الأدب والمسرح
المسرح هو أقصرُ طُرقِ الأدبِ للوصول إلى الجمهور، ولكنَّه أكثرُ الطُّرق امتلاءً بالعوائق والصخور.
***
فنُّ المسرحية
للمسرحية عندي اعتبارٌ خاصٌّ؛ ذلك لأنَّ الحوار — بما فيه من إيجازٍ وتركيز — هو القالب الأدبي القريب إلى سليقتي المُحِبَّة للنِّظام؛ فالفنُّ عندي نظام، والنظام عندي هو الاقتصاد، أي البيان بلا زيادةٍ ولا نُقصان! … ربما كانت هذه الطبيعة عندي ميزانًا قديمًا، من أثرِ رواسب شخصيتنا العتيقة؛ فالعرب كانوا يرون البلاغةَ في الإيجاز، ومصر القديمة كانت ترى البراعة الفنية في البناء والتركيز؛ فالهياكل الكُبرى آيةٌ من آيات التصميم الهندسي الدقيق، والتماثيل العظيمة آيةٌ من آيات التفكير المركَّز ببساطةٍ في الحجر المجرَّد! … من كلِّ ذلك عنيتُ دائمًا بقراءة أعلام الأدب المسرحي، لا قراءة متعةٍ ولذَّة واستطلاع فقط، بل قراءة دَرسٍ وتأمُّل وفَحْص؛ فكنت أقضي الساعات أمام نصٍّ من النصوص، أقلِّب فيه منقِّبًا عن أسرار تأليفه ومفاتيح تركيبه، مُستخلِصًا — بنفسي ولنفسي — ملاحظاتي في طرائق التأليف المسرحي، ذلك الفن العسير، الذي أحببتُه أيضًا لأنه عسير، فما أزهدُ في شيءٍ زُهدي في الفنِّ السَّهل الذي لا يحتاج إلى مئُونةٍ وتجربة وغوص ودرس! … وما أبجِّل شيئًا — تبجيلي للفنِّ الذي يصمد، كالصخرة في طريق الفنَّان، فما يزال به يعالجه بالصبر الطويل والكدِّ المُضنِي، حتى يفجِّر منه الماء السلسبيل!
ذلك رأيي في المسرحية التي هي — فيما أعتقد — كالقصيدةِ الشعرية، نوعٌ من الأدب صعب دقيق؛ لأنَّ المتعرِّض له يجِدُ نفسه أمام طائفةٍ من القيود، قيود صارمة، بل عوائق قاسية تجعل نصيبه من حرية العمل قليلًا؛ فهو ليس حرًّا في اختيار الموضوع، ليس حرًّا في طريقة المعالجة، ليس حرًّا في الحيز الذي يصبُّ فيه فنَّه، ولا في الوقت الذي يَعرِض فيه عمله! … أمَّا الموضوع، فليس كلُّ موضوعٍ يصلُح للتأليف المسرحي؛ كما أنَّه ليس كلُّ موضوعٍ يصلُح للنَّظم الشِّعري! … فكما أنَّ هنالك موضوعاتٍ، لا تستطيع أجنحةُ الشِّعر حمْلَها، دون أن يبدو عليها التكلُّف والتثاقُل والترنُّح تحت وقْرِ طبيعتها الأرضية، فمثلًا: ليس للشِّعر أن يتكلَّم في أسعارِ القُطن، أو أن يبحثَ في غِطاء العُملة، كما يسهُل على النثر أن يفعل. كذلك التأليف المسرحي؛ لا يمكن أن يعالج موضوعًا يتعذَّر إظهاره على مسرحٍ محدود، بواسطة ممثِّلين من الآدميين؛ فمثلًا: ليس للمسرحية أن تعالج موضوعًا وصفيًّا تلعب فيه الجمادات والنباتات والعجماوات دورًا أهمَّ من دور الإنسان؛ فهذا ممَّا يسهل على القصة المرويَّة الوصفية أن تقوم به وممَّا يتعذَّر على القصة التمثيلية أن تُظهره. لا بدَّ إذن في المسرحية من اختيار الموضوع الممكن إبرازه على المسرح الآدمي!
على أنَّ الصعوبة الكُبرى ليست هنا، إنما هي في العثور الموفَّق على الموضوع الجيِّد؛ فقَدْ يتوفَّر للمؤلف المسرحي كلُّ عناصر النجاح: من موهبة ومقدرة، وحُسن استعداد، وسعة حيلة؛ ولا يُسقطه غيرُ الموضوع الرديء على حين أنَّ الموضوع الجيِّد قد يرتفع بمواهبه إلى المستوى الذي يُخرج أحيانًا الأثر الخالد؛ لذلك اعتبر بعض النقَّاد أنَّ التوفيق إلى الموضوع الجيد، هو — للشاعر والمؤلف المسرحي — اكتسابٌ لنصف المَوقعة! … في حين أنَّ كلَّ موضوع، يمكِّن القَصصيَّ الرَّاويةَ من حوادثه وجمْعِ تفاصيله؛ يستطيع أن ينجح خيرَ النجاح بمجرَّد وصفه وحكايته، دون اعتمادٍ إلا على جودة نثره، وصِدق تعبيره، وبراعة سرده.
فالموضوع الجيد في المسرحية ضرورةٌ من ضروراتها، شأنه في ذلك شأن النغم الجيد في القطعة السمفونية … ففي الموسيقى، تعتبر النغمة الجيدة؛ هي تلك التي تحمل في جوفها توليداتٍ عدَّة لألحان موفَّقة. فما يكاد يعثر عليها الموسيقي؛ حتى يجدها كالحُبلى بالتخريجات التي يستطيع أن يملأ بها حركةَ سمفونيةٍ بأكملها. في حين أنَّ النغمة الرديئة تُولد صمَّاء جوفاء، عاقرًا عقيمًا؛ يحاول الموسيقي عبثًا أن يستخلص منها شيئًا … كذلك الموضوع المسرحي الجيد، هو ذلك الموضوع الغنيُّ الذي ما يكاد يلمسه المؤلف حتى يفيض بين يدَيه بالمواقف المتجدِّدة، والأفكار الطريفة، والشخصيات المتنوعة، حتى ليحسُّ معه أنه ينمو بالمعالجة، ويكبر ويزدهر؛ كالشجرة المباركة التي تتهيَّأ للإثمار الكثير! … في حين أنَّ الموضوع الرديء، ما يكاد يفتح بابه حتى يغلَق. وإذا حاول المؤلف إرغامه وحمله على ما لا يستطيع بطبعه، ظهَرَ العنتُ فيه والتصنُّع والافتعال؛ كالقصيدة الشعرية التي تُنظم في موضوعٍ رديء سواءً بسواء. فإنَّ القوافي تبدو فيها متكلَّفةً كأنها منحوتةٌ من صخر، والمعاني مكرَّرةً جوفاء كالطَّبل!
فإذا اختار المؤلف المسرحي موضوعه الصالح؛ فإنَّ قيدًا آخرَ سرعان ما يظهر له، ذلك هو القيد المفروض على حريَّة المعالجة؛ فهو لا يستطيع أن يعالج موضوعه بالحرية التي يعالج بها القَصَّاص العاديُّ قصته المُرسَلة … فليس له أن يُجري حوادثه في مختلف القوالب التي تُتيحها القصة المرسلة لمؤلفها، مثل قالب الاعترافات أو المذكِّرات أو اليوميات أو الرحلات أو الرسائل، أو قالب الرواية على لسان صديقٍ أو شاهدِ عِيَان، أو قالب الحكاية تُسرد كما يريد المؤلف أن يسردها … لا … لا شيءَ من هذا يُباح لمؤلف المسرحية؛ إنه هو مقيَّد بطريقةٍ واحدة وقالبٍ واحد لا يتغيَّر ولا ينبغي أن يتغيَّر … فهو في هذا أيضًا شبيهٌ بزميله الشاعر في إنشاء القصيدة، والْتزامه فيها بالوزن والقافية … فهو لا يمكن أن يخرج عن قالبه التمثيلي الذي يقضي بأنْ تجري الحوادث دائمًا من أفواه أشخاصٍ يتحاورون، وإذا تحاوروا فلا ينبغي أن يظهر المؤلف بينهم أو يتدخَّل فيما يقولون ليَصِفَ ما غمض من أحوالهم وتصرُّفاتهم، في حين أنَّ هذا كلَّه ممكنٌ مباحٌ للقَصصيِّ الرَّاوية، الذي لا حرجَ عنده — كلما غمض موقف — من أن يتدخَّل بنفسه واصفًا محلِّلًا مفسِّرًا ما يجري في رءوس أشخاصه من أفكار، وما يحدث في نفوسهم من انفعالات … هنا المؤلف المسرحي مغلولُ اليدَين مطلوبٌ منه أن يخلق أشخاصًا دون أن تقع عليهم نقطةٌ من مداد قلمه تفضح وجودَه أو تكشف أن خلْفَ مخلوقاته مؤلِّفًا … حديثهم — وحده فيما بينهم — هو الذي يجب أن يخلقهم وهذا الحديث — بألوانه المختلفة — هو الذي يميِّز طِباع كلٍّ منهم عن الآخر!
