُعْوِزُنا الدليل على سخافة هذا الاصطلاح، فإنه اصطلاح لا يولَد إلا في عقل طفل أو في مخيلة همجي تقوم في عقله فكرة أن «القرن الزماني» الذي يعيش فيه عبارة عن كائن حي يولَد كما تولد الحيوانات والإنسان، ويعيش مستقلًّا في أدوار الحياة وأطوارها، متخطيًا طور المراهقة إلى الفتوة، ثم إلى الرجولة الكاملة، ومن ثَمَّ إلى الشيخوخة والانحلال، فيموت بعد أن يُعَمَّر مائة عام رازحًا في أواخر أيامه تحت مُبَرِّحات الآلام.
لهذا ترى أن الشعب الفرنسوي، بدافع نفسي عقلي، إنما ينسب شيخوخته وكُدُورته وانحلاله الأخلاقي إلى قرن ما من الزمان المطلق غير المحدود، فيقول المفكرون فيه «آخر زمن»، وأحرى بهم أن يقولوا «نهاية أمة».
ومهما يكن من أمر هذا الإصلاح وما فيه من سخافة، فإن التكوين العقلي الذي يعبر عنه قائم قيامًا فعليًّا في عقول الكثيرين من ذوي الأثر في تربية الناشئين عقليًّا وأخلاقيًّا، لذلك ترى أن نزعة هذا العصر خليط من القلق المصحوب بحمى الفساد والخمول المُعْنِت، ومزيج في النبوءات المحزنة المملة المقرونة بأخبث مظاهر الكفران بالجميل وجحود الأيدي المُسْداة بالخير.
إن الشعور السائد لَشعور ينذر الناس باقتراب الفناء، ويُلقي في رُوعهم أن الانقراض والزوال آخذان فيهم بأعظم الأسباب، فكأنهم من النفخة في الصُّور قاب قوسين أو أدنى، لهذا نجد أن اصطلاح «آخر زمن» عبارة عن شَكَاة وتململ، بل صرخة صامتة، بَيْدَ أنه اعتراف بليغ بعيد عن مُحْتَمِلات الجدل الكلامي والإطناب الأجوف والمعاذير الخرقاء.
ولئن كانت المعتقدات القديمة قد وسَّعت الاعتقاد في فناء الآلهة وانقراضها، فلقد غشيت العقول التي أنبتها هذا الزمان نوبات ألزمتها الاعتقاد بأن انحلال الأمم أمر واقع محتوم، وأن الشموس والسيارات إنما تمضي في سبيل الاضمحلال، وأن النوع الإنساني وما أبدع العقل من طريف النظم والمنتجات، إنما تسير إلى الفناء مسايرًا في ذلك خطوات كون ضارب في سبيل الفساد.
وليست هذه بأول مرة استولى فيها على الناس ذعر الخوف من فساد الكون وفناء العالم، فإن فكرة كهذه قد استمكنت من قبل في مشاعر النصارى في أوروبا إبان القرن العاشر. غير أن هناك فرقًا كائنًا بين حيرة منشؤها الاعتقاد وقلق مرجعه الفساد.
إن الحُفَالة النفسية التي يخلقها الاعتقاد في «آخر زمن» في الجماعات أشبه شيء بحالة شخص أيأسه المرض وأَقْفَطَه السِّقام، فقام في ذهنه أن يتقدم ببطء، ولكن إلى الموت، في وسط طبيعة أبدية الحياة، فائقة بكل معاني الجمال الخالد.
إنه في اصطلاح «آخر زمن» لَقسطًا كافيًا من الغموض يهيِّئُه تمام التهيئة لكي ينقل من المعنى ما يُعْوِز تيار الأفكار السائدة من لبس وإبهام، شأنه في ذلك شأن كلمات «الحرية» و«الغاية» و«الارتقاء» و«المساواة»، فإن هذه الكلمات إن خُيِّل إلينا أنها تتضمن فكرات وتصورات فإنها ليست في الواقع إلا أصواتًا جوفاء. كذلك تجد أن اصطلاح «آخر زمن» ليس بشيء في ذاته، وأن ما فيه من الشأن والخطر إنما يقاس دائمًا بمقتضى ما للآخذين به من كفاءة عقلية.
•••
- (١)
قسيس يُحاكم لأنه نال بالسبِّ من راعي الكنيسة العام. تنتهي الإجراءات فينتهز الرهبان إخوانُه هذه الفرصة ليوزعوا على مخبري الجرائد في المحكمة دفاعًا أعد المتهم منه نسخًا من قبل، ولما أن يُلزم بغرامة يستدِرُّ أكفَّ الناس من طريق الاكتتاب فيجمع عشرة أضعاف الغرامة، ثم يطبع كتابًا يبرر به عمله، فَيَحْبُوه بكل ما وصل إليه من عبارات التأييد، ومن ثَم يطوف أنحاء البلاد عارضًا نفسه في كل كنيسة أمام جمهور أخذته الرغبة في مشاهدة رجل الساعة ووحيد الدهر، فلا تفوته فرصة الطواف عليهم بصحاف الاستجداء! فهو قسيس آخر زمن.
