أمانة
انحلَّت كل الحبال التي تربط الباخرة «سياتل نمبر فور» بالمرسى، وأخذت الباخرة تبتعد رويدًا رويدًا عن الشاطئ. تكدَّسَت البضائع والأمتعة على سطحها الذي اكتظَّ أيضًا بحشد غير متجانس من الهنود والكلاب وقائدي زلاجات الكلاب والتجار والمُنقِّبين عن الذهب الذين كانوا في طريق عودتهم إلى الوطن. اصطفَّ عدد كبير من أهل دوسن على الشاطئ، ليقولوا وداعًا. مع رفع معبَر الباخرة، واندفاعها في تيار الماء، بدأ صخب عبَّارات الوداع يصم الآذان. فقد بدأ الكل في تلك اللحظة الحاسمة يتذكَّر رسائل الوداع الأخيرة، ويصيح بها لتتردَّد أصداؤها عَبْر المسافة الفاصلة التي أخذت تزداد مع توغُّل الباخرة في المياه. وكان لويس بونديل يبرم شاربه الأصفر بيد ويلوِّح بالأخرى بفتور لأصدقائه على الشاطئ، حين تذكَّرَ فجأةً شيئًا ما، وهرع إلى الدرابزين.
فصاح: «يا فريد! يا فريد!»
اندفع «فريد» المراد بكتفيه العريضتين لطليعة الحشد المجتمع على الشاطئ، وحاولَ تبيُّن رسالة لويس بونديل. واحمرَّ وجه الأخير وهو يَصيح دون جدوى. وعلى ذلك أخذَتِ المسافة تزداد بين الباخرة والشاطئ.
ثم صاح في حجرة القيادة قائلًا: «مهلًا أيها القبطان سكوت! فلتوقف المركب!»
رنَّ الناقوس، وعكست العجلة الكبيرة القائمة في مؤخرة السفينة اتجاهها، ثم توقَّفَت. فانتهزت جميع الأيادي على الباخرة وعلى الشاطئ فرصة هذه المهلة لتبادل كلمات وداع أخيرة جديدة مُلحَّة. وبجهد أكثر عبثًا من ذي قبلُ حاول لويس بونديل أن يجعل صوته مسموعًا. فقدت الباخرة «سياتل نمبر فور» السيطرة وانجرفت مع التيار، وكان على القبطان سكوت المبادرة والرجوع للخلف مرَّة أخرى. اختفى رأسه داخل حجرة القيادة، ثم ظهر في اللحظة التالية خلف مكبر صوت كبير.
هكذا صار صوت القبطان سكوت واضحًا، حتى إن كلمة «اصمتوا!» التي صاح بها في الحشد على سطح الباخرة وعلى الشاطئ، كان من الممكن سماعها فوق قمة جبل موزهايد وبعيدًا في مدينة كلوندايك. نشر هذا الاحتجاجُ الرسمي من حجرة القيادة صمتًا غطَّى على الضجيج.
سأل القبطان سكوت: «حسنًا، ما الذي تريد قوله؟»
«قل لفريد تشرشل — إنه على الشاطئ هناك — قل له أن يذهب إلى ماكدونالد. فلديه في خزانته حقيبة صغيرة تخصُّني. اطلب منه أن يأخذها ويأتي بها حين يعود.»
وسط جو الصمت أذاع القبطان سكوت الرسالة على البر من خلال مكبر الصوت:
«إلى فريد تشرشل، اذهب إلى ماكدونالد، ستجد لديه في خزانته حقيبة صغيرة، إنها تخصُّ لويس بونديل، الأمر مهم! هاتِها حين تأتي! هل سمعتَ؟»
لوَّح تشرشل بيده إشارةً إلى أنه سمع. والحقُّ أنه لو كان ماكدونالد، الموجود على بُعد نصف ميل، قد فتح نافذته، لكان سمعها هو أيضًا. ارتفعت جلبة الوداع مرَّة أخرى، ورنَّ الناقوس، ومضت السفينة «سياتل نمبر فور» في سبيلها، مُنطلقةً، وهي تهتز في مجرى الماء، مبتعدة عن البر، متجهة نحو يوكون، بينما يلوِّح بونديل وتشرشل بالوداع والود المتبادَل لآخِر لحظة.
كان هذا في منتصف فصل الصيف. وفي الخريف من العام نفسه، أبحرت الباخرة «دبليو إتش ويليس» في نهر يوكون وعلى متنها ٢٠٠ مسافر عائدين إلى الوطن. وكان من بينهم تشرشل. وفي حجرته الخاصة، وسط حقيبة ملابسه، كانت هناك حقيبة لويس بونديل. كانت شيئًا صغيرًا متينًا من الجلد، وكان وزنها البالغ ٤٠ رطلًا دائمًا ما يجعل تشرشل يشعر بتوتُّر كلما ابتعد عنها. كان لدى الرجل القاطن في الحجرة المجاورة كنز من التبر خبَّأَه بالطريقة نفسها في حقيبة ملابس، وقد اتفق الاثنان في نهاية الأمر على تبادُل الحراسة. فكان حين ينزل أحدهما من أجل تناول الطعام، يظل الآخَر ليراقب الحجرتين. وحين كان تشرشل يريد المشاركة في لعب الورق، كان الآخَر يتولى الحراسة، وحين يريد الآخَر الاستجمام، كان تشرشل يقرأ الجرائد القديمة على مقعد صغير بين البابين.
