الأدب والفن
إذا كان أحدهما الكأسَ فالآخر الخمر!
***
مع فنِّ الطفولة
إذا أردتَ أن تعرف ما هو أروع صوتٍ كان يُبهر مشاعرنا ونحن صغار؛ فاعلمْ أنَّه صوتُ الطبلة! … لا طبلة الجيش المظفَّر، يسير تحت نوافذنا منشور البنود، ولا طبلة حرَّاس «المحمل» تدقُّ من فوق الجِمال المزوَّقة، ولا حتى طبلة «المسحراتي» في ليالي «رمضان» الساحرة؛ بل طبلة صغيرة متواضعة … هي طبلة «الأراجوز» إذا اقترب من حيِّنا.
عند ذاك ترى العجب: أفواجًا من الأطفال، يخرُجون من بيوتهم ركضًا، كأنهم جنود يهبُّون من ثكناتهم على دقَّات طبلِ «الطابور»! … ويجتمعون كالنمل في تلك الساحة، حيث ينصُب «الأراجوز» مسرحَه الضيِّق المرتفع، يتطلَّعون إليه بعيونٍ شائعة وأبصارٍ زائغة؛ ينتظرون ظهور تلك الأشخاص المتحركة المتكلِّمة الصاخبة، أو تلك التي نسمِّيها — نحن الكبار — الآن: دُمى! … لا أنسى ذلك اليوم الذي هرعتُ فيه إلى الساحة، على صوتِ تلك الطبلة، وفي ذيلي جاري الطفل «عطية»، وقد كان أصغر منِّي بنحو عامَين، يركض بركوضي، ولا يدري أين نذهب!
فقد كان ذلك اليوم أولَ عهده برؤية «الأراجوز»!
وقفنا نتندَّر محملِقين بين الجموع، حتى دبَّت الحياة في المسرح الصغير، وظهرت على خشبته دميةٌ تمثِّل شخصية امرأة «شرقاوية»؛ بملسها الأسود، وبرقعها الكثيف المحلي بالجزع والخرز … فما أشعر إلا ويد الطفل «عطية» تجذبني جذبًا عنيفًا!
ولقد نسيتُ في تلك اللحظة أنَّ له خالة من أهل الشرقية … فلَمْ أُعِره بالًا … إلى أن يئس منِّي؛ فتركني وجرى مخترقًا الصفوف، حتى وقف بأسفل المسرح، فرفع رأسه إلى تلك الشخصية، وصاح بها في نبرةِ جِد أعرفها منه: خالتي! … خالتي «أم خميس»!
وظنَّ مُخرِج «الأراجوز» أنَّ الطفل يعابِثُه؛ فجاراه قائلًا بلسانِ الدُّمية: نعم يا بنيَّ!
فصاح الطفل: أمي بتسلِّم عليكِ!
– أمك مين؟
لفظتْها الدمية بلهجةٍ ساخرة، ولم يُدركها بالطبع الطفل، ومضى يُجيب بكلِّ جِد: أمي … «أم عطية»!
– سلِّم لي عليها!
قالتها الدمية على عجَلٍ؛ فقد ظهرتْ عند ذاك دميةٌ أخرى، تمثِّل خفيرًا يحمل هراوةً ضخمة. اقترب من «الشرقاوية»، وقال لها: «امشي من هنا يا ولية!» … وأشبعها سبًّا وشتمًا، وانهال على أمِّ رأسها بنبُّوتِه ضربًا؛ فلم يكَد الطفل «عطية» يرى ذلك، حتى بكى بدمعٍ سخين، وترك الجمع وجرى إلى بيته صائحًا: أمي! … أمي! … الخفير نازل ضرب بنبُّوتِه في خالتي «أم خميس»!
فنهضتْ أمه دهِشة مستغرِبة: خالتك «أم خميس»! … هي فين؟ … دي في الريف … وإيش جابها مصر؟!
– لا … دي هنا … وقالت لي سلِّم على أمك! … وطلع الخفير طردها وضربها بالنبُّوت!
– وريني هي فين؟!
– ويطردها ليه؟ … ويضربها ليه؟ … هو له ضرب عليها؟! … تعال يا بني وريني هي فين؟!
وقامت إلى مُلاءتها، فتدثرتْ بها، وأمسكتْ بيد ابنها «عطية»، وخرجا لنجدة «أم خميس».
ومشيا مسرعَين حتى بلغا الساحة … وهناك وقَفَ الطفل ووقفتْ أمُّه بوقوفه، وأدارتْ بصرها في المكان … فلم تجِدْ غير «أراجوز» يلعب، وصِبيانٍ وعيالٍ محملِقين فيه مشدوهين … فصاحت في ابنها: هي فين خالتك يا بني؟
وكان الخفير لا يزال يضرب بهراوته رأس الشرقاوية، وهي تصيح وتولوِل وتبادله لعنًا بلَعْنٍ وبذاءةً ببذاءة، وتستغيث بالناس، ملوِّحة بذراعَيها في الهواء! … فجذب «عطية» والدته من طرَف إزارها، وأراد أن يخترق بها جموع الغِلمان، وهو يبكي ويشهق وينشج، ويشير إلى الشرقاوية الغريقة في شِجارها مع الخفير، مناديًا إيَّاها: «يا خالتي …» صائحًا بها أنَّه قد أحضر أمَّه، لإنقاذها ممَّا هي فيه.
وأدركتْ «أم عطية» الأمر، وفهمتْ حقيقةَ الموقف، وخشيتْ أن تتعرَّض لسخريةِ لاعبي «الأراجوز» فخلَّصتْ طرَف ثوبها من قبضة ابنها … وقفلتْ راجعةً إلى بيتها، وهي تتميَّز من الغيظ، وتقول مخاطبةً نفسَها: يا مصيبتي في عَبَط الولد … قال دي خالته «أم خميس»!
•••
هل حقًّا هو «عَبَط» ما وقع من ذلك الطفل؟! … لطالما طرحتُ على نفسي هذا السؤال … بل تساءلت: ألا يستطيع مثل ذلك الطفل أن يميِّز — على الأقل — بين الأحجام؟ … لقد كان حجمُ تلك الدُّمى الصغيرة أضألَ بكثير من الحجم الآدمي، وهو مع ذلك لم يحفل بالفروق، ومضى يعتقد ما اعتقد؛ ذلك أنَّ الطفل لا يرى الأشياء بعينه. بل يراها بخياله … إنَّ الحقيقة عنده ليست في الإطار الخارجي للأشياء، بل في المعنى الذي ترمز له! … ليس يعني الصبي أن يكون سيفه من صفيح أو حديد أو خشب … إنَّه سيف وكفى! … وإنَّه ليعطي هذا المعنى المجرَّد قوةً أصلبَ من قوة المادة، وإنه ليس يعني الصبية أن تكون عروسها من قطن أو ليف أو طين … وإنما هي معنًى يُثير فيها غرائز الأمومة؛ فهي تحتضنها، وتُضفي عليها من الأسماء والصفات ما يخيَّل إليها أنَّها جسمٌ حي؛ لذلك كانت حياة الطفولة أخصب من حياة الكِبَر؛ لأنَّ الطفل — ذلك الساحر أو الفنان — يستطيع أن يقلِب الصفيحَ حديدًا، والقطن جسدًا نابضًا، والزجاج ماسًا لامعًا … لا قيمة عنده لحقيقة المادة … يكفي أن يمسَّها بيده لتصبح لها الحقيقة التي يريدها.
فطن إلى ذلك أصحاب «الأراجوز» أو «صندوق الدنيا»؛ فنراهم لا يكلِّفون أنفسهم جهدًا ولا نفقة ولا حذقًا، في إخراج دُماهم أو صورهم على نحوٍ متقن كلَّ الإتقان! … لكأنَّهم يقولون لأنفسهم: «وما فائدة ذلك؟ … إنَّ المخرج الحقيقي هو الطفل نفسه!» … نعم … يكفي أن يُظهروا له قطعةً من الخشب، رديئة الحفر والنحت والنقش، يلفُّونها في خرقةٍ سوداء قائلين: إنَّها امرأةٌ شرقاوية، وعلى الطفل الباقي! … إنه هو الذي يُلبس هذه الخشبة لحمًا ودمًا، ويمنحها حجمًا ورُوحًا، ويخلقها إنسانًا حيًّا يعرفه ويحادثه ويعيش معه!