- (٢) أُرسلت جثة السفاح «برانزيني Pranzini» بعد تنفيذ حكم الإعدام لِتُشَرَّح، فيقطع رئيس البوليس السري جزءًا كثيرًا من جلد الرجل لأنه كان موشومًا؛ ليصنع منه عُلَبًا للفافات التبغ ومحافظ لبطاقات الزيارة له ولبعض أصحابه! فهو موظف آخر زمن.
- (٣)
رجل أمريكي يحتفل بزفافه في معمل غاز، ثم يستقل وعروسه «بالونًا» أُعِدَّ من قبل، ثم يبدأ شهر العسل بين السحاب! فهذا عرس آخر زمن.
- (٤)
ملحق في السفارة الصينية ينشر تحت اسمه مؤلفات ذات قيمة في اللغة الفرنسوية، ويفاوض المصارف المالية في شأن قروض عظيمة لحكومته، ويأخذ من المصارف مقادير كبيرة من النقود لنفسه قبل أن يتم العقد، ثم يظهر من بعد ذلك أن الكتب من تأليف سكرتيره الفرنسوي، وأنه خدع المصارف المالية! فهو سياسي آخر زمن.
- (٥)
فتاتان من فتيات الأسر الكبيرة، صديقتان في التعليم، جلستا تتحدثان، فتتنهد إحداهما تنهدة عميقة فتسألها الأخرى: «ما السبب؟» فتجيب: «إنني أحب راؤول، وراؤول يحبني»، فتقول رفيقتها: «إنه شاب جميل حسن البِزَّة والصورة. ولماذا تشعرين بحزن؟!» «نعم، لأنه لا يملك شيئًا، وليس بشيء، وأبواي يريدان أن يزوجاني من البارون، وهو رجل بَادِنٌ أصلع الرأس قبيح الوجه»، فتقول لها رفيقتها: «حسن، تزوجي من البارون بدون لغط، ثم عرفيه براؤول»! فهن فتيات آخر زمن.
أمثال هذه الحالات تدلنا كيف يُفهم هذا الاصطلاح في مهد نشأته، وتلك أمثال من الخبائث المخبوءة وراءه، وهي تدل في أوسع معانيها على التحرر من النظامات التقليدية الموروثة تخلصًا عمليًّا تامًّا. أما التحرر من آثار التقاليد فلا يقوم له من معنى في أذهان الآخذين بآداب «آخر زمن» أبعد من إطلاق الأهواء من إسار العقل والأخلاق؛ لتمضي جامحة في الطريق التي تُسْلِم بها إلى الناحية الحيوانية في الإنسان.
من الآخذين بوحي «آخر زمن» أنانيون قَسَتْ قلوبهم وفَتَنَتهم موحيات عقول نَكَثَ فَتْلَها إسفافُ النزعات القائمة من حولهم، فهم لا يقيمون لإخوانهم في الإنسانية وزنًا إلا بمقدار ما يعود عليهم من نفع في مشاركتهم الحياة، ويطئون بأقدامهم كل الحوائل الأدبية القائمة بين النفس الإنسانية وبين التطوُّح مع قواسر المطامع الأشعبية وحب الزخارف الدنيا. ومنهم متبرِّمون بالدنيا متهاونون بالحياة، لا يأنفون من تسويد النزعات السفلية التي إن عجزوا عن ردعها بوازع من الفضائل، أخفَوْها وراء ستار من الخَتَل والمخادعة والرياء. ومنهم مؤمنون بالدين، غير أنهم يحاولون التخلص من المذاهب الفضلى، فيرتطمون في التسفل إلى إنكار ما بعد الحسِّيَّات، آخذين بما توحي به إليهم فلسفة الظواهر الكونية.
ومنهم حسِّيُّون يجردون الفن عن معاني المثالية والخيال، فيخرج من يدهم هيكلًا مواتًا لا يُحْدث من روعة ولا يَبْعث من انفعال. ذلك في حين أن الكل مجمعون على ضرورة التخلص من النظام الموضوع الثابت الدعائم، وهو في الواقع نظام لا ينكر منكر أنه أرضي المنطق آلافًا من السنين، ولم يَحُلْ بين الفن الناضج وبين إبراز صور اجتماعية أخلاقية فيها كثير من بواعث الجمال.
يقول «نورداو»: إن السواد الأعظم من الطبقات الوسطى والطبقات الدنيا في المجتمع ليسوا ﺑ «آخر زمن» بمقتضى مركزهم الاجتماعي. إذن ﻓ «نورداو» يعتقد أن انحلال الصورة المدنية الحاضرة قد بدأ من قمة الجمعية. ولا ريبة في أن الانحلال إذا بدأ بالطبقات المنتقاة كان من أشنع صور الانحلال التي شهدها التاريخ الإنساني.
•••
وبعد، فهذه نظرة مقتضبة في «نورداو» ووجهة نظره في الحياة ومثال من آرائه الاجتماعية، ما إن تحاول أن تتناولها بنقد أو تتورط فيها بتحليل، إلا لتجد أن فيها من عناصر الحق ما يجعلك ترتد عنها كليلًا حتى حين.