دلالة الشعر على روح العصر
للشعر الجاهلي نبرة خاصة وديباجة وحدها تفردت من بين صور الأدب العربي بطابع يكاد يميزه السمع فيحكم على أن الديباجة جاهلية أو غير جاهلية بمجرد السماع دون العلم. أَلْقِ إلى رجل يذوق طعم الأدب ويستطيع التمييز بين أساليب الشعر العربي، بمقطوعة من شعر المقنَّع الكندي الجاهلي، يقول فيها:
ثم أَلْقِ إليه بمقطوعة أخرى من الشعر يتمثل فيها من نَفَثَات التحضر والانتقال من عصر إلى عصر، تأخذها من شعر القُطاميِّ، وهو من تلك الفئة التي تعتبر حلقة الوصل بين شعر الجاهلية وشعر المدنية، إذ يقول:
وفيها يقول:
ثم ألقِ إليه بمقطوعة ثالثة تأخذها عن شاعر من الشعراء الذين انغمسوا في تَطْرِيَات الحضارة العربية في العصر العباسي أو العصر الأندلسي، كقول الشاعر الحضري:
أو كقول ابن زريق:
وفيها يَحِنُّ حنين الرِّقَّة التي تُذيب القلوب إلى سكنه ووطنه ببغداد، وكان بالأندلس يعالج سكرة الموت، فيقول:
فإنك إذا ألقيت إليه بمثل هذه المقطوعات وأخذتها من شعر غير مألوف ولا متداوَل، لَاستطاع صاحب الذوق في معالجة أساليب العرب الشعرية أن يميز بين أساليبها ويفرق بين مصادرها بغير كثير جهد، ذلك لأن الشعر قطعة من روح العصر، يتمثل فيها كثيرٌ من كوامن النفس، وهو مرآة تنعكس عليها حقيقة تظهر حائلةَ اللون أو بيِّنَتَه بمقدار ما تؤثر الحالات السياسية أو الدينية أو العواطف، وعلى الجملة عوامل الحضارة في أنفس الأفراد والجماعات.
خذ لذلك مثلًا من أوروبا في القرون الوسطى، فإن استبداد نظام القطائع بالأفراد وبالشعوب وتوالي كوارث الحروب والثورات على الناس، قد طبع على نفوسهم بخاتَم من الحزن والانقباض تراه ظهر متجليًا لا في الشعر ولا في الأدب وحدهما، بل تعدى إلى أكبر مظاهر الحياة دلالة على اتجاه المشاعر الإنسانية، ظهر متجليًا في نسق البناء، فإن الناس قد عكفوا على الفن الغوطي، وهو فن في البناء ونَسَقٌ من الألفة الذَّوْقِية في التشييد، ولا يبعث في النفس إلا الحزن والأسى، وهو بعقوده المنحرفة الزوايا وضخامته وبساطة شكله لا يبعث في الروح من أثر الإحساس بالجمال شيئًا غير مقرون بشعور من الحزن عميق يملأ النفس رهبةً وعظةً. والغالب أن هذا الفن قد ورث في أوروبا عن القرون الأولى عندما كان الناس في خوف مستمر على حياتهم من غارات أعدائهم، وعندما كان أمراء القطائع لا يعيشون إلا في قلاع يسمونها القصور تجاوزًا.
وأي شيء يبعث في النفس من شعور الانقباض والألم من منظر قلعة شُيِّدت على أن تكون رمزًا لانحطاط الخلق الإنساني وما فيه من نزعة إلى القتل وحب الحطام، وهي بضخامتها وقوتها ليست إلا درعًا يدَّرِعه الأحياء حذرَ اختطاف نفوسهم من بين جنوبهم بين آونة وأخرى؟ فلما غشت أوروبا غياهب الاستبداد في القرون الوسطى وامتدت يد الاستبداد حتى إلى الفكر الكامن وخَطَرَات النفوس، تتخذ ذريعة للقتل والإحراق على يد محاكم التفتيش، وضاقت الحياة بما وضع المُؤَمَّرون على الناس من نظامات وعقائد ذرعًا؛ تجلَّت حاسَّة الانقباض والحزن في نسق البناء، وأي نسق أبعث في النفس على الشعور بالحزن من نسق البناء الغوطي؟!