لهذا يتعيَّن — على المؤلف المسرحي — أن يتخيَّر من الأشخاص مَن تعقَّدتْ حياتُهم إلى الحدِّ الذي يستطيعون معه أن تكون قلوبهم موضعًا لانفعالاتٍ مختلفة، ونفوسهم مظهرًا لطبائع متباينة، وعقولهم قادرةً على التعبير والإفصاح … ولقد كان مؤلفو المسرح في القديم، يتخيَّرون أشخاصهم من بين الملوك والأمراء وعِليَة القوم، يوم كانت الثقافةُ وما يتبعها — من تعقُّد الحياة، والمشاعر والفكر — محصورةً فيهم. فلمَّا انتشر التعليم والتثقيف في العصور الحديثة، وشمل أهل الطبقات المتوسطة في الحضر، وتعقَّدتْ، تبعًا لذلك، وتنوَّعتْ حياتهم وعواطفهم وعقولهم؛ اتَّجه المؤلف المسرحي إلى هذه الطبقة الوسطى ينتقي من بينها أشخاصه. وهو لهذا السبب قلَّما يترك الحضر، ويتَّجه إلى الرِّيف؛ فإنَّ عدد المسرحيات التي اتَّخذتْ من الريف موضوعًا، ضئيلٌ جدًّا في تاريخ الآداب المسرحية قديمها وحديثها … وهذا راجعٌ بالضرورة إلى أنَّ أهل الريف، بحياتهم الراتبة الهادئة التي تجري على نمطٍ واحد، وبخُلقهم الساذج البسيط؛ قلَّما يمنحون كاتب المسرحية ما يحتاج إليه من الحوادث التي تكشف عن حقائق الطِّباع وغرائب الأخلاق، وما يلزمه من مدارك، تحسن الإفصاح والتعبير عن خفايا النفوس. فضلًا عن عنصر الطبيعة في الريف، وصلته بالناس وحاجته إلى شاعرٍ يتغنَّى بجماله، أو ناثر يصف ألوانه، أكثر ممَّا يحتاج إلى المسرحي الذي لا يبني عمله إلا على ألوانِ النفوس والطبائع والأخلاق والمدارك!
فإذا تمَّ لمؤلف المسرحية اختيارُ الموضوع، وتمَّ له حذق طريقةِ المعالجة؛ فإن صعوبةً أخيرةً تنهض له، وهي أنَّ حرية التنقُّل بحوادثه وأشخاصه ممنوعةٌ عليه؛ فليس له أن ينطلق بقلمه يهيم في كل وادٍ كالقصصي في الراوية! … يجلس أشخاصه في «بيت» ثم ينقلهم بعد صفحةٍ إلى قمَّة جبل، أو جوف طائرة أو ظَهْر سفينة! … إنَّ المسرحي مقيَّد بمناظرَ قليلة، يجب أن تجري في إطارها المغلَق كلُّ القصة التي يعرضها! … هذا الحيِّز الضيِّق، لا بد أن تتحرك فيه أعظم المآسي البشرية والمهازل الإنسانية، وأن تُحدِث من الأثر في النفوس ما تُحدِثه — أو ربما أكثر ممَّا تُحدِثه — الرواية المرويَّة، التي يتحرَّك أبطالها في كلِّ صفحةٍ أو سطرٍ بين مشارق الأرض ومغاربها! … ولقد جاءت السينما أخيرًا، فأغرَت الناسَ بهذه القدرة على عرضِ روايةٍ يتحرك أشخاصُها في السماء والأرض والبحر، بسرعةٍ تفوق سرعة الخيال، وتظهر المناظر الطبيعية على أجمل ما تكون بألوانها الأصلية، وتتفنَّن في تصوير الظواهر والكوارث، كالعواصف والأمطار والزلازل والبراكين وصِدام القاطرات، واحتراق الطائرات — على أدقِّ ما تكون من الحقيقة والواقع — ممَّا كاد يؤثِّر في حياة المسرح والمسرحية، بل ممَّا أدَّى إلى أن يتأثَّر بذلك بعض رجال المسرح؛ فأخذوا يُنشِئُون المسارح الدائرة أو الصاعدة الهابطة بالآلات الكهربائية، التي تمكِّنهم من تمثيل مسرحية في أكبر عددٍ من المناظر … ولكنَّ هذا التأثُّر الطارئ، لم يلبث أن ولَّى، وثبت للمسرح والمسرحية ما لهما من تقاليدَ عريقة، وآمن الجميع أنَّ المسرح فنٌّ له صفته الخاصة، وله طبيعته المختلفة عن طبيعة السينما، وأنه ليس له أن يخرج عن صفته وطبيعته ليقلِّد ويتأثَّر، فإنَّ مجد المسرح هو في حيِّزه الضيِّق، ومناظره المحدودة. وإنَّ عظمة المسرحية، هي في القوة الخفيَّة السحرية التي ترغم النَّظَّارة على أن يَنفُذوا إلى أعمق الأسرار البشرية، ويُحيطوا بأسمى المعاني وأجمل المشاعر ويستمتعوا بأبهج الطرائف وأظرف المباهج، من خلال كلماتٍ تُلقَى — لا أكثر ولا أقل — دون معينٍ من حركةٍ خارجية سريعة تُعلِّق النفس، أو ظهيرٍ من صُورٍ متتابعة متغيرة تخطف البصر. هذا التقيد بالحيز الضيِّق في المكان، يكمِّله غُلٌّ آخر هو التقيُّد بالحيِّز المحدود في الزمان! … فليس للمؤلف المسرحي أن يكتب — ويكتب كما شاء له هواه — مثلما يستطيع القَصصي الرَّاوية. ذلك الحر الطليق الذي يملأ الصفحات كما يريد، وعلى قارئه أن يتبعه! … لا … إنَّ المؤلف المسرحي مقيَّد بوقتِ مُشاهِده، وهو له التابع؛ فهو مطالَب أن يكتُب مسرحيته، في حدود الزمن المصطلح عليه في دُور التمثيل. فكلُّ ما يقع في المسرحية من أحداثٍ؛ يجب أن يجري خلال عددٍ معيَّن بالذات من الصفحات، يستغرق في التمثيل قَدرًا معيَّنًا بالذات من الوقت.
شأن مؤلِّف المسرحية هنا شأن الموسيقي أيضًا؛ فهو مقيَّد — هو الآخر — بوقتِ السامع، لا يستطيع أن يمضي في لحنه — مأخوذًا بالتحمُّس، أو الوحي — فيُطيل في تأليفه إلى الحدِّ الذي يجاوز مجلس السماع المصطلح عليه في دُور الموسيقى؛ فالوحي عند الموسيقيِّ ومؤلِّف المسرحية يجب أن ينظُر في الساعة من حينٍ إلى حين، ليعرف الحدود التي يتحتَّم عندها أن يقف!
تلك المعوِّقات والالتزامات التي تُفرض على كاتب المسرحية — قبل أن يحمل القلم ليبدأ في العمل — أغلال أربعة توضع في يدَيه وقدَمَيه؛ لتحول بينه وبين الانطلاق، ليصول ويجول بقلمه حرًّا، كما يباح للآخرين من أهل التأليف!
الحوار
إذا ذُكِرَت المسرحية ذُكِرتْ معها كلمةُ الحوار … ذلك أن الحوار هو أداة المسرحية … فهو الذي يعرض الحوادث، ويخلُق الأشخاص، ويُقيم المسرحية من مبدئها إلى ختامها! … والحوار في أغلبِ ظنِّي كالشِّعر، ملكةٌ تُولد أكثر ممَّا هو شيء يكتسب، وإن كان طول الممارسة والمَرانَة، له بالطبع أثرٌ كبير في الوصول به إلى الجودة والإتقان!
والرأي في أنَّ الحوار ملكةٌ، راجعٌ إلى صفته الضرورية له، وهي: التركيز والإيجاز، والإشارة التي تُفصح عن الطبائع، واللمحة التي توضِّح المواقف! … هذه الصفة لا تناسب كلَّ الناس، ولا تُلاصق كلَّ الأُدباء؛ فمنهم من خُلِق للإفاضة والتحليل والإسهاب، فإذا طلبت إليه أن يُوجز أحسَّ بالضِّيق، وشعَرَ كأنَّك قد حبستَه أو حبستَ قلمه الفيَّاض، وكتمتَ بيانه المسترسل، وحُلتَ بينه وبين سليقته الميَّالة إلى العرض والسرد!
على عكس ذلك الأديب المسرحي؛ فهو يضيق بالإفاضة والوصف والاسترسال، ويحبُّ إصابة الهدف بكلمة، أو رسم الشخصية في إجابة، أو الإحاطة بالمعنى في عبارة. كذلك الشاعر؛ له تلك الطبيعة التي يستطيع بها أن يُضيء الكونَ بشطرِ بيت. ولو أعطيتَه الصفحات، لينثر فيها هذا المعنى الذي وضعه في ذلك الشطر؛ لتعثَّر أسلوبه، وضعُفَ نثره، وشحُبَ معناه، وبدا عليه العيُّ، وغلبتْ عليه الركاكة!
الحوار إذن كالشعر: استعدادٌ طبيعي يميل إليه أولئك الذين يميلون إلى الاقتضاب؛ ذلك أنَّ ألدَّ أعداء الحوار، الإطالةُ والحشو. فهنا أيضًا كالشِّعر، لا مكان فيه للكلمة الزائدة والمعنى المكرَّر؛ لأن كلَّ كلمةٍ تُلقى، لها حيِّزٌ مرقوم ووقتٌ معلوم! … هذه الصلة بين الشعر والمسرحية، ليست ممَّا يُقال على سبيل التشبيه، وإنما هي صلةٌ حقيقية نبتت في الآداب القديمة؛ فقد كان كتَّاب المسرحية في عهد الإغريق شعراءً، وظلَّ الأمر كذلك إلى العصور الحديثة، ولا تزالُ بعض الآداب الأوروبية تسمِّي المؤلِّف المسرحيَّ «شاعرًا»، حتى إنْ كان في كلِّ مسرحياته «ناثرًا»!
والحوار باعتباره أداةَ المسرحية؛ تقع عليه أعباءٌ كثيرة، بل عليه وحده تقع كلُّ الأعباء! … فمنه نعرف قصةَ المسرحية وما انطوت عليه من حوادث ومواقف، وهو لا يقصُّها علينا حكايةً وقعتْ في الماضي، ولكنَّه يُقيمها أمام أعيُننا في الحاضر حيَّةً نابضة تتحرك! … فالحوار هو الحاضر، هو ما يحدُث في اللحظة التي نحن فيها، حاضرٌ أبديٌّ لا يُمكن أن يكون ماضيًا أبدًا … اقرأْ مسرحيةَ «سوفوكليس» أو «شكسبير» أو «موليير» — اليوم وغذا — كما قرأها قبلك بأجيالٍ وقرون أناسٌ كثيرون؛ فإنَّ الحوار يُبرز أشخاصها ماثلين حاضرين، يتكلَّمون ويتحرَّكون في حاضرٍ دائم!
