عبث الحياة
١
للقرن التاسع عشر في مصر أسره العريقة في المجد، الأصيلة في العظمة، غير أن هذا العصر لم يكد يُشرف على الزوال حتى زالت معه تلك الأسر التي بَسَمَ لها الدهر، وغرَّد لها هَزَارُ الأمل البسَّام أكثر من ثمانية عقود متتالية من الزمان. تلك الظاهرة الاجتماعية تحتاج إلى بحث، وتحتاج فوق ذلك إلى تعمق في النظر لاكْتِنَاه الأسباب التي قعدت بتلك الأسر بعد أن رَتَعَتْ في بُحْبُوحَة الغِنى وتقلَّبت في حِجْر النعمة، ثم لم تلبث أن ضربها الدهر ضرباته القاسية، فسَلَخ أفرادها بخناجر أعدها لمن يريدون التضحية بأنفسهم على مَذْبَحِه العظيم، فأغْمدوها في قلوبهم حتى النِّصاب.
•••
«حنفي بك» سليل أسرتين من أعرق الأسر التركية المتمصِّرة التي نالت حظًّا من الغنى والجاه، ذلك الغنى الذي ورِثه رؤساء الجيش والحكومة في أوائل القرن التاسع عشر عن نظام الفظائع الذي ظل سائدًا على البلاد طول عهد المماليك. وهو فتى طويل القامة، حَسَن الطلعة، جميل الوجه، تعلم في المنزل ثم في المدارس العمومية، فنال من العلم حظًّا ومن الأدب نصيبًا غير وافر، ولكنه كافٍ لأن يضعه في مصافِّ المتعلمين.
ورث عن أسرتيه اللتين ينتسب إليهما أرضًا واسعة في إقليمَي الغربية والجيزة، وأملاكًا في كثير من نواحي القاهرة مسقط رأسه ومقر أسرته الأولى. غير أنه شبَّ كما يشِبُّ غيره من ذوي الترف مِضْياعًا مِتْلافًا، لا يُبْقي على ما بين يديه إلا رَيْثما يجد قدرًا غيره يبذله رخيصًا في سوق الملاذِّ الموهومة والترف المبْتذَل. وكان له أب شيخ كبير، قعدت به السنون عن أنه يجد وسيلة يصدُّ بها ابنه عن الاندفاع في سبيل الشهوة العمياء، وطالما أحيا الليالي الطوال تائهًا في مَهامِه التفكير غائصًا في لُجَّات من الأفكار الحزينة، فكم تواردت على ذهنه ذكرى الوقائع التي صارع فيها الأبطال، والملاحم التي طارت فيها الأرواح، وبيعت فيها النفوس رخيصة في ميدان الجهاد الدنيوي! وكم تخيل نفسه فائضة على حد سيف من تلك السيوف التي كانت تلمع من حوله في شمس بلاد العرب الصافية، أو تحت سماء بلاد الإغريق الشعرية! فتمنى لو أن حلمه وخياله أصبح يقظة وحقيقة واقعة، وكم تمنى لو أنه مات في ميدان الجهاد والعز! على أنه يرى له ولدًا وحيدًا دفعته يد الأقدار إلى تلك الهوة الاجتماعية العميقة التي لا فرار من التردي في حَمْأَتها إلا بالموت الأدبي أو العَوَز الشديد والفقر المُدْقِع، وكلاهما كبير على نفوس لم تعرف سوى العظمة، ولا تحطُّ إلا بأُبَّهة الملك والسلطان.
قُدِّر لهذا الشيخ أن يعيش بضع سنوات قضاها في حزن وألم، ولمَّا أدركته الوفاة كان ولده بين كئوسه وقِيَانه، فلما طُيِّر إليه الخبر ومَثُل بين يدي والده المُحْتَضَر، كان الموت قد بلغ من الشيخ مبلغًا أعياه عن النطق، ولكن كان في عينيه بقية من شعاع الحياة، فنظر إلى ولده نظرة تنُمُّ عن كل أحزان قلبه، ثم أَطْبَقهما، فسالت منهما دمعتان هما آخر ما بذل ذلك الشيخ من جُهد في الحياة.
