الأدب والصحافة
يقول الصحفي:
إنِّي أكتُب؛ ليقرأني أهلُ زماني! … فيقول الأديب:
وأنا أكتب؛ لتُعاد قراءتي في كلِّ زمان!
***
غذاء الشَّعب العقلي
قال «بول فاليري» في حديثٍ له حول القراءة والكتب: إنَّ الإنسانية في جُملتها لا تقرأ اليوم شيئًا غير الصحف! … ثم انتهى إلى هذا القول المستغرَب صدوره منه: «يجب تعليم تلاميذ المدارس أن يطالعوا الصحف! … ولستُ أمزح؛ ذلك أنَّ الشعب — إذا كان هو الحاكم — فإنَّ للحاكم أن يتسلَّم في كلِّ صباح تقريرًا عن حالة مُلكه وحالة العالم! … هذا التقرير موجود في الصحف! … على أنَّه ينبغي تعلُّم كيف يستخرج ذلك منها. إنَّ تحليل صحيفة من الصُّحف، وغربلتها؛ هما رياضة على أكبرِ جانبٍ من الفائدة، وربما على أعظم جانب من القيمة أيضًا! … إنَّ الغذاء العقلي للجنس البشري، إنما يعدُّ الآن إعدادًا في مطابخ الصحف؛ لأنَّ الأغلبية الساحقة — ممَّن يعرفون القراءة — لا يملكون من الوقت لهذه القراءة أكثر من ساعة في اليوم! … وهذه الساعة — التي تُختلس اختلاسًا أثناء ركوب «المترو» أو القطار أو الأكل في مطعم — لا يمكن أن يشغلها غير الصحف!»
هذه حقيقة لا يمكن أن تُنكر، وهي حقيقةٌ مخيفة، يُدهشني كيف أن مفكِّرًا، من طراز «فاليري»، يبسطها بهذا الهدوء! … حقًّا؛ لقد انتقلتْ مهمة تثقيف الشعوب — من أيدي الفلاسفة، والكتاب والشعراء والخطباء — إلى أيدي الصحفيين! … قديمًا كان الناس في البدو والحضر يتناولون أيضًا غذاءهم العقلي في كلِّ حين؛ لأنَّ البشرية لم تنقطع يومًا عن طلَبِ الطعام الذهني إلى جانب الطعام المادي! … ولكنَّها لم تكُن تعرف صحافةً يومية، ولا أسبوعية!
كانت تعرف شعراء الحي، وخطباء الهياكل، وفلاسفة الأسواق! … وكان أولئك في جملتهم قومًا ممتازين؛ أنبتتْهم العبقرية، وأرضعهم النبوغ … كان الغذاء العقلي من يد هؤلاء، بديعًا في أغلب الأحيان مصفًّى، بعيدًا عن السخف والإسفاف؛ لأنَّ الموهوبين لا يسفُّون؛ وإن أرادوا! … هكذا كان المطبخ العقلي في الماضي؛ فهل لنا أن نتفاءل بالمطبخ الحديث؟
•••
في رأيي — قبل التفاؤل أو التشاؤم — أن نتساءل أولًا: هل نوع الثقافة يتغيَّر بتغير المجتمع؟ … لا شكَّ أنَّ هنالك شيئًا يتغيَّر، وأنَّ هنالك شيئًا ثابتًا لا يتغيَّر! … إنَّ ألوان الطعام المادي، قد تغيَّرت وتنوَّعت وتعقَّدت على مر الأحقاب والأزمان؛ فاختفى العصيد والثريد، وظهر في المأكولات من مالحٍ وحلو، ومرطبات ومثلجات؛ كلُّ تنويعٍ وتجديد! … ولكن الفاكهة بقيتْ هي الفاكهة في كلِّ وقت ومكان، كذلك حياة المجتمع تتجدَّد فيها المظاهر وتتعقَّد المشكلات ويظهر الراديو والسينما وأحدث النظريات السياسية والاقتصادية، ولكنَّ شيئًا فيها يبقى بلا تغيُّر، هو الإحساس بالجمال الفكري والفني؛ فإنَّ بيتًا من الشِّعر؛ هزَّ بدوية في خيمتها منذ ألف عام، قد يهزُّ حسناء اليوم في خِدرها طربًا! … وأسطورةٌ خيالية شُغف بها الأقدمون في مصر أو الهند أو اليونان؛ قد تُثير أوروبا الحديثة عجبًا! … فاكهة الذِّهن والقلب، تبقى دائمًا نضِرة! … ما دامت شجرة الحياة الإنسانية باقية باسقة!