أمَّا نحن الكبار، فقد ضاعت منَّا القدرة على الحياة في «المعنى»، ولم نعُد نستطيع العيش إلا في «المادة»! … وقد انكمشت الحقائق في نظرنا؛ فلم نعُد نُبصر غير حقيقة الإطار الخارجي للأشياء، ولم يعُد في مقدورنا أن ننفخ الرُّوح في شيء … لا بد لنا إذن من فنَّان — وما الفنان إلا إنسانٌ احتفظ ببعض قُوى الطفولة — ينسج لنا أوهامًا وأخيلة وصورًا، توسِّع لنا قليلًا من أفق حياتنا المادية الضيِّقة.
يقرع صاحب «الأراجوز» طبلته، وهو يعلم أنه سيجتمع حوله رهطٌ من الفنانين الخالقين في صورةِ أطفالٍ وصِبيان! … ويعرض صاحب المسرح روايته، حاشدًا لها خيرةَ المؤلِّفين والمخرجين والممثلين، وهو يوجس خِيفةً من أن يُخفقوا في رفع جمهور الكِبَار، من حياتهم الأرضيَّة إلى عالمِ المعنى والخيال!
شاهدتُ في عام ١٩٣٦م روايةً «فاوست» لجوته، يُخرجها في «سالزبورج» المخرج العظيم «ماكس راينهارت» … وقد رأى — إغراقًا في طلب الروعة — ألَّا يلجأ إلى مسرحٍ أو مناظر أو ستائر، بل شيَّد — بالحَجَر والآجُر — مدينةً بأكملها في سفح الجبل، هي المدينة التي تجري فيها حوادثُ الرِّواية، في القرون الوسطى، بكنائسها القوطية وحاناتها، وبيوتها، ونافوراتها. وجعَلَ المُمثِّلين يتنقَّلون بينها كما لو كانوا يتنقلون في الحياة، والنَّظَّارة على المدرجات — في الهواء الطلق — يشاهدون … ثم حضرتُ بعد ذلك في «سالزبورج» نفسها رواية «الدكتور فاوست» لمارلو، تُخرجها فرقة «أراجوز» على مسرحٍ للكبار … ولكنْ أيُّ «أراجوز»؟! … لقد كانت الدُّمى فيه بنصف الحجم الطبيعي، زاهيةً في ثيابها التاريخية … تتحرك في مناظر خلَّابة، من أشجارٍ يانعة، وبيوتٍ ومدن، تسلَّط عليها إضاءةٌ ذات فنٍّ يحيِّر العقول … لقد كانت الجحيم التي تردَّى فيها «فاوست» تكاد، من براعة الفن، تكون جحيمًا حقيقية بنارٍ ذات لهب، والقارب الذي أوصله إلى مملكة الموت يكاد يمخُر في أمواجٍ ذات هدير، والعفاريت بقرونهم والزبانية بشوكاتهم! … فنٌّ لم يترك مجالًا لخيالِ مُشاهِد، ولم يعتمد على مُخيِّلة متفرِّج … ولا عجب فهو يعلم أنه يتقدَّم إلى نظَّارة من الكِبار!
لونان من الفن شاهدتُهما في موضوعٍ واحد وأسبوعٍ واحد: أحدهما لجأ إلى الوسائل الكبرى، والآخر لجأ إلى الوسائل الصغرى. الأول أراد أن يُثير خيالنا بأكبر قدْرٍ من الحياة، والثاني بأكبر قدْرٍ من الصناعة. أولهما طرَقَ بابَ تصوُّرنا بما رآه يناسب حاضرنا، والآخر توخَّى أن يحرِّك مخيِّلتنا بما يذكِّرنا بماضينا! … ولكنَّ هذه الجهود المشكورة — وإن كانت قد منحتنا المتعة الفنية — لم تستطع أن تجعلنا نعيش في خيالها أكثرَ من لحظات؛ هبَطْنَا من عليائها بهبوطِ الستار!
لم لا يستطيع الإنسان أن يعيش طويلًا إلا فيما يخلقه هو بنفسه داخل نفسه.
إنَّ كلَّ فنون الأرض اليوم، لتعجز عن أن تجعلني أرى ما كنتُ أراه في دُمى «الأراجوز» الرخيص!
وإنَّ كلَّ فرح الدنيا، لا يُثير في مشاعري ما كانت تُثيره دقَّات طبلته المتواضعة، وهو يقترب من حيِّنَا!
مع أهل الموسيقى
١
فنُّ الموسيقى في «مصر» كما عرفناه منذ ثلاثين سنة. كان يلمع في سمائه ثلاثةُ نجوم: «داود حسني»، و«سيد درويش»، و«كامل الخلعي».
ولم تكُن معرفتي وثيقةً بسيد درويش، ولكنَّ رواية غنائية لي، عُرضتْ عليه، فطلَبَ في تلحينها ستمائة من الجنيهات! … فرأت «الجوقة» أنَّه قد سأل شططًا؛ فسحبتْها منه، وعهدتْ بها إلى «كامل الخلعي» الذي رضي بثلاثين!
على أننا كنَّا نعيش في ذلك الجوِّ الفني العجيب، الذي استطاع أن يخلقه «سيد درويش»! … كنَّا نتتبع آثاره الجديدة في كل مكان، ونعرف أحدثَ ألحانه — قبل أن تُذاع — من فمه أو أفواه من الْتقطوها عنه، في ليلةٍ من ليالي وحيه المنهمر! … على أنِّي في ذلك الوقت كنتُ أكثرَ احتفاءً بما يُخرجه هذا الموسيقي المجدِّد، في النوع الجادِّ من «الأوبرا» و«الأوبريت». وإنَّه لمن المحزِن أن نرى الجيل الجديد اليوم يُصغي إلى هذا الكلام دهِشًا! … لا يتصوَّر كيف ازدهر هذا اللون من الموسيقى في الماضي، ومات في الحاضر؟!
•••
كانت أغاني «سيد درويش» وألحانه الشعبية تسري في الناس كالنار في الهشيم! … ولكني ما كنتُ أرى منه، أنَّ هذا هو الذي يملؤه بالفخر؛ فقد كان توَّاقًا إلى الفنِّ في صورته العليا! … وإنه لعجبٌ أن يكونَ لمِثل «سيد درويش» بثقافته البسيطة صورةٌ عليا للفن! أتراها غريزة الفنان الأصيل، تدفعه إلى البحث والغوص فيما وراءَ السَّهل والضَّحل من أشكال الفنِّ؟! … ربما كان الأمر كذلك؛ فسيد درويش لم يكُن بالفنان الذي يكتفي بالإلهام، ويقعد عن التحصيل! … لقد رأيتُ «سيد درويش» بعيني يأتي معنا إلى «تياترو الكورسال»، ليشاهد جوقة الأوبرا الإيطالية، تعرض «توسكا» و«مدام بترفلاي» لبوتشيني و«البلياتشو» لليون كافللو! … فقد كانت دار الأوبرا في ذلك الوقت ترفًا يستطيعه سائحونا، ولا تطيقه جيوبنا. وكان المسيو «دالياني» — صاحب «الكورسال» — بارًّا بالفقراء أمثالنا، من مجانين الفنِّ؛ فكان يستقدم لنا فرقًا متواضعةً، تغذِّينا وتعلِّمنا بقليلٍ من النفقة! … ما من شكٍّ عندي في أنَّ «سيد درويش» كان يرى من أسرار هذا الفنِّ الأوروبي أكثر ممَّا كنَّا نرى، وكان ينتفع، ويتمثَّل، ويهضم أضعاف ما كان يتهيَّأ لمِثل بنيتنا الفنية العادية … وكان من أثر ذلك أن طمع في أن يصِلَ بفنِّه إلى مرحلة التجرُّد الأعلى — التجرُّد من الشعبية، والصور المحلية — وأن يقدِّم موسيقى موسومة — بطابعه وحده — لا طابع بيئةٍ بالذات؛ فقال للمرحوم «محمود مراد» عندما قدَّم إليه رواية «البروكة» مُمصَّرة عن الرواية الفرنسية «لا ماسكوت»: إنه لا يريدها في صورةٍ مصرية ولا شرقية! … ولكنه يريدها على أصلِها، بجوِّها الفرنجي، وأشخاصها الأوروبيين؛ لأنَّه مُقدِم على محاولةٍ جريئة لن يحيد عنها! … إنه يريد أن يفرِضَ موسيقاه — بطابعها الخاص — على ذلك الجوِّ الأجنبي!