مضى الأب في ذلك السبيل الذي سيسلكه كل حي، ومضى الولد في سبيل كثيرًا ما سلكه من قبل العديد الأوفر من أبناء آدم وحواء، سبيل الغواية والهوى، سبيل الشهوة والانفعال.
٢
– كيف تستطيع أن تعيش يا بني في هذه الوحدة الأليمة؟ وكيف لا تفكر في أن يكون لك زوجة يسكن إليها قلبك، وتبُثُّ لها أحزانك، وتدبر من أمرك ما أنت عاجز عن تدبيره؟
– ما لي وللزوجة يا أماه؟ وما لي ولذلك السجن الأبدي الذي ألقي بنفسي فيه مختارًا؟ وما لي ولتكاليف الزوجة وسياستها، وأنت تعلمين أن نفسي قد فُطِرَتْ طمَّاحة للحرية المطلقة، وثَّابة إلى الملاذ؟ وإذا كان الزواج مجرد شهوة تُقضَى، فالتنقُّل خير من العكوف، وإذا كان تدبيرًا لأمر أنا عاجز عن تدبيره، فإني تارك لك تدبير ذلك الأمر.
– وهل أنت ضَمِينٌ ببقائي إلى ما شاء الله، وأنا أمٌّ بلغت من الكبر مبلغًا لا آمن فيه غَدَرَات الزمان بالكهول؟ وبعد كل هذا، أفتعتقد أن كل متزوج مسلوب الحرية أحمق لأنه ألقى بنفسه في سجن الزواج مختارًا؟
– بالله عليك يا أماه لا تكثري على سمعي من هذا الكلام؛ فإني أمْقُت الزواج كلَّ المَقْت، بل أمقت كل الآباء لأنهم أزواج.
– سمعًا وطاعة يا بني، كفى عندي أن أراك بخير، كفى عندي أن أجدك فتيًّا قويًّا وضَّاح الجبين باسم الثغر، وأي شيء أطلب من هذه الدنيا غير هذا؟ أي شيء غير هذا تطلبه أمٌّ لولدها الذي خرجت به من كل ما في هذه الدنيا الواسعة في ملاذِّ الحياة؟
– بُورك فيك يا أماه! فذلك ما ينتظر منك ولدك الوحيد في هذه الدنيا، ما لي ولأبناء آدم وبنات حواء؟ ألم تسمعي ما قال فيهم بشَّار الضرير:
وكَرَّتْ على هذا الحديث السنون، فما زاد «حنفي بك» إلا تَرَدِّيًا في حَمْأَة الشهوات، وما زادت أمه إلا إمعانًا في وَحدتها واسترسالًا مع أحزانها.
•••
أصبحت الأم ذات يوم وأزمة الصدر تكاد تُزْهِق روحها، فأسرع إليها ولدها في خماره ونشوئه، ولكنه لم يكد يرى حال أمه حتى أفاق للدنيا الحافَّة به، وتواردت إلى ذهنه الخواطر سراعًا متكاثرة، وتمثَّل له شبح اليُتْم أمًّا وأبًا، فجَزِع وآلمه الحزن وتملَّكه الأسى، ذلك أنه لفرط ما أمعن في شهواته كان قد فقد أكثر قوى العقل، ولم يبْقَ له إلا بقية من وجدان قذفت بالدمع إلى عينيه، ففاض هَتُونًا.
