الأدب والسينما والإذاعة
السينمائيُّ الحقُّ هو ذلك الذي يجعلك تُدرك أعمقَ ما يمكن من اللمحة التي تخطف بصرك فوق «الشاشة»! … والإذاعيُّ الحقُّ هو ذلك الذي يجعلك تعي أعمقَ ما يمكن من الأصوات التي تسمعها من خلال «الميكرفون»! … والأديبُ الحقُّ هو الذي يجعلك تُدرك عُمقًا جديدًا، كلَّما أعدتَ قراءةَ «الكتاب».
***
الأدب والسينما
إذا ذُكِر «الأدب» تبادَرَ إلى الذهن «الكتاب» … والحقُّ أنَّ الكتاب، هو في أغلب الأحيان، الوعاء الطبيعي الذي يحفظ فيه الأدب! … وإن كان العكس غيرَ صحيح؛ فليس كلُّ ما يُوضع في كتاب، يمكن أن يُعتبر أدبًا! … ولمَّا كان الكتاب أداةَ هيئةٍ بسيطة متينة تستطيع أن تُلازم الإنسانَ في كلِّ زمانٍ ومكان؛ فقَدْ أتاح للأدب الذي يحويه أن يتَّخذ ما يحلو له من دقيقِ المعاني وبعيد المرامي، ورفيع التعبير، وعملية التفكير، اعتمادًا منه على أن القارئ في مقدوره دائمًا أن يتمهَّل ويتأمَّل ويتأمَّل ويطالع ما بين السطور ويُعيد القراءة، ويعاود التفهُّم والبحث كلَّما شاء! طبيعة الكتابة الثابتة يسَّرتْ إذن للأدب إثباتَ ما في أغوار النفس والذهن، وإيصاله في أيِّ وقتٍ إلى القارئ مباشرةً عن طريق مَلَكاته العاقلة!
لو أردنا أن نضع الأدب في إناءٍ آخر، ذي طبيعة متحرِّكة؛ فماذا يحدُث؟
أول إناءٍ متحرك وُضع فيه الأدب من قديم هو الفم، فنتج ذلك النوع الذي نسميه «الخطابة»، أدبٌ في وعاء متحرِّك! … أدبٌ يلفظه الفم، فتتلقاه الأذن، وهذا الفم يتدفَّق تدفُّقًا، دون أن يقف أو يُعيد ما لفظ، تبعًا لمشيئة سامع! … فما لم تتلقفه الأذن ويفهمه الذهن فقَدْ ضاع على سامعه هباءً! … لذلك كان على الخطابة أن تتجنب في كلامها كلَّ ما يحتاج إلى وقتٍ في التفكير، أو جهدٍ في الاستيعاب! … هذا التجنُّب للفكر والتأمُّل والجهد والبحث، يحتِّم عليها الانصراف عن مخاطبة الرأس والاندفاع إلى مخاطبة الشعور! … فالخطيب الجيِّد يجب أن يتخيَّر نوعَ الكلام الذي يشعُر أنَّه يؤثِّر في عاطفةِ سامعه! … والخطيب الجيِّد قد يكون كاتبًا رديئًا! … كما أن الكاتب الجيِّد قد يكون خطيبًا رديئًا، فكلام الخطيب المفوَّه يسرُّك إذا سمعتَه، ولكنَّك — إذا قرأتَه متأمِّلًا — فقَدْ تجِدُه سطحيًّا أجوفَ، كصوتِ الطبل الفخم الفارغ! … ذكَرَ لي المرحوم «خليل مطران» حادثةً في هذا الصدد، قال: «كنتُ مدعوًّا لإلقاء قصيدة في حفلٍ بأحد مسارح «القاهرة» وكان معي «حافظ إبراهيم» وقد أعدُّ هو الآخر «قصيدةً» لتُلقى، كما دفع «شوقي» بقصيدة له هو أيضًا لتُلقى في الحفل؛ فأُلقيَت قصيدة «شوقي» على الجمهور المحتشد في المسرح، فقوبلت بالاستحسان المُصطنَع! ثم نهض «حافظ» وألقى قصيدته فصفَّق له الناس مُجامِلين! … ثم نهضتُ، وألقيتُ قصيدتي، فصفق لي الناس فاتِرِين! … وإذا شابٌّ ينهض مُلقيًا قصيدة، ذات عباراتٍ حماسية، وجُمل طنَّانة، بصوتٍ مجلجِل، ونبراتٍ مؤثِّرة، وإذا المسرح يهتزُّ اهتزازًا بتصفيق الناس، والهتاف يتصاعد كالرعد من الحناجر! … فمالَ «حافظ إبراهيم» على أذني، يبثُّني امتعاضه وسخطه؛ فهمستُ له قائلًا: انتظر إلى الغد حين تنشر القصائد في الصُّحف! … وكان! … ونُشرت في الغد القصائد! … وقرأ الناس على مهل تلك المعاني الرائعة، والصورَ البارعة، والأفكار العالية، والبلاغةَ السامية في شِعر «شوقي» و«حافظ»!»
هذا ما رواه «خليل مطران»! … وهناك قولُّ مثل هذا رواه الناقد المسرحي «سارسي»؛ فقَدْ كان يردِّد دائمًا قوله: «إنَّ الشِّعر الجيِّد يقتل أحيانًا الرواية المسرحية.» … فالشِّعر الجيِّد يقتضي عمقًا وثراءً في الفكرة والصورة والصياغة … وكلُّ هذا يفلتُ إفلاتًا من أذن السامع … أو يُلقي بردًا وفتورًا على حركة الحوادث المسرحية! … والعكس أحيانًا صحيح، فالشِّعر الرديء قد يخدم الرواية المسرحية … فالشعر الرديء، هو ذلك الكلام المنتفخ بالأقوال المأثورة التي يعرفها الجمهور سلفًا، فتمسُّ ذاكرته وتهيِّج أشجانه، فتنطلق أكفُّه بالتصفيق دون أن يعي أو يفكر.