فمهمَّة الحوار إذن، ليست أن يُروى ما حدَثَ لأشخاص، ولكنَّ مهمَّته أن يجعلهم يعيشون حوادثهم، أمامنا مباشرة، دون وسيط أو ترجمان. فإذا قام الحوار بهذه المهمَّة، فإنَّ واجبه لم ينتهِ بعدُ؛ فنحن لا يكفينا منه في المسرحية أن يكشف لنا عن حوادث ومواقف، بل عليه — فوق ذلك — أن يلوِّن لنا هذه الحوادث وهذه المواقف، باللون الموافِق لنوع المسرحية؛ فإن كانت مأساةً تخيَّرَ من الألفاظ ما يُثير في نفوسنا الرهبة والجزع والجلال والخشوع. وإن كانت ملهاةً انتقَى من العِبارات ما يشبع في قلوبنا رُوح الفكاهة والمرح والسخرية والعبرة! … فالحوار في يد المؤلف المسرحي كالريشة في يد المصوِّر، وهي المنوط بها الرسم والتلوين والتكوين وكلُّ ما يوضع على اللوحة من فنٍّ!
ولا تقِفُ مهمَّة الحوار عند رسم الحوادث، وتلوين المواقف، بل هو الذي يعوَّل عليه أيضًا في تكوين الشخصيات، فلا بد لنا أن نعرف من طريقه طبائع الأشخاص ودخائل نفوسهم؛ فهو الذي يجب أن يُظهرنا على ما ظهَرَ منهم وما خفي، ما يفعلون أمامنا، وما ينوون أن يفعلوا. ما يقولون لغيرهم من الأشخاص، وما يُضمرون لهم في أعماق النفوس!
فإذا قام بهذا كلِّه؛ كان عليه واجبٌ آخر: هو خَلْق جوِّ المسرحية! … وهو عملٌ دقيق، لا يبوح لنا الحوار بسرِّه. وليس هو بالعمل المنظور، ولكنه من عجائب الحوار أحيانًا؛ فهذا الجوُّ الشعري السحري الذي ينبعث من مسرحية «العاصفة» ﻟ «شكسبير». ما سرُّه؟ … وكيف استطاع الحوارُ أن يُباعد بينه وبين جوٍّ آخر لقصةٍ أُخرى للمؤلِّف نفسه هي «عُطيل» … ثم هذا الجوُّ المخيِّم على مسرحية «دون جوان» لموليير؛ ما أبعده عن جوِّ مسرحية «الطبيب رغم أنفه»! … وهذا الجوُّ المسيطِر على «فاوست» لجُوته؛ ما أبعده عن الجو المحيط بمسرحيته «إيجونت»؟! … فالحوار هو الحوار. والمؤلِّف هو المؤلف، ولكنَّ الحوار ينسج لكلِّ مسرحية الجوُّ الذي يلائمها!
العجب في الحوار ليس أنَّه يؤدِّي الأغراضَ المختلفة بمفرده، بل العجيبُ أنَّه يؤدِّيها كلَّها في الوقت عينه؛ فقد يُرسل العِبارة من عباراته إرسالًا على لسان شخصٍ من أشخاص المسرحية، فإذا هذه العِبارة محمَّلة بمختلفِ المهامِّ: ففيها إخبارٌ بحادثة، وفيها تكوينٌ لشخصية، وفيها خلقٌ لجوٍّ، وفيها تلوينٌ لرُوحٍ مُظلِم أو مُفرح … مثلها كمثل العِبارة الموسيقية، التي تنطلق محمَّلةً بالنغم الذي يروي ويلوِّن ويكوِّن ويثير، كلُّ هذا في لحظة، وكشأن البيت في القصيدة الشعرية، ينطلق حاملًا إلى النفس عذوبةً ووزنًا وفكرًا ومعنًى وصورًا، كلُّ هذا في آن!
هذا الكلام مُنصَبٌّ على الحوار بوجهٍ عام، باعتباره أداةَ المسرحية. ولكنَّ هذا الحوار، ولو نظرنا إليه بوجهٍ خاص — وهو في أيدي أقطابه — لوجدنا في أساليب ممارسته من العجائب ما يحتاج إلى كلامٍ طويل، ولكنا نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الملاحظات العابرة.
من ذلك ما قد يراه المتأمِّل في أسلوب الحوار عند «شكسبير» في بعض مآسيه، وفي أسلوب الحوار عند «موليير» في بعض ملاهيه. إنَّ المتأمِّل في حوار «هاملت» مثلًا، أو حوار «مكبث»؛ يلاحظ أنَّ طريقة الحديث فيهما — بين الأشخاص — لا تجري على منطقِ الحديث الواقعي — بين الناس — في الحياة! … إنما هو حوارٌ يجري على منطقِ الشِّعر؛ فهو لا يتسلسل بنظامه الطبيعي في الحياة الواقعية، ولكنَّه يتسلسل بنظامه الطبيعي في حياة المعاني النفسيَّة؛ فهو يقفز قفزاتٍ ويعبُر فجواتٍ، ويستعين بالكلماتِ المُضيئة والحِكَم البليغة والصور اللامعة؛ ليصل في صفحاتٍ قليلة إلى أغوار النفوس الإنسانية، وأسرار الطبائع البشرية! … «شكسبير» مؤلِّفٌ واقعي الهدَف، شاعري الأسلوب! … لقد احتفظ بطبيعة الشاعر، وطريقته في معالجته لأدقِّ شئون الحياة والبشر، وشِعرُه وإنْ كان مرسَلًا — أي أقرب ما يكون إلى النثر — فإنَّ رُوحه لم تزَل أرفعَ ما يكونُ الشِّعر، في حين أن «موليير» كتَبَ بعضَ ملاهيه بالشعر المقيَّد الموزون، ولكنَّ حواره يتسلسل دائمًا بنظامه الواقعي في الحياة، ويجري الحديثُ بين أشخاصه، كما يجري في الحياة العادية، لا يعُوقه إلا النَّظْم الذي يضيق به السامع أو القارئ أحيانًا، ولا يدري فيمَ الالتجاء إليه، وكلُّ شيءٍ بدونه — وعلى الرغم منه — غارقٌ في دنيا الواقع! … «موليير» مؤلِّف واقعي الهدف، واقعي الأسلوب، على الرغم من شِعره المقيَّد المنظوم!
هذان لونان من الحوار وُضعا شِعرًا، كلاهما يخلق من الأشخاص الحيَّة ويبرز من خفايا النفوس البشرية، ما اعتبره التاريخ من مفاخر الفكر الإنساني، وهما مع ذلك مختلفان في الأسلوب، أحدهما يجري فيه الحوار برُوح الشِّعر، وإن اقترب من النثر، والآخر يجري فيه الحوار بروح النثر، وإن تقيَّد بالنظم.
هناك لونٌ ثالث من الحوار، لشاعرٍ أيضًا، كتَبَ بعض مسرحياته بالشعر، وهو «إبسن»؛ تجِدُ أنَّ الحديث الذي يُجريه على لسان أشخاصه، يتسلسل بنظامه الواقعي، على طريقة «موليير»، ولكننا نشمُّ مع ذلك عطرًا غريبًا ينبعث من بين حواره، يذكِّرنا بذلك العطر الشِّعري الذي ينبعث من خلال كلماتِ شكسبير؛ فهو مؤلِّف واقعي الأسلوب، شاعري الجوِّ!
هنالك أيضًا لونٌ رابع من الحوار، لشاعرٍ في قصة شعرية، هو «جوته» في «فاوست»، هنا نجِدُ الواقع ليس هو شاغل المؤلف؛ فهو لا يعنيه أن يُظهر أشخاصًا إنسانية، تعيش في محيطها الإنساني ولا تهمُّه مآسي البَشَر، ولا ملاهيهم ولا مجتمعاتهم، وحياتهم ومشاغلهم في ذاتها، ولا من حيث هي؛ إنما الذي يهمُّه في قصته هذه هو علاقة الإنسان بما هو أعلى. هنا إذن مجال الفكر والشِّعر، وهنا نجد أسلوب الحوار عند «جوته» لا يتسلسل طبعًا بنظام واقعي، ولكنه يجري محمولًا على أكتاف الفكر مرةً، وعلى أجنحة الشِّعر مرةً أخرى؛ فهو هنا مؤلف فكري الهدف، شاعري الأسلوب!
هذه ملاحظاتٌ خاطفة على بعض أساليب الجوار، تدلُّنا على أنَّ أداة المسرحية، وإن كانت واحدة، لا تتغيَّر! لأنَّه ما من مسرحية تقوم إلا بها! … فإنَّه — أي الحوار — يختلف لونه وطبيعته وروحه وطريقته، باختلاف طبيعة الفنَّان! وطبيعة العمل الفنِّي!
البناء
إذا ملك أديبٌ مسرحيٌّ ناصيةَ الحوار، فما الذي يبقى أمامه ليُنشئ مسرحية؟ … لا شيء أمامه غير أن يشرع في البناء، ذلك أنَّ المسرحية كيانٌ؛ أي قائمٌ بعضُه فوق بعض، مرتبطٌ جُزؤه بكلِّه في منطقٍ ونظام. هذه الأجزاء الذي يضمُّها هذا البناء، تتكوَّن منها مراحل ثلاث: العرض، فالعقدة، ثم الحل! … أمَّا العرض فمهمَّته تقديمُ الأشخاص وطيف الحادثة التي ستتضح ملامحها فيما بعد، وتتعقد، ثم تنفرج عن الخاتمة.
وطُرق العَرض كثيرة، وهي تختلف باختلاف المؤلف، أو باختلاف المسرحية، كالطريقة التي قدَّم بها «موليير» مثَلًا، بطَلَه في مسرحية «السيد البورجوازي» فهو في «تارتوف» لم يُظهر البطل على المسرح من أول الأمر؛ بل مهَّد لظهوره بحديثٍ بين أشخاص آخرين، تناولوه فيه بالوصف والتحليل والرسم والتصوير. فلمَّا ظهَرَ بعدئذٍ؛ كان المُشاهِد أو القارئ قد عرَفَ عن شخصيته الشيء الكثير، ولم يبقَ عليه إلا أن يتتبَّعه في حوادث القصة؛ ليرى تأثيرها فيه أو تأثيره فيها! … أمَّا في «السيد البورجوازي»، فإننا نجِدُ — على عكس ذلك — بطلَ المسرحية قد ظهَرَ منذ اللحظة الأولى، دون أن يمهِّد له أحدٌ بحديث، ودون أن نعرف من أمره شيئًا، فما يكاد يتكلَّم هو حتى نعرف من كلامه نوعَ عقليته، وكلَّما أوغل في الحديث كشَفَ لنا عن لون شخصيته؛ فالبطل هنا هو الذي يقدِّم نفسه بنفسه من مبدأ الأمر.