وتمَّ له ما أراد، وأخرج هذه الرواية بفرقته الخاصة التي كان أنشأها أخيرًا واستأجر لها مسرحَ «دار التمثيل العربي»، الذي كان مجاوِرًا لشارع «وجه البركة»!
ولا أنسى أبدًا تلك الليلة التي ظهرتْ فيها «البروكة» لأول مرة؛ كانت ليلةً انهمر فيها المطر ورعدَت السماء، وامتلأتْ شوارع «القاهرة» بالوحل والماء!
ولكننا — نحن أنصار «سيد درويش» ومُحِبِّيه وإخوانه — ما كنَّا نشعُر قَط بما فعلتْه الطبيعية من حولنا! … إنَّا نعرف أنَّ الطبيعة عدوُّ الفنَّان؛ لأنَّها تغار وتعدُّه منافِسًا لها في الإبداع؛ وماذا يهمُّ؟ … لو أنَّ السماء انطبقتْ على الأرض في تلك الليلة لمَا فطِنَّا إلى ما يجري؛ فحبُّنا للفنِّ كان أقوى من الطبيعة ذاتها! … ورُفع الستار عن «البروكة» أمام عدد من النَّظَّارة لا يزيد عن الأربعين أو الخمسين، بما فيهم الأنصار والأصدقاء! … وجرَت الألحانُ تصوِّر مختلف المناظر والمواقف والعواطف: من نشيد الجيوش الظافرة، مثل لحن: «املا الكاسات» … إلى قوله: «الاحتفال بالانتصار» … إلخ، إلى وصف الريف بدجاجه وخِرافه التي تصيح: «ماء … ماء.» وفي لحن: «أحبُّ خرفاني السِّمان» … إلخ، وغيرها من الألحان التي لا تُسعفني الذاكرة الساعة بحصرها! … خرجنا من تلك الرواية في شبه ذهول! … وكان الليل قد انتصف، ولكنا لم نذهب إلى بيوتنا، أو نأوِ إلى فِراشنا؛ فذاك عهد ولَّى، ما كنَّا نعرف فيه المضاجعَ قبل الفَجر!
•••
جلسنا في قهوة — أو على الأصحِّ «خمَّارة» — مُجاوِرة لدار التمثيل العربي، وما لبث «سيد درويش» أن أقبل علينا، مع الصديق المرحوم «عمر وصفي» … وقد نفض عنه ثياب التمثيل. وهو يقول: ما رأيكم؟
لم يخطر في بالِ الفنَّان المسكين أن يسألنا عن رأينا في كسادِ الحفلة وخواء الصالة! … ولا خطر في بالنا أنَّه يسألنا في ذلك، فقد كنَّا نُدرك أنَّ الرأي المطلوب هو أجلُّ من ذلك عنده وأسمى. لا لأنه كان يريد الإفلاس أو يكره المال؛ بل لأنَّ فرحة الفنان بفنِّه تُبهره أكثرَ ممَّا يُبهره المال، وأنَّ النشوة التي تبعثها خمرةُ الفنِّ تذهب دائمًا بلبِّ الفنان في أول الأمر، فتُذهله عن كلِّ شيء! … أدركنا ما يريد فقُلنا! … لستُ أذكر والله ما قلنا … ولكنَّ الذي لا شكَّ قد حَدَث، هو أنه قرأ في وجوهنا الجواب: أنَّه قد انتصر!
وفي اليوم التالي قابلتُ زميلَيه «كامل الخلعي» و«داود حسني»، وأبديتُ لهما ما خامرني من تلك الرواية الرائعة؛ فهزَّ كلٌ منهما رأسه هزةً أعرف مغزاها، كانا من أنصار القديم، أو على الأقلِّ كانا فيما يُبدعان — من فنٍّ شرقيٍّ جيِّدٍ مكين — يسيران في التجديد بحذرٍ واحتياط؛ لذلك كان لهما في «سيد درويش» رأيٌ: إنه في عُرفهما ملحِّن خارجٌ على القواعد والأصول، والمعقول والمنقول!
وتلك هي التهمة الأبدية لكلِّ مجدِّدٍ جريء.
على أنِّي لا أعتقد أنَّ «سيد درويش» كان يتعمَّد التجديد قهرًا أو افتعالًا، ولم أسمعه يتحدَّث في ذلك، كما يتحدَّث أصحابُ النظريات أو قادة النهضات. ولكنَّ التجديد عنده، فيما أرى، كان شيئًا متصلًا بفنِّه، ممزوجًا بدمه … لا حيلة له فيه … شيئًا يتدفَّق من ذات نفسه، كما يتدفق السيل الهابط من القمم! … كانت الألحان تتفجَّر منه، كأنَّها تتفجر من ينبوع خفي … حتى عليه هو. لقد سمعتُه، وسمعه بعضُ أصدقائنا يقول ذات يوم: «أستطيع أن ألحِّن كلَّ شيء. أستطيع ألحِّن الجرائد اليومية!»
نعم! … لقد أحسَّ أن لا شيءَ يقف أمام نبع ألحانه المتفجِّر، لا النظم واجب له ولا الأوزان! … أيُّ كلام عادي كان يستطيع أن يصبَّ فيه لحنًا يُحييه، كما يُصبُّ ماء الحياة في العود اليابس! … عند ذلك فهمتُ لماذا كان يقول لي دائمًا «كامل الخلعي»: «زنْ لي كلامك وزنًا آخر، حتى يستقيم مع اللحن الذي عندي!» … إنَّ «كامل الخلعي» موسيقيٌّ متمكِّن، وهو — من غير شكٍّ — أرسخُ قدمًا في أصول الموسيقى من «سيد درويش»، ولكنْ أين له عبقرية هذا الأخير؟! تلك العبقرية، أو ذلك السِّحر الخفي الذي ما مسَّ كلامًا حتى قلبه نغمًا تحارُ فيه العقول!
ومع ذلك، لم يصبَّ «سيد درويش» قدْرًا كبيرًا من تقدير الناس، بل إنه كان يقابَل أحيانًا بالسخرية، كلما ظهَرَ على المسرح بجسمه الضخم وصوته الفحل! … ولا أنسى يومَ مثَّل البطلَ في رواية «شهرزاد»؛ لقد حزنتُ وثُرتُ، وأنا أرى الجمهور يستقبله بالنكات، وهو يرفع عقيرته ويغنِّي: «أنا المصري كريم العنصرين …» لم يعرف الجمهور أن يقدِّر فيه صحَّة النَّغم قبل رخامة الصوت، ولم تهذَّب بعدُ الحاسَّة الفنية للجمهور المصري، ليدرك أنَّ صحة صوتِ الرَّجُل هي في رجولته وقوته، لا في طراوته وحلاوته! … وأنا شخصيًّا كنتُ أطرب لصوت «سيد درويش»؛ لأني ما فهمتُ الموسيقى قَط إلا على هذا الوضع.
لا جدال في أنَّ الثورة المصرية، كان لها هذا الأثر في توجيه «سيد درويش» إلى الإشادة بالمفاخر القومية، في إطارٍ من الصوت الصُّلب، والعواطف الملتهِبة، والأداء القوي. كما كان لهذه الثورة فضلٌ في كلِّ ما اتَّسم به فنُّ هذا الموسيقي من تجديد؛ فقد خاض أعوامها شابًّا متفتِّح القلب لكِّل ما تأتي به، في الأفكار والأحداث من جديد … في حين أن كُهول الموسيقيين في ذلك الوقت، من أمثال «كامل الخلعي» و«داود حسني»، ما تأثَّروا بالثورة ولا أثَّروا! … وهل يستطيع أن يُدرك أعاجيب الثورة، أو يشعر بحرارتها إلا الشباب؟! … لقد انكشفت لعيني وقلبي معجزةُ «مصر» عام ١٩١٩م، ورأيتُ الثورة في كلِّ مراحلها، تُسفر عن رُوح خفيَّة باقية أبدَ الدهر، نابضة، تسعف «مصر» بين حين وحين. ظلَّ هذا الشعور يلاحقني حتى سجَّلتُه في «عودة الروح»؛ فالمعروف أنَّ الثورات لا ينطبع أثرها إلا على قلب جديد ملتهِب، ولا يملك مثل هذا القلب إلا الشباب في فورة شبابهم؛ لهذا كان «سيد درويش» — ابن الثورة — هو قلبها الجديد الملتهب الذي تأثَّر بها، وأخرج فنًّا قاد به الموسيقى الشرقية إلى أفقٍ جديد.