•••
إذا تذكَّرنا ذلك، جاز لنا أن ننتظر من صحافة اليوم القيامَ بمهمَّة التثقيف العام، لو راعت هذه الاعتبارات، عند إعداد الغذاء العقلي للشعب.
•••
الصحيفة المثالية في نظري، مائدةٌ يجب أن تكون حافلةً بكلِّ أنواع «الفيتامينات»، يتناول القارئ منها ما يُزجي فراغه وينمي اطِّلاعه ويقوِّي عضلاته المفكِّرة! … أما مَن تقصِّر في واحدةٍ من هؤلاء؛ فهي كالطعام الرديء، يُعطيك شيئًا ويمنع عنك أشياء!
الأدب خادمٌ للجماعة حافظٌ للقِيم
عندما زار «مصر» الأديبُ الفرنسي «أندريه جيد» — وهو الذي مُنح جائزة «نوبل» للأدب — سألتْني صحيفةٌ فرنسية أنْ أوجِّه إليه رسالةً؛ فكتبتُ أقول: «نحن نرحِّب بأندريه جيد، لا لأنَّه فقط أحد بلغاءِ المعبِّرين عن الضمير الإنساني في هذا الزمان، ولا لأنَّه فقط رسولُ الثقافة الفرنسية التي نعرف لها قَدْرها؛ بل لأنَّه، بعد ذلك، يذكِّرنا «بالدور» الخطير، الذي ينتظره العالَم اليوم من رجال الفِكر! … إنَّ العالم اليوم ليضطربُ في لُجَّة أفكارٍ جديدة، تُماثل تلك الأفكار، التي انبثقتْ مع الثورة الفرنسية! … إنَّ مبادئ «حقوق الإنسان» تقابلها اليوم مبادئ «حقوق الجماعة»! … التعريف الحقيقي لعصرنا الحاضر هو أنَّه عصر «الذرَّة» التي ظهرتْ قوَّتها، وعصرُ «الكُتَل» «الآدمية» التي عرفتْ سُلطانها! … إنَّ «الجماعات» لا تسمح الآن لمفكِّر أن يتجاهلها، أو يقف على بُعد منها! … إنَّ أمواجها الهادرة الزاخرة تعلو إليه وتختطفه، وتُرغِمه على أن يعيش معها، أو يغرق في تيارها!»
لقد أصبح ﻟ «العدد» شخصيةٌ ذاتية، وإرادة خاصَّة، وحقوق مفروزة، تريد أن تُثبت وجودها، إلى جانب حقوق الفرد، وشخصيته، وإرادته!
ﻓ «العدد» وقد أحسَّ وجوده يصيح في «الفرد»: أنت لي، فكِّر لي أنا، ومتعني وسلِّني وكُن في خدمتي! … فإذا انعزلتَ وانتحيتَ، وفكرتَ لنفسك، ولأقلية من الخاصة؛ فحُكمك عندنا حُكم تلك الأرستقراطية المحاصرة في هوجاء الثورة الفرنسية!
أهو مبدأ الحرب بين «حقوق الإنسان» و«حقوق الجماعة»؟ … أهو مبدأ الحرب بين «تفكير الفرد» و«تفكير العدد»؟
وهل يؤدي ذلك إلى حربٍ بين رُوح «الكيف» وروح «الكمِّ» لم يسبق لعُنفها مثيلٌ من قبلُ في تاريخ البَشَر؟
ما موقف رجُل الفكر المجرَّد من هذه المشكلة؟
على أنني أخشى أن تكون هذه المسألة أعسرَ من أن يحلَّها فردٌ أو جماعة! … وقد يكون مفتاحها في يد الحياة نفسها، أو القدَر … فنحن في مبدأ الحرب أو في صميمها بين قوتَين … ولم تنتهِ هذه الحرب بعدُ لنعرف مَن المنتصِر؟
ولكنَّ ذلك لا يمنع من التنبؤ والافتراض!
لنا على كل حالٍ أن نتساءل: لماذا نتصوَّر الحرب؟ … وإذا كانت هنالك حربٌ حقًّا؛ فلماذا لا يقوم الصُّلح بين الطرفَين؟ … لماذا لا نشبِّه «المفكِّر الفرد» بصخرةٍ في رأسها منارة، قائمة في وسط البحر، بحر العدد والجماعات! … إنه ليس بمنأًى عن ذلك البحر! … وليس هو أيضًا بالغارق في لُجَّته، ولكنَّه مقيمٌ في أحضانه، تحيط به أمواجه … تضغط على صخرته دون أن تصل إلى رأسه، أو تعبث بمصباحه!
