لمحة في حياتها
يُخيَّلُ إليَّ أن آلهة اليقظة والنشاط شاءت أن تتفقَّد الشرق حوالي منتصف القرن الماضي، فنشأت فئة من فُضليات النساء على مقربة من الرجال الذين قُدِّر لهم أن يكونوا عاملين في صرح الشرق الجديد. فوُلدت عائشة عصمت تيمور في مصر سنة ١٨٤٠م، ووُلدت في تلك الأعوام بسوريا وردة الترك، ووردة كبا، ولبيبة صدقة وغيرُهنَّ. ووُلدت زينب فواز صاحبة «الرسائل الزينبيَّة» و«الدُّر المنثور»، في صيدا سنة ١٨٦٠م. ووُلدت في العام نفسهِ فاطمة عليَّة ابنة المؤرخ التركي جودت باشا. وهي رغم كونها كتبت بالتركية فإن لها الحقَّ أن تُذكر بين أديبات العرب؛ لأنها عرفت لغتهنَّ، وانتشر صيتها في أقطارهن، وعاشت طويلًا في بلادهن التي جاءتها طفلةً في عامها الثالث يوم تولَّى والدها ولاية حلب بعد أن كان وزيرًا للمالية في الدولة العثمانية. ويوم أن وُلدت زينب فواز وفاطمة عليَّة، أي سنة ١٨٦٠م، كانت وردة اليازجي في الثانية والعشرين من عمرها. لأنها وُلدت سنة ١٨٣٨م، هي ومريانا مرَّاش الشاعرة الحلبيَّة في عام واحد.
تذكُرنَ، أيتها السيدات، أن ذوي المواهب البارزة ينقسمون إلى فريقين أوَّلين، ينقسم كل منهما بعدئذٍ إلى أجزاء صغيرة شتَّى؛ وهما أولًا: الفريق الذي يشذ عن محيطهِ ويسبق جيلهُ بإدراكهِ وفطنتهِ وابتكارهِ. وثانيًا: الفريق الذي هو ابن محيطهِ وابن يومهِ، تتلخص عندهُ مدركات جماعتهِ وعواطفها فيحدثهم عنها بلهجةٍ بليغة قريبة المنال.
والفريق الأول يكثُر مناهضوه في الغالب فيظل منفيًّا في قومهِ، غريبًا في جماعتهِ. إنْ هم أنالوه مرَّةً ما لا يضنُّون بهِ وبأكثر منه على من هو دونهُ، فإنهم يكفِّرون عن ذلك بتعذيبهِ بعدئذٍ ووضع العراقيل في سبيله ما استطاعوا. ولا ينفك الحسد والعجز يهاجمانهِ بالدسائس والوشايات والتحريف والانتقاص، غير مغتفرين له ما تفرَّد بهِ. قلائل هم أبناء هذا الفريق. ولكنهم رسل الإلهام.
بل هم المستقبل الذي يحيا في الحاضر، ومنهم تنبثق الأفكار الكبيرة والآراء النيِّرة، وأياديهم هي التي تنثر أنفس البذور، وأصواتهم هي التي ترسل أجرأ الصيحات. فلا يُثمر جهادهم إلَّا بعد وفاتهم؛ يوم يشبُّ النشء الجديد متوقدًا يقظًا فيتلقف مبادئهم ويحققها شيئًا فشيئًا. وإني لأضرب لكُنَّ مثلًا بواحدٍ من هؤلاء؛ وهو قاسم أمين الذي اضطُهد في سبيل دعوتهِ إلى الإصلاح الاجتماعي. وتولَّى ربعُ قرن تقريبًا، فإذا بآراء قاسم أحيا اليوم منها في حياتهِ. لقد أنضجها الدهر على مهل. فتناولتها بمعانيها الأصلية القويمة فئة من صفوة رجال الأمة ونسائها.