٢
ما من ريبٍ في أنَّهم اليوم قليلون، أولئك الذين عرفوا المرحوم «كامل الخلعي» في أوجِ مجده الفنِّي! … مَن ذا كان يستطيع أن يُصاحِب ذلك «الفنان العجيب، دون أن يتعرَّض لضحكاتِ الضاحكين؟! … لقد كان ذلك الموسيقيُّ من سُلالة أولئك «البوهيميين» الذين لا يعرف أحدٌ أعقلاءُ هُم أم مجانين! … كان إمامًا من أئمة فنِّه، وكان له في الموسيقى الشرقية كتابٌ ينمُّ عن غزيرِ عِلم، ورسوخِ قَدَم؛ فقَدْ عرَفَ فضله الشيخُ «سلامة حجازي» فحباه بتقديره. وإن كان لم يَسلَم من شذوذه؛ فلقَدْ صادفه ذات يوم، وقد طرَحَ عُودَه وفنَّه، وحمل صندوقًا لمسحِ الأحذية، جعل يجوس به خلال المقاهي والمشارب، فناداه الشيخ متعجِّبًا قائلًا: «جرى إيه يا سي كامل؟!»، وأراد أن ينفحه مبلغًا من المال يُعينه على عُسر حاله، فقال الفنان وكأنه لا يعرفه: «قرش تعريفة واحد ثمن المسحة!» … ولم يأخذ غيره، ومسح له حذاءه ومضى رافعًا رأسه، معتزًّا بنفسه!
أمَّا أنا فقَدْ عرفتُه ۱۹۲۳م؛ إذ كلَّفتْه «فرقة عكاشة» أنْ يلحِّن روايةً لي، فكان من الضروريِّ أن ألقاه من حينٍ إلى حين، وأن أُصغي إليه، وقد وضَعَ على رأسه «كلبوشًا» من صوف، وارتدى معطفًا قصيرًا مرقَّعًا فوق سروالٍ من «عَبَك» ينتهي بقَبْقَاب في قدَمِه من خشب … وفي صدره العُود يضرب عليه بأنغامٍ رائعة، لا يُفسدها إلا صوته الأجشُّ الذي يقطعه سُعال التبغ الرخيص، يخرج من حنجرته كأنَّه خارجٌ من «ماسورة» خرِبَة، في «ماكينة» طحين! … ولكنَّ العجيب، أنِّي كنتُ أطرب لذلك الصوت، وأرى كأنه يخرج من بلبلٍ ذهبي الفم فضِّي الحنجرة! … حتى إذا انتهى من بعض الألحان، طرَدَ العُود وهبَّ واقفًا؛ ليذهب معي إلى «التياترو» لتحفيظ الجَوقَة … فنهبط ذلك السُّلَّم — في منزله في حيِّ «القلعة» — الذي كان يخيَّل إليَّ في كلِّ مرَّة أنَّه سينهار بنا أثناء النزول؛ لوَهَنه ورِقَّة خشبه وطقطقته وأطيطه تحت أقدامنا الثقيلة، فنخرج إلى الطريق، وأنا أحمدُ اللهَ في سرِّي على السلامة والعافية. وألْتفتُ إلى صديقي الموسيقي، فأُلاحظ العجَبَ! … إنه ينزل ويسير معي في الشارع بعينِ الثِّياب التي كنتُ أحسبها ثيابَ المنزل … عجبًا! … أوَيستطيع إنسان أن يمشي هكذا في الطريق؟! … وإلى أين؟ … إلى «تياترو الأزبكية» في أهمِّ شوارع «القاهرة»، ولكنْ لا عجب من ذلك، فإنِّي لم أنزعج من منظره وقتئذٍ، ولم أخجل من مصاحبته! … إنه «كامل الخلعي» وكفى! … وليتَنَا كنَّا نذهب راكبَين بمنأًى عن العيون، ولكنَّه كان يصرُّ على المسير، فالمسافة في نظَرِه قصيرة، إنَّه شارع «محمد علي»، لا أكثر ولا أقلَّ، فَفِيمَ ركوب «سوارس» أو «الترام»؟!
هكذا كنَّا نسير، هو بثيابه التي كثيابِ الشحَّاذِين، وأنا بملابس «الأفندي» الكاملة التي توحي بالاحترام. وما كنَّا مع ذلك نمضي توًّا … إنَّ «سي كامل» له أطوار؛ فهذا بائع «كيزان» صفيح، لزوم المطبخ أو الزير فما أشعُر إلا والموسيقي الذي يترنَّم بجواري بأجمل الألحان، قد وثب إلى البائع وصاح به فجأةً: «بِكَم الكوز يا جدع؟ … وما يمضي قليلٌ إلا و«كامل الخلعي» قد اشترى بكلِّ ما معه نحو عشرة كيزان، ما يدري كيف يحملها، وقد ربطها له البائع ووضَعَها فوق كتفه، واستأنفنا السير وأنا أقول له: «أنذهب بها إلى التياترو؟» فيقول على الفور: وما له؟ … وهو أنا سارقها؟»
وعندما أسأله عمَّا دعاه إلى شراء كلِّ هذا العدد، يجيب: «كلُّها منافع …»، ويقصُّ عليَّ كيف أنَّ كوز الحمَّام دائمًا يضيع، فأَقسَم أن يشتري كلَّ كيزان البلد حتى تبطل حجَّة أهل المنزل! … كلامٌ معقول؛ إنَّ فنَّ «كامل الخلعي» كان يجعلني أرى كلَّ تصرُّفاته معقولة، ولكنَّ الأمر الذي لم أستطع أن أجِدَ له سببًا معقولًا، هو ما حدَثَ بعد ذلك! لقد سِرنا في شارع «محمد علي»، إلى أن وصلنا إلى ميدان «باب الخلق»، وعندئذٍ طلع علينا شحَّاذ من أولئك الشحَّاذِين الذين يضعون «الطرطور» على رءُوسهم، ويلبسون رداءً مرقَّعًا بمختلف الألوان، ويحملون «المبخرة» النحاسية، يُلقون فيها لكلِّ قادم أو كلِّ تاجر أو كلِّ حانوت بما في جعبتهم من «مستكة» وقرنفل وعُود وعتروت وعين العفريت وغيرها من أنواع البخور وهم يُبَسْمِلُون ويُحَوقِلُون. اقترب هذا الشحَّاذ صائحًا: «أهلًا سي كامل»!
وتصافحَا، ومشى معنا؛ كأنَّه صديقنا، وما كِدنَا نسير إلى ميدان «العتبة» حتى لحق بنا زميلٌ بمبخرته، فصافح هو أيضًا وسلَّم وانضمَّ، ومشينا إلى «التياترو» هكذا ثلاثة شحَّاذون بما فيهم «سي كامل» يحمل كيزانه الصفيح بدل المباخر، وأنا رابعهم. لم أفطن إلى صِفتي بينهم، ولم أُلقِ بالًا إلى مَن قد يُصادفني من معارفي وزملائي، أهل الحقوق والقانون، وما هُم قائلون؟ … إنَّه الفنُّ؛ ما كان شيءٌ يعنيني ويُبهرني مثل الفنِّ وأهله! … كان لكلمةِ الفنِّ في أُذني وقتئذٍ رنينٌ دونه رنين الذَّهب في تِيجان القياصرة، وبريقٌ دونه بريق الجَوهَر في عروش الأكاسرة! … أيُّ حياة تلك التي كنَّا نحياها في ذلك العهد؟! … حياة ما أرحبها وأعمقها وأجملها، في ذلك الإطار من ورق «الكرتون» المزوَّق. ومناظر المسرح المبطَّنة بالخيش والقماش، تصدح في أرجائها الألحان والأغاني وتسود الكلمات والمعاني، وترسل المصابيح أضواءً تُخسف بجانبها الأقمار وتُكسف الشموس!