على هذا النحو، تظلُّ العَلاقة موصولةً بينه وبين الأمواج؛ فهي تهدأ وتثور، ولكنَّها تبقى راضيةً مطمئنةً. أشعَّة المنارة منعكسةٌ على صفحاتها، منتشرةٌ على صدرها … فتتقبل النور بنشوةٍ من الزهو، فهذه المنارة العالية لا تُضيء إلا لها، ولا تنهض شامخةً إلا بين يدَيها، ولا تُرسل هذا الوهج إلا إليها!
ولكن الويلُ إذا علمَت الأمواجُ أنَّ هذا النور مرسَل، فوق ذلك، إلى غايةٍ أخرى وهدفٍ أبعد … وأنَّه يقصد، فيما يرمي إليه، أن يُضيء أيضًا طريقَ تلك السُّفن التي تسعى — في المكان والزمان — حاملةً خلاصة الكنوز العليا في حضارة الإنسان! … هنا قد يغضب البحر وتثور الأمواج بدافعٍ من الكبرياء، فهي في «أنانيتها» لا ترى هدفًا غيرها؛ بل هي — في مستواها وسوادها — لا تُبصر سفنًا ولا أفقًا! … إنما ترى ذاتها وحدها، ولا تُبصر ولا تعرف غير ذرَّاتها، ورغوتها وزَبَدها! … ويحملها هواءُ الغرور على الهياج، فتهبُّ هادرةً مزمجِرةً تعصف بالصخر، وتتطاول إلى القمَّة محاوِلةً أن تضرب برذاذها المصباح! … وقد تعنف زوبعتُها وتشتدُّ؛ فتطيح بالمنارة من فوق الصخرة، وعندئذٍ تغمرها وتُغرقها في جوفها منتصرةً … وقد تصمُد المنارة راسخةً فوق صخرتها تتلقَّى لطماتِ الموج، وتمسح عن زجاج مصباحها الرذاذ، وتمضي في رسالتها صابرةً مؤمنة، تُرسل نورها إلى صدر الأمواج، وإلى الأفق البعيد!
تلك صورةٌ صغيرة للموقف، لا أرى في مقدورها أن تحلَّ المُشكِل، أو أن تُجيب عن السؤال، ولكنَّها فرضٌ من تلك الفروض التي تُوضع موضعَ النظر! … أمَّا الحلُّ الحقيقي؛ فلا مناصَ من أن نطلبه في أحداث العالَم التي قد يتمخَّض عنها الغدُ … فنحن مُقبِلون غدًا على ثوراتٍ في الشعوب، وانقلاباتٍ في المبادئ وتطوراتٍ في الأفكار؛ ليس من السهل التكهُّن بعواقبها، ولا الاجتهاد في استنباط نتائجها!
فلْتفعل الأحداث فعلَها، ولْتتغير الأشياءُ وتتطوَّر وتتبدَّل طبقًا لناموس الوجود … ولْنخفض غمار الحروب، ولْنتغير مع الأشياء ونتطوَّر؛ فما نحن إلا بعض هذه الأشياء!
كل ما نرجو ونأمُل، هو ألَّا يغرق «الفِكر» يومًا في ثورة الأمواج؛ فيختفي من الوجود، ويذهب نفعُه للناس … يجب أن يبقى «الفكر» دائمًا وأن يكون خادمًا للجماعات في حاضرها، حافظًا للقِيم العليا اللازمة لتطوُّرها، الراعية لمستقبلها!
الأدب طريقٌ إلى إيقاظ الرأي
إنَّ مهمَّة الكاتب ليست في مجرَّد إقناع القارئ؛ بل في التفكير معه! … ما أرخصَ الأدبَ لو أنَّه كان وسيلةً للَّهو! … لا، إنَّ الأدب طريقٌ إلى إيقاظ الرأي … لا أريد من الكاتب أن يُريح قارئه ويُلهيه، إنما أريد أن يطوي القارئُ الكتاب فتبدأ متاعبه!
أريد من القارئ أن يكون مكمِّلًا للكاتب، ينهض ليبحث معه، ولا يكتفي بأن يتلقَّى، ثم يتثاءب فكره وينام! … إنَّ مهمَّة الكاتب ليست في تحذير النفوس، بل في تحريك الرُّءُوس! … الكاتب مفتاحٌ للذهن، يُعين الناس على اكتشاف الحقائق والمعارف بأنفسهم لأنفسهم!