هنالك طريقةٌ أخرى، اتَّبَعها «شكسبير» في تقديم بطَلِه «مكبث»؛ فما من أحدٍ مهَّد ﻟ «مكبث» بحديث. وما كشَفَ لنا هو بحديثه عن طِباعه، ولكنَّ حادثةً خاطفة اعترضتْ — عند ظُهوره — فسلَّطت على أغوار نفسه المِصباح؛ تلك هي نبوءة الساحرات … فهو لم يكَد يظهر لنا؛ حتى ابتدرتْه الساحرات متنبِّئات له بالمُلك! … هذا الحدث العارض البسيط، فتَقَ لنا سريعًا قلْبَ «مكبث»؛ فبدا فيه من ألوان الشعور الأثيم، ما كان هو نفسه يجهله طول حياته! … شخصية مكبث الماضية، لم يكُن لها أثرٌ في مستقبله؛ فهو في ماضيه لا غبارَ عليه. ولكنَّ طبعه الطيب في الماضي؛ لا سلطان له على كبح آثامه، ووقْفِ مطامعه في الغد؛ لذلك لم يجد «شكسبير» حاجةً إلى عرض ماضي «مكبث»! … إنَّ «مكبث» عند «شكسبير» هو الطموح الذي يحطِّم القيود، هو المستقبل الذي يلتهم الحاضر والماضي! لذلك بدأت القصة، وكأنَّ أشخاصها يركضون في المستقبل ركضًا، المستقبل الذي غيَّر كلَّ شيء … المستقبل الذي سفك دم كلِّ شيء حتى ماضي البطل الطيِّب!
على عكس ذلك مسرحية «عطيل»! … هنا الماضي هو الذي يؤثِّر في المستقبل، ويدفع إليه … هنا طيبة «عطيل» الماضية — بما فيها من حرارة المغرب ودمه الفوَّار وحمق البطل، ورعونته وجرأته — هي التي أدَّت إلى حدوث الكارثة في المستقبل. أهمية هذا الماضي في مسرحية «عطيل»؛ جعلت «شكسبير» يُعنى بعَرضِ حياة بطله الماضية عرضًا وافيًا حينًا على لسانه، وحينًا على لسان الآخرين!
طُرق العرض إذن تختلف، لا باختلاف المؤلف فحسب؛ بل أيضًا باختلاف الموضوع والشخصية!
فإذا تمَّ العرض؛ فقَدْ بدأت المرحلة الثانية في المسرحية، وهي العُقدة، أي حادثة توشك أن تقع ويترتب على وقوعها نتيجةٌ أو نتائج. أو هي مشكلة اجتماعية أو عاطفية أو فكرية تتهيَّأ للظهور، وينجم عن ظهورها واشتباك أطرافها نتيجةٌ أو نتائج! … على أنَّه ليس من الضروري في كلِّ الأحوال أن يتم هذا الانفصال — بين العرض والعقدة — على نحوٍ واضح؛ فقَدْ يحدُث أحيانًا أن تتداخل المرحلتان إحداهما في الأخرى، كما نلاحظ ذلك في مسرحية «مكبث» أيضًا؛ فهي بدأت بحادثة، هي حادثة النبوءة. هذه الحادثة عرضتْ لنا الشخصية، وهيَّأت لنا العُقدة في الوقت نفسه، وكأننا نرى أشخاصَ المسرحية، يصعدون إلينا من جوف الحادثة، أو لكأننا نجِدُهم أمامنا فجأةً معروضين مخلوقين من نسيجِ تلك العقدة! … على عكس ذلك مسرحية «عطيل»؛ ففيها نرى العرض منفصلًا تمام الانفصال عن العقدة! … هنا المرحلتان متباعدتان! متميِّزتان، إحداهما عن الأخرى … فالعرض هنا يسير بنا شوطًا بالأشخاص في حياتهم المألوفة؛ حتى نعرفهم في ماضيهم وحاضرهم، ونكاد نلمس بعض طِباعهم وأخلاقهم، وإذا العقدة — على مهلٍ — تأخذ في البريق، كالشرارة الصغيرة المتطايرة من احتكاك هذه الأخلاق والطبائع بعضها ببعض، إلى أن يحدُث آخرَ الأمر الحريق!
هنا قد نلاحظ أنَّ طبيعة المسرحية، هي التي تحدِّد طريقةَ بنائها. فإذا كانت العقدة تخرُج من طبائع الأشخاص؛ كان من اللازم عَرضُ هذه الطبائع عرضًا كافيًا قبل الحادثة. وإذا كانت العقدة تخرُج من حادثةٍ من الحوادث الخارجية؛ اندمَجَ العرضُ مع العُقدة وظهَرَا معًا.
هذه ملاحظة، ولا أكثر من ملاحظة، فمن الخطر في الفنِّ أن نتعدَّى حدود الملاحظة إلى سَنِّ القوانين! … والفنُّ نظام، ولكنَّه يكره القانون! … إنَّه حريَّة منظَّمة، حريَّة تنظِّم نفسها بنفسها ولا تقبل أبدًا أن يفرض عليها الآخرون نظامًا؛ فهناك من المسرحيات ما نرى فيها العُقدة تَظهَر من اصطدام الطبائع والأخلاق، ولا تعرض لنا هذه الطبائع والأخلاق إلا وهي مضطربة في خيوطِ العقدة. كما أنَّ هناك من المسرحيات — وخاصة ما وُضع منها في العصور الحديثة — ما لا عُقدة فيها على الإطلاق، إنما هي عرضٌ طويلٌ للطبائع أو الأفكار أو الأخلاق! ومنها ما يرمي إلى خلقِ جوٍّ خاصٍّ يُغمر فيه القارئ أو السامع أو المُشاهد غمرًا، دون أن يكون المقصود رسْمَ شخصيةٍ من الشخصيات الرسمَ الكامل، أو إبرازَ طبعٍ من الطباع الإبرازَ الشامل!
على أن تعدُّد النزعات والاتجاهات، لا يمكن أن يمسَّ دائمًا كلَّ هذه الأركان اللازمة لبناء المسرحية؛ فهو قد يُضعف ركنًا لدعم ركنٍ، أو يقوِّي ركنًا على حساب ركنَين! … إنَّ الفنَّ دائمُ التجدُّد، وهو في تجدُّده لا ينسى — بالخبرة أو السليقة — أركانه اللازمة لارتكازه!
تلك هي مرحلة العُقدة في المسرحية؛ حادثةٌ تتشعَّب أو مشكلةٌ تتشابك. ولكنَّ هذا التشعُّب أو هذا التشابك؛ لا بد أن يصل إلى طرف، أي إلى نهاية!
هذا الانحدار إلى الطرف أو إلى النهاية؛ هو الحلُّ الذي يؤدِّي بالمسرحية إلى خِتامها! … وهو في المآسي؛ غالبًا ما يكون الموتُ عقابًا للبطل الأثيم وحدًّا لحياة البطل المجيد! … وفي المهازل؛ غالبًا ما يكون الزواج هو الختام البهيج … هذه المرحلة الأخيرة في المسرحية تأتي نتيجةً لمَا سبَقَ من حياةٍ، هي الجواب عن سؤال، هي الراحة بعد قلَقٍ معلَّق؛ لذلك يجعلها مؤلِّفُو المآسي الراحةَ الأبديَّة ﻟ «الأبطال»، ويجعلها مؤلِّفُو المهازلِ الراحةَ الدنيوية للمحبِّين؛ لأنهم يعلمون أنَّهم بذلك يُحدِثون شعورَ الراحة في نفوس المشاهِدين!
على أنَّ بعض المسرحيات في العصور الحديثة قد نحتْ نحوًا آخر؛ فلَمْ تجعل من النهاية جوابًا، ولم تُحدِث بها راحة، بل جعلتْ من النهاية سؤالًا كبيرًا يبقى بين جوانح القارئين أو المشاهِدين، وليس له من مجيب. أو جعلتْ منها وقفةً تشيِّع في النفس قلَقًا، ولا تُحدِث شعورًا براحة، ولا تمسُّ العُقدة التي تبقى دائمًا بغير حلٍّ! … ربما كانت هذه النهاية — في بعض الأحيان — أفعَلُ في النَّفْس، وقد أدرك «شكسبير» ذلك في مسرحية «عطيل»؛ فترك الخائن «ياغو» حيًّا أمامنا بعد موت ضحاياه، وهو الذي كنَّا نتمنَّى أن يُسدل الستار على جثته وهي مقطَّعة تقطيعًا! … لم يُرِد «شكسبير» أن يمنح نفوسنا هذه الراحة حتى تظلَّ نفوسُنا القلِقة تلعن «ياغو» طول الأجيال؛ فالمؤلف البارع ليس ذلك الذي يتولَّى بنفسه في كلِّ الأحيان مصايرَ أشخاصه، بل هو ذلك الذي يجعل الناس يتولَّون أمرهم من بعده! … هكذا نجح «شكسبير» في أن يترك «ياغو» المُجرِم قائمًا، يتلقَّى صفعاتِ الأحقاب، على حينِ أنَّ ضحاياه في أحداثهم راقدون تحت قِباب العطف الخالد والحُب الدائم! … ذلك العطف والحُب والتفجُّع، الذي تُمثِّله تلك الصيحة التي خرجتْ من قلب الشاعر الألماني «هايني»: «لا شيء في الدنيا يعزِّيني عن موت «ديدمونة»!»