ظهرت بوادر الشتاء مبكِّرًا، فكان السؤال الذي يناقشونه، من الفجر حتى حلول الليل، ولساعات متأخرة من الليل، هو ما إذا كانوا سيَصِلون قبل تجمُّد الماء أم سيضطرون لمغادرة الباخرة ويهيمون على الجليد. وقعت تأخيرات مزعجة. تعطَّلَت المحركات مرَّتَين، وكان لا بد من إصلاحها، وفي كل مرَّة كانت تتساقط زخات من الثلوج لتنذرهم بدنو الشتاء. حاولت الباخرة «دبليو إتش ويليس» تسع مرات أن تخوض جنادل «فايف فينجر» بمعداتها المعطوبة، وحين نجحت في ذلك، كانت قد تأخَّرَت أربعة أيام عن موعدها الفضفاض جدًّا. وكان السؤال عندئذٍ هو ما إذا كانت الباخرة «فلورا» ستنتظرها أعلى أخدود بوكس. كان المسطَّح المائي الممتد بين أعلى أخدود بوكس ونهاية جنادل وايت هورس غير صالح لملاحة البواخر، وكان الركاب يبدِّلون المراكب في تلك المرحلة، متجوِّلين بين الجنادل، منتقلين من باخرة إلى أخرى. لم تكُن هناك هواتف في البلاد، ومن ثَم لم يكُن هناك وسيلة لإخبار الباخرة «فلورا» المنتظرة أن الباخرة «دبليو إتش ويليس» تأخَّرَت أربعة أيام، لكنها قادمة.
حين بلغت الباخرة «دبليو إتش ويليس» منطقة وايت هورس، تبيَّن أن الباخرة «فلورا» كانت قد انتظرَت ثلاثة أيام فوق الحد المسموح به، ولم تُقلِع إلا قبل بضع ساعات فقط. كذلك عُرف أنها ستتوقَّف في موقع تاجيش حتى الساعة التاسعة من صباح الأحد. كانت الساعة آنذاك الرابعة من عصر يوم السبت. عقد المسافرون اجتماعًا. كان على متن الباخرة قارب كبير من بيتربورو، مُرسَل إلى مركز الشرطة عند منبع بحيرة بينيت. اتفقوا على أن يكونوا مسئولين عنه وعن تسليمه. ثم حانت الحاجة إلى متطوِّعين. كان لا بد من رجلين للإسراع إلى الباخرة «فلورا». وعلى الفور تطوَّع العديد من الرجال لإنجاز المهمة. وكان تشرشل من بينهم، فهكذا كان طبعه، حتى إنه تطوَّع قبل أن يفكِّر في حقيبة بونديل. وحين خطرت على باله، بدأ يتمنى ألا يختاروه؛ لكن نظرًا لأنه عُرِف بصفته قائدًا لفريق الكرة في الكلية، ورئيس نادٍ رياضي، وقائد زلاجات كلاب، وأحد المُنقِّبين عن الذهب في يوكون، هذا إلى جانب ما كان لديه من مَنْكِبَين قويين، فهو لم يكُن له الحق في الإعراض عن هذا الشرف. هكذا أُلقِيَت المهمة على عاتقه هو ورجل ألماني ضخم الجثة، يُدعى نيك أنتونسن.
بينما هبَّ المسافرون سريعًا حاملين القارب على أكتفاهم لنقله برًّا، هرع تشرشل إلى حجرته في الباخرة. قلب محتويات حقيبته على الأرض والْتَقط منها الحقيبة الصغيرة بِنِيَّة أن يعهد بها إلى الرجل الموجود في الحجرة المجاورة. ثم أدرك واقع أنها ليست حقيبته، وليس من حقه أن يفارقها. ومن ثَم انطلق إلى الشاطئ وركض على الطريق، ينقلها من يد لأخرى، وهو يتساءل إنْ كان وزنها لا يتعدى ٤٠ رطلًا حقًّا.