من هذا يتَّضح أنَّ الوعاء المتحرِّك، لا بد له من مادةٍ سريعة الاستيعاب! … وإذا كانت خُطب الخطباء يمكن أن تحفظ بعدئذٍ في الوعاء الثابت بوضعها في كتاب، وكذلك المسرحيات، يمكن أن تحسب في الأدب الثابت بوضعها في كتاب! فمن ألوان الفنِّ، ما لا يمكن أن يقدِّم إلى الناس إلا في وعاءٍ واحد هو الوعاء المتحرِّك، من ذلك فنُّ الصور المتحرِّكة: «السينما»! … فهي فنُّ السرعة التي تخطف البصر … وهي من أجل ذلك، يجب أن تتجرَّد من كلِّ ما يدعو إلى التمهُّل! … فأنت في «السينما» لا تستطيع أن تتمهَّل، لتفهم أو لتتذوَّق أو لتعجب أو حتى لتصفِّق، دون أن تفوتك عجَلات الشريط التي تدور بسرعة البرق! … ولا تستطيع انتظارَ مَن يريد أن يتأمَّل أو يتفكَّر! … هذا الفنُّ السريع يقوم على لغةٍ أخرى غير لغة الأدب المكتوب! … قال لي مُخرِج أجنبي ذات يوم: «إذا أردتَ أن تعبِّر عن معنًى من المعاني، فإنه تكفيك عبارةٌ لغوية قِوامها الكلمات! … أمَّا أنا فأحتاج إلى عبارةٍ سينمائية قِوامها المرئيات!» … والحقُّ أنَّ فنَّان «السينما» عليه — قبل كلِّ شيء — أن يُترجِم كلَّ فكرة إلى حركة منظورة! … في حين أنَّ الأديب يترجم الحركة المنظورة إلى فكرة! … فوقائع الحياة وأحداث المجتمع وحوادث الأفراد، تمرُّ أمام الأديب فيلاحظ دقائقها، ويحاول تصويرها ونقلها إلى الورق! … وهي ذاتها تمرُّ أمام رجُل «السينما» فيلاحظها هو الآخر في دقائقها ويحاول تصويرها ونقلها إلى «الشاشة»، غير أنَّ هنالك فرقًا كبيرًا بين عمل الرجلَين؛ فالسينمائي ينقل أمام مُشاهِده صورةً بالفعل … ولكنَّ الأديب لا ينقل إلى قارئه صورة، بل ينقل معنًى! … هذا المعنى هو الذي يُثير في رأس القارئ صورةً! فالأديب إذن لا يستطيع أن ينقل الصُّور إلا عن طريق المعاني، على حين أنَّ رجُل السينما يستطيع أن ينقل الصور صورًا عن طريقٍ مباشِر … فالمعاني إذن أداة الأديب … كما أنَّ الصور المرئية هي أداة السينمائي … ولمَّا كانت المعاني أوسعَ نطاقًا، وأعمق عالمًا من الصُّور المرئية؛ لأنها تشمل ما يرى بالعين وما لا يمكن أن يرى، كما تشمل كلَّ ما يمكن أن يقع في مرتفعات العقل المتأمِّل وفي أغوار النفس المعقَّدة، وفي أبعاد الذاكرة المُظلِمة، وكلَّ ما يسبح في محيط الفلسفة والتصوف والتفكير والتجرُّد! … فلذلك وقفَت السينما أمام واجهة الأدب المنظور البرَّاقة، دون أن تجرُؤ على ولوج بابه والتوغُّل في دهاليزه وسراديبه!
هذا ما يلاحظه دائمًا أولئك الذين يقرَءُون قِصص الأدباء العِظام في الكتب ثم يشاهدونها بعد ذلك مصوَّرة على «الشاشة» في السينما … ما أقسى النقدَ الذي وُجِّه إلى قصة «آناكارينينا» ﻟ «تولستوي» في السينما! … وإلى قصة «إخوان كارامازوف» ﻟ «دستوفسكي» … وإلى قصة «مدام بوفاري» ﻟ «فلوبير» … بل إلى قصة «ذهب مع الريح» أيضًا، على فرط ما بَذَل في إخراجها من جهد، وعلى قلَّة ما فيها من معانٍ أدبية عميقة! … أكثرُ مَن قرأ هذه القصص في الكتب، خرَجَ بعد مشاهدتها في السينما، يوازن بين الأثر الذي أحدثه الكتاب في نفسه، والأثر الذي أحدثتْه «الشاشة»؛ فيرجِّح أثر الكتاب، موقنًا أنَّ شيئًا ما قد أفلتَ من قبضة السينما! … هذا الشيء الذي أفلَتَ هو الجانب غير المنظور، الذي يستطيع القلم أن ينقل معانيه إلى رُوح القارئ. ولا تستطيع «الكاميرا» أن تُبرزه في صورةٍ تتحرَّك أمام نظَرَ المُشاهِد! … وليس هذا عيبًا للسينما، إنما تلك طبيعتها وتلك حدود قدرتها بالنسبة إلى الأدب؛ فعالم الكتاب أضخم، وأعمق، وأغنى من عالم «الشاشة»: لأنَّ القلم يصِلُ إلى أبعاد في الفكر والنفس، لا تصل إليها «الكاميرا»!