أما وقد عرفنا شيئًا عن أركان المسرحية، فقَدْ بقيتْ مسألةٌ أخيرة: هذا الكيان المبني الذي يسمُّونه المسرحية؛ أهو ككلِّ بناءٍ يجب أن توضع خطته، وترسم خطوطه، بكلِّ أجزائها وأدقِّ تفاصيلها قبل الشروع في التنفيذ؟ … تلك فيما أعتقد مسألةٌ شخصيَّة، وقد يكون في تاريخ الأعلام من المؤلِّفين مَن كان يفعل ذلك، ومنهم مَن كان يفعل غير ذلك؛ فليس لأحدٍ أن يُملي على فنانٍ طريقةَ عمله! … كلُّ ما لنا من حقٍّ؛ أن نبحث ونلاحظ ونستنتج. فإذا رأينا الفنان يخرج بعد ذلك على ما رتَّبناه من بحوث ونتائج وقواعد؛ فليس على الفنَّان من حرجٍ ما دام قد أخرج في نهاية الأمر أثرًا بديعًا، مَهمَا تكُن الطريقة التي اتَّبعها … على أني أرى، بتجربتي الخاصة، أنَّ المسرحية — وإن كانت بناءً — فهي ليست بالبناء الأصمِّ! … إنَّها بناءٌ حيٌّ؛ لأنَّها مكوَّنة من شخصياتٍ حيَّة تتكلَّم، ومن كلامها قد تحدُث مفاجآت فرعية، لا يمكن للمؤلف أن يحسب حسابها! … إنَّ المؤلف يستطيع أن يحدِّد من قبل طبائعَ أشخاصه وأخلاقهم وخُطى حياتهم ومصايرهم، ولكنَّه لا يستطيع أن يحدِّد تفصيلاتِ أحاديثهم، ولا جزئيات تفكيرهم إلا بعد أن يُباشِر التنفيذ، ويمضي في التأليف!
إنَّ البناء المسرحيَّ لا يمكن أن يكون — بالضبط — كالبناء المعماري؛ فالمهندس إذا رسَمَ مسمارًا على الخريطة، فلا شيء يغيِّره. أمَّا المؤلِّف، فإنَّه لا يضمن بقاءَ جزئيةٍ على حالها لو اندفعتْ شخصيته في اتجاهٍ آخر، على أثرِ كلمةٍ فُجائية، لفَظَتْها شخصيةٌ أخرى! … إنَّ المسرحية عجينةٌ تتطوَّر في يدِ مؤلفها … إنَّها شجرةٌ تنمو تحت إشرافِ بُستاني! … إنَّ المؤلف، بالنسبة إلى أشخاصِ المسرحية، كالقَدَر بالنسبة إلينا؛ فالقدَرُ يعرف ما هو صانعٌ بنا في نهاية الأمر، ولكنَّه يترك لنا حريَّة الكلام! والحركة التي تقتضيها دوافعنا الداخلية!
الطبائع عند شكسبير
يخيَّل إليَّ أنَّ كلَّ شخصٍ يحمل قدَرَه في طيَّات طبيعته؛ فليس في كلِّ الأحوال تهبط الأقدار من السماء على رُءوس الناس. ولكنَّها تصعد أحيانًا، من طبيعة نفوسهم؛ بل إنَّ تصرُّفات الإنسان أمام الأحداث، هي في الغالب صورةٌ من طبْعه ونفسه!
ربما كان فَهْم الإنسان على هذا النحو، هو الذي جعلنا نرى في «شكسبير» عبقريةً عالمة بطبائع البَشَر؛ فهو في مأساةِ «عطيل» صوَّر لنا قائدًا مغربيًّا، أسودَ اللون حادَّ الطَّبع قليلَ التأمُّل، بالغ الجُرأة، ساذجًا إلى حدِّ الحمق، طيِّب النفس إلى حدِّ البساطة! … هذا الرَّجل قد أحبَّ زوجته «ديدمونة» حبًّا مبرِّحًا، فلمَّا سعى بينهما الدسَّاس المخادع «ياجو» بالوقيعة، وأوهَمَ الزوج الطيِّب أنَّ زوجته تخونه؛ تحالفتْ كلُّ عناصر تلك الطبيعة المركَّبة في «عطيل»، وتجمَّعتْ أجزاءُ شخصيته من جنسه الحارِّ وطبعه الحادِّ ورعونته وجُرأته، إلى غباوته وسذاجته؛ فأدَّى كلُّ ذلك إلى الكارثة، وكان ينبغي أن يؤدِّي إليها؛ فهو لم يحاسبْ نفسه طويلًا، ولم يتردَّد كثيرًا، ولم يقلب الأمر على وجوهه، ولم يتأمَّل ولم يتشكَّك، بل هجَمَ على زوجته الرقيقة البريئة يقتلها ويقتل نفسه، وقد علِمَ ببراءتها بعد فواتِ الأوان! … وإنَّ المُشاهد يرى كلَّ هذا يجري إلى هذا المصير، ويكاد يصيح به: «أيها الأحمق! … تمهَّل! … ابحث! … حقِّق!». ولكنه لو سمع إلى هذا القول وتأمَّل وبحَثَ؛ لكان شخصًا آخر غير «عطيل»، بطبيعته التي عُرف بها!
مأساة أخرى ﻟ «شكسبير»، تصوِّر لنا شخصًا آخر هو «هاملت»! … كلُّ ما فيه يناقض شخصية «عطيل»؛ فهو من أبناء الشمال، بارد الطَّبع، أشقر الشعر، عميق الاطلاع، كثير التأمُّل، معقَّد النَّفْس! … هذا الرَّجُل قد علِمَ أنَّ عمَّه قتَلَ أباه وتزوَّج من أمِّه! … علِمَ ذلك من شبحِ أبيه نفسه! … ظهَرَ له ورآه بعينه مع الرِّفاق والحرَّاس، وسمِعَ صوته وهو يُهيب به أن ينتقم له من قاتله … ويستحلفه بقسَمٍ رهيب، ثلاثَ مرَّات، أن يثأر! … ولكنَّ «هاملت» لا يُقدِم، بل يظلُّ يقلِّب الأمر على وجوهه، ويتشكَّك فيما سمِعَ بأذنه، وفيما رأى بعينه، ويمضي يتأمَّل ويبحث ويراقب ويحقِّق … والمُشاهِد يري كلَّ هذا التردُّد، ويكاد يصيح به: «فيمَ كلُّ هذا التأمُّل والتفكير؟ … أقدِمْ! انتقم!» ولكنَّه لو أصغى إلى هذا القول، وأقدَمَ من الفور دون تأمُّلٍ أو بحث، لكان شخصًا آخر غير «هاملت» بطبعه الذي عُرف به!
•••
لطالما خطَرَ لي هذا السؤال: تُرى ماذا كان يحدُث لو أنَّ «هاملت» بطبعه هذا هو الذي كان زوجًا ﻟ «ديدمونة»؟ … وكان «عطيل» بطبعه ذاك — هو الذي كان ابن الملك المقتول؟
أغلبُ ظنِّي أنَّ «ديدمونة» ما كانت تُقتل! … فإنَّ زوجها بطباعِ «هاملت»، وما فيها من مزاج هادئ، واطِّلاع عميق، وتأمُّل طويل، كان يتناول إفكَ الدسَّاس بشكٍّ وحَذَر، وكان يبحث كلَّ كلمة من بُهتانه، ويحقِّق ويدقِّق ويسأل النَّاس، ويتردَّد في اتخاذ القرار الفاجع، إلى أن تنكشف له الحقيقة في آخر الأمر! … وبانكشافها تبرأ «ديدمونة»، وتبطُل المأساة.
كما أنَّ «عطيل» بطبعه الحادِّ وخُلُقه الأرعن وعقله البسيط، وشخصه المقدام، ما يكاد يظهر له شبحُ أبيه، يدعوه إلى الانتقام، حتى يهرع لساعته والسيف في يده إلى عمِّه، فيُغمد النصل في صدره دون تردُّد أو تأمُّل أو تفكير! وبذلك تنتهي الرواية في الفصل الأول، وتبطُل المأساة — مأساة النَّفس المعقَّدة — بما فيها من درسٍ وغوص وتحليل!
ها هنا إذن عبقرية شكسبير! … إنه قبل أن يخلق المأساة أو الكارثة؛ خلَقَ الشخصية التي تصنعها. وقبل أن يخلق الشخصية؛ خلق الطِّباع التي لا بد أن يصدر عنها تصرُّف الشخصية!
لقد أدرك هذا الفنَّان الخالد هذه الحقيقة البشرية وهي: «إنَّ الأقدار والمصاير أجِنَّةٌ في بطون الطبائع!»
من كل ذلك، أرى لزامًا على رجُلِ المسرح أنْ يدرس «شكسبير» دراسةَ فحصٍ وتمحيص! … فلقَدْ كان هذا المسرحيُّ العبقري محلَّ درسٍ في كلِّ آداب العالم، حتى الأدب الروسي الحديث؛ فقَدْ عُني به النُّقاد الرُّوس عنايتهم ﺑ «موليير» و«تشيخوف»، وألَّفوا فيه الكتب والبحوث؛ فلقَدْ كتَبَ الناقد «إسكندر سمير نوف» بحثًا مستفيضًا عام ١٩٣٩م عن إنسانية «شكسبير»، كما كتَبَ الناقد «إسكندر أنيكست» عام ١٩٤٦م يقول: «إنَّ شكسبير — ذلك الأستاذ العظيم — قد خدَمَ بفنِّه أعظمَ المُثل العليا الإنسانية، وأعطى الواقعية في الفنِّ مثالًا لا يُبارى!» … وقد قال مثلَ هذا القول من قبل الناقدُ «قسطنطين دوزهافين» في كتابٍ له عام ١٩٣٦م، ذكَرَ فيه قيمةَ الدرس الذي يتلقَّاه الفنُّ الواقعي الاشتراكي من فنِّ «شكسبير» وتعبيره القوي، وتحليله النفسي العميق وقدرته الفائقة على وضع أعظم المُعضِلات الفلسفية، في صُور حيَّة وأوضاعٍ مسرحية، ملخِّصًا رأيه بقوله: «نحن نحبُّ «شكسبير»؛ لذهنه الحادِّ، ومعرفته الحكيمة للحياة، وحبِّه للنوع البشري، وعبقريته الواقعية المُفعَمة بالفِكر العميق والمشاعر الصادقة!»