كانت الساعة الرابعة والنصف عصرًا حين بدأ الرجلان المَسير. كان تيار نهر ثيرتي مايل شديدًا جدًّا، حتى إنهما نادرًا ما استطاعا استخدام المجاديف. ظلَّا يسيران على إحدى الضفتَين، على عاتقَيهما الحبل لجر القارب وهما يتعثران على الصخور، يشقان طريقهما بصعوبة وسط الشجيرات، فيزِلَّان أحيانًا ويسقطان في الماء الذي غالبًا ما يصل إلى الركبتَين والخَصْر أحيانًا أخرى؛ وحين كان يعترضهما عائق يتعذَّر اجتيازه كانا يقفزان في القارب، ويُخرجان المجاديف، ويَعبُران التيار إلى الضفة الأخرى مُندفِعَين بجهد محموم ومستميت، ثم يرفعان المجاديف، ويَنزلان من القارب، ويُخرجان الحبل لجَرِّه مرَّة أخرى. كان جهدًا مُضنيًا. وكان أنتونسن يكدُّ بما له من جسم عملاق، مثابرًا دون شكوى، لكن يدفعه لبذل أقصى ما عنده تشرشل بجسده القوي وذهنه الذي لا يفتر. ولم يتوقَّفا قطُّ للراحة. فكان العمل متواصلًا ودءوبًا. هبَّت ريح باردة على النهر، فتجمَّدَت أياديهما وبات من الضروري أن يجعلا الدماء تتدفَّق مرَّة أخرة لتَسري في أصابعهما المخدَّرة، من آنٍ لآخَر. وحين حلَّ الليل، اضطرَّا إلى الاعتماد على الحظ. فظلَّا يسقطان مرارًا على الضفاف غير المطروقة وتمزَّقَت ملابسهما أشلاءً في الزروع التي لم يستطيعا أن يرياها. أُصيب الاثنان بخدوش شديدة نزفا منها دمًا. وانقلب بهما القارب نحو ١٠ مرات عند اصطدامه بعوائق، أثناء اندفاعهما المهتاج به من ضفة إلى أخرى. حين حدث هذا أول مرة، غاص تشرشل وظلَّ يبحث في ثلاث أقدام من الماء عن الحقيبة. فأضاع نصف ساعة في محاولة استعادتها، ومن بعد ذلك، صارت مربوطة بإحكام بالقارب. فظلَّت في أمان، ما دام القارب طافيًا. سخِر أنتونسن من الحقيبة، ومع اقتراب الصباح بدأ يعبث بها، بَيْد أن تشرشل لم يُعطِ أي تبريرات.
واجهتهما عوائق وعثرات لا تُحصى. فقد أضاعا ساعتين في منحنى سريع، حيث كانت المياه تتدفَّق شديدة وسريعة، وهما يحاولان محاولات عديدة أن يجتازاه، وانقلب بهما القارب مرتين. وفي هذه المرحلة، كانت ضفتا النهر على الجانبين شديدة الوعورة، والمياه بالغة العمق، فلم يستطيعا لا أن يسحبا القارب ولا أن يدفعاه بواسطة عصًا، ولا كان بمقدورهما التجديف ضد التيار. وفي كل مرَّة كانا يبذلان أقصى جهدهما للتجديف، تكاد قلوبهما تنخلع من الإجهاد، وفي كل مرَّة كانت تخور قواهما ويغلبهما التيار. لكنهما نجحا أخيرًا بالصدفة. ذلك أنهما حين كان التيار في أسرع نوباته، وبينما كانا على وشك إخفاق آخَر، طرأ طارئ فخرج القارب عن سيطرة تشرشل بفعل التيار وقذف به ناحية الضفة. وثبَ تشرشل في ذهوله على الضفة واستقرَّ به المقام بشق في الأرض. تشبَّثَ بالشاطئ بيدٍ، وبالأخرى ظلَّ ممسكًا بالقارب المغمور حتى انتشل أنتونسن نفسه من الماء. ثم أخرجا القارب من الماء وتوقفا ليستريحا. وفي هذه المرحلة الحاسمة، استولى عليهما شعور ببداية جديدة. هكذا صعدا إلى اليابسة وتوغَّلا على الفور وسط الزروع وهما يجران القارب بحبل.
أشرق عليهما ضوء النهار وما زالت تفصلهما مسافة طويلة عن موقع تاجيش. وفي الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد جاءهما صوت الباخرة «فلورا» وهي تصفر مُعلِنةً الرحيل. وبالكاد استطاعا أن يريا دخان الباخرة بعيدًا وهي متجهة جنوبًا عند دخولهما الموقع منهكين الساعة العاشرة. كانا منهكين ومهترئَي الملابس حتى إن النقيب جونز من شرطة الخيالة استقبلهما وأطعمهما، وظلَّ يقسم فيما بعدُ أنه لم يرَ يومًا شهية نهمة مثل شهيتهما. وقد استلقيا وخلدا للنوم بأسمالهما المبلَّلة بجوار الموقد. وبعد ساعتين استيقظ تشرشل، وحمل حقيبة بونديل، التي كان قد توسدها، وذهب إلى القارب، ثم ركل أنتونسن ليوقظه، ومضيا في ملاحقتهما للباخرة «فلورا».
أجاب تشرشل عن تحذيرات النقيب جونز قائلًا: «لا سبيل لمعرفة ما قد يطرأ، فقد تتعطَّل المحركات أو شيء من هذا القبيل. سوف ألحق بتلك الباخرة وأرسلها عائدة إلى الرفاق.»