كثير من الأدباء لا يريد أن يفهم ذلك — عندما ينقل أثرًا من آثاره إلى السينما — فهو يتطلَّب من السينما التعبيرَ الكامل عن تفكيره وأسلوبه! … إني لم أزل أذكُر تلك القضية التي رفعها الكاتب المسرحي «هنري برنستين» ضدَّ إحدى الشركات السينمائية؛ لأنَّها رأتْ — وهي تنقُل إحدى تمثيلياته إلى «الشاشة» — أن تنبذ حواره المسرحي الرائع الذي اشتُهر به، وأن تلجأ إلى أحد صنَّاع الحوار السينمائي ليقوم بالمهمَّة؛ فأدَّاها بالطبع على نحوٍ سخر منه الكاتب المشهور وثار له، ولكنَّ الشركة قالت: إنَّ روعة الحوار الأدبي لن يتذوَّقها جمهور السينما الكبير، لن تكون إلا عقبة في سبيل تتبُّعه لحوادث الشريط!
وجمهور السينما — الواسع المنتشر في أسواقها الكثيرة في أنحاء العالم — عقلية واحدة على اختلاف أجناسه! … هذه العقلية يدرسها رجال السينما أدقَّ دراسة، وهم يبنُون مشروعاتهم الفنيَّة على أساسِ هذه العقلية، فهم يُنتجون قصصهم السينمائية استنادًا إلى مستوًى معيَّن من الإدراك العام، يوقنون أنَّه في مقدورِ مختلف الجماهير في مختلف البلدان! … ذلك أنَّ السينما ليستْ حتى الآن مجرد فنٍّ؛ بل هي إلى جانب ذلك صناعة! … والفرق بين الصناعة والفنِّ، أنَّ الفن في جوهره تعبيرٌ حرٌّ عمَّا في نفس الفنَّان، دون نظرٍ إلى أيِّ اعتبار؛ في حينِ أنَّ الصناعة هي تعبيرٌ عن حاجة السوق وحالة المستهلِك! … وهذا ما جعَلَني أُوجس منها خِيفة، وأتردَّد في الاقتراب منها كثيرًا! … ولقد أصغيتُ أخيرًا إلى أحَدِ المُخرِجين، وتركتُه يعرض عليَّ — سرًّا فيما بيننا — مشروعه لقصَّةٍ أراد أن، ينقلها عن كتابٍ لي؛ فهالني أنَّه أخَذَ المظهر والحوادث، وترك اللُّب. فلمَّا ناقشتُه في ذلك؛ قال: الجمهور في السينما لن يفهم غير هذا الجانب الظاهر الواضح! والمهم لدينا هو أن نجعل الجمهور يفهم ما يُعرض!
من الحقِّ أن نذكُر لبعض المُخرِجين محاولاتٍ أملتْها المقاصدُ الفنيَّة الرفيعة، تناولوا فيها بعضَ آثار «شكسبير»، وأظهروها على «الشاشة»، متوخِّين المحافظة بقَدْر المستطاع على رُوح الشاعر وتفكيره وأسلوبه! … قصة «حُلم ليلةِ صيف» التي أخرجها للسينما «ماكس راينهارت» الألماني في «هوليود»، قبل الحرب العالمية الثانية بسنوات! … ومن ذلك أيضًا «هاملت» التي أخرجها أخيرًا في «إنجلترا» الممثِّل الإنجليزي «لورنس أوليفيه»! … على أنَّ هذا الحرص الشديد من هذَين المُخرِجَين، على أسلوب الشاعر وفكره، أرغمهما — عن وعيٍ أو غير وعيٍ — على الابتعاد عن طبيعة السينما، والانزلاق إلى طريقة المسرح؛ فجاء عملهما أقربَ إلى التصوير الفوتوغرافي للمسرحيتَين، منه إلى الوضع السينمائي بمعناه الحقيقي … فمُخرج «هاملت» مثلًا، لفرط إعجابه بشعر «شكسبير»، تركه كما كان في المسرحية، يؤدِّي مهمَّة المُعبِّر الأول عن كلِّ مراميها، واكتفى بتصوير الممثِّلين وهم يُلقونه إلقاء … في حين أنَّ طبيعة السينما كانت تقضي بتحويل هذا التعبير الكلامي إلى تعبيرٍ بالحوادث المرئية، وأن ينقل «الكاميرا» في الزمان والمكان، والماضي والحاضر؛ لا أن يثبِّتها داخل قلعة «إلسينور» طول الشريط، كما كان الحال في المسرحية … للسينما أسلوبها الخاص، كما أنَّ للمسرح أسلوبه الخاص. ومن الإنصاف أن أقول: إنَّ في مقدور السينما أحيانًا — عندما تعثُر على السينمائي الفنَّان الحقيقي — أن تصِلَ إلى الشِّعر بوسائلها الخاصَّة؛ فمن أساطير «والت ديزني» الطويلة ما يكاد يكون من الشعر؛ ثم مَن ذا الذي شاهَدَ رواية «الساحر أوز» ولم يهتزَّ لمَا توحيه من شِعر؟! … شِعر ساذج بسيط، يخرج من الصُّور والألوان، لا من المعاني والكلمات، ولكنَّه يملأ النفس براءةً وراحة وصفاء!