ذلك أنَّ الفنَّ هو حُلمٌ يعيش فيه الفنان! … هو وهمٌ، له دولته وحدوده وقوانينه وعروشه وتيجانه! … لا يكتفي الفنان بالحياة في هذا الوهم لنفسه؛ فهو إنْ فعَلَ ذلك واكتفى به، لم يعُد فنَّانًا، بل سُمِّي في الحال مجنونًا، وكان مقرُّه مستشفى «المجاذيب»!
ولكنَّ الفرق الوحيد الذي أنقذ الفنَّان من هذا المصير، هو أنَّه نجح في أن ينقل إلى الناس وهْمَه وأنْ يُدخلهم دولته، وأن يخلُق شخوصًا وهميَّة، يأنسون إليها كما يأنس، ويعيشون معها كما يعيش.
ما المجنون في بعض الأحيان إلا فنَّان، احتفظ بوهمِه لنفسه، وعاش فيه وحده.
وما الفنَّان في بعض الأحيان إلا مجنون، استطاع أن يفرض وهمه على الناس، وأن يجعلهم يحبُّون هذا الوهم. وما ينتج عنه من مخلوقات، لا يملكون لها دفعًا ولا عنها غنًى ولا بُعدًا!
لقد اشترى الفنَّان إذن خلاصه بهذا الثَّمَن … لقد أشرك الناسَ معه في الاستمتاع بأوهامه وأحلامه، فكفُّوا عندئذٍ عن اتِّهامه بالجنون، وإلا اتُّهِموا معه! … والناس منذ فَجْر التاريخ لا يمكن أن يعتبروا أنفسهم إلا عقلاء!
الفنُّ جنون، ولكنَّ المجتمع ساهَمَ فيه وأحبَّه ورعاه. والفنَّان فنَّانٌ، ما استطاع العيش في خَلْقِه وحُلمه، فإذا خرج منهما فقَدْ خرَجَ من مملكته الذهبية خروجَ المجنون من مستشفى الأمراض العقلية!
غيرَ أنَّ المجتمع يستقبل الخارج الأخير بقوله: «عُدتَ إلى نور العقل، لقد شُفيتَ إذن … فحمدًا لله!» ويستقبل الخارج الأول قائلًا: «عُدتَ إلى نهار العقل، لقد انطفأ سِراج أحلامك، وخرجتَ من عبقريتك، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!»
مع أهل التصوير
لستُ أعلم شيئًا كثيرًا عن ذلك المصوِّر … كلُّ ما كنتُ أعرف عنه أنَّ اسمه «أوتو»، وأنَّه من أهل الشمال «النرويج أو السويد أو الدنمارك»، وأنَّ له لِحيةً كثَّة شقراء، وأنَّه يحمل دائمًا تحت إبطه لوحاتٍ غريبةَ الرُّسوم فاقعةَ الألوان؛ فقد كان ينتمي إلى تلك المدرسة الفنيَّة، التي أثارتْ فضول الناس في ذلك العهد، بما كانت تلجأ إليه من وسائلَ غاية في الإغراب، ونظرياتٍ غاية في الإغراق!
كان هذا المذهب الفنِّي الجديد، هو «بدعة» الحرب العالمية الأولى؛ فلكلِّ حربٍ — فيما يَظهَر — بدعةٌ فنية تأتي في أعقابها. وتُملأ «باريس» حديثًا عنها وضجيجًا. كان «الكوبزم» في التصوير هو «موضة» باريس في ذلك الحين، يتحدَّث الناس فيه حديثَ العارفين، وأغلبُهم لا يعرف عنه شيئًا، ولكنك لن تُصادِف واحدًا لا يقول لك: «الكوبزم» طبعًا أحبُّه … «الكوبزم» هذا شيءٌ جميل جدًّا … دعكَ من كلِّ أنواع التصوير … تلك أشياءُ عتيقة، ولكنَّ «الكوبزم» …!
وكان هذا مصدرَ عذابي!
لطالما وقفتُ الساعاتِ والأيام، أتأمَّل لوحاتِ هذا «الكوبزم»، وأضرب رأسي بيدي؛ لأفْقَهَ ما فيها من جمال. وأتَّهِم نفسي بالجهل تارةً، وبالغباوة تارةً، وبموتِ الشُّعور تارةً، ثم أتحامل على ذهني المسكين، أُرغمه على فَهْم أسرار الإبداع في هذه اللوحات التي تصوِّر «مثلثات» و«دوائر» و«مكعبات» و«مربعات»، داخل بعضها في بعض، وقد صُبغت بالأحمر الكابي، والأزرق الزاهي، والأصفر الفاقع! … ثم أَخرج من قاعات تلك المعارض الفنية أقول مع القائلين: «جمال! … إبداع! … عبقرية!»
لبثتُ على هذا الحال زمنًا وأنا أتألَّم؛ لعجزي عن إدراك كُنْه هذا اللون من الفنِّ، وكان هذا الجهل منِّي بأمره سوطَ تعذيبٍ، تُلهبني به الأقدار، أو قُل أُلهب به نفسي بيدي! … فماذا سيجري لي لو عرفتُ أو جهلتُ هذا «الكوبزم»؟
ولكنَّه جنونُ تلك المرحلة من الشباب! لقد كانت كارثةَ الكوارث أن أجهل نوعًا من الفنون، أو فرعًا من المعارف! … كان نهَمُ «المعرفة» يكاد في ذلك الحين يُفقِدنا صوابَنا … كان أشدُّ الألم على نفسي أن أكتشف فيها قصورًا عن العِلم والتحصيل، وكانت تلك النقود القليلة في جيبي تُبذل، عن طيب خاطرٍ، في كتابٍ قبل أن تُنفق في طعامٍ أو شراب.
•••
فما كِدتُ أُبصر، ذاتَ مساء، ذلك المصوِّر «أوتو» — وكنتُ قد عرفتُه في أحد مقاهي «مونمارتر» — حتى تعلَّقتُ بذراعه، وقلتُ له: هل لك في قدحٍ من «البيرة»؟
– أين؟
– هنا في هذه الحانة الصغيرة.
– إذا رفضتُ فإنِّي لستُ فنَّانًا … أقصد فنَّانًا مُفلِسًا … أعني فنَّانًا عبقريًّا من مذهب «الكوبزم»!
– آه … «الكوبزم» … هلُمَّ بنا!
وأدخلتُه إلى تلك الحانة الصغيرة، بجوار ملهَى «الطاحونة الحمراء»، وجلسنا إلى خِوان، وبادرتُ فطلبتُ له قدحَ «البيرة»، ودفعتُ ثمنه الزهيد في الحال قبل أن يُفيق الضيف؛ فيُكثر من الطَّلَب، ويُبهِظ في النَّفَقة. ورأيتُ أن أحتال في الكلام؛ حتى لا أَظهَر له أنِّي أسأله خِدمةً؛ فيستغلَّ الفُرصة، فقلتُ له بنبرةِ الحديث التافه العابر: كنتُ اليوم في متحف «اللوفر» … أتدري ماذا فعلتُ طولَ الوقت؟ … مررتُ أولَ الأمر بالقاعة المربَّعة، حيث وقفتُ لحظاتٍ أتامَّل لوحةَ «أعراس قانا» لذلك المصوِّر البندقي القديم «بول كالياري فيرونيز».
فصاح بي: «فيرونيز»؟ … أتسمِّي هذا مصوِّرًا؟ لا يا سيدي! … هذا نقاشُ مسارح! … ماذا رأيتَ في «أعراس قانا» غير أعمدة قصورٍ وهياكل، وسُور شُرفةٍ من المرمر، وجمعًا محتشدًا حول موائد؟! … هذا منظرٌ من تلك المناظر التي تُرسَم للتراجيديات على الكرتون والقماش!
فلم أجادله … ومضيتُ أقول: ثم ذهبتُ أتأمَّل لوحةَ «المسيح في القبر» للمصوِّر الفلمنكي «فان دايك».
فقاطعني: «فان دايك»! … بمسيحه المطروحِ العاري، إلا من تلك الخِرقة حول بطنه، وقد لوى عنقه وتدلَّى رأسه، وتلك المرأة التي عند قدمَيه، تُشبك يدَيها على صدرها حزنًا! … وتلك التي عند رأسه كالوَلهَى، تُشير إلى السماء بعينَيها. يا له من مشهدٍ مؤثر! … ولكنَّك تتأثَّر للحادث المُؤلِم، ولا دخلَ للتصوير هنا! … «فان دايك» يعتمد في لمْسِ قلبك على عاطفتك الدينية، لا على ريشته وحدها! … وهذا يا سيدي ليس بالتصوير!