رَاعَه شبحُ اليُتْم؛ لأنه كان كالطفل يَجْزَع لغير حقيقة، أو هو يجزع من حقيقة لا بد منها، ولم يكن قد قُدِّر للأم أن تموت في تلك الساعة، بل كان أجلها مرهونًا إلى وقت قريب، ولكن شاءت الأقدار أن تملِكها أزمة الصدر وأن يجزَع ولدها ليتكون من مجموع ذلك ظرفٌ تشْقَى به إحدى بنات حواء، فإن الأم لم تلبث أن تستفيق حتى نسيت ما كانت فيه وبدأت تفكر في أمر ولدها الوحيد، فحادثته في حالها وفي مصيره من بعدها، وكانت ثورة الشعور لا تزال مضطرمة في قلبه، فأَذْعَن لإرادة أمه، وقَبِل أن تكون له في الحياة شريكة تحمل أحزانه كاملة.
وشاء القدر المحتوم أن تكون زوجته من بنات العظماء، فإن «هنية» بنت النعمة وربيبة الجاه انتقلت من بيت أبيها إلى بيت زوجها، فما رأت إلا أمًّا مشرفة على الموت، وما رأت إلا زوجًا هدَمتْه السنون، وحفرت الشهوات تحت قدميه هوَّةً سحيقة من الموت الأدبي، فَلَاحَ كالكهل الفاني، وأنه كان لا يزال في رَيْعان شبابه ومَيْعَة صباه؛ فأخذت حرارة قلبها التي بعثت في نفسها الآمال كبيرة تهبط شيئًا فشيئًا فانية في ثلج ذلك المشيب الذي حفَّتْ بها أسبابه. ولكنْ ما كادت عوامل اليأس تدبُّ في هيكل الأمل الذي ملأ صدرها، حتى شعرت ذات يوم بشيء يختلِج في أحشائها، فانتفضت مناجية نفسها: «أي طفلي المعبود، ليعِش الأمل في صدري لكي أعيش من أجلك.»
٣
– هل حقًّا أنك لم تسمع شيئًا من كلام إحسان يا تِمراز؟
– كلَّا يا سيدتي، فإني لم أسمع منه حرفًا، ولكن رأيته ينحدر إلى الخور في صمته وسكونه المهيب، مصفرَّ الوجه غائر العينين صامت اللسان.
– هنيئًا لك أيها الشيخ، فقد عشت من غير أن يتسرب إلى قلبك الحب الأبوي يومًا، فيا لسعادتك ويا لهنائك بوحدتك الحزينة الجميلة!
وانْهَمَلَت من عيني «هنية» الدموع فائضة ملء شئونها.
•••
الزمان في شهر آب عام ١٨٩١، وفي إقليم الفيوم الجميل، حيث تذهب أشجار النخيل برءوسها المهيبة في السماء وتنفض خيران الأرض أغوارًا عميقة، والسيدة «هنية» تخاطب الشيخ تمراز البستاني عن ولدها إحسان الذي تمخضت عن حياته الأقدار في شهر يناير سنة ١٨٦١، فهو الآن في فجر العقد الرابع من عمره، صبوح الوجه مفتول السواعد شاحب اللون كبير العينين أَقْنَى الأنف، يتهدَّل على رأسه شعر كأنه سبائك الذهب الصفراء، قليل الكلام كثير الصمت ثابت الخلق، سيد في كل شيء، حتى في سكونه ونومه، فكان على صغر سنه كامل الرجولة قوي الشكيمة شديد المراس، ولكنه كان كثير الاحترام لأبويه مُفْرِط الخضوع لإرادتهما، حسن المعشر، حلو الحديث في رَصَانة وتفكير عميق، محبًّا للصدق والعمل، مقسطًا في كل شيء حتى في تصوراته وخطرات نفسه. وكان أبوه قد بلغ بعد الثلاثين عامًا ونيِّفًا من سيرته الأولى مبلغَ الكهول الذين هدمتهم الأيام، وانتقصت من حيويتهم حوادث الزمان.