غامت بحيرة تاجيش بعاصفة خريفية عاكستهما. وارتفعت المياه لتغمر القارب وتطيح به، مما اضطر أحد الرجلين للانشغال بتصريف المياه والآخَر بالتجديف. لكن لم يستطيعا التقدُّم. سارا بحذاء اليابس حيث المياه ضحلة، ونزلا من القارب، أحدهما في الأمام يسحب القارب بالحبل، والآخَر يدفعه. ظلَّا يقاومان العاصفة والمياه وهما غارقان حتى خصورهما في مياه باردة كالثلج، في كثير من الأحيان كانت ترتفع حتى تصل لرقابهما، وفي كثير من الأحيان تغمر رءوسهما أمواج عالية مكلَّلة بالزبد. وهما لم ينعما بمهلة ولا لحظة راحة من هذه المعركة الكئيبة المؤلمة. وفي تلك الليلة، عند منبع بحيرة تاجيش، أدركا الباخرة «فلورا»، في خضم عاصفة ثلجية عاتية. انهار أنتونسن حين صعد إلى الباخرة، واضطجع حيث هوى، وغطَّ في النوم. بدا تشرشل مثل رجلٍ بدائي. تكاد ملابسه تنسلُّ منه. وكان وجهه متجمدًا ومتورمًا من الجهد الطويل الذي بذله طَوال ٢٤ ساعة، وكانت يداه متورمتين للغاية حتى إنه لم يكُن بمقدوره أن يطبق أصابعه. أما قدماه، فكانتا تؤلمانه أشد الألم حين يقف عليهما.
أبى قبطان الباخرة «فلورا» أن يعود إلى وايت هورس. كان تشرشل ملحًّا وحازمًا في طلبه؛ وكان القبطان عنيدًا. وفي النهاية أشار إلى أنه لا جدوى من الرجوع، لأن الباخرة الوحيدة في دايي، والتي تحمل اسم «آثينيان»، كانت ستُبحر في صباح الثلاثاء، وأنه لن يستطيع أن يعود إلى وايت هورس ليأتي بالمسافرين العالقين في الوقت المناسب كي يلحقوا بها.
فسأله تشرشل: «في أي وقت تغادر الباخرة «آثينيان»؟»
«في السابعة من صباح الثلاثاء.»
فقال تشرشل، وهو يركل أنتونسن الذي كان يغطُّ في النوم في صدره الموشوم: «حسنًا. عُد أنت إلى وايت هورس. وسنمضي نحن ونحمل الباخرة «آثينيان» على الانتظار.»
وهكذا دُفِع بأنتونسن على عجل إلى القارب، وهو لا يزال في غفلة النوم، لم يُفِق بعدُ، فلم يدرك ما حدث حتى ابتلَّ من رذاذٍ شديد البرودة من موجة عالية، وسمع تشرشل وهو يصيح به غاضبًا في الظلام قائلًا:
«هلَّا جدفت! هل تريد أن نغرق؟»
طلع عليهما النهار في معبر كاريبو، وقد فترت الرياح، وبلغ الإرهاق مبلغه بأنتونسن ليستطيع التجديف. رسا تشرشل بالقارب على شاطئ هادئ، حيث خلدا إلى النوم. على سبيل الاحتياط ثنى تشرشل ذراعه تحت رأسه. فكان ألم الدم المحبوس يوقظه كل بضع دقائق، حيث ينظر إلى ساعته ويثني الذراع الآخَر تحت رأسه. بعد أن مضت الساعتان تشاجر مع أنتونسن ليوقظه. ثم مضيا في سبيلهما. كان الخوض في بحيرة بينيت ذات الثلاثين ميلًا سلِسًا؛ لكن في منتصف الطريق، هبَّت عاصفة من الجنوب وحرَّكَت المياه بشدة. مضت الساعة تلو الساعة وهما يُكابدان المشقة في بحيرة تاجيش، حيث نزلا من القارب، وجعلا يشدانه ويدفعانه، مغمورين حتى خصورهما ورقابهما ورءوسهما في المياه الباردة؛ وقرب النهاية تملَّك التعبُ تمامًا أنتونسن العملاق طيِّب النفس. ظلَّ تشرشل يسوقه بلا رحمة؛ لكنه حين انكبَّ على وجهه وبدا كأنه سيغرق في حيزٍ اتساعه ثلاث أقدام من المياه، سحبه الآخَر إلى القارب. ومن بعد ذلك واصل تشرشل الرحلة الشاقة وحده، حيث وصل إلى مركز الشرطة في منبع بحيرة بينيت في وقت مبكِّر من العصر. حاول أن يحمل أنتونسن على الخروج من القارب، لكنه أخفق في ذلك. استمع إلى الأنفاس الثقيلة للرجل المكدود، وحسده إذْ تأمَّلَ ما عليه أن يخوضه فيما بعد. بإمكان أنتونسن أن يستلقي هنا وينام؛ أما هو فعليه أن يخوض نهر شيلكوت الجبار ويمضي منه إلى البحر. المعاناة الحقيقية تنتظره هو، حتى إنه كاد يأسف على ما حظيت به بنيته من بأس لما يمكن أن يستتبعه ذلك من شدائد.