فالأدب إذن بشعره يستطيع أن يكون هو رُوح السينما، وأن ينجح بها وتسمو به، على شرط أن تحتفظ هي بطبيعة كيانها الخاطف المتحرك! … كذلك يستطيع الأدب، بفكره أحيانًا، أن يحلَّ في رأس السينما؛ فيرتفع بمعناها ومرماها … على شرطِ أن تبسُط ذلك الفكر، وتحلِّله إلى عناصرَ سهلةٍ ميسرة، في أشعَّة بصرية سمعية، تسري في نفوس الناس، دون أن تقف طويلًا بعقولهم أو تستوجب جهدًا في الالتفات، أو بحثًا عند التلقِّي!
إنَّ السينمائي الموهوب، هو ذلك الذي يجعلك تُدرك أعمقَ ما يمكن من اللمحة، التي تخطف بصرك فوق الشاشة، على حين أنَّ الأديب الموهوب، هو ذلك الذي يجعلك تُدرك عمقًا جديدًا كلما أعدتَ قراءةَ الكتاب!
الأدب والإذاعة
الإذاعة — هي الأخرى — كالسينما، وعاءٌ متحرِّك للفنِّ والأدب! … وإذا كانت العين هي عمادُ السينما، فالأُذن هي عماد الإذاعة! … وهنا نقطة الاختلاف بينهما؛ فرَجُل السينما يتَّخذ من البصريات لغته التي يعبِّر بها عن مراميه، ويؤثِّر بها في مشاهديه، ولكنَّ رجُلَ الإذاعة يتَّخذ من الصوتيات لغته التي يسيطر بها على سامعيه! … هذا الاختلاف في الأسلوب لا يَحُول دون الاتفاق في الطبيعة؛ فكلاهما يُدرك صفته المتحركة، وما تقتضيه من تبسيطٍ يُغني العقل عن المراجعة! … فالإذاعة تُدرك أنَّها صيحةٌ عابرة، لا تقِفُ حتى يسمعها مَن ذهَلَ أو يفهمها مَن جهِلَ! … كما تُدرك مع السينما جانب الصناعة فيها، وما تستوجبه من مراعاة المستوى الشائع لجمهور المستمعين! … هذا الجانب الصناعي — في الإذاعة والسينما والصحافة — له أثره واعتباره في نوعِ الإنتاج وأهدافه! فتلك أدواتٌ لا تقوم إلا على نظام المؤسسات أيْ على نظامٍ جماعي يعامِل جماعاتٍ … فهي كلُّها إذن لا تستطيع أن تُرضي جماعةً دون جماعة، أو توافق ذوقًا دون ذوق … وهي تضع في حسابها حلَّ هذه المشكلة: إرضاء ذوقِ الأغلبيةِ الغالِبة!
نظام المؤسسة هذا لا نجِدُه في أدب الكتاب، ولا في حساب الأديب … فالأديب الحقُّ يضع تفكيره وأسلوبه في صدرِ كتابه، ويترك بعدئذٍ كتابه يمضي في الزمان والمكان، حاملًا الضوء لمَن يريد هداية! … هدف الأديب تبليغ الناس رسالته، وهدف المؤسسات اجتذاب الجماهير، وهي لذلك قلَّما تفرض رأيًا بعينه، أو تبلغ رسالة بعينها؛ خشيةَ ألَّا يُعجب العدد الذي لا تعنيه تلك الرسالة، ولا يهمُّه ذلك الرأي! … ولكنها في بعض الأحيان — عندما يكون عليها واجبُ الخدمة العامة، كالإذاعة الرسمية في دولةٍ من الدول — تحاول تخصيصَ قدْرٍ من برنامجها لأصحاب الثقافة الرفيعة من المستمعين، وهذا ما تسمِّيه إذاعة — دائمًا — كالإذاعة البريطانية في «لندن» — بالبرنامج الثالث! … ولعلَّ الإذاعة أقدَرُ من السينما على أن تبلِّغ رسالةَ الفنِّ الرفيع بانتظام، على قدْرِ ما تسمح لها به طبيعتُها المتحرِّكة! … ففي إمكانها تخصيصُ محطةٍ أو برنامج لهذا الغرض، دون أن يؤثِّر ذلك في مجرى الإذاعة العامة للناس كافة!
هنالك سؤالٌ بعد ذلك يجب أن يُطرح: هل الإذاعة فنٌّ؟ … هذا السؤال قد طُرح بالنسبة إلى السينما؛ فكان الجواب في أغلب الأحيان بالإيجاب! … والأمر في السينما واضح؛ فالقصة السينمائية أثرٌ له وحدته وطابعه، شأن القصة المسرحية. ولكنَّ الإذاعة ببرنامجها اليومي «جراب» طويل، يحوي أشتاتًا مختلفة لا وحدة بينها ولا طابع؛ من أخبار، إلى أغانٍ، إلى تمثيليات، إلى أحاديث، إلى أركان للمرأة، والطفل، والزارع، والعامل … إلخ.
فالإذاعة، في حقيقةِ الأمر، ليست سوى صحافةٍ مسموعة! … فهل الصحافة فنٌّ بالمعنى الذي يُطلق على الفنون الجميلة المعروفة؟ … إنَّ الفنَّ يقتضي وجودَ فنَّان؛ أي خالق لأثرٍ فني! … فمَن الفنَّان بهذا المعنى في الصحيفة السيَّارة؟ … أهو رئيسُ التحرير؟ … أم سكرتير التحرير؟ … ما من شكٍّ في أنَّ الصحافة فنٌّ يحتاج إلى استعدادٍ وموهبة ودراية وتجربة! … ولكنَّه فنٌّ مختلف، لا يجوز أن يُدرج بين الفنون الجميلة المعروفة؛ فالصحيفة كالمصنع … ولعلَّ أقرب الأشياء في وصفها أنَّها فنٌّ صناعي؛ فالشبه قريبٌ بين مدير التحرير ومدير المصنع! … كلاهما يعمل وبقُربه ضجيجُ آلات! … الإذاعة أيضًا — هذه الصحافة المسموعة — لا ريب في أنَّها فنٌّ، ولكنَّه فنٌّ صناعي أيضًا، وهي الأخرى تعيش في جوِّ الآلات!