كذلك الحال إذا نظرت في فن البناء العربي، تجد أن فيه جمالًا وليس فيه ألفة. وهذا أمر يدل واضح الدلالة على أن مدنية كل شعب إنما تستمد من حالات ذهنه الكامن، فإنك إذا رجعت إلى حياة العرب في فيافيهم وبواديهم، عرفت لماذا يكون في فن البناء العربي جمال، وليس فيه ألفة.
لم يكن للعرب قبل أن يفتحوا الدنيا المعروفة لعهدهم نسقُ بناء خاص؛ لأنهم عاشوا في الصحاري تحميهم سيوفهم وتأويهم خيوشهم. غير أن حاسة الجمال التي ورثوها عن عيش البادية، سماء صافية الأديم وصحاري منبسطة إلى منتهى الأفق والهواء يلفح وجوههم وجسومهم من أينما هبَّ وحيث ثار صبًا أو جنوبًا؛ قد غرست في نفوسهم نزعة إلى حب الجميل في ذاته. غير أن حياتهم لم يكن فيها من الألفة ما يغرس في العقل كفاءة على تكوين نسق خاص يخرج ألفة تامة في شيء يُلقى إليهم ليتعهَّدوه بالتحوير والتكييف. فلما فتحوا العالم أخذوا قطعًا من فن البناء كانت ذائعة في مجموع المدنيات التي ورثوها عن الرومان ومصر وفارس وبابل، وأخرجوا منها نسقًا خاصًّا للبناء العربي فيه كل موحيات الجمال، إن أُخذ قطعًا ونُظر فيه أجزاء، ولكنه في المجموع بعيد عن الألفة المتبادلة بين أجزائه، والسبب في هذا أن حاسة الجمال التي ورثوها من بيئتهم البدوية الأولى قد ظهرت في اختيار النسق، كما انعدمت فكرة الألفة تمامًا في الوضع؛ لأنهم عدموا فكرة الألفة في حالات حياتهم الأولى.
•••
ثم ارجع معي قليلًا إلى الشعر الجاهلي وطُفْ بنظرة أولية في المعلقات وفي قصائد تعتبر في القدر الثاني بعد المعلقات، فإنك تجد أن كل شاعر من شعراء المعلقات ومن عاصرهم قد طُبع بطابع عصره؛ فظهرت بوادر فكرة الكامن ومشاعره جلية في شعره. خذ أولًا عنترة العبسي وقد عاش في زمان اكتنفته فيه الحروب ومساجلات القبائل، فتراه في حماسياته كما هو في تشبيهه كما هو في فخره، صورة مكبرة من صور الجندية في العصر الجاهلي؛ خذه أولًا في حماسياته إذ يقول:
وخذْه في تشبيبه إذ يقول:
فنراه لا ينفك عن ذكر الأعادي والمغامرة في سبيل من يحب. ثم خذه في فخره إذ يقول:
فهو في موقف من يمزج بين حد الفروسية والحرب وبين خطاب يُلقيه إلى ناعسة جَفْنٍ وهَضِيمة كَشْح، يريد أن يذكر محاسن خُلُقه وكرم شمائله وسخاء كفه، ولكن في صورة وبنبرة تنُمُّ عن نفسٍ هيَّجها شجن الحب، ولكن ملكتها سَوْرة الحرب والانتقام.
ثم خذه في وصفه إذ يقول:
تراه يريد أن يصف فم معشوقته فيشبهه بفارة التاجر؛ إذ تسبق إليك رائحة المسك منها، ثم يمضي في الوصف فيشبِّه فمها بروضة، ويصف الروضة فيذهب إلى ذكر الذباب والجزام، وهذا دليل على أن مقتضيات زمانه وظروف حياته قد صرفته عن كل شيء إلا عن الحرب؛ فتراه يجيد وصف المعركة، ولا يجيد وصف كاعب حسناء أخذ حبها بمجامع قلبه.