جرَّ تشرشل القارب إلى الشاطئ، وأخذ حقيبة بونديل، ثم هرول بخطوات مثقلة إلى مركز الشرطة.
وهناك عاجَلَ الضابط الذي استجاب له حين طرق الباب قائلًا: «هناك قارب بالخارج، إنه مُرسَل إليكم من دوسن. وستجدون فيه رجلًا شارَفَ على الموت. الأمر ليس خطيرًا؛ فهو منهك ليس إلا. فلتعتنوا به. يتعيَّن عليَّ أن أرحل سريعًا. أريد اللحاق بالباخرة «آثينيان».»
كانت المسافة بين بحيرة بينيت وبحيرة ليندرمان ميلًا من اليابسة، وقد ألقى كلماته الأخيرة بينما عاد للهرولة من جديد. كم كانت الهرولة مؤلمة، لكنه صرَّ على أسنانه، ناسيًا ألمه أغلب الوقت في خِضَم حرصه الشديد على الحقيبة. كانت عبئًا كبيرًا. وهو ينقلها من يد إلى أخرى، ثم يعيد الكَرَّة. ويدسُّها تحت ذراعه. ويضع يدًا فوق الكَتِف المقابلة، والحقيبة تتقافز فوق ظهره وهو يركض. وكان بالكاد يستطيع حملها بأصابعه المجروحة المتورِّمة، فسقطَتْ منه عدة مرات. وفي إحدى المرات، أفلتت من قبضته وهو ينقلها من يد إلى أخرى، وسقطت أمامه، فتعثَّر فيها، ووقع وقعة شديدة على الأرض.
وعند نهاية الطريق اشترى حمالات قديمة بدولار أمريكي، وعلَّق فيها الحقيبة. وكذلك استأجر قاربًا بخاريًّا ليحمله سريعًا مسافة الستة أميال للطرف العلوي من بحيرة ليندرمان؛ حيث وصل الساعة الرابعة عصرًا. كانت الباخرة «آثينيان» ستقلع من دايي في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي. كانت دايي على بُعد ٢٨ ميلًا، وواقعةً في ممر شيلكوت الجبلي الشاهق. جلس تشرشل ليُعد حذاءه لرحلة التسلُّق الطويلة، ثم استيقظ. ذلك أنه كان قد غفا لحظة أن جلس، وإنْ كان لم ينَم سوى ٣٠ ثانية. خشي أن تستمر غفوته لمدة أطول إذا غفا ثانيةً، لذا استكمل تجهيز حذائه وهو واقف. حتى ساعتها غلبه شعور بالضعف للحظة عابرة. فقد غاب عن الوعي للحظة؛ ثم أدرك ذلك، وهو في الهواء، وجسده المرتخي يهوي إلى الأرض، فتمالك نفسه بأنْ شدَّ عضلاته في تشنُّج مفاجئ، ليتحاشى الوقوع. وقد جعلته العودة المفاجئة للوعي يرتجف في إعياء. فخبط رأسه ببطن كفه، ليحمل رأسه الخدر على اليقظة.
كانت قافلة دواب جاك برنز في سبيلها للعودة خفافًا إلى بحيرة كريتر، ودُعي تشرشل لركوب بغل. وقد أراد برنز وضع الحقيبة على حيوان آخَر، لكن تشرشل احتفظ بها، حاملًا إياها على مقبض سرجه. لكنه غفا، وظلَّت الحقيبة تسقط من على المقبض، مرَّة عن يمين ومرَّة عن شمال، فكان يستيقظ كل مرَّة في فزع مؤرق. وفيما بعدُ، حين بدأ يحل الظلام، اصطدم البغل الذي يحمل تشرشل بأحد فروع الأشجار البارزة فشُجَّت وجنته. وخرج البغل عن الدرب وسقط، ملقيًا بالراكب والحقيبة على الصخور. وبعد ذلك، سار تشرشل، أو بالأحرى تعثَّر، على الدرب الرديء، يقتاد البغل. وقد نمَّت الروائح الغريبة والكريهة التي تصاعدت من جانبي الدرب عن الخيل التي نفقت في التهافت على خضم التنقيب عن الذهب. غير أنه لم يُبالِ. فقد كان نعسانًا جدًّا. بَيْد أنه كان قد استفاق من نعاسه حين بلغ بحيرة لونج؛ وعند بحيرة ديب سلم الحقيبة لبرنز. لكنه ظلَّ يراقب برنز من بعد ذلك، على ضوء النجوم الخافتة. فلم يكُن ليسمح بوقوع أي مكروه لتلك الحقيبة.