عوائق المسرحية عندنا
لو ظهَرَ «شكسبير» في «مصر» اليوم! … ماذا كان يصنع؟ … هل كان يُنتج آثاره الخالدة نفسها؟ … والمقصود بظهوره في مصر؛ أنْ يكون مصريًّا لغته العربية … وأن يكون تراثه الأدب العربي، بصورته المعروفة!
ما من شكٍّ أنه سيقف حائرًا، باحثًا عن نموذج يحتذيه، وهو في مبدأ الطريق! … فما من عبقريٍّ يظهر فجأةً من العدم! … لقد احتذى «بيتهوفن» مثال «موزارت»؛ فكانت «سمفونيته» الأولى تحمل أريجَ هذا الأخير! … كذلك فعَلَ «شكسبير»؛ فهو عندما بدأ يكتب للمسرح الإنجليزي، كانت نماذجه طائفةً من مشاهير المؤلفين في ذلك العهد، مثل: «مارلو»، و«جرين»، و«كيد»! … قال العلامة «هاريسون»: «كان «شكسبير» في أول أمره، يقلِّد الأسلوب الشائع عند مؤلفي المسرح في عصره، تقليدًا بلَغَ من التقيُّد حدًّا جعَلَ بعضَ النُّقاد — فيما بعد — يتساءلون: هل كان هو حقًّا مؤلف التمثيليات الأولى المنسوبة إليه؟»
فإذا فرضنا أنَّ «شكسبير» المصريَّ، قد وجَدَ في الأدب العربي من النماذج ما يسترشد به، ويسير على هداه؛ فإنَّ مشكلةً أخرى لا تلبث أن تقِفَ في سبيله! … ذلك هو العصر الذي يعيش فيه! … فاهتمام الناس بالمسرح في عهد «إليزابيث»، قد حلَّ محلَّه في مصر، اهتمامٌ بالسِّباق، والسينما و«الكباريهات»! … والمسرح لا يمكن أن يزدهر إلا في مجتمع يحبُّه، ويُقبل عليه، ويضعه في المكان الأول من العناية والتقدير! … وازدهار المسرح معناه أنه قد بلغ من القوة والرواج والثبات، مبلغًا يتيح له أن يكفل للقائمين به أسباب. الانقطاع له! … إنَّ من عوامل إتقان «شكسبير» أنه انقطع للتمثيلية، لا يضع شيئًا غيرها … واستطاع أن ينقطع لها؛ لأنها استطاعت أن تُطعمه! … كلُّ فنٍّ لا يستطيع أن يطعم صاحبه يموت! … لأنَّ للفنان فمًا ومعدةً، قبل أن يكون له ذهنٌ وقريحة … وإذا أخذنا بما جاء في كتاب «سدني لي» رأينا «شكسبير» شديدَ الاهتمام بما تدرُّ عليه مؤلفاته من مال، وقد ترك وصيةً — كما ثبت من السجلات القضائية — جديرةً في نظَرِ بعض الباحثين بمُرابٍ لا بشاعر.
فإذا سلَّمنا بأنَّ «شكسبير» المصري؛ يستطيع أن يجد في مصر اليوم ذلك المسرح الذي يقول: «انقطعْ لي، واكتب لي وحدي، وأنا أكفل لك حياتك ومعاشك …» فإنَّ معضلةً أخرى — من نوعٍ آخر — تنهض أمامَ فِكره وهو يُشرع القلَمَ ليكتُب: أيؤلِّف بالنَّظم أم بالنثر؟ … فإذا اختار النَّظم؛ فإنه لن يجِدَ من المألوف في الأدب العربي ذلك الشعر المُرسَل — بغير قافية — ذلك الذي كان مألوفًا عند شعراء المسرح الإنجليزي وقتَ ميلاد «شكسبير»! … والشعر المقفَّى على الطريقة العربية يصلح لنوعٍ محدودٍ من الروايات، لا لكلِّ الأنواع؛ فلا بدَّ له إذن من أن يبتدع، وأن يُغامر! … و«شكسبير» الإنجليزي لم يبتدع في ذلك الأسلوب، ولم يغامر! … ولكنَّه ورِثَ، وأخَذَ، ثم جوَّدَ وأتقَنَ! … فإذا آثر شكسبيرنا المصري أن يكتُب بالنثر، فإنَّ مسألةً أخرى تعرض له: أبالنثر الفصيح يكتُب أم بالنثر العامِّي؟ … فإذا حلَّ المسألة باختيار الفُصحى في الروايات التاريخية والجديَّة؛ فإن الروايات العصرية، التي تصوِّر أشخاصًا شعبية وبيئة محلية، لا يمكن أن يعالجها بالفصحى إلا على حساب الدقَّة في التصوير، والصِّدق في التلوين!
فإذا جازف وغامر واختار لنفسه اللغة التي يقتضيها فنُّه، وقال: «أنا حرٌّ؛ لأنَّ الفنَّ حر!» أو قال، كما قال «موليير»: «إنِّي آخُذ ما ينفعني في فنِّي، حيثما أجِدُه!»؛ فإنَّ مشكلةً كُبرى لم يعرفها «موليير» ولا «شكسبير»، تنهض له الآن صائحة. تلك هي مشكلة النظريات الاجتماعية، والمبادئ السياسية التي تتصادم اليوم، وتتشاجر في عالَمنا الحاضر، فإذا أراد أن يُقيم مسرحه في محيط الملوك والتاريخ والفِكر، كما فعل «شكسبير» الإنجليزي؛ فإن التقدميين يقولون له: «هذه رجعية! … أين الشَّعب؟ … اكتُب عن الفلَّاح، والعامل، والجوع والفقر، وتبسَّط في لغتك، وتواضع في تفكيرك ليفهمك الدَّهمَاء! … لأنَّ الفنَّ هو لهؤلاء!» فإذا اتَّجه هذا الاتجاه؛ انبرى له آخرون من المثقَّفين يقولون: «هذا عملٌ لا وزنَ له في عالم الأدب والفكر، إنما هو إسفافٌ يُراد به التقرُّب إلى العامة! … اكتب للخاصَّة! … فما الفنُّ إلا لهؤلاء!»
فإذا كتب لهؤلاء ولهؤلاء، وأحاط بواسع العلوم، والفنون، والمعارف اللازمة في عصرنا الحاضر لإبداع فنِّ الخاصة، ثم ألمَّ بالبيئات والصُّور واللغات واللهجات اللازمة لإبداع فنِّ العامة، وصور النفسيات، والعقليات، والمبادئ، والأفكار، التي تصطرع في بحرِ هذا العالم الحديث المضطرب؛ فإنَّ ذلك كلَّه يتطلَّب عبقريةً أعجب من عبقرية «شكسبير» الأول!
حقًّا … لو ظهَرَ «شكسبير» اليوم؛ لكان فكرُه تبلبَلَ، وعقلُه تحيَّرَ! … ولكان عمله أعسَرَ، وواجبه أكبر، وعقباته أضخم، ومجهوداته أضنى!
من حُسن حظِّه إذن؛ أنه وُلد في «إنجلترا»، في القرن السادس عشر!
المسرح إتقانٌ وتجويد
شاهدتُ «مدرسة النساء» ﻟ «موليير» تعرضها — في دار «الأوبرا» المصرية — فرقة «لوي جوفه» … وكنت قد شاهدتُ هذه الرواية قبل اليوم بنحو ربع قرن في باريس على مسرح «الكوميدي فرانسيز»؛ فرأيت كيف يوضع الأثر الفني الواحد في ثوبَين مختلفَين من البراعة، والحذق، والذوق!
ذلك أنَّهم هناك؛ يعرفون ما هو الفنُّ؟! … إنه عندهم ليس مجرَّد حكايةٍ تُروى ثم تُطرح؛ إنَّما هو النظرة المتجدِّدة للآثار الخالدة! … ما من واحدٍ هناك يجهل مسرحيات «موليير»! … لقد شبَّت أجيالٌ على مطالعتها في المدارس، ومشاهدتها في الملاعب. ولكنَّ كل جيل يجمع مواهبه، ويحشد تجاربه؛ ليصنع منها إطاره الخاص، الذي يضع فيه الأثر القديم!
لقد شاهدت جيلَين في الفنِّ، يجِدَّان في إظهار «موليير». لكلٍّ منهما، ولا شك، خصائصه ومقوماته، ولكنهما يجتمعان في مزيَّةٍ واحدة هي: الإخلاص، والتجويد، والإتقان!
على أنَّ الذي يحسُن أن نوجِّه إليه النظر، هو موقفنا نحن من هذا الفنِّ، فإنَّ الفرق الأجنبية تفِدُ على دار «الأوبرا» ثم تمضي — وقد تكبَّدنا في سبيل استقدامها الأموال، وبذلنا الجهود — فلا نرى لوجودها أثرًا يُذكر في تقدُّم الفنِّ المسرحي في بلادنا! … ما هو السر؟ … أليس من الحافز للأذهان، أن نبحث عن سرٍّ لذلك الأمر؟ … ربما كانت العلَّة كامنةً في شيءٍ واحد؛ فكرةٌ خاطئةٌ مضمونها أنَّ على مسارحنا أن تُكثر من إخراج الروايات الجديدة، وأن تتجنَّب الآثار الخالدة القديمة؛ فلجأتْ إلى الساقط الغثِّ، تدفع به إلى المُخرجين، يهيِّئونه في عجلةٍ ولهفة؛ لأنهم يعلمون سلفًا المصير الذي ينتظر الرواية! … وهو أنَّها لن تعمِّر فوقَ المسرح أكثر من أسبوع! … وهذا لا يُزعج الفرقة؛ لأنَّها تعتقد أنَّ الجمهور يريد منها روايةً جديدة، كلَّ بضعة أيام!
خطأ هذا الاعتقاد واضحٌ للعيون، حتى لعيوننا هنا في «مصر»؛ فالجمهور، في كلِّ مكان وزمان، لا يريد غيرَ متعة الإجادة … إنَّ الجمهور المصري، كغيره من الجماهير الذَّكية، أفطنُ من أن يذهب إلى المسرح، لمجرد رؤية حكايةٍ تُسرد؛ إنما هو يذهب ليستمتع بفنٍّ يُعرض!