فلَمْ أُناقِش، واستطردتُ: ثم لفتتْ نظري لوحةُ المصوِّر الفرنسي «كورو» عن الصباح، أو ما يسمِّيه «ذات صباح». تلك الأشجار الباسقة في الريف، وقد تنفَّستْ أوراقُها بنسائم الفجر، والقرويُّون والقرويَّات من حولها يرقصون، مُمسِكةً أيدي بعضهم بأيدي بعض؛ كأنَّهم من طُيور تلك الأشجار الفرِحَة بالصباح! … لكأنَّك تلمس رِقَّة هواءِ الصُّبح، تهبُّ عليك من إطارِ اللوحة!
فهزَّ رأسه صائحًا: «كورو»! … أتظنُّه بما ذكرتَ يُحسَب في المصوِّرين؟ … كلَّا يا صاحبي … أَدْرِجْه في الشعراء إذا شئتَ، ولكنْ إيَّاك أنْ تسمِّيه مصوِّرًا! … الشعرُ شيءٌ والتصويرُ شيءٌ آخر.
فلَمْ أُمارِه، واستأنفتُ قائلًا: ثم صادفتْني لوحةُ المصوِّر «هوراس فرنيه» عن معركة «وجرام» … ونظرتُ إلى «نابليون»، فوق حصانه الأبلق، يُراقب من خلال مِنظاره الطويل المعركةَ المحتدِمة، ودخان البارود يغطِّي الأفق، وقوَّادُه العِظامُ من حوله يجذبون أعنَّة جيادهم الصاهلة الصاخبة!
فقاطعني محتدِمًا: أظنُّك ستقول لي أيضًا إنَّ «هوراس فرنيه» مصوِّر! … لا يا سيدي هذا كثير! … لك أن تقول إنه مُؤرِّخ؛ فربما صدقتَ! … وإذا أردتَ الدقَّة فقُل «مؤرخ مزيِّف»! … ولو كنتَ تعرف كيف يصوِّر المعاركَ هذا الرَّجُل! … أُقسِمُ لك إنَّه لم يُشاهِد معركةً في حياته، حتى ولا في الحيِّ الذي يقطنه، بين صِبية يلعبون «البلي» … وكل ما يُلهِمه، ويوحي إليه، وينقل عنه؛ قد ذكَرَه بنفسه في تلك الصورة عن «مَعمَلِه»! … بضعةُ سيوف صَدِئة، ودروع قديمة مدلَّاة على الجدار، وحصان هزيل لا يجِدُ له علفًا؛ هو ذلك الذي تراه في لوحاتِ معاركه أبلقَ مرَّة، وأحمرَ مرَّة، وأسودَ مرَّة!
فلَمْ أُعارضه، ومضيتُ أحدِّثُه عن لوحاتٍ للمصوِّرين: «بوسان» و«جيروم بوج» و«رافائيل» وغيرهم، فانتظر حتى أفرَغَ في جوفه آخِر قطرةٍ من قدَحِ «البيرة»، ثم وضعه على الخِوان، وقال ساخرًا: «بوسان» — هذا الذي يجب أن يُدعَى «نحَّاتًا» لا «مصوِّرًا» — بأجسام عارياته الرخامية ووقفاتهنَّ المتصنِّعة، وإيماءاتهنَّ المترفِّعة! … هذا يا سيدي فنٌّ يقرِّب من «النحت»! … أمَّا «جيروم بوخ»، بنماذجه البشرية العجيبة الخالية، فهو روائي! … أمَّا «رافائيل»، بتأنُّقه في رسم يد «المادونا» وقَدَم الطفل، فقَدْ بلَغَ القمَّة في «الرسم» لا في «التصوير» … ومَن غيرهم؟ … ستذكُر لي «جروز» هذا الخطيب … و«ديلاكروا» هذا الأديب!
فلَمْ أرَ فائدةً في استمرار الحديث معه على هذا النهج، وآثرتُ الدخول إلى قلبِ الموضوع؟ فقُلتُ له: وما التصوير إذن في رأي «الكوبزم»؟
– «الكوبزم» هو التصوير نفسه … هو كلُّ التصوير … هو حقيقة التصوير!
– كيف؟
– عجبًا! … لا تؤمن بذلك؟
– أومن … أومن … ولكنِّي أريد الاستزادة من الإيمان ليطمئن قلبي!
– التصوير — أي «الكوبزم» — يُبنى على الحقيقة، لا على الوهم! … فلنفرضْ مثَلًا أنِّي أردتُ أن أصوِّر دجاجة! … هل تظنُّني أصوِّرها كما اصطلح الناس على منظرها وهيئتها، في وهمهم المُجمَع عليه منذ الأحقاب؟ … كلَّا يا سيدي … إنما أصوِّرها طبقًا لحقيقتها الهندسية! … ولأوضِّح لك ذلك بطريقةٍ عملية … أحضر لي دجاجة!
فحملقتُ فيه دهِشًا مأخوذًا … وقلتُ: الآن … هنا؟ … دجاجة … حيَّة؟
– حيَّة، مطبوخة … هذا لا يهمُّ!
ولم يُمهلْني، وأشار إلى «الجرسون» … فلما حضَرَ، وجَّهه إليَّ حتى أطلُب أنا له ما أراد؛ فخرجتْ من فمي الكلمة، ولا أدري واللهِ كيف خرجتْ: دجاجة!
فأسرع «الجرسون» يلبِّي، ثم عاد بفرشٍ للخِوان، وطبقَين، وضَعَ أحَدَهما أمام الضيف، والآخر أمامي ثم ذهَبَ ورَجعَ بطبقٍ معدنيٍّ كبير فيه ورك دجاجةٍ محمَّرة سمينة! … وأنا كالمذهول أُشاهد ما يحدُث وأعدُّ ما في جيبي! … فلما وضَعَ بيننا ورك الدجاجة، أدركتُ أن لا مفرَّ، وعزيتُ نفسي، وقلتُ: كلُّ شيءٍ يهون في سبيل المعرفة — ولي نصيبٌ في هذا العَشاء على كلِّ حال — ولكنِّي لم أكَد أثُوب إلى رُشدي، حتى رأيتُ مصوِّر «الكوبزم» قد مدَّ يده بالشوكة، ونقَلَ وركَ الدجاجة بأكمله إلى طبقه … وشرع يقول: انظرْ! … ما هي الحقيقة الثابتة في أعماق هذا الورك؟ … إنه على شكلِ «مثلث» … تلك هي الحقيقة الوحيدة.
ثم رفع السكين، ومزَّق جلدها المحمَّر وغرز فيه الشوكة، وجعل يلتهمها التهامًا، وأنا أنظر إليه، مشاهِدًا متفرِّجًا! وفي أعماق نفسي ألمٌ وأسًى: كلَّا … هذه ليست الحقيقة الوحيدة!
ولم يفطن إلى ما بي … ومضى يطعم ويتنعَّم … ويقول: على أنِّي أغشُّك إذا قلتُ لك إنَّ هذه كلُّ نظريتنا في التصوير! … التصوير في مذهبنا فنٌّ يجب أن يستقلَّ بوسيلته عن كلِّ وسائل الفنون الأخرى؛ فلا ينبغي أن يرتكن على موضوع؛ لأنَّ الموضوع من مستلزماتِ فنِّ الشِّعر. ولا أن يقوم على شخصياتٍ؛ لأنَّ ذلك من مقومات فنِّ الرِّواية. ولا أن يستند إلى بناء؛ لأنَّ هذا من ضرورات فنِّ العمارة. ولا أن يحاكي الأجسام الآدمية؛ لأنَّ هذا من فنِّ النحت. ولا أن يعبِّر عن مشاعر عاطفية؛ لأنَّ هذا من فنِّ الموسيقى!
فقاطعتُه مستغرِبًا: حتى الموسيقى؟!