عند بحيرة كريتر ذهبت القافلة إلى مخيم، ومضى تشرشل يرتقي القمة العالية، وقد علَّق الحقيبة على ظهره. وهناك على هذا المرتفع شديد الوعورة، أدرك لأول مرة كم هو منهك. ظلَّ يزحف ويحبو مثل السلطعون، يعييه ثقل أطرافه. كان بحاجة إلى عزم شديد وجهد جهيد في كل مرَّة يرفع فيها قدمه. راودته هلاوس أنه كان يرتدي حذاءً من الرصاص، مثل غواصٍ في أعماق البحر، وكان هذا أقصى ما في إمكانه لمقاومة رغبته في مد يده لتحسُّس ما يثقل قدمَيه. أما حقيبة بونديل، فقد استغرب أن ٤٠ رطلًا قد تكون بهذا الثقل. لقد ناءَ بحملها كأنها جبل، فإذا به ينظر خلفه غير مصدِّق أنه كان في العام السابق قد تسلَّق الممر نفسه حاملًا ١٥٠ رطلًا على ظهره. إذا كان وزن تلك الأحمال ١٥٠ رطلًا، فلا بد أن حقيبة بونديل وزنها ٥٠٠ رطل.
كان أول الطريق المرتفع من بعد بحيرة كريتر يمرُّ بنهر صغير من الثلوج المتراكمة. كان هذا الدرب واضح المعالم. لكن فوق هذا النهر الجليدي، الذي كان يعلو حدَّ نمو الأشجار أيضًا، لم يكُن هناك سوى فوضى من الصخور الجرداء والجلاميد الضخمة. لم يكُن من سبيلٍ لرؤية الطريق في الظلام، وقد مضى يتخبَّط، يلقى من المشقة ثلاثة أضعاف ما كان سيُلاقيه في هذه المهمة. لكنه نجح في بلوغ القمة في خضم ريحٍ صرصر وثلوج شديدة، حيث عثر على خيمة صغيرة مهجورة، دخلها زحفًا. وهناك وجد بعض البطاطس المقلية وست بيضات نيئة قديمة، فالْتَهمَها من فوره.
عندما توقف سقوط الثلوج وهدأت الرياح، شرع في رحلة النزول التي كانت شبه مستحيلة. فلم يكُن هناك مسار، وراح يتعثَّر ويتخبَّط، حتى إنه كثيرًا ما كان يجد نفسه على حافة جدران صخرية ومنحدرات شديدة لا يعلم لها قرارًا. وفي أثناء هبوطه، تغبشت النجوم مرة أخرى، فأظلمت الدنيا وزلَّت قدمه وتدحرج ليهوي ١٠٠ قدم، حتى استقرَّ في قاع حفرة كبيرة ضحلة، مُصابًا بالرضوض ينزف دمًا. وهناك فاحت من كل ما حوله رائحة خيول نافقة. كانت الحفرة قريبة من المسار، وقد درج الحمالون على أن يلقوا فيها بحيواناتهم المصابة بكسور، والمحتضرة. كانت الرائحة المنتنة شديدةً على تشرشل، مما أصابه بغثيان شديد، فأسرع بالخروج كأنه في كابوس. لكنه تذكر وهو في منتصف الطريق حقيبة بونديل. لقد سقطت معه في الحفرة؛ وانقطعت الحمالات بطبيعة الحال، ونسي هو أمرها. هكذا عاد إلى حفرة الجثث البغيضة، حيث ظلَّ يزحف على يديه وركبتيه في أنحائها يتحسسها طَوال نصف ساعة. كان جملة ما أحصاه من الخيل النافقة التي صادفها ١٧ (وحصانًا كان ما يزال حيًّا أرداه بمسدسه) قبل أن يعثر على حقيبة بونديل. حين استعرض تشرشل حياته التي لم تخلُ من بسالة ومآثر، أقرَّ لنفسه دون تردُّد أن عودته هذه لإحضار الحقيبة كانت أشجع ما أقدم عليه في حياته. كان عملًا بطوليًّا جدًّا حتى إنه كان على شفا الإغماء مرتين قبل أن يزحف خارجًا من الحفرة.
مع نزوله إلى منطقة سكيلز (حيث كان المسافرون يزِنون أحمالهم)، من بعد ارتفاع شيلكوت الوعر، صار الطريق أيسر. بَيْد أنه لم يكُن بالطريق اليسير في الظروف العادية؛ لكنه كان مسارًا سلِسًا بحق، حيث كان يمكن له أن يقضي وقتًا طيبًا لو لم يكُن مُنهَك القوى، ولو كان لديه ضوء ليتبيَّن موضع خطواته، ولو لم يكُن معه حقيبة بونديل. كانت الحقيبة بالنسبة له، بما اعتراه من إرهاق، هي الطامة الكبرى. كان بالكاد لديه القوة لحمل نفسه، فكان الوزن الإضافي للحقيبة كافيًا ليسقط في كل مرة زلَّت قدمه أو تعثَّر. وحين كان ينجو من التعثر، كانت فروع الأشجار تمتد إليه في الظلام، لتَعْلق بها الحقيبة من بين كتفيه، فتعوقه عن المشي.