هنا سرُّ النجاح، وهذا هو الذي ثبَّتَ دعائم المسرح الأوروبي: الإعداد الطويل لعددٍ من الروايات قليل؛ حتى يصل الممثِّل إلى درجةٍ من التجويد والإتقان، يقبض فيها على مفتاح الشخصية التي يدرسها! … لقد كان الممثِّل «دي فيرودي» يقوم طول حياته بشخصية «البخيل» ﻟ «موليير» على مسرح «الكوميدي فرانسيز». فلمَّا بلغ السبعين، وهو لم يزل يمثِّل «الدور»، واضطر إلى الاعتزال، سمعه زملاؤه وتلاميذه يقول في حفلة الوداع التي مثَّل فيها «البخيل» للمرة الأخيرة: «اليوم فقط يا إخواني خيِّل إليَّ أني أمسكتُ به … أمسكتُ به!» لقد صدَقَ … إنَّ بلوغَ الإتقان أمرٌ عسير، ولا تكفي فيه حياةٌ بشرية؛ إلا إذا صُبَّت، بأكملها، في عملٍ واحد.
لهذا كان لكلِّ مسرحٍ من مسارح الأرض — منذ وُجِد التمثيل، وأشرق وازدهر — ما يسمُّونه «الربرتوار»، أي التراث الباقي الذي يتجدَّد ولا يختفي، ويرتفع به الممثِّل إذا أتقن، ويبلغ المجد إذا سَمَت به الموهبة، وحمله الكدُّ، ودفَعَه الجِد … لكلِّ مسرحٍ حقيقي تراثُه الدائم؛ ذلك أنَّ هنالك فرقًا جوهريًّا بين المسرح الذي يعرض على خشبته ممثِّلين أحياء، وبين السينما التي تعرض على شاشتها صورًا صمَّاء! … ممثِّل المسرح الحي يتطوَّر، وينمو ويتجدَّد كلَّما مثَّل دَورَه، وفي مقدور جمهوره أن يُتابعه في هذا التطور والتجدُّد، فيَجِد المتعة في مجرَّد متابعة هذا النموِّ، وهذا الجهاد، في سبيل الإتقان والتجويد. في حين أنَّ ممثِّل السينما، قد سجَّل دوره في «الفيلم»، وثبَّته، وجمَّده تجميدًا؛ فمَهمَا يكرِّر الجمهور مشاهدته في نفس الدور؛ فلن يرى جديدًا! من هنا، جاز للجمهور أن يطالب بتغيير الرواية السينمائية كلَّ أسبوع أو أسبوعَين؛ فالسينما المتحرِّكة قوامها الروايةُ المتغيِّرة بموضوعها. ولكن المسرح الثابت، قوامه الممثِّل المتجدِّد بإتقانه!
الإصلاح الخُلقي والتمثيل
مسألةٌ كانت موضوعَ بحثٍ وجدَلٍ في عصورٍ مختلفة! … بدأتْ في أيام «أرسطو»، وأتى فيها برأيٍ دعَّمه بحُجَج، ثم تجدَّدتْ في العصر الكلاسيكي ﺑ «فرنسا» فنبش «راسين» على حُجَج «أرسطو»؛ فأخرجها وشكَّلها بحسب مقتضياتِ عصره، وألحَقَها بمقدمةِ رواية «فيدر»! … ثم بعَثَ هذا المبحث — مرةً أخرى — في القرن التاسع عشر! … بعثه «إسكندر دوماس» الصغير، فأثار بذلك جدلًا عنيفًا بينه وبين معاصريه؛ من كتَّاب ونقَّاد، وتجددتْ بذلك المناقشةُ القديمة في ذلك الموضوع! … رأي «دوماس»: هو الاعتراف بتلك الغاية؛ ففنُّ التمثيل، في رأيه، يجب أن يكون مرماه الإصلاح الخُلقي والأدبي! بل ذهَبَ في ذلك إلى مدًى بعيد، فأوجَبَ تدخُّل الفنِّ التمثيلي في ميدان تلك النظريات الاجتماعية، والمسائل الجدلية المعقَّدة، التي هي من شأن رجال السياسة والتشريع، قائلًا: لِمَ لا نناقش — نحن كتَّاب المسرح — مسألةً اجتماعية هامَّة، كمركزِ المرأة الذي وضعها فيه القانون المدني الفرنسي؛ لنُدلي فيها بآرائنا؟ … إنَّ واجبَ الكاتب المسرحي أن يضع تلك المسائل على المسرح، أمام الجمهور، عارضًا الدواء لمَا فيها من داء.
إنِّي لا أُدهش ﻟ «دوماس» إذا بلغ هذا المدى، فهو ذو المبدأ القائل بأنَّ المسرح يجب أن يكون مفيدًا … لذا نرى فنَّه يرتكز دائمًا على الأفكار الأدبية الاجتماعية؛ فلا يكاد يخلو عملٌ من أعمال فنِّه من البحث في مسألةٍ من هذه المسائل، وبالخصوص المتعلِّقة بالمرأة، وبالأخصِّ مسألة الطَّلاق!
على أنَّ من المجازفة الذهاب وإيَّاه إلى هذا المدى، وإلا اضطُررنا إلى الخروج على قواعد الفنِّ، كما سيأتي ذِكره!
وقد عارض «دوماس»، في رأيه، الناقد المشهور «سارسي» معارضةً شديدة؛ بل لقد جاء على نقيضه تمامًا؛ إذ قال: إنَّ الفنَّ لا يرمي إلى الإصلاح الخُلقي، وإنَّ الغاية الأولى للفنَّانين جميعهم، هي إخراج عملٍ فنِّي جميل! … أمَّا الإصلاح الخُلقي، فقَدْ يكون غايةً ثانوية، وهذا ما قال به «أرسطو» وأخذ به «راسين»!
نحن إذا فكَّرنا قليلًا؛ فإننا نجِدُ قولَ «سارسي» لا يخلو من الصحة! … فبالله مَن من الفنَّانين يودُّ إخراج عملٍ مشوَّه معيب؛ ارتكانًا منه على غرضِ الإصلاح؟ لعَمري إنْ كان يقصد الإصلاح الخلقي لذاته؛ فعنده الطُّرق كثيرة، غير طريق الفنِّ، وبلا حاجةٍ لتشويه الفنِّ؛ بل إنَّ في هذا الطريق القضاء على فكرةِ إصلاحه؛ فالجمهور سيُسفِّه العملَ المعيب كلَّه، غيرَ ناظرٍ لفكرة الإصلاح فيه! … إذن غاية الفنَّان الأولى هي — كما يجب أن تكون — إخراجُ العمل الجميل المُتقَن؛ فها هم أولاء، كما ذكَرَ «سارسي»، عظماء كتَّاب فرنسا «كورني» و«راسين» و«موليير»، وإن شئت فعظماء كتَّاب اليونان، مثل «سوفوكل» و«أرستوفان»! … كلُّهم أخرَجَ آياتٍ في الفنِّ! … والحقُّ، لو دار بخَلَد أحدهم أن يجعل غايته الأُولى الإصلاحَ الخُلقي، لمَا جاءُوا لنا بفنٍّ ما، ولكانت أعمالهم لا تخرُج عن كونها أبحاثًا فلسفيَّة لا أعمالًا فنيَّة!
إنَّ «دوماس»، بتطرُّفه، كاد ينسى أنَّ التمثيل هو فنٍّ؛ فتجب مراعاة قواعده! … ما هو الفنُّ؟! … أليس هو تصوير الحياة الإنسانية؟ … هل للفنِّ بأنواعه المختلفة غايةٌ غير تصوير الحياة الإنسانية؟ … التمثيل، والتصوير، والنحت، والموسيقى والشعر؟ … ألها غايةٌ غير هذه؟ … فالفنُّ إذن هو تقليدٌ ونقلٌ وتصويرٌ للحقيقة الكائنة، وكلَّما أُحكِم التقليد والنقل قرُبَ الفنُّ من الكمال، والعكس صحيح! … فلْنضع أمامنا هذا التعريف، ولنواجه الآن رأي «دوماس»؛ لنرى إلى أيِّ حدٍّ ينطبق عليه هذا التعريف! … يقول: إنَّ غاية التمثيل الإصلاح، وإنَّ الكاتب إنْ هو إلَّا مُصلِح أخلاقي، فمَن هو المُصلِح الخُلقي؟ … أليس هو ذلك الثائر على الأخلاق الموجودة أو بعضها، الهادم للنُّظم المتَّبعة، الناقم عليها، الخالق لمبادئ جديدة يحاول إحلالها محلَّ القديمة؟ فالمُصلِح مخترعٌ وخالق، لا ناقل، ولا مصوِّر، ولا مقلِّد! … فالكاتب المسرحي — إن كان مُصلِحًا — فهو لا شكَّ سيُوجد قواعدَ جديدة، ولن يصوِّر الحقائق الموجودة! … فهل نستطيع وقتئذٍ أن نسمِّي عمله فنًّا؟ … وظاهرٌ أن تعريف الفنِّ لا ينطبق على عمله؛ فهو بمقتضاه مخترعٌ لا فنان!
رأي «دوماس» لا يستقيم إذن مع قواعدِ الفن، إلا إذا اعتبرنا غرَضَ التمثيل وغايته؛ تحليل الأخلاق الموجودة، وأنَّ الكاتب المسرحي هو كاتب أخلاقي مُصلِح أخلاقي! … بهذا الحلِّ الوسط، تتمشَّى مبادئ الفنِّ، مع أعمال مَن يقصدون معالجة المسائل الأخلاقية! … وعندئذٍ — وعندئذٍ فقط — نستطيع تفهُّم أعمال: «كورني»، و«راسين»، و«موليير»! ويمكننا بسهولة أن نُدرك قيمتها الفنية الكبرى! … فأولئك الكتَّاب العِظام كانوا كتَّابًا أخلاقيين، لا مُصلِحين! … فمِن «كورني» الذي صوَّر لنا البطولة والفضيلة الإنسانية، بصورة المثل الأعلى؛ إلى «راسين» الذي قلَّد الحقيقة، والطبيعة كما هي في الواقع … إلى «موليير»، الذي نقَلَ أحوال الجماعات الممثَّلة وأخلاقها، كما كانت في عصره! … كلُّ هؤلاء خُلُقيُّون صوَّروا ونقلوا وقلَّدوا. وإنْ زاد التصوير، أو قلَّ عن الحقيقة؛ ولكنَّهم لم يُدخلوا غريبًا على الحقائق والمبادئ السائرة ولم يخترعوا؛ فهُمْ فنَّانون، وإنَّ أعمالهم — بما فيها من تحليلٍ للأخلاق، ومن تصوير لمَا يجب أن تكون ولمَا هو كائن — كان لها الأثر العظيم في تطهير النفوس، والسموِّ بها إلى مستوًى أعلى.