– الموسيقى لا يسمعها مصوِّر إلا بعينَيه؛ وإذا تكلَّم عن الأنغام فإنما يعني الألوان! … المصوِّر الحقُّ هو رجلٌ ضريرُ الأذنَين! … وسيلة التصوير الوحيدة، التي يتميَّز بها عن كلِّ وسائل الفنون، هي اللون! … الألوان هي وسيلةُ التصوير وغايته … لا ينبغي للمصوِّر أن يقصَّ على الناس موضوعات، ولا أن يمسَّ عقولهم ولا قلوبهم، ولكنَّه وُجِد ليخاطب حاسَّةً واحدة فيهم: بصرهم! … التصوير شِعرُ العين، وسيلته وغايته اللون.
وكان قد أتى وحده على طبقِ الدجاجة، ومسَحَ فمَهُ الملوَّث بدهنها بالمِنشفة البيضاء، فالْتفتَ إليَّ قائلًا: ولأوضِّح لك ذلك بطريقةٍ عملية؛ أحضرْ لي طبقَ «سَلَطة»!
ولم ينتظر هذه المرَّة حتى آذن للجرسون؛ بل ناداه وطلَبَ إليه، كأنما قد أمسى مفهومًا أنَّه يتناول العَشاء كاملًا على مائدتي. وجاء الجرسون بطبقِ السَّلَطة؛ فنظَرَ المصوِّر «الكوبست» إلى «السَّلَطة» وقال: انظر إلى هذا البَنجر الأحمر، والخسِّ الأخضر، والجزر الأصفر … ما هي الحقيقة الثابتة فيها؟ … هذه الحقيقة …
– عرفتُها يا سيدي! … عرفتُها جيدًا!
قُلتُها مُقاطِعًا، وأنا ألمح يده تمتدُّ بالملعقة والشوكة الخشبيتَين إلى أعماق الطبق. ولكنَّه مضى يقول: دعْني أُخبرك! … هذه الحقيقة، يضيع معالِمَها المصوِّر الكلاسيكي وهو يصوِّر هذا الشكل … إنَّه يعني بالدقَّة رسمَ الجزرة، وورقة الخسِّ، وقطعة البنجر. وهذا أمرٌ لا أهمية له. أمَّا نحن، أتباع مذهب «الكوبزم»، فلا نحفل بهذه الحذلقة التي تُخفي الجوهر! … يكفي عندنا أن نُبرز حقيقةَ هذه الألوان الثلاثة: الأحمر، والأخضر، والأصفر … هذا هو التصوير!
وفرغ من محوِ طبقِ «السَّلَطة» وحده … والْتفتَ إلى منصَّة «البار» فأبصر عليها وعاءً كبيرًا، تُعرض فيه فاكهةٌ نضِرَةٌ طازجة … فقال لي: إنَّ المصوِّر «سيزان» له طريقته في تصوير التفاح، وقد أثارتْ طريقته جدلًا واهتمامًا في حينه … ولكنَّك قد تسألني عن طريقة «الكوبزم».
– طريقة عمليَّة … ما في ذلك من شكٍّ! … ولكنْ، لا داعي لمعرفة تصوير التفاح … خيرٌ لي أن تُحادِثني ونحن سائران في الشارع؛ فلديَّ موعدٌ هامٌّ، والوقتُ متأخِّر، والمشيُ مفيدٌ للهضم، بالنسبة إليك! … يا «جرسون»!
وناديتُ خادمَ المطعم وأنا ناهضٌ، ودفعتُ له كلَّ ما كان في جيبي من فرنكات أجرًا لهذا العَشاء؛ فنهَضَ صاحبي المصوِّر مُرغمًا، وخرج معي إلى الطريق، وهو يقول لي: التصوير هو «الكوبزم» و«الكوبزم» هو التصوير … هل عرفتَ الآن؟!
– عرفتُ كلَّ شيءٍ والحمد لله، وقُدرتي لا تحتمل أنْ أعرف أكثرَ من ذلك! … الوداع يا سيدي!
مع أهل الإنشاد
لن أنسى ذلك الشخص العجيب، الذي قابلتُه ذات ليلة في تلك الحانة من حانات «مونمارتر»! … في ذلك العهد البعيد، الذي كنتُ أرتاد فيه تلك الحانات! … كانت حانةً صغيرةَ الحجم، حقيرةَ الشأن، لا يُشرِّفها غيرُ جِوارها من ذلك الملهى الشهير «القطُّ الأسوَد»! … ولقد علمتْني الأيام ألَّا أزدري المَشرَب المُقفِر؛ ففيه غالبًا الخدمة الطيِّبة، والنفقة الزهيدة، وهو خيرُ مأوًى لأوقاتِ الضنك وأيام الفقر، في أواخر الشهر! … ذهبتُ ووقفتُ على بار «الزنك»، وطلبتُ قدحًا من النبيذ الأبيض، مع طبقٍ من المحار البرتغالي الأخضر! … والْتفتُّ حولي، فلَمْ أجِد في المحلِّ غيري، وغير رجُلٍ إلى جانبي في «البار» على رأسه قَلَنْسُوةً عوجاء على طريقة أوباشِ الحيِّ الخَطِرين! … وهو يرفع كأسه ويرشف منها جرعاتٍ كبيرة، ويضعها، ثم يرفع عقيرته بغناءٍ — أو على الأصحِّ — بإنشادِ شيءٍ كأنَّه شِعر:
ورفع كأسه، وأفرغ ثُمالتها في جوفه … وأرسل إليَّ ابتسامة مَن يتساءل: ما قولُك أيها الزميل؟
فرددتُ إليه الابتسامة بخيرٍ منها … وقلتُ له: ليس من الضروري عندي أن تكون شاعرًا، أو مصوِّرًا، أو موسيقيًّا … أو حتى «بهلوانًا» … المهمُّ عندي هو ألَّا تكون لصًّا!
– أمعك نقود؟
– لو كان معي نقود لذهبتُ إلى «القطِّ الأسوَد» … ولكنَّ أوباش الحي، ولصوص «مونمارتر» من أصحاب القلانس المعوجَّة، لا يفرِّقون بين المُوسِرين والمُعدِم، قبل أن يضعوا السكين في ظَهْره، والأيدي في جيبه!
– لا أظنُّ أنَّ في منظري ما يدلُّ على أنِّي لصٌّ، ولا في منظرك ما يدلُّ على أنَّك ضحيَّة … أغلبُ الظنِّ أننا من فصيلةٍ واحدة! … يا «جرسون»! … املأ قدَحَ الزميل.
ولم يَدَع الساقي لي وقتًا للاعتراض؛ فسرعان ما امتدَّتْ يدُه بالزجاجة، يسكب منها في قدحي … فشكرتُ الرَّجُل، ثم قلتُ له: هذا الذي كنتَ تُنشده مؤثِّر جدًّا! … كيف تقول إنَّك لستَ شاعرًا وهذا الشعرُ جيد؟!
– إنَّه ليس لي؛ بل للشاعر الإيطالي «بالازيتشي»!
– يخيَّل إليَّ أنَّه خارجٌ من أعماق نَفْسك أنت؛ فما من شكٍّ في أنَّك تحسُّ كلَّ كلمةٍ فيه!
– هذا حقٌّ!
– أتشعُر بكلِّ هذا القلَقِ حقًّا؟ … لكأنِّي بك مكلومُ الفؤاد، وأنت تتساءل هكذا عمَّن تكون؟!
– اسمع! … اسمع!
ورفع كأسه … ورفع عقيرته بالإنشاد:
وعجبتُ لهذا الشِّعر، واستروحتُ منه نسيمًا آتيًا من بعيد!
فقلتُ للرَّجُل: أنت القائل لهذا؟
– لا … بل الشاعر الفارسي «حافظ»!
– هنا في «مونمارتر» أسمع هذا الشِّعر! … وممَّن؟ … منك أنت؟ … من أنت؟
– ألَمْ تسمعني الساعة أُلقي هذا السؤال على نفسي؟
– ألستَ فنَّانًا؟
– ألَمْ تسمعني أتلقَّى الجواب عن ذلك الآن؟
– إنَّك على كلِّ حالٍ رجُلٌ مثقَّف!
– وما نفْعُ ذلك لقلبي؟!
– ماذا تصنع في الحياة؟
– أحبُّ!
– أقصد عَمَلك في الحياة؟!
– أحبُّ!