قامت «هنية» على تربية ولدها أحسن قيام، فعُنيت ببدنه عنايتها بتكوين عقله، وبذلت في سبيل هذه الغاية أقصى الجهد، ذلك لأن الدَّيْن كان قد أقلَّ موارد الأب إقلالًا أَعْوَز الأم إلى الاقتصاد في كل شيء، ولم يبلغ إحسان الثلاثين حتى كان قد أتم تعليمه وخرج من الدرس والعُكوف على الحفظ والتحصيل إلى عالم الحياة العامة، عالم الجهاد والجِلاد. ولم تكن نزعات نفسه لتريحه من التفكير في أمر مستقبله، فكثيرًا ما ناقش أباه، وكثيرًا ما ناقشته أمه في ذلك، غير أنهما لم يريا منه إلا إصرارًا على الطموح إلى أعلى المناصب وأرقى الدرجات الاجتماعية، فتركاه لتصوراته وموحيات نفسه، قانعين بأن الأيام سوف تكسر من حدة شبابه، وسَوْرَة عقله الكبير.
غير أن الأم لم تلبث على فرحها بولدها قليلًا حتى لحظت أن فترات تأمله قد أخذت تطول شيئًا فشيئًا، وأن صمته أصبح أعمق وأبلغ تعبيرًا عن الألم الصارخ من أعماق نفسه، وعن العاصفة النائمة في عينيه؛ فكلمت في ذلك أباه، ولم يكن الأب بأحسن من الأم حظًّا في الفوز بشيء من سر إحسان. ولما ألحَّت عليه هذه الأحزان التي لم يجِدا لها من باعث معروف، نصح لهما الأطباء بتبديل الهواء فلم يمانع إحسان، على أنه اختار إقليم الفيوم، حيث يقوم قصر مَنِيف تملكه أمه «هنية» عن أبيها، تحيط به حدائق غَنَّاء، وتنخفض من حوله خيران ذلك الإقليم الجميل بمياهها الجارية وأشجارها الباسقة ومناظرها الطبيعية الفاتنة.
٤
الليل مرخِيُّ السدول، والطبيعة صامتة ما ينطق لها لسان، والأرض هامدة كأنها ميِّت فارقته الحياة، فلحق بمن غبر ممن طوتهم عصور التراب.
وكان المقبل على ذلك القصر الذي يسكنه إحسان يرى نورًا ضئيلًا ينبعث من حجرة في الطابَق السفلي، وقد تخلَّل الضوء ما بين الشرائح الخشبية القديمة، فإذا أطلَّ من بينها رأى شابًّا في فجر العقد الرابع مستلقيًا على مقعد كبير من فوقه الإله حوريس يظلِّل إحسانًا بجناحيه ليحفظه من سوء ما خبَّأت له الأيام.
ولَكَم أحيا ظلام الليل من أمل! وكم ولَّد من يأس! وأنت إن فتشت في قلب إحسان في تلك اللحظة لما وقعت على أمل ولا على يأس، بل وجدت حَيْرة وشكًّا، يزكِّيهما الأمل ويذهب بهما اليأس، فلم يكن الأمل ولم يكن اليأس إلا حالتين تتناوح من حول الشكوك في قلب إحسان رياحُهما، وكان كلما اقتلعت رياح الأمل في قلبه الشكوك هبَّ فتيًّا قويًّا، وكم هبَّت عواصف اليأس على تصوراته فارتد شَكوكًا شقيًّا. وكانت ترتسم على وجهه ابتسامة مريبة يعقبها قُطُوب مخيف؛ أما الابتسامة فكان باعثها الأمل، وأما القُطُوب فكان باعثه اليأس. فإذا تمعنت في جلسته تلك وفي توارد الصور على وجهه الشاحب، لما تخيلته إلا تمثالًا أخرجته كفُّ نقاش ماهر ليعبِّر لكل عين عن معنى من معاني الحياة، يختلف أثره في النفس باختلاف العين الناظرة إليه.