فنظرية «دوماس» خطِرَة، من حيث إنَّها مُذهِبة لجمال الفنِّ، هادمةٌ لاستقلاله، وليس أدلَّ على ذلك ممَّا صار إليه فنُّ «دوماس» نفسه؛ فمع أنَّ أفكاره ونظرياته الاجتماعية، والأخلاقية في حدِّ ذاتها قيِّمة، وصفاته الشخصية — ككاتب مسرحي — معترفٌ بها؛ فإن إغراقه في أبحاثه ونظرياته، جعلتْ فنَّه مصبوغًا بصبغةٍ صناعيةٍ واضحة، فظَهَر عليه التكلُّف! … وإنَّ أسلوبه الكتابي، مع أنَّه حيٌّ مؤثِّر، فإنَّه يبدو أحيانًا ضخمًا أجوف، تغلُب عليه طريقةُ الخطابة!
وهكذا نرى تدخُّل الأفكار المُبتدَعة، المخالِفة للحقائق في التمثيل، مُفسِدةً له مشوِّهة لبهائه، مُعرقِلة لكماله! … وكما قال «سارسي»، في نقده ﻟ «دوماس»: إنَّه يخشى أن يصير الفنُّ إلى أداةٍ لنَشْر الدعوة، فتذهب بذلك معالِمُ جماله؛ لأنَّ نظرية «دوماس» تدعو بطبيعتها إلى تيسير العمل الفني، وتكييفه بحسب مقتضيات الفكرة الإصلاحية، لا بحسب الحقيقة والطبيعة، وبذلك يظهر العمل مشلولَ الحركة، لا حياةَ فيه!
ويجب ألَّا نعتقد أنَّ في إبعاد الفنِّ عن ثورات الإصلاح تضييقًا لدائرته، أو تقليلًا من فائدته! … يكفي لفساد هذا الاعتقاد، أن نتصوَّر ما يبلغ إليه الفنُّ من فوضى؛ إذا ما تحوَّل المسرح إلى ميدان للجَدَل، وأصبح مَن يشاهد التمثيل كمَن يشهد مجتمعًا علميًّا، فتضيع علينا تلك الفوائد التي نجنيها من رؤية الحياة أمامنا، كما هي على المسرح!
قال «دوماس»: إنَّه سيناقش على المسرح، في روايةٍ سيخرجها حديثًا، نظريةَ وجود الله؛ فقال مُعارِضه «سارسي»: كمْ كنت أُسرُّ وكمْ كان الجمهور يستفيد، لو أنَّ «دوماس» قال: سأصوِّر على المسرح المادِّيين العصريين، وسترون أيَّ صورةٍ مُحكَمة التقليد سأُظهرها.
من الواضح أنَّ فائدة الجمهور أتمُّ، في معالجة مسألةٍ من المسائل التي تخصُّه وتهمُّه، ويتألم منها، أو يشكو! … هنا، المسرح إذا حلِّل، وحلَّ تلك المسائل الموجودة بالفعل؛ كان قد أدَّى ما يجب عليه!
ومع ذلك، فكلَّما مرَّت الأيام يظهر ﻟ «دوماس» مناصرٌ لرأيه، فها هو ذا اليوم «بريو» يجنح جنوح «دوماس» أحيانًا، وعندي أنَّه لا يمكن التنبُّؤ بمصير الفنِّ؛ فربما تتحطَّم غدًا تلك القيود التي تحافظ عليها الآن، كما حطَّم المذهبُ الرومانتيكي القيودَ الحديدية، التي حافَظَ عليها المذهبُ الكلاسيكي زمنًا طويلًا!
من صفات الكاتب المسرحي٢
يعتقد الكثيرون أنَّ فنًّا كالتصوير، يحتاج فيه إلى موهبةٍ خاصة، أمَّا فنُّ التمثيل فلا يحتاج لمواهب، ويكفي القليل من الذكاء للقيام بأعماله!
هذا الاعتقاد باطل! … ونقصر الكلام هنا على الكتابة المسرحية؛ فنقول: إنَّ الكاتب المسرحي شخصٌ مستعدٌّ بطبيعته للمسرح، وإن ما يتطلَّب منه — ليكون كاتبًا مسرحيًّا — موهبةٌ غريزية، مستقلَّة عن المواهب التي تُنتج فنًّا آخر، ونوعًا آخر من أنواع الأدب!
ذكَرَ «فكتوريان ساردو» في خطبةٍ له في «الأكاديمي فرانسيز» صفةً، قال إنَّها لازمة للمؤلف المسرحي، هي: أن تكون لمؤلِّف المسرح حاسَّة مسرحية؛ بمعنى أنَّه لا يدَع أمرًا، أو شيئًا يقع عليه نظره، أو تسمعه أذنه، إلا وتفرغه تلك الحاسة عنده في الشكل المسرحي! … وبعبارة أدقَّ: ألَّا ينظُر ويسمع ما يدور حوله بغير عين المسرح، وأذنه! … فإنْ رأى منظرًا طبيعيًّا جميلًا؛ فلا يؤخذ بجماله من حيث الطبيعة — وإلا كان مصوِّرًا — بل يُعجب به بعينٍ أُخرى، ولغاية أخرى، فيقول: ما أجمله منظرًا في رواية! … وإن أنصتَ إلى محادثةٍ شائقة، أو محاورةٍ طريفة، قدَّرها بأذنه المسرحية؛ فقال: ما أصلحه حوارًا! … وإنْ رأى فتاةً ذات ميزةٍ خاصَّة كالسذاجة أو المكر؛ قال أيضًا بعين المسرح: ما أحرى مثلها بدورِ كذا! … وهكذا في كلِّ شيء … فإن قصصتَ عليه خبَرًا مثيرًا، كجريمةٍ أو مُصيبة؛ سبَقَ إلى ذهنه التصوُّر المسرحي، وبرقتْ أساريره بالإعجاب، وإذا هو يحدِّث نفسه: «موقفٌ بديع! … مأساة رائعة!»
هذه الموهبة الخاصة، والقدرة على تشكيل كلِّ شيء بالقالب المسرحي، هي قوة المؤلِّف المسرحي!
ليس هذا فقط؛ فكَمْ من الحوادث يمرُّ بنا، وتشترك في الشعور به حواسُّنا؛ ومن المواقف المسرحية ما نصادفه، ونشاهده كلَّ يوم، ومع ذلك لا نفطن إليه؛ لأنه من الحياة العاديَّة! … ولكنْ، قد ترى هذه الحوادث والمواقف عينٌ أُخرى تفطن لموضع الجمال منها؛ فتستخرج منها ذلك العمل الفنيَّ الذي نصفِّق له ونُعجب به!
ثم ألَا يعرض لنا — في الحياة مِرارًا — أن يكتب لنا الطبيب تذكرةً بها الدواء، وجُلُّنا بلا شكٍّ نتأمَّل التذكرة، وما كُتب فيها بخطٍّ سريعٍ لا يقرأ، وساءل نفسه كثيرًا: «بالله كيف يستطيع الصيدلي المسكين قراءةَ هذه الطلاسم؟» … وقد يدور بخلَده إمكانُ خطأ الصيدلي، واحتمال إرساله «مسهِّلًا» بدلا من «مقوٍّ»! … ألَا يُحدث هذا موقفًا مسرحيًّا من النوع الهزلي ونحن لا نشعُر؟
وقد ترى ذلك عينُ رجُلِ المسرح؛ فلا تلبث أن تجِدَ في روايةٍ موقفًا كهذا! … شخصٌ في وليمة يتناول مسهِّلًا على اعتبار أنَّه مقوٍّ أشار به الطبيب، وإذا المسهِّل يفعل فعله، وإذا الشخص المدعوُّ أو الداعي في الوليمة قد فطِنَ للأمر، وإذا هو في مركزٍ دقيقٍ مُضحِك!
كلُّ هذا قد تراه على المسرح فتُدهش وتعجب، وتقول في نفسك: «ما أعجب هذا الموقف!» … ولو بحثتَ قليلًا؛ لعلِمتَ أنَّ المؤلف إنما نقَلَ جزءًا من الحياة نقلًا، وأنَّ حواسَّه المسرحية هي التي نبَّهته إلى ما يجب نقله أو محاكاته، أو تصويره.
وإني لأرى الذهاب إلى أبعد من ذلك أحيانًا؛ إذ لا أجِدُ ضررًا في التطرُّف؛ فالكاتب كلَّما قويتْ فيه تلك الحواسُّ المسرحية كان كاتبًا بالطبع، لا صانعًا، ولا مرتزقًا، وكان مثله مثل الشاعر بالفطرة! … والكاتب الذي من هذا النوع — وهو عندي المثَلُ الأعلى للكاتب المسرحي — تمتزج حواسُّه المسرحية بحواسِّه الجثمانية امتزاجًا لا يستطيع معه استعمالَ إحداها منفصِلةً عن الأخرى؛ فهو في معاشرته لأهله وأصدقائه، وفي جلوسه إلى خِلَّانه وعارفيه، وفي مصادقته لمَن لا يعرفه، إنما يستخدم حواسَّه لفنِّه أيضًا؛ فينظر إلى هؤلاء جميعًا بنظرة نافذة، مستشفًّا بها مستغلقَ أمرهم وحقيقة أخلاقهم ونوع مزاجهم ولون ميولهم، قاصدًا بذلك تفهُّم الناس — من حيث هُم ممثِّلون — في ملعب غير محدود، متَّخذًا من حواسِّه هذه وملاحظاته، الأداة الكاشفة التي يعثُر بها على أشخاص رواياته!