على أننا لو نظرنا إلى التفصيلات، وجدنا في الإذاعة ما يمكن أن يُوصف بالفن، ومَن يمكن أن يسمَّى بالفنَّان! … ذلك هو المُخرج الإذاعي في البرنامج! … مَن ذا يُنكر على هذا العمل صفةَ الوحدة والطابع؟! … إنَّ من تمثيليات الإذاعة ما يكاد يصل — بأسلوبِ تقطيعه وانتقاله، ومؤثراته الصوتية، وأغانيه، وموسيقاه ونبراته التعبيرية — إلى طاقةٍ فنية تُثير الإعجاب!
هذا الفنُّ الإذاعي، يدخل كثيرٌ من عناصره وأسراره في نطاقِ السينما الناطقة.
كما أنَّ الكثير من عناصر السينما يقترن بالإذاعة في فنٍّ جديد هو «التلفزيون» … هذا الفنُّ الثالث الذي يلخِّص ما عند الاثنين … أتراه يقضي عليهما؟
ما من أحدٍ يدري! … أغلب ظنِّي أنه سيؤكِّد وجودهما، ويمدُّ في عمرهما؛ لأنَّه سيتَّخذ منهما مادته وغذاءه، فكما أنَّ الإذاعة استمدَّت من المسرح غذاءً لها، سيستمدُّ «التلفزيون» من السينما والمسرح غذاءً له! … وقد تموت الإذاعة بوضعها الحاضر، وتندمج في «التلفزيون»، كما ماتت السينما الصامتة، واندمجت في السينما الناطقة؛ فلا يبقى على قيد الحياة أخيرًا غير الأنواع التي لا يكرِّر بعضُها البعض! … وما من جدالٍ في أنَّ السينما لا تكرِّر المسرح؛ لذلك سيعيش المسرح! … لكنْ، ألَا يكرِّر التلفزيون السينما؟! … أتكون هنالك حاجةٌ إلى السينما بعد شيوع التلفزيون؟ … إذا أصبح التلفزيون صحافةً مسموعةً مرئية؛ فلا بد أن تبقى السينما مقصورةً على الرواية الطويلة الفنية دون الجريدة المصوَّرة، والأخبار السينمائية! … ومع ذلك، لماذا تموت السينما بوضعها الحالي؟ … أَلأنَّ الناس سيقبعون في المنازل يشاهدون، ويسمعون من خلال التلفزيون كلَّ ما كانوا يذهبون من أجله إلى قاعات السينما؟!
العكس هو المحتمل الحدوث! … لقد دلَّت التجربةُ على أنَّ الناس يضيقون بمشاهدة الفنون محبوسين في حجرات البيوت، وأنَّه لا غنى لهم أبدًا عن ارتياد المحافل العامة؛ ليرى بعضُهم بعضًا، ولينعموا بالتمثيل، والغناء، والموسيقى في الجوِّ الحارِّ، المُصطخِب برُوح الجماعة … هذا الرُّوح القديم المتأصِّل في نفوس البَشَر، منذ كانوا يحضُرون حفلاتِ الدِّين والفنِّ جماعاتٍ!
فالحفلاتُ العامة ستبقى إذن دائمًا؛ سواءٌ في السينما، أو التمثيل، أو الغناء، أو الموسيقى، أو حتى المحاضرات والمناظرات، وغيرها من أنواع الاجتماعات … وستعيش أكثر قوةً، وأشدَّ تألُّقًا ممَّا كانت؛ لأنَّها ستكون هي المادة الأساسية التي يستغلُّها، ويتغذَّى بها، ويعيش عليها التلفزيون!
نجوم العين والأذن
مَن المسئول عن الأثر الفني في وحدته وأسلوبه وطابعه في الأدب المكتوب؟ … لا جدال في أنَّ المسئول عن شخصية العمل الأدبي وطابعه هو الأديب، مؤلِّف الكتاب! … ولكنَّ الأمر يحتاج إلى نظرٍ في القصة السينمائية أو التمثيلية الإذاعية! … فعلى الرغم من قوة الموضوع، وقدرة الممثل؛ فإن من العسير أن نحكُم بأنَّ واحدًا منهما بعينه هو المسئول الأول عن الوحدة النهائية، والطابع الشامل للعمل كلِّه … أرجَحُ الرأي أنَّ المسئول الأول عن ذلك في السينما والإذاعة هو المُخرِج.