استقرَّ في نفسه أنه إذ لم يلحق بالباخرة «آثينيان»، فستكون الحقيبة هي السبب. في الواقع، لم يبقَ في وعيه سوى شيئين: حقيبة بونديل والباخرة. لم يعِ سوى هذين الشيئين، وقد صارا، على نحو ما، بمنزلة مهمة شاقة لا يزال يخوضها ويُلاقي فيها نصَبًا منذ قرون. سار وتابع الجهد كأنه في حلم. وكان جزء من الحلم أنه وصل إلى معسكر شيب. وهناك دخل حانة يجرجر قدمَيه، وأنزل الحمالات من على كتفَيه، وهمَّ بإنزال الحقيبة عند قدمَيه. لكنها أفلتت من أصابعه وارتطمت بالأرض مُحدِثة دويًّا شديدًا لم يغفل عنه رجلان كانا على وشك المغادرة. شرب تشرشل كأس ويسكي، وطلب من الساقي أن يناديه بعد ١٠ دقائق، وجلس واضعًا قدميه على الحقيبة، ورأسه على ركبتيه.
كان جسده خائر القوى متيبسًا لدرجة خطيرة، حتى إنه عندما ناداه الساقي احتاج إلى ١٠ دقائق أخرى وكأسًا ثانية من الويسكي لتسترخي مفاصله وتتهيَّأ عضلاته.
صاح الساقي: «مهلًا! ذلك ليس الطريق!» ثم ذهب في أثره ووجهه في الظلام نحو مدينة كانيون. صوت ضعيف بداخل تشرشل أخبره أن الاتجاه صحيح، وهكذا سلك درب مدينة كانيون، وهو لا يزال كأنه في حلم. ولا يعلم ما الذي نبهه، لكنه بما لديه من باعٍ طويل في الترحال بدا كأنه قرون، أحسَّ بخطر وأخرج مسدسه. وهو لا يزال مستغرقًا في الحلم، رأى رجلين يسرعان الخطى وسمعهما يستوقفانه. انطلق مسدسه أربع مرات، ورأى وميض مسدسيهما وسمع دويهما. أدرك كذلك أنه أُصيب في فخذه. رأى أحدهما يسقط، ولما جاءه الآخَر، سدَّد له ضربة مباشرة بالمسدس الثقيل أصابت وجهه مباشرةً. ثم استدار وانطلق راكضًا. أفاق من الحلم بعد ذلك بوقت قصير، ليجد نفسه وهو يهبط الدرب بخطوات متسارعة. خطَرَ له أول ما خطر الحقيبة. كانت لا تزال على ظهره. كان مقتنعًا أن ما حدث كان حلمًا حتى تحسَّس مسدسه ولم يجده. ثم انتبه إلى ألم حاد في فخذه، بعد تحسُّسه وجد يده دافئة بدمائه. كان جرحًا سطحيًّا، لكن لا يُستهان به. ازدادت يقظته، وواصل ركضه المتعثر نحو مدينة كانيون.
ثم صادف رجلًا، لديه قطيع من الخيل وعربة، وقد غادر فراشه وأعدَّ الخيل للسير مقابل ٢٠ دولارًا أمريكيًّا. زحف تشرشل لإلى فراش العربة وخلد إلى النوم، ولا تزال الحقيبة على ظهره. كانت رحلة عسيرة، فوق الجلاميد الملساء من أثر المياه عند هبوط وادي دايي؛ لكنه لم يستيقظ إلا حين وصلت العربة أعلى الأماكن. فلم يوقظه أن ارتفع جسده عن فراش العربة مسافة لا تزيد على قدم. وكان الميل الأخير سلسًا خوضه؛ حيث استغرق في النوم.
استيقظ تشرشل في الفجر الرمادي؛ حيث ظلَّ السائق يهزه بعنف ويصرخ في أذنه بأن الباخرة «آثينيان» قد رحلت. ونظر تشرشل مشدوهًا إلى المرفأ الخالي.
قال الرجل: «هناك دخان عند سكاجواي.»
كانت عينا تشرشل منتفختين لدرجة يتعذَّر معها الرؤية بعيدًا، لكنه قال: «إنها هي. فلتُحضر لي قاربًا.»
كان السائق خدومًا، وعثر له على زورق ورجلًا ليجدف به مقابل ١٠ دولارات أمريكية، تُدفع مقدمًا. دفع تشرشل النقود، ونزل إلى الزورق بالمساعدة. شق عليه أن يَنزله وحده. كانت المسافة حتى سكاجواي ستة أميال، وقد خطر له خاطر مبهج أن ينام تلك الأميال الستة. لكن الرجل لم يكُن على دراية بكيفية التجديف، فأخذ تشرشل المجاديف وتجشم المشقة لبضعة قرون أخرى. وهو لم يعرف قطُّ ستة أميال أطول وأشق من هذه الأميال الستة. هبَّت نسمة سريعة خفيفة على الخليج الصغير وحالت دون تقدُّمه. شعر تشرشل بوهن في معدته، وعانى من إعياء وخدر. بأمر منه، أخذ الرجل الدلو ونضح الماء المالح في وجهه.