ولم تكُ تسمع في تلك الحجرة من حركة، اللهم إلا دقات ساعة ذلك الشاب ودقات قلبه. وكان ينعكس على وجهه ضوء ضعيف منبعث من سراج فيه شموع موقَدة على العادة القديمة التي اتُّبعت في قصور العظماء حتى عهد قريب. وظل على حاله فترة لا يتحرك فيه من شيء، حتى انتبه إلى وقْع أقدام تقترب من حجرته فتحرك، ولمَّا أن حقَّق مصدر الصوت غادر مجلسه إلى باب الغرفة، فإذا بالشيخ تمراز البستاني يمد إليه يده برُزمة من الخطابات عليها أختام البريد.
– هل أدركك أحد أيها الشيخ وأنت ذاهب إلى القرية لتحضر البريد؟
– كلا يا سيدي، فإني أخذت أتسلَّل بين الأشجار كالثعلب أَرُوغ في كل ما أشك فيه، وما زلت متمهِّلًا حتى بعدت عن المنزل، ثم أطلقت ساقي للريح.
– حسنًا فعلت يا تمراز! فخذ هذا الدينار جزاء أمانتك وحسن خدمتك لسيدك الصغير.
– إنك تغمرني بفضلك يا سيدي، وسترى من أمانتي ما سوف تضاعف عليه مكافأتي.
– بلا ريب. اذهب الآن.
وعاد إحسان إلى طاولة من خشب الأَرْو الجيد، وجلس إليها يفحص البريد بعين غير مطمئنة مناجيًا نفسه: ها قد مضى أسبوعان، ولم تكتب لي دلال حرفًا واحدًا، فماذا عسى أن يكون الباعث على هذا؟ لعلها مريضة، أم تكون قد نسيَت عهدي وفضَّت عن قلبها خاتم حبي؟ أيمكن أن يكون لهذه الحياة قيمة بغير الحب؟ وأيُّ سر من أسرار الوجود هو أدعى إلى التأمل من هذا السر الخفي، سر القلب المُولَع بحب فتاة من بنات حواء يسكن بقربها خَفَقَانه، ويَنْضَبُ مع بُعدها ماؤه وتزول حياته؟ وأية عاطفة من عواطف الحياة الإنسانية هي أشرف من هذه العاطفة التي تفيض معها الحياة مَلْأَى بصور الجمال والجلال، وترتد بدونها حزينة جرداء؟ كم أريد أن أَشَمَّ تلك الزهرة الناضرة التي ألقاها الحظ في سبيل حياتي! وكم أشعر بحاجتي إلى سماع دقات قلبها تجاوب دقات قلبي!
لا أقول في هذه الحياة كما قال أبو العلاء «هذا جناه أبي عليَّ»، بل أقول: هذا حكم القضاء، كان سرًّا حمله الأبد حتى تمخَّض به زمني، وما أنا بالمُضْغَة اللينة يطحنها الزمن ويبتلعها الدهر بغوائله ونكباته، بل الحَصَاةُ الصُّلْبة تقاوم صدمات الأقدار، فلِمَ أجزع؟ إني قوَّام على نفسي بالإرادة والصبر الجميل، ولكنَّ للصبر وحسن التدبير حدًّا إن بلغ إليه المرء فَقَدَ صبره وساء ما دَبَّر. على أن القول ردَاف، والحزم عثراته تُخاف، والعاقل من وازن بين حدَّي المنفعة والحاجة، وكلا الأمرين يدعوني لأن أشرك في حياتي نفسًا أخرى يكون لها في أيامي شركة وفي حظي من الدنيا نصيب، وإنني لأقدم على أمر إن خانني فيه الحظ فستكون آخر سهامه يوجهها إلى صميم قلبي، وإن بَسَم لي الزمان وعاضَدَتْني الأحوال، فعند ذلك تقوم في نفسي أول نهضة أضع فيها أساس ما أريد لنفسي من مجد، عندئذ تنبت في غصون حياتي الجافة أوراق الأمل فوَّاحة وضَّاحة، ويخضرُّ روْضي وتَبْسَم حياتي. أريد نفسًا خلصت من أكدار الحياة، غَضَّة الإِهَاب، كبيرة الآمال، محصورة المطامع، تجول في عينيها معاني الفطرة النقية كما تجول من أوراق الزهرة قطرات الفجر النديَّة. أريد أن يكون قد قذف بها فلك القضاء والقدر إلى عالم الموت والحياة، وقد تنقَّلت من منازل العمر حتى حطمت العشرين، فيلقيها الحظ في سبيل حياتي كقَبَسٍ من النور الإلهي الفياض يضيء شعاعه اللامع نواحي في نفسي أحسب أن مصائب الأرض قد أَمْحَلَتْها حتى لَيتعذر أن تصل إليها مراحم السماء. تلك هي التي أود أن يكون لها في حياتي شركة ونصيب، على أنني لم أجدها بعد، ولعلني يومًا من الأيام ألقاها.