كتبت ذاتَ يومٍ أقول: إنَّ الكاتب الحقَّ لا يمكن أن يلذَّ له تأليفُ «سيناريو» للسينما؛ ذلك أنَّ السينما تُخضع كلَّ شيء لإرادة المُخرِج، فمُخرِج السينما هو المنسِّق لكلِّ شيء. هو العملاق الذي يطبع العملَ كلَّه بطابعه … فما صانع «السيناريو»، وما واضع الحوار، وما مهندس المناظر والصوت، وما المصوِّرون والممثِّلون … إلخ، سوى عناصرَ متفرِّقة وأجزاء أشتاتٍ، والمُخرِج جامعُها ومُوحِّدها وموجِّهها إلى حيث يصبُّها في القالب الذي يريد! … مثله مثلُ الكاتب الأديب في ميدانه؛ فالكاتب الحقيقيُّ هو أيضًا ذلك الذي يخضع كلُّ شيءٍ لمشيئته … هو الذي يجمع الصُّور، والمشاهدات والملاحظات والتجاريب الشخصية، وحوادث المجتمع، وأخبار التاريخ وأساطير الأوَّلين! … ويستخلص من هذا كلِّه أو بعضه عناصرَ وأجزاءٍ يؤلِّف من بينها عملًا فنيًّا موحَّدًا قائمًا بذاته! فالكاتب الحقيقي هو ذلك الذي يخلُق عالَمًا زاخرًا بالأشخاص التي تحيا وتسعى وتشعُر وتفكِّر، دون أن يحتاج، في إنشاء هذا العالم، إلى غير قلمه وحده! لهذا السبب؛ يجب أن نفرِّق بين المسرحية، وبين «سيناريو» السينما، وتمثيلية الإذاعة! فسيناريو السينما لا يمكن أن يقوم بذاته، ويُقرأ منفصِلًا كقطعةٍ من الأدب! … وكذلك الحال في تمثيلية الإذاعة؛ لأنَّهما مجرَّد عناصر في عملٍ أشمل! … ولا يملكان حياةً مستقلَّة خارج «الفيلم» أو بعيدًا عن «الميكرفون»! … وإذا أُتيح لقارئٍ أن يطَّلع على الكراسة النهائية للسيناريو معدَّة للإخراج السينمائي أو على كراسةِ تمثيليةٍ معدَّة للإخراج الإذاعي؛ فإنه يجِدُ شيئًا لا يصلُح للقراءة! … يجِدُ الجانب القصصي فيهما مبتورًا، والتعبير الأدبي قاصرًا والحوادث والأشخاص تُرى وتُوصف وتُجدَّد معالمها بطُرقٍ أخرى غير طريقة التعبير الكتابي! … وبغير التسلسل المعهود فيما يُكتب ليُنشر ويُقرأ! … كما يجِدُ إلى جانب ذلك اصطلاحاتٍ فنيَّة لحركةِ «الكاميرا» وخطوطِ سيرها، أو لحركةِ «الميكرفون» وقُربه وبُعده، وإشارات الموسيقى، وتضخيم أو تصغير الصُّور والأصوات، وغير ذلك من وسائل التعبير السينمائي والإذاعي التي تملأ الكراسة وتعمل مجتمِعةً على تكوين وحدة العمل!
فسيناريو السينما كتمثيلية الإذاعة؛ كلاهما جزءٌ من كلٍّ، جزء لا قيمةَ له بمفرده؛ لأنَّه بمفرده ليس له كِيانٌ أدبي وفنِّي يمكن أن يُنشر على حِدَة ويكون له قوةُ التأثير والتعبير الذاتية التي للأعمال الأدبية! … كاتبُ السيناريو إذن، وكذلك كاتبُ تمثيلية الإذاعة؛ لا يمكن أن يُعتبرا من الكتاب بمعناهم المعروف في الأدب، على عكس كاتب المسرحية، فهو يستطيع — إذا كان أديبًا — أن يكون مقروءًا لذاته وبذاته؛ ﻓ «شكسبير» و«موليير» و«جوته» كتَّاب حقيقيون؛ لأنَّ قصصهم التمثيلية استطاعت أن تُبرز للإنسانية عوالمَ هائلةً رائعة، تقوم بنفسها بمجرَّد القراءة، دون الالتجاء إلى مسرحٍ وممثِّلين! … ولو كانت آياتهم وآثارهم احتاجتْ كلَّ الاحتياج إلى التمثيل؛ لتُولد وتوجد وتقوم على أقدامها، لمَا سمَّيناهم كتَّابًا وأدباء! … فالكاتب الأديب هو دائمًا كلٌّ لا جُزء! … بل إنَّ طبقات الكتَّاب تختلف أحيانًا باختلافِ قُدرتهم على هذه الكليَّة وهذا التَّمام. فالكتَّاب العِظام في نظري، هم أولئك الذين منحتْهم السماء كلَّ مفاتيح المشاعر البشرية! … فهم قديرون على الإبكاء والإضحاك والارتفاع بالمشاعر والأفكار إلى قِمم الخيال والشِّعر والتصوُّف والهبوط بها إلى أرض الواقع والطبيعة الدنيا!
من أجل ذلك، كان أيضًا هؤلاء الثلاثة الذين ذكرتُهم كتَّابًا عِظامًا كاملين؛ ﻓ «شكسبير» في كوميدياته، وفي مآسيه، وفي شعره؛ قد طاف بكلِّ ما عرَفَ الإنسانُ من مشاعر، وتألَّقتْ أعماله بكلِّ أشعَّة الكون الفكري المعروف! … وكذلك «موليير» قد أثبت في بعض قصصه أنَّه قديرٌ على الجِد قُدْرتَه على الهزل! … أمَّا «جوته» فهو العبقرية الجامعة الشاملة! … في حين أنَّ كثيرين غيرَهم اقتصرتْ عَظَمَتُهم على ناحيةٍ من نواحي الإحساس الإنساني. فجاءت عوالمهم التي خلقوها كواكبَ رائعةً باهرة، سابحةً هي الأخرى في الكون الفكري، ولكنَّ أشعتها لا تحوى كلَّ ما في قوس قُزَح هذا الكون من ألوانٍ وأضواء! … إنَّ الكاتب العظيم لاعبٌ بارع بكلِّ الأوتار! … وهو أحيانًا — شأنه شأن المُخرِج السينمائي والإذاعي — يستطيع أن يضع طابعه على أعمالٍ أجزاؤها ليست من صنفه! … ﻓ «شكسبير» وقد هبط على كثيرٍ من القَصص الإيطالي، و«موليير» على كثيرٍ من القصص الإسباني و«جوته» على كثيرٍ من أساطير القرون الوسطى! … الكاتب العظيم كالفاتح العظيم؛ يقع أحيانًا على أرضٍ ليست له، فيُخضعها لسُلطانه، ويقرُّ فيها نُظُمه وأحكامه، ويصبغها بلونِ تفكيره وحضارته، ثم يضَعُ عليها رايةَ عبقريته؛ ليعترف بها التاريخ!