– وحبيبتك؟
– لها شَعرٌ غزير كغابة، ووجهٌ شاحب كنجم، وجسمٌ نحيل كطيف … بهذا الشَّعر الغزير، والوجه الشاحب، والجسم النحيل، كيف كانت تستطيع العمل بيدَيها، والسعي إلى رزقها؟ … لقد رأتْ أيسر الأمور لها أنْ تبيع شفتَيها … القُبلة بكذا … وما علَّمَها أحدٌ أنَّ هذا قبيح! … ولقد قبِلَ الملجأ طفْلَها، أمَّا هي فماتت في آلام الوضع، وهي تُخرجه للدنيا! … ويا لها من صيحات، كانت تُطلقها في فِراش المستشفى، ومن حولها الممرضات والأطباء في الأردية البِيض! … يا له من صُراخ، كصُراخ الدابة في المجزرة، لتعطيَ لحمًا … وتعطي دمًا! … والآن، هي بلا حراك فوق سريرِ الجميع في دار الجميع! وهي لن تصرُخ بعد الآن ولن تصيح … أشلاءُ آدميَّة، رئةٌ دامية؛ أشلاءُ امرأةٍ خلِقَة. مُهَلهَلة، لا تصلُح للوطء بالأقدام!
ولكنها مع ذلك قد أدَّتْ واجبها كامرأة! … واجبها كما فهمتْه، وكما قدرتْ عليه … أن تحمل في بطنها جنينًا تسعة أشهُر، وأن تمنح الوجود رُوحًا جديدًا … هذا هو الجوهر: أن تعطي «الحياة» وهي تبذل فيها «الموت» ثمنًا! … في نظر الله، وفي نظر البشر، قد أدَّتْ هذه المرأةُ ما عليها من حساب!
•••
وسكت الرَّجُل بعد أن قال ما قال، بصوتٍ حزينِ النبرة، عجيب الإلقاء، كئيب الرنين. وانحنى على كأسه؛ كأنما يُخفي الفجيعة المعلَّقة بأهدابه في صورةِ عَبرة، خيِّل إليَّ أنها سقطتْ على الرغم منه، في شرابه، وامتزجتْ بخمره … وتمثَّلتْ لي مأساة الرَّجُل واضحةً جليَّة، وأدركتُ مغزَى الشِّعر الذي كان يُنشده منذ قليل، وسرَّ التساؤل القلِقِ عمَّن يكون؟! … وعمَّا يحسُّ في الدنيا، وعمَّا يجيد؟ … وما هو في الحقيقة — كما بدا الآن لي — إلا مشنوقٌ، يترجَّح على حبال قلبه! … وفهمتُ لماذا يريد أن يُلقي بقارب حياته في نهر النبيذ، راجيًا الغرقَ فيه بآلامه؟ … نعم! … لم يبقَ عندي شكٌّ فيما يعذِّب الرَّجُل!
وتملَّكني حزنٌ شديد من أجله، ولم أدرِ ما أصنع لأخفِّف عنه! … لقد كان ليأسه ومِحنته جلال، يسخف معه كلُّ مقال — كان الصمتُ خيرَ ما ينبغي لي وله. فتركتُه وفؤادي يتقطَّع ألمًا لحاله، حتى فطِنَ إلى أمره؛ فرفع رأسه، كمَن يُفيق من سُكر، ودفَعَ ثمَنَ ما شرب وما طلب لي، وحيَّاني بإشارةٍ خفيفة، ومضى خارجًا من الحانة بخُطًى ثقيلة، كخُطَى مَن يشيِّع جنازة، ولبثتُ أنظُر إليه وهو يمضي ونبراته تطنُّ في أذني، حتى اختفى عن عيني، ولم أرَ لي مقامًا في الحانة؛ فانصرفتُ بعده وبي رغبةٌ في البكاء؛ فمشيتُ في الطريق أنشج وأمسح دموعي بمنديلي، حتى مررتُ بملهى «القطِّ الأسوَد» فقلتُ لنفسي: «أدخل لأرفِّه عن نفسي، وأُزيل عنها الكآبة! … ولقد تعشَّيتُ؛ فلن أطلُب فيه غيرَ قدَحٍ من القهوة السوداء بلا لبن، وليكن ما يكون.»
دخلتُ … وجلستُ مستخذيًا إلى خِوانٍ صغير متواضِع في طرَف المكان. ليس ممَّا يتهافتْ عليه … وقلت: «مَن يدري؟ … قد يقع في نصيبي أحد الساقين الظُّرفاء، يرقُّ لحالي؛ فلا يعاملني معاملة الأثرياء.» وملهى «القط الأسود» لا يُشابه غيره من ملاهي «مونمارتر» وصناديق ليلها … فالبضاعة التي كانت تُعرض فيه ليست أجسادَ الحِسان، بل ثمراتُ القريحة والظُّرف والبيان … كان السَّاقون و«الجرسونات» يحملون للزبائن الطلبات وهم مُرتَدُون — لا ثياب الخدَم — بل ثياب أعضاءِ المجمع الأدبي الفرنسي، في «التشريفة» الرسمية، بلونها الأخضر ووشيها الذهبي المُقصَّب … حتى إذا غصَّ المحل — وأكثر روَّاده من جِلَّة أهل «باريس» أدبًا وفضلًا وثقافةً وظُرفًا — ظهَرَ المغنُّون والشعراء والمُنشِدون، وتتابعوا الواحد تلوَ الآخر، يغنُّون الأغاني القديمة والحديثة، ويُلقون الشِّعر الجيد والطريف من القديم والحديث … ولقد كان لهذا الملهى أثرٌ في الأدب الفرنسي، ومن بين مِنشِديه وشعرائه خرَجَ في الأدب والفنِّ أئمةٌ وأعلام.
•••
طفقتُ أُصغي إلى المُنشِدين، وقد برزوا تباعًا يُلقون قصائد من شِعر فيون، وبودلير، وفرجيل، وكيتس، وبترارك، ودانونزيو … إلخ، ويغنُّون أغنيات من القرون القديمة، ومن وحي الساعة … ويحكُون نوادرَ ظريفة، وكلماتٍ لبِقة طريفة … إلى أن جاءني «جرسون» في ثيابِ «الأكاديمية» انتزعني من إصغائي ليسألني طلبي!
فقلت له بصوتِ المتوسِّل: باسم الشِّعر والأدب، أطلبُ قدَحًا من القهوة، بلا لبنٍ ولا سُكَّر … فأنا الليلة حزينٌ على زميلٍ مسكين.
– ماذا جرى له؟
– شُنقَ في حبال قلبه!
– وترجَّح فيها «كالبهلوان»؟
– كيف عرفتَ ذلك؟
قُلتها كالمرتاع عجبًا!
فأشار «الجرسون» بإبهامه إلى مقدمة المكان … وغادرني ماضيًا إلى عمله يُحضر القهوة، فنظرتُ حيث أشار؛ فإذا بي أُبصر مُنشِدًا قد ظهَرَ يقول بصوتٍ أعرف نبرته ورنينه وإلقاءه: «من أنا؟
شاعرٌ؟ … ربما …»
ومضى في القصيدة حتى أتمَّها، ودخَلَ في القصيدة التالية عن نهر النبيذ وقارِبِ آلامه، والدنِّ الذي سيجعله قبرَه ومرقده، ففرغ منها، وولج في قصةِ الحبيبة ذات الشَّعر الغزير، والوجه الشاحب، والجسم النحيل! … تلك التي استصعبَت العمل بيدَيها، وآثرَت العمل بشفتَيها؛ فرواها بصوته المتهدِّج المؤثِّر الحزين، حتى ختَمَها وقال: إنَّها للشاعرة «آدانجري»! … فصفَّق الحاضرون طويلًا، وانحنى هو للجمهور طويلًا، ولستُ أذكُر هل صفَّقتُ له مع المصفِّقين، أو صفَّقتُ لغفلتي؟ … كلُّ ما أذكُر هو أنِّي نهضتُ على قدمي، وتقدَّمتُ نحوه حتى يراني، وأنا أصيح: «مرحى! … مرحى!»
فلمَحَني، وعرَفَني، وانحنى شاكرًا، مبتسمًا، غامزًا لي بعينه! … واختفي وقد انتهتْ «نِمرتُه» وتركني أجرع قهوتي السوداء، وأندم على دموعي، التي ذرفتُها من أجله!