إنَّ مهمة الكاتب في نظري هي تربية الرأي، وكلُّ كاتب لا يُثير في الناس رأيًا أو فكرًا أو مغزًى يدفعهم إلى التطور أو النهوض أو السموِّ على أنفُسهم، ولا يحرِّك فيهم غيرَ المشاعر السطحية العابثة، ولا يُقرُّ فيهم غيرَ الاطمئنان الرخيص، ولا يُوحي إليهم إلا بالإحساس المُبتذَل، ولا يمنحهم غيرَ الراحة الفارغة، ولا يغمرهم إلا في التسلية والملذَّات السخيفة التي لا تكوِّن فيهم شخصيةً، ولا تثقِّف فيهم ذهنًا، ولا تربِّي فيهم رأيًا؛ هو كاتبٌ يقضي على نموِّ الشعب وتطوُّر المجتمع!
إنَّ واجب الكاتب يحتِّم عليه أن يُحدِث أثرًا ساميَ الهدف في الناس. وخيرُ أثرٍ يمكن أن يُحدِثه عملٌ في الناس؛ هو أن يجعلهم يفكِّرون تفكيرًا حرًّا، أن يدفعهم إلى تكوين رأيٍ مستقلٍّ، وحُكم ذاتي!
الفنُّ إذن أداةٌ من أدوات خَلق الذاتية!
وهو لا يستطيع أن يؤدِّي هذه الرسالة إلا في مجتمعٍ حرٍّ!
لذلك لم يخطئ أولئك الذين قالوا: «الفنُّ هو الحرية!»
والحرية هنا هي الذاتية!
يجب ألَّا يقوم في المجتمع حائلٌ يحول دون تحقيق هذه الذاتية الواعية! … وما دام عملُ الفنَّان لا يقتصر على إمتاع الحسِّ، وراحة الخاطر، وتخدير الشعور؛ بل يرمي إلى إيقاظ التفكير، وتأكيد الذاتية، وتدعيم الشخصية؛ فإننا لذلك نرى الفنَّ لا يزدهر عادةً إلا في مجتمعٍ بزغتْ فيه عواملُ الإحساس بحريَّة الرأي، ونرى الفنَّ لا يموت عادةً إلا في مجتمعٍ خُنقتْ فيه حريَّةُ التعبير عن الرأي؛ لأنَّ الفنَّان يجِدُ عمله معطَّلًا عندئذٍ من ناحيتَين: من ناحيته — هو الذي لا يستطيع أن يُنشئ فنًّا يوحي بتفكيرٍ حرٍّ — ومن ناحية الناس الذين وقفتْ عقولهم في هذا الجوِّ الخانق عن النمو!
فالجوُّ الخانق إذن يُصيب بالعطَبِ والعطل في الوقت عينه: أداة الإرسال، وأداة التلقِّي!
وبهذا يتمُّ الشلل الفكري في الأمة، وتكفُّ شخصيتها عن النمو والنضج، وتظلُّ — بلا حراكٍ — في طَورٍ بدائي من الرُّقي البشري.
من أجل ذلك، أرى أنبلَ جهادٍ للكاتب، هو في سبيل المحافظة على أداةِ الفكر والرأي؛ لأنَّ هذه الأداة هي في الكيان المعنوي بمثابة القلب: مضخَّة يجب أن تعمل حرَّة على الدَّوام، لتكفل النمو والنضج والرُّقي للنوع الإنساني.
تربية الرأي العام
من نتائج الحضارة الحديثة، وآثار التعليم الشامل الموحَّد؛ ظهورُ ما يسمُّونه «الرأي العام» … أي شعور الجماعة نحو موقفٍ من المواقف، وقرارها إزاءَ مسألةٍ من المسائل … وهذا الشُّعور، وهذا القرار ينبعان فجأةً، وفي الوقت عينه، كأنَّهما خارجان من قلبٍ واحد وعقلٍ واحد … لكأنَّ هذا الرأي العام إذن كائنٌ مستقلٌّ، يُخلق ويحبو وينمو، إلى أن يصبح قوةً ناضجة، محرِّكة موجِّهة تؤثِّر في الدولة والمجتمع، ويحسب لها الحكَّام والمحكومون ألفَ حساب.
كيف يوجد هذا الرأي العام؟
إنه يوجد كلَّما وُجِدَت التُّربة الصالحة لظهوره، وهذه التُّربة الصالحة هي الأمَّة الموحَّدة في جنسها وعقائدها وتقاليدها وآمالها وأهدافها.