ولقد أثبتَت السينما أنَّ من بين مُخرِجيها مَن يستطيع أن يكون فنَّانًا عظيمًا، له طابعٌ يتميَّز به، وأسلوبٌ يُؤثَر عنه. فهناك مثلًا سيسيل دي ميل، باتجاهه إلى موضوعات التاريخ أو الأساطير، يُبرزها في إطارٍ ضخم فخم، كما فعَلَ في شريطه الأخير «شمشون ودليلة» وهناك «أرنست لوبتش» بمَيله إلى السُّخرية اللاذِعة، كما كان يمثِّلها شريطه المسمَّى «نكون أو لا نكون»! … وهناك «هتشكوك» بحبِّه لإظهار البراعة، واستخدام الإيحاء، وإشاعة جوِّ السرِّ والغموض؛ كما ظهَرَ في شريطه «ربيكا»! … وهناك «هوايلز» في عزوفه عن البراعة، وحبِّه لإخفاء حذقه تحت ستار البساطة؛ كما فعَلَ في شريطه «أجمل أعوام حياتنا»! … وهناك «رنيه كلير» بنزوعه إلى الفلسفة الساخرة، كما صنَعَ في شريطه عن «فوست» … إلخ … إلخ.
كلُّ واحدٍ من هؤلاء يستخدم «الكاميرا» استخدامَ الأديب للقلم، يعبِّر بها عن لون طبيعته واستعداده، ونوع نبوغه المُكتسَب بالهبة، أو المُكتنَز بالخبرة!
وما من شكٍّ في أن للإذاعة أيضًا مُخرِجيها الممتازين … وإنْ كان ذلك على نطاقٍ أضيق ومجالٍ أصغر! … فالإخراج الإذاعي، ليس له حتى الآن الأهمية والمسئولية التي للإخراج السينمائي؛ لأنَّ تمثيليةَ الإذاعة ليست سوى فقرةٍ واحدة بين فقراتٍ كثيرة، في سلسلة البرنامج الطويل! … وقد يكون لمُحدِّثٍ بارع، أو مُحاضرٍ بارز، أو مغنيةٍ مشهورة، من الاعتبار عند السامعين؛ ما تتضاءل إلى جانبه بقيَّة الفقرات! … وقد يكون لمُخرِج الإذاعة أهميةٌ أكبر إذا تقدَّم «التلفزيون»!
لكنْ، أتُرانا غَالَينَا في أهمية المُخرِج بالنسبة إلى العمل السينمائي؟ … هل معنى ذلك أنَّ الممثِّل المشهور، والمغنية الممتازة، والمؤلِّف الكبير، والمصوِّر القدير؛ كلُّ أولئك ليس لهم في نظَرِ الجماهير وجودٌ ولا تقدير؟! … ربما كان الواقع أحيانًا هو العكس؛ فالجماهير قد تذهب أفواجًا إلى روايةٍ سينمائية؛ لتُشاهِد ممثِّلةً، أو لتسمع مغنية، أو لترى قصةَ مؤلِّف! … بل أكثر من ذلك؛ ربما كان الإخراج رديئًا، ولكنَّ الرواية قد تنجح بسبب مؤلِّف، أو ممثِّل، أو مغنٍّ! … بل في أغلب الأحيان، وإلى عهدٍ قريب، ما كان الجمهور يذهب قَط إلى السينما من أجل مُخرِج! … وما كان اسم المُخرِج، مَهمَا يبلغ شأنه، هو الذي يجذبُ الناسَ أو يدفعهم إلى الحضور!
كلُّ هذا صحيح، ومُلاحَظٌ في كلِّ يوم، ولكنَّ ذلك لا يغيِّر شيئًا في تلك الحقيقة الفنية؛ وهي أنَّ المُخرِج هو المسئول الأول عن وحدةِ العمل السينمائي وطابعه! … والمسئولية الفنيَّة شيءٌ، وعامل النجاح شيءٌ آخر! … فروايةُ «أنا كارينينا» ﻟ «تولستوي»، مثلًا، قد يكون نجاحُها في السينما راجعًا إلى قوة «تولستوي» وحده، وهذا معقول، ولكنَّ ذلك لا ينفي طبيعةَ عمل المُخرِج، حتى إن كان هو المُسيء للرواية، المقصِّر في إبراز معانيها، المُضعِف لقوة مراميها!
فالمخرج قد يكون — وقد لا يكون — هو العامل الأول في نجاح الرواية السينمائية، بل إنَّ المخرج أحيانًا يتلاشى أثره وطابعه، إذا كان ضعيفًا، وكان مؤلِّفه أو ممثِّله عظيمًا … ولدينا الأمثلة: أين طابع المُخرِج في شريط «هاملت» ﻟ «لورنس أوليفيه»؟ … نحن لم نرَ غير طابع «شكسبير» وحده … وأين طابع المُخرِج في قصة «الملكة كريستيانا»؟ … نحن لم نرَ غير طابع «جريتا جاربو» وحدها.