ثم ألقى بالورقة من يده وملء نفسه اليأس متمتمًا: «لقد ألقى بها الحظ في سبيل حياتي فعثرت بها، تُرى هل الأقدار تنتزعها من بين يدي تارة أخرى؟»
ثم صاح بملء نفسه: «أيتها الأقدار العاتية، صُبِّي عليَّ لعنة الأبد ولا تُبْقِ لي على شيء إلا حبي، فإنه يفرج كربتي ويُؤْنس وحشتي.»
وإذا بالشيخ تمراز يركض عدوًا ميمِّمًا نحو غرفة سيده الصغير.
٥
عزيزي إحسان
لئن تأخرت عليك رسائلي، وانقطعت عنك أخباري حينًا من الزمان، فإن قلبي لا يزال يَلْهَج بذكرك، ووجداني يفيض إليك شوقًا وحُنُوًّا. وكيف أنساك يا من أصبح للقلب سَلْوة، ولمصائب الحياة عضدًا، ولمُلِمَّات الدهر سندًا؟ أفي استطاعة القلب البشري أن يسلو حبيبًا أحبَّه لا لشيء إلا لأنه أحبه؟ وهل في الحياة الإنسانية بأجمعها قلب فتاة انطوى على الطُّهر أحبَّ ثم سلا؟
ما انقطعت عنك أخباري إلا لأن القدر قطع منذ أيام عمادي ومضى بسِنادي إلى حيث يمضي كل حي، مضى بأبي في ذلك السبيل الذي سوف نقطعها، حتى إذا ما بلغنا المنتهى حمدنا السُّرى وقَرَرْنا بسفر الحياة عينًا.
أصبحتُ في الحياة فريدة لولاك، فبين يديك الطاهرتين أُلقي بكل ما لي في هذه الحياة، وما لي فيها سوى شرفي وعِرضي وعفافي. وهذه أشياء عجز فقر أبي في أواخر أيامه أن ينال منها منالًا أو أن يَقْرَع لها بابًا. ولقد احتفظت بها أمانة في عنقي حتى ألقيها في عنقك، فإلى أمانتك أعهد بها، وإن كرم أخلاقك وطيب عنصرك وسمو عواطفك كفيلة بأن تحفظ لي في هذه الحياة تراثي الأدبي وميراثي الإنساني.
وما أستطيع أن أزيد على ما كتبت حرفًا، فإن قلمي عاجز عن أن يعبر لك عما يختلج بقلبي من الانفعالات الثائرة، أو عما يساور ذهني من التصورات التي امتزج فيها الحزن على الماضي بالأمل في المستقبل.
وكَرَّت على هذه الحوادث سنوات سبع ما زاد فيها حب إحسان ودلال إلا تمكنًا، فكان حبًّا صفا من أكدار الغرض والمنافع، وعلاقة بين القلوب هي أشبه الأشياء بالجاذبية التي تحفظ نظام الأجرام بنسبة غير زائدة ولا منقوصة، أو هي كألفة العناصر التي تجذب كل عنصر إلى ما يألف على قاعدة لا ينالها خلل ولا ارتباك.