أما الفريق الآخر فيتكلم بلغة أبناء جيلهِ، ويعبر عن حاجتهم، ويشعر بما بهِ يشعرون. فيكونون أقرب إلى فهمهِ وأبعد عن مناهضتهِ؛ لأنه ثمرة هذا الوسط؛ نشأ على ما كان ينبغي أن ينشأ، وأظهر من شخصيتهِ مثالًا كريمًا وجاء بأحسن ما يُنتظر منهُ. وكأنَّ أهل هذا الفريق هم الذين يغذُّون الجمهور بما يناسبه لينمو، ويقودونه خطوةً خُطوةً نحو مستقبل يصير عنده أهلًا ليدرك ما يريده أهل الفريق الأوَّل؛ جماعة الشاذين والخياليين والنَّظريين كما يسميهم «العمليُّون»!
من أهل الفريق الثاني كانت وردة اليازجي. نشأت في أسرة يقوم على رأسها ذلك الأستاذ الكبير والدها الشيخ ناصيف الذي كان في طليعة العاملين لإيقاظ الشرق الأدنى من غفوتهِ. وقد اقتفى أثره في الفضل والده العالم اللغوي الشيخ إبراهيم، والأديب الشاعر الشيخ خليل اليازجيان، فكانت هي باستعدادها الأدبي وتوقُّد جنانها جديرةً بأن تكون ابنة هذا الوسط بالمعرفة والاجتهاد كما هي ابنته بالدم والقُربى.
فقرضت الشعر في الثالثة عشرة من عمرها، وتعاطت التدريس مدةً في إحدى المدارس الأهلية. وكانت في بيت والديها تساعد على الاعتناء بتربية أخواتها وإخوتها الاثني عشر وهي رابعتهم. وظلت بعد زواجها ابنة وسطها وابنة يومها؛ شرقية تلبس الطربوش، وتأتزر عند الخروج من البيت، وتشرب القهوة التركية على وقع نقير الماء المعطر في قلب الشيشة الفارسيَّة، وتنتسب لأسرة أبيها على الطريقة العربية.
ولا علم لنا بتاريخ حياتها الفردية، وهل هي كانت بها سعيدة أم غير سعيدة. ولا أثر لتلك الحياة الخاصَّة في شعرها الذي لا يرسم إلَّا الخطوط الظاهرة، ولا يتكلَّم إلا عن الحوادث المألوفة من زواج وولادة وموت. وإذ أستجوبُ صورةً لها من صنع شقيقها الشيخ إبراهيم وهي في سن الخمسين — أشعر بوضوحِ أنها كانت في طبيعتها أغنى منها في شعرها.
وكان زوجها من أهل العلم كذلك؛ فظلت تنظم بعد الزواج، واستخرجت من منظوماتها ديوان «حديقة الورد» الذي طُبع أوَّل مرَّة في بيروت سنة ١٨٦٧م؛ أي بعد زواجها بعام واحد. وأُعيد طبعه بعد عشرين سنة. ثم طُبع مرة ثالثة سنة ١٩١٤م في مطبعة هندية بمصر. وكانت تضيف إلى كل طبعة جديدة خير ما نظمته في تلك الفترة، حتى استقرت الطبعة الثالثة على نحو مائة صفحة من القطع الكبير. وهي هذا الكتاب الذي ترين، أيتها السيدات.
وكانت الشاعرة قد انتقلت بعد وفاة زوجها سنة ١٨٩٩م إلى الإسكندرية فصرفت فيها بقية حياتها مع ولدها الدكتور سليم شمعون، من خيرة أطباء الثغر. ولها ابنة تُدعى لبِيبَة يظهر أنها نشرت بعض آرائها في الصحف، ولكني لم أطَّلع على شيءٍ من تلك الكتابات. وتُوفيت الشاعرة في أوائل هذه السنة وهي في مطلع عامها السابع والثمانين. فذوى بها الغصن الأخير من الدوحة اليازجية الأثيلة.