وكيف يربَّى هذا الرأي العام؟
إنه يربَّى كما يربَّى كلُّ صغير، بالتعليم الشامل الواحد، الذي يكوِّن العقليةَ الواحدة الشاملة … بهذا النوع من التعليم يشبُّ «الرأي العام» على تفكيرٍ واحد. يمكِّنه من أن يبتَّ في مسائله برأيٍ واحد سريع قاطع!
لقد كثُر التساؤل عن «الرأي العام» في بلادنا … وهل له وجودٌ حقيقي؟
في رأيي أنَّ بلادنا من أصلح البلاد تُربة، لوجود رأيٍ عام ناضج قوي، ولكنَّ الذي يُعوزنا هو الاهتمام بتربية هذا المولود … التربية التي تؤهِّله لأنْ يُصبح كائنًا مستقلًّا، واقفًا على قدمَيه، يفكِّر بعقلٍ واحد، ويؤثِّر في الدولة والمجتمع تأثيرًا ظاهرًا فعَّالًا.
التُّربة صالحة، ولكنَّ التربية مُهمَلة!
فكلُّ شيء في مصر يجعل هذا المولود مخلوقًا مشوَّهًا، مضطربًا مُبلبَلَ الفِكر مُشتَّت الرأي؛ لأنَّ كلَّ شيء في بلادنا له نُسَخ متعدِّدة وأثوابٌ مختلفة! … لدينا تعليمٌ أجنبي، وحكومي، وأزهري، ودرعمي، وجامعي، وخارجي … إلخ! ولدينا قضاءٌ شرعي، ووطني! … ولدينا أحياءٌ أوروبية، وأحياءٌ وطنية، وأحياءٌ مختلطة! … ولدينا مُطَربَشون ومُعمَّمون و«مُقبَّعون»، و«مُلبَّدون»، وحُفاةٌ ومُحتذُون و«مُقبقَبون»، ولابسو الزِّيِّ الإفرنجي والزِّيِّ البلدي والزِّيِّ المختلط … أي طربوش ومعطف وجلباب … أو «طاقية» و«بيجامة» و«قبقاب»! … إلخ.
كلُّ هذا الخلط في الأوضاع والتعليم والتربية والإطار الذي يعيش داخله الناس في بلادنا؛ جعَلَ لهم بالضرورة عقلياتٍ مختلفةً. كلُّ عقليةٍ تفكِّر تفكيرًا خاصًّا، وترى الدنيا من زاويةٍ منفردة! … وكان من أثَرِ ذلك أن حُبس كلُّ فردٍ داخلَ حلقةٍ مُنفصِلة، من وضْعِه الذي نشَأَ عليه! … يحسب الدنيا دنياه، ورأيه هو وحده الذي على حقٍّ. لا يفهم جاره، ولا يشعُر بشعور مُواطِن آخر. وبتفكُّك عقلية الأمَّة الواحدة، أو عقلية الرأي العام الموحَّد إلى عقلياتٍ متعدِّدة مختلفة متضاربة؛ يتمُّ تفكُّك الشخصية لأمَّة من الأمم! … وإذا تفكَّكت شخصيةُ أمَّة؛ فمعنى ذلك انحلالها وموتها!
لذلك كان من ألزم الأمور لنا؛ المبادرة إلى الاهتمام بتربية «الرأي العام» … تربية قِوامها توحيدُ ثقافته الأُولى، وتوحيد محيطه ونظرته إلى الأشياء!
إذا عنينا بهذه التربية الموحَّدة العنايةَ الصادقة، ظفرنا بعد قليل بأمَّةٍ قويَّة الشخصية، وبرأيٍ عام موحَّد الثقافة، متَّحدٍ في العقلية!
الذَّوق العام
روتْ إحدى الفرنسيات البارزات أنها قابلتْ يومًا أميرًا من أمراء «أوروبا»؛ فابتدرها يقول: إنِّي شديدُ الإعجاب «بفرنسا»! … حقًّا لقد أنجبتْ عباقرة خالدين!
واعتقدت السيدةُ أنَّه يعني أمثالَ «جان جاك روسو»، أو «فولتير» أو حتى «إميل زولا»! … ولكنَّ ذلك الأمير مضى قائلًا: نعم! … نعم! … يكفي أن يكون فيها ذلك العبقري «جورج أوهنيه»!
