نثرها
يقول جورج أفندي باز: إنها نشرت بعض المقالات في الصحف والمجلَّات. وأكبر الظنِّ أنها جُمعت كلها في «حديقة الورد»؛ حيث نجد تقريظ مجلَّة الفردوس وفتاة الشرق وغير ذلك، فضلًا عن مراسلتها لعائشة تيمور.
على أن ليس في تلك السطور غير المجاملة والثناء. والرسالة التي عبَّرت فيها عن رأيٍ اجتماعيٍّ نُشرت في «الضياء» قبل أن تُجمع في «حديقة الورد». ونهتم بهذا الرأي بعد أعوام؛ لأنه يعالج مشكلًا من مشاكل وقتنا. ومعلوم أن المشاكل الاجتماعية وغير الاجتماعية لا تُحلُّ في يوم وليلة.
بل تقتضي مرور الزمن لتتناولها الأقلام بالتمحيص. ثم يأتي المران بنبذ ما يَحسن نبذه، واستبقاء ما هو في مصلحة المجتمع؛ فهي تنتقد المرأة الشرقية لتفرنجها حتى صارت تخجل باستعمال لغتها والسير على عادات وسطها وتهزأ بقومها لتفاخر بأنها أجنبية؛ ظنًّا منها أن كل الارتقاء في اقتباس قشور المدنية وظواهرها في الأزياء والأساليب وتلك الفوضى في السلوك التي تسميها خطأ باسم الحرية. في حين — تقول السيدة وردة — كان على المرأة الشرقية أن تنظر إلى أختها الغربية من الوجه الآخر؛ فترى اهتمامها بالأمور الجدية، وبراعتها في العلوم والفنون وسائر دوائر النشاط الإنساني، وكيف أن المرأة الغربية — رغم تأنقها — تقوم بواجبها نحو الأسرة والمجتمع واللغة والوطن. وتستحثُّ اليازجيَّةُ بنات الشرق للرجوع عن ضلالهنَّ وإكبار اللغة العربية — وإن هنَّ تعلمن اللغات الأخرى وأحببنها — وذلك تشبُّثًا بعاطفة الوطنية ورغبة في النفع القوميِّ. ولتجعل نداءَها أبقى أثرًا تعمد إلى ذكر بعض شهيرات العرب من كواتب وشواعر، وتضرب بهنَّ المثل لتستفز همَّة بنات العصر وتدفعهنَّ إلى العناية بصالح الأمة.
وهذا النداء الذي سمعنا مثلَه ولكن بلهجة أخرى من عائشة تيمور، وبعدئذٍ من باحثة البادية، نصغي إليه اليوم باحترام وشكر وافتخار. نصغي إليه باحترام؛ لأنه صوت الإخلاص، صوت الغيرة والحماسة، ولأنه جليل نبيل. ونصغي إليه بشكر؛ لأننا إن نحن سرنا اليوم خطوةً في طريقنا على بصيرة فبفضل هؤلاء الذين تقدَّمونا وتركوا لنا صيحاتهم المباركة يتردد بيننا صداها المتزايد بانضمام أصواتنا إلى أصواتهم. ونسمع هذا الهتاف بافتخار؛ لأن نداء الموتى لم يذهب ضياعًا، بل نهضت المرأة في مصر، في سوريا، في جميع أنحاء الشرق العربي بمقدار ما يسَّرَ لها الوسط والأحوال. نهضت تتطلَّع إلى الحرية النبيلة وتتعرَّف حدودها، وتعزز قوميتها ووطنها ولغتها.
نسمع هذا الهتاف بافتخار؛ لأن نفوسنا اتسعت وعمقت فصارت ترى للأدب والشعر دورًا ساميًا جليلًا. مضى وقت التقريظ والمدح والثناء وتنميق الألفاظ. وتناول الأدب جميع مظاهر الحياة القومية في الأخلاق والتهذيب والفنِّ والاجتماع والسياسة، وترويج الدعوة الوطنية للنهوض بالنفوس إلى آفاق العلوِّ والنخوة والشمم والاستقامة. نفهم الأدب اليوم كما يجب أن يفهمهُ العائشون في هذا العصر، إنه لحافل بعجائب العلم والاكتشاف والاختراع، هذا العصر الذي سخَّر فيهِ الإنسان العناصر لخدمتهِ وحاجتهِ. العجائب أصبحت مألوفة لدينا. فأيُّ عجيبة في التليفون، والتلغراف اللاسلكي، والكهربائية، وفي قاطرات الحديد، والسفن والبواخر والطيارات، وأشعة رنتجن التي تنفُذ إلى داخل الجسم فترى منه الخبايا والتفاصيل كمن ينظر إلى سطحهِ! وأي عجيبة في عديد الاكتشافات في الرياضيات والكيماويات، في قياس الأشعة، في تحديد دورة الكواكب، في التخاطب بين القارات، في معجزات الطب والجراحة والهندسة! إن عجائب العلم لا تُحصى، وهي في خدمتنا في كل شأن من شئوننا، في حياتنا الفردية والمنزلية، في يقظتنا القومية، في مناهضة المراتب وثورات الأمم.