ثم ارجع معي إلى امرئ القيس، فهو على فروسته، وعلى أنه معدود من فرسان العرب كما يدل على ذلك اسمه، فإن امرأ القيس معناه رجل الشدة والبأس، تراه في كل معلَّقته لا يذكر إلا الحسان والترامي عليهن، ولم يذكر السيف ولا الحرب، وإن كان أجاد وصف جواده لا خائضًا معركة ولا مدركًا صيدًا. خذ مثلًا من تشبيبه:
«فسُلِّي ثيابي من ثيابك»، أي فانزعي قلبي من قلبك ينتزع. وفي هذا مثال لا للحب ولكن لنزعة المجون والمتعة بالنساء والتشبيب بهن، لا لحبهن ولكن للمتعة بهن من طريق الإغواء والإغراء بالشعر، وإظهار الحب دون حقيقة ما يشعر به القلب، وهي صفات امتاز بها عصر امرئ القيس. وإليك مثلًا من معلقته يوم عقَر ناقته للعذارى حول غدير ماء، إذ يقول:
أما وصفه للَّيْل فلا يدل على أنه يناجي حبيبًا ملك قلبه وعز لقاؤه، وإنما يدل على حنينه إلى شيء مبهم، ولعله يحنُّ إلى بني أسد قبيلته، وما كان له ولأهله فيها من عزٍّ وسُؤْدُد قبل أن يغضب عليه أبوه لإيثاره التسكُّعَ مع ذُؤْبان العرب على العكوف على مآثر آبائه، فيقول:
وعلى هذا تراه في كل قصيدته العصماء لا يعبر إلا عن نزعات عصره ونفَثات بيئته التي حضَّتْه على أن يعاقر الخمر ويَسْتَغْوي النساء، وهما صفتان خُصَّ بهما فتيان عصره كما يُستدل على ذلك من شعره وشعر معاصريه.
ثم ارجع إلى النابغة الذُّبياني وعلاقته بالنعمان بن المنذر، وكان قد وُشِي به عنده لعلاقته ﺑ «المتجرِّدة» على ما يقال؛ إذ وصفها في قصيدته التي مطلعها:
وفيها يقول:
ثم مضى في وصفها بما أوسعَ باب الوشاة للوشاية عند النعمان فأراد قتله وهرب، ثم أرسل إليه بالأبيات الآتية فعفا عنه:
وهذا شعر وتلك سليقة لا يخلقها في نفسية الشاعر إلَّا عصرٌ ارتكزت نواة الأدب فيه حول مدنية خاصة، وطابَع من الحضارة كان يمثله النعمان في خَوَرْنَقِه بالحِيرة.
وكذلك الحال في شعر زُهَيْر بن أبي سُلمى في معلَّقته وحوليَّاته. غير أن معلقته في الواقع هي أدلُّ شيء على نزاهة نفسه وعلى تأثير عوامل الحياة التي حوَّطتْه في زمانه، ولا تذكر لك شيئًا من حِكَمِه، بل تذكر لك حادثة عطف فيها على قوم آذاهم شخص منهم، وهي صفة قليلًا ما تظهر في أخلاق العرب، إذ يقول بعد أن نَاحَ على الطُّلُول، وقبل أن يمشي في ذكر حِكَمِيَّاتِه:
وشعر زُهيْر كله تتمثل فيه نزعة الحكمة وفاضل الأخلاق. وهكذا إذا سايرت الشعر في كل عصور التاريخ لا تجده يدل على شيء دلالته على صفات الناس الذين يخرجه ذوقهم، وعلى نزعاتهم، وعلى الحالات القائمة حقًّا فيهم، فالشعر هو عنوان الحياة ومرآتها، وهو صورة مصغرة من نفسية الأمم تظهر متجلِّية في أوضاع لغتها.