فكادَت السيدة المهذَّبة تُصعق، ذلك أن «جورج أوهنيه» هذا؛ ليس أكثر من كاتبٍ يسلِّي الجماهير، ولا يعلو كثيرًا عن كتَّاب رواياتِ الجيب، أو مؤلِّفي القِصص الشعبية والبوليسية، ولا محل له في سجلِّ الفِكر العالي، ولا مكانَ له في صفحاتِ الأدب الرفيع.
هذا مثَلٌ من أمثلة «الذَّوق العامِّي»! … لا يُشترط فيه أن يكون لأميرٍ أو حقير، ولا أن يوجد في أمَّة دون أمة؛ لأنَّ مرجع «الذوق» إلى المدارك والإدراك ينمو أو يتضاءل، ويسمو أو ينحطُّ، تبعًا لطبيعة الشخص، وطريقة تهذيبه ومستوى تثقيفه.
من اليسير أن نجِدَ «الشعور العام» الموحَّد، ولكنَّ من العسير أن نعثُر على «الذوق العام» الموحَّد … لأنَّ الشعور العام يصدر عن الضمير، والضمير قلَّما يختلف بين إنسانٍ وإنسان، أمَّا الذوق فيصدر عن المدارك، وهي تختلف بين طبيعةٍ وطبيعة، وبين ثقافةٍ وثقافة … خُذ شريرًا، وألقِ به في خِضمِّ «الشعور العام» فإنَّك لن تجِدَ وجهًا يشذُّ فيهش له … واعرض طيِّبًا؛ فلن تجِدَ من يُشيح عنه، لأنَّ الخير والشر كالماء والنار، تميز بينهما كل فطرة، دون حاجةٍ إلى معرفة أو مرانة؟
خذْ مفكِّرًا أو كاتبًا، أو موسيقيًّا، أو مصوِّرًا، أو حتى سياسيًّا، واقذف به في بحر الجماهير والجموع، وانظُر العجب الذي يكون … هنا تختلف القِيَم وتضطرب المقاييس، ويبلع البحرُ الكنوز وتلمع فوق سطحه الفقاقيع، وتختفي اللآلئ في صدره وتغوص، ويبرق على شاطئه فارغُ الأصداف؛ لأنَّ التمييز بين الجوهرة والزَّبَد، التفريق بين الصَّدَفة واللؤلؤة، أمرٌ لا يستطيعه في كلِّ الأحيان الضميرُ الطيِّب أو الفطرة السليمة؛ لأنَّ الزيف لا يظهر في الناس صائحًا: «أنا زيف!» بل إنَّه يظهر قائلًا: «أنا الصِّدق، وغيري الكذب!»
ما من دجَّال في الفِكر، أو الفنِّ، أو العِلم، أو السياسة؛ إلا برز للناس في ثياب لامعة برَّاقة، رائعة، جليلة! … وهو يملأ شدقَيه بكلامٍ خلَّاب، يوحي إلى الجمهور الساذج أنه هو الذي يقدِّم إليه أروع ثمرات العقل والقلب، وأجلِّ نتائج الجهد والجهاد!
كيف يستطيع الجمهور المسكين، بإدراكه القليل، ووسائله المحدودة، وتثقيفه الضئيل؛ أن يمدَّ يده إلى الأثواب، وينتزع القشر المطليَّ عن اللباب، ويضع إصبَعه على الحقيقة العارية المختفية من الخجل، أو الغيظ، أو الحياء؟
كم من الخبرة والقُدرة يحتاج الإنسان، ليفرِّق بين حقيقةِ فنَّانٍ وفنَّان، وعالِمٍ وعالِم، وكاتبٍ وكاتب، وسياسيٍّ وسياسي؟
تلك مهمَّة لا تتسنَّى لغيرِ جمهورٍ من الخاصة، أهَّلتْه طبيعتُه وعُدَّته، ومكَّنتْه هبتُه وثقافته … ليتولَّى هذا الفرزَ والتمييز والحُكم، ويكون في يده هو زمامُ الذَّوق الصحيح، ويُناط به هو المحافظةُ على القِيم الحقيقية والمقاييس الباقية.
ما دام الأمر كذلك؛ فلن يكون هناك «ذوقٌ عام» … كما اعتدنا أن يكون في المجتمع «رأيٌ عام»!
وكلَّ ما يمكن أن يوجد في هذا المجال هو «ذوق عامِّي» … لا يفرِّق ولا يميِّز، بل يأخذ الأشياء دون تمحيص، واضعًا الزجاجَ في مستوى الماس، والنفيسَ إلى جانب الرخيص.