٦
أيها الفتى «نرجس» الذي مسخته الآلهة في معتقد الإغريق زهرة نعجب بها، كيف صددت عن حب «الصدى» حتى بَلِي لحمها وفُرِي عظمها؟ ولماذا لم تقابل الحب المُحْرِق بحب مثله؟ وما هو السبب الذي يؤلف بين بعض القلوب ويُنفِّر البعض الآخر؟ هل لهذه الحياة التي نحياها الآن سر غير سرها المفضوح أمامنا؟ أم أن الطبيعة لم تَجُدْ علينا إلا بقدر ما تسع عقولنا وأحلامنا، في حين أنها جادت عليك بسرها، ثم قلبتك زهرة ليبقى سرها في أعماق جمالك مصونًا مكنونًا؟
أيها الفتى نرجس الذابل الجميل، كنت في حياتك الأولى شابًّا فاتن الجمال، وأنت سليل إلهيْن من آلهة الماء، فسما بك أصلك إلى النجم، فرع طويل صدَّك عن أن تحب «الصدى» وأن تمنحها من عواطفك بمثل ما منحتك من عواطفها، فهل يمكن أيها الفتى الجميل أن تكون مراتب الشرف ومنازل الجاه حائلة بين القلوب والحب؟ أخطأت أيها الفتى إن كنت صددت عن «الصدى» لمجرد أنك سليل إلهين من آلهة الماء البعيد الأغوار الجم الأسرار، وإلا فلماذا مسخك الإله «زوس» زهرة ما تُرى إلا على حوافي الغدران كما كنت في حياتك تطيل الوقوف على حافة الماء الراكد لتنظر جمالك الفتان في صفحته الصافية؟
وأنت أيتها الفتاة الحزينة التي لم يبقَ منها شيء إلا القدرة على ترديد ما تسمع أو يقال، فإذ قلت إحسان!
ولم تكد «الصدى» تردد نداء دلال حتى فُتح الباب وظهر لديه إحسان، كأن «الصدى» جذبته بقوتها السحرية، فلم تردد اسمه بل حملته إلى أحضان دلال ذاتًا كاملة الهيكل والجثمان.
ظهر إحسان لدى الباب، ولكنه وقف واجمًا جامدًا، غير أنه على الرغم من احتفاظه بكل ما كان فيه من صفات الرجولة، فإن اصفرار وجهة كان مهيبًا مخيفًا، فتقدمت إليه دلال في سكون ورهبة ولم تَفُهْ بكلمة، بل ألقت بنفسها في أحضانه فائضة الدمع جمَّة الشجون.
«لقد مات أبي بعد أن جُرِّد من أملاكه منذ ساعة، ولحِق بمن مضى من أوائلنا، لحق بأبيكِ وأمي، ولم يبقَ لي من الحياة سواكِ، فتأهَّبي للسفر لأن الحياة هنا غير محمولة في الفقر بعد العزة، والعَوَز بعد الجاه.»
ثم تركها حائرة وعاد أدراجَه ليواري جثة أبيه التراب.
في اليوم الثاني كان إحسان ودلال زوجين تحملهما أجنحة البخار إلى سورية، حيث صمَّما على أن يقيما إلى آخر حياتهما عامليْن بكَدِّ سواعدهما ليعيشا.
٧
عند مدخل الغابة الملتفَّة الأغصان كوخ صغير من حوله حقل وحديقة، وبالباب طفل يمرح غَرِدًا كأنه الهَزَار في الربيع، وكان كل ما بالكوخ ساكنًا مطمئنًّا، كأن اطمئنان القلوب التي تسكنه تبعث في جوِّه السعادة والهناء. وفي هذا السكوت الشامل انبعث صوت شجي في نبراته حنوٌّ وجمال قائلًا: ليس لدينا وقود، وقد كاد الليل أن يُرخي على الطبيعة سدوله.
– حسنًا يا معبودي، جهِّزي لي الحبل والفأس.
وحمل إحسان الحبل بيده والفأس على كتفه، ومضى نحو الغابة متغلغلًا في الظلام.