نحن نعرف أن نُعجب بما تركه الذين تقدَّمونا، ولكن في تحدِّيهم التقهقر لا التقدُّم. هم قالوا كلمتهم الموافقة لعصرهم. فعلينا أن نقول الكلمة التي توافق عصرنا. وردة اليازجي ترى كل المنفعة من علم المرأة في تربية البنين، ونحن نوافقها على ذلك. وسيوافقها كل جيل حصيف في كل عصر، على أن هذا ألزم واجبات المرأة. وأن أكبر فخرها أن تكون مليكة المنزل وعبدتهُ، وتعزية الرجل، والبطلة الكبيرة في سكوتها وانزوائها، التي تتربَّى في حضنها الذراري وتتهذَّب بين يديها الشعوب. ولكنَّ تأثير المرأة ليس مقصورًا على هذا؛ لأن الأمومة ليست اختيارية، وقد تكون المرأة أفضل أُمٍّ وأفضل زوجة فيظل عليها أن تتمَّ أمورًا أخرى شتَّى.
المرأة اليوم تستطيع أن تعمل وتؤثر في جميع الجوانب. تعمل بتذكية العاطفة الوطنية في أبناء الوطن ببث الشهامة والنبل في نفوس رجاله، في تعزيز كيانهِ المعنوي بالحرص على مصالحهِ الجزئية، بالسهر على مهود أطفالهِ، بتكييف النفوس الغضَّة من فتيانهِ، بترقية لغتهِ، بنشر فكرهِ، بتمجيد البليغ من أقلامه، بترويج صناعتهِ وفنهِ ومنسوجاته، بالاقتصاد، وإحكام وضع الأشياء في مكانها. تؤثر بإنعاش روح الوطن، بتقدير تاريخه، بالثقة في مستقبله، بعبادةِ شاراتهِ وأعلامهِ!
الشرق ينهض، أيتها السيدات، وهنيئًا لمن أدرك كل ما في المسئولية من فخر، وكل ما في العمل من نصر. الشرق ينهض ولو كانت جباه رجالهِ مثقلة بالأحزان، وجماعات من شبيبتهِ منصرفة إلى اللهو والنسيان! الشرق ينهض، وهنيئًا لكل من كان بعملهِ وقلمهِ وصوتهِ ذا أثر في تكييف النفوس! وهنيئًا لطلاب العلم بالممكنات التي يتمتعون بها ممتازين بذلك عن كل جيل سبقهم؛ لذلك كان ما يُنتظر منهم أعظم من كل ما جاء بهِ غيرهم.
علمت أمس الأوَّل أن سيدات بيروت اكتتبن لصورة وردة اليازجي وأهدينها إلى دار الكتب الأهلية في تلك المدينة؛ لتُرفع صورة الشاعرة بين صور كبار الرجال والعلماء.
هذا في بيروت. وحسبها في تقدير فضلها هنا أن تجتمع اليوم على ذكرها السيدات المصريات وغير المصريات فيُحيين من اسمها النفحة الشجية!
وليكنْ لكنَّ من هذه الذكرى أثرٌ يبقى بعد هذا الاجتماع.
فلتحمله ربَّات البيوت؛ لأن «وردة العرب» كانت بنتًا مباركة، وأختًا حصيفةً، وزوجة وفيَّة، وأمًّا صالحة! ولتحمله ناظرات المدارس والمعلمات؛ لأن الشاعرة بتعاطيها التدريس وعنايتها بأخوتها وأخواتها في حداثتهم كانت مثالًا يُحتذى ومثلًا تُستمدُّ منه التعزية في مهنة التعليم الشاقة النبيلة.
ولتحمله الطالبات اللاتي سيجتزن عمَّا قريبٍ عقبة الامتحان السنوي. فاليازجية كانت تلميذة نشيطة وإن لم يكن لها وسائطهن، وظلت طول حياتها تطلب العلم وتوصي بالمعرفة والاستنارة. وليقُل ذكرها لكل منا إن العمل الصالح الذي تأتيه المرأة يتخطَّى جيلَها ويخدم الأجيال التالية، كما أن حبة القمح في أرض خصبة تضمن تغذية الجماهير في مقتبل العصور.
فلتذكر نساءُ مصر وردة اليازجي وأخواتها السوريات الناهضات كما تذكر نساءُ سوريا عائشة تيمور وباحثة البادية وأخواتهما المصريات الناهضات! وليتأثرن بذكرها وفضلها كما تتأثر بنات سوريا بنهضة المرأة المصرية فيتحمسن لها ويفاخرن بها!
وحسبي ابتهاجًا — أنا ابنة القطرين — أن أرسم صورةً ولو واهية من امرأة شرقية لأخوات شرقيات أحبُّ منهن الوطنية، واهتف مثلهنَّ هتاف الحماسة، وأنشد من قدوتهن التقدم والعرفان وخير الأوطان!