إنَّ من أهل التمثيل مَن يكون له شخصية، تطغى على كلِّ شيء، وتبدو للمُشاهِد مالكةً عليه كلَّ حواسَّه، محتلَّة كلَّ ذاكرته، منذ اللحظة الأولى! … حدَثَ لي ذلك مع ممثِّلين، لم أعرف عنهم شيئًا يوم شاهدتُهم للمرة الأولى واكتشفتُ مواهبهم قبل أن تأخذ مكانها المرموق من سماء الشُّهرة الواسعة! … ومن حقِّي أن أقول اكتشفتُ؛ فليست العبرة بالاكتشاف أن تُوجِد ما كان معدومًا! … إنَّ أمريكا كانت موجودة قبل «كولمبس»، والكواكب والنجوم كانت ملء السماء قبل المراصد وعلم الفَلَك. إنما العِبرة أن تشعُر بالقيم الفنية، تدخل مدارَ حياتك لأول مرَّة!
على هذا النحو، دخَلَ مدار حياتي بعضُ نجوم السينما. من ذلك أنِّي رأيتُ ممثِّلًا مجهولًا، في شريطٍ إنجليزي صامِت، لرواية «أوسكار وايلد»: «مروحة الليدي وندرمير»؛ فحفظتُ اسمه من ذلك الحين، وجعلتُ أرقُبه، وأتتبَّعه طول الأعوام، حتى استوى في ذروة سمائه؛ ثم اعتزل العمل في السينما، وكاد يغُور في ليلِ النسيان … ذلك هو «رونالد كولمان»! … ورأيتُ ممثِّلة في روايةٍ صامتة لا أذكُرها! … ولكنِّي منذ شاهدتُها تمثِّل أدركتُ أنَّها لا بد بالغةٌ شاهقَ القِمَم! كانت تلك الممثِّلة هي «نورماشيرر».
على أنَّ الاكتشاف الذي قد يُدهش حقًّا، هو اكتشافي لتلك الفتاة العجيبة، التي يُحيط تمثيلَها غموضٌ! … كان ذلك في شريطٍ صامت، في روايةٍ غريبة الموضوع والإخراج، لم يَجرُؤ أحدٌ على عرضها، في دارٍ كبيرة شهيرة من دُور «باريس»؛ فعِرضتْ في دارٍ متواضعة، يؤمُّها نفرٌ خاصٌّ من النَّظَّارة المشغوفين بكلِّ طريفٍ غير مألوف! … كانت هذه الفتاة البارزة المظهر، الرائعة الجوهر، ذات الوجه المُقتصِد في الانفعال، والنفس الزاخرة بالأسرار، تجعلني أشعُر أنَّ هذه الممثِّلة لن تختفي بانتهاء الرواية، ولا بانتهاء رواياتٍ مُقبِلة! … إنَّها شيءٌ يجب أن يبقى ويعيش؛ لأنَّ مَن رآها لا يمكن أن ينساها! … إنَّها حُلمٌ لا تكفيه الحياةُ في قِصص، إنَّها حُلمُ جيلٍ وعصر! … كانت هذه الممثِّلة الصغيرة، يومئذٍ هي «جريتا جاربو».
ولكنَّ اكتشافي الذي بقي لي وحدي، ولن يشاركني في الإعجاب به كثيرٌ من الناس — لأنَّهم قد لا يعلمون شيئًا — هو ذلك الممثِّل الذي كان يقوم بدورٍ صغير إلى جانب الفتاة «جريتا جاربو»، في تلك الرواية الأُولى القديمة! … كان يقوم بدورِ «جزَّار» في حيٍّ فقير! … منذ رأيتُه يومئذٍ، وأنا أخِفُّ لمشاهدته في كلِّ رواية يظهر فيها! … لقد رأيتُه من حُسن حظِّي في رواياتٍ سينمائية صامتة بالطبع، مأخوذةٍ عن درامات «إيسن» وشهِدَ الله كمْ أبكاني! … لا لأنَّه كان يريد أن يُبكي مشاهدِيه. على النقيض، لقد كان يعيش في الشخصية التي يمثِّلها على نحو يُثير كوامن النفس! … لقد كان هذا الممثِّل يؤدِّي دورَه على صورةٍ لا أظنُّ لها شبيهًا حتى اليوم في نظري، ولن يستطيع قلمي أن يصِفَ فنَّ هذا الرَّجُل؛ فهذا فنٌّ ارتفع في ابتكاره، وحلَّقَ في غرابته إلى ذُرى عجيبة! … ولم يمضِ هذا الممثِّل بالفعل في طريق الشهرة العالمية؛ فَقَد انقطع عن «السينما»، ولم يبدُ له أثرٌ في الأشرطة الناطقة، ولم أتتبَّع مصيره، ولا ما انتهى إليه! … كلُّ ما بلغني عنه أنَّه رفَضَ الانغمار في عالم السينما، وآثر العمل في مسارح «ألمانيا» موطنه! … وقيل لي إنَّه من عُمَد المسرح الألماني، غيرَ أنِّي لم أرَه إلا في تلك الروايات الصامتة الغريبة التأليف والتمثيل! … كان هذا الممثِّل يُدعَى «وارنر كراوس»! … هذا ممثِّل لا يريد فنُّه أن يبرح ذاكرتي! … لقد أرسل في ذهني أشعَّة، وكشَفَ لنفسي عن أكوانٍ، ثم اختفى كما يختفي كوكبٌ قصيٌّ ويغيب في هوَّة الفناء السرمدي، تاركًا ضوءه يلمع في سمائنا الأعوام!