كانت مرساة الباخرة «آثينيان» بصدد أن تُرفع حين اقتربا بالزورق، وكان تشرشل في آخِر ما تبقى له من قوة.
صاح بصوت مبحوح: «أوقفوها! أوقفوها! هناك رسالة مهمة! أوقفوها!»
ثم سقطت ذقنه على صدره ونام. حين بدأ ١٢ رجلًا يحملونه على معبر الباخرة، استيقظ، وتحسَّس الحقيبة، وتعلَّق بها مثل رجل غارق. وعلى سطح السفينة صار محطًّا للرهبة والفضول. كانت الملابس التي غادر بها وايت هورس قد غدت أسمالًا بالية، وكان هزيلًا مثل ملابسه. كان قد سافر طوال ٥٥ ساعة تفوق احتمال كل البشر. نام خلالها ست ساعات، وتناقص وزنه ٢٠ رطلًا عما كان حين بدأها. كان كلٌّ من وجهه ويديه وجسده مغطًّى بالخدوش والكدمات، واستطاع بالكاد أن يرى. حاول أن يقف، لكنه أخفق، فتمدَّد على السطح، متشبثًا بالحقيبة، وبلَّغ رسالته.
وأنهى كلامه بأن قال: «ضعوني في الفراش الآن. سوف آكُل حين أستيقظ.»
وقد أكرموه؛ إذ حملوه بأسماله وقذارته ونزلوا به حيث وضعوه هو وحقيبة بونديل في جناح العرائس، الذي كان أكبر وأفخر حجرة في الباخرة. نام تشرشل يومين كاملين، وتحمَّم وحلق ذقنه وأكل وكان مستندًا إلى درابزين الباخرة يدخِّن سيجارًا حين وصل المسافرون المئتان من وايت هورس.
حين وصلت الباخرة «آثينيان» إلى سياتل، كان تشرشل قد تعافى تمامًا، حيث نزل إلى البر، معه حقيبة بونديل في يده. كانت تمثِّل له الإنجاز والنزاهة والأمانة. وعبَّر لنفسه عن هذه الكلمات الراقية المتنوعة بقوله: «لقد سلمت البضائع.» كان المساء في بدايته حينئذٍ، فذهب من فوره إلى منزل بونديل. كان لويس بونديل مسرورًا لرؤيته، حيث صافحه وهو يشده إلى داخل المنزل في الوقت نفسه.
قال بونديل وهو يستلم الحقيبة: «أشكرك يا عزيزي؛ إنه لكرم منك أن تأتي بها.»
وألقى بها على الأريكة بلا مبالاة، وقد لاحظ تشرشل بنظرة تقدير ثقل وزنها من ارتدادها على الأريكة. وراح بونديل ينهال عليه بالأسئلة.
«كيف تدبرت أمرك؟ كيف حال الرفاق؟! ماذا حدث لبيل سميذرز؟ هل ما يزال ديل بيشوب مع بيرس؟ هل باع كلابي؟ كيف أبلى الكلب سلفر بوتوم؟ إنك تبدو على ما يرام. على أي باخرة جئت؟»
أجاب تشرشل على كل الأسئلة، حتى مرَّت نصف ساعة وحانت أول وقفة في حوارهما.
قال تشرشل مقترحًا، وهو يومئ برأسه إلى الحقيبة: «أليس من الأفضل أن تُلقي نظرة عليها؟»
فأجابه بونديل: «لا داعيَ لذلك. هل أسفرت عمليات التنقيب التي أجراها ميتشيل عما توقعه؟»
قال تشرشل مُلحًّا: «أعتقد أنه من الأفضل أن تتفحصها. إنني حين أسلم شيئًا، أحب أن أطمئن أنه على ما يُرام. فهناك احتمال قائم أن يكون أحد الأشخاص قد تمكَّن منها وأنا نائم، أو غير ذلك.»
فأجابه بونديل بضحكة: «ليس بالأمر الجلل يا عزيزي.»
فردد تشرشل كلامه بصوت خافت خائر: «ليس بالأمر الجلل.» ثم قال بنبرة حاسمة: «ماذا يوجد في تلك الحقيبة يا لويس؟ أريد أن أعرف.»
رمقه بونديل بنظرة استغراب، ثم غادر الحجرة وعاد بمجموعة مفاتيح. أدخل يده في الحقيبة وأخرج مسدس كولت عيار ٤٤. ثم تلته بضعة صناديق ذخيرة للمسدس وعدة صناديق تحتوي على خراطيش وينشستر.
أخذ تشرشل الحقيبة ونظر بداخلها. ثم قلبها وهزها برفق.
قال بونديل: «المسدس صدئ تمامًا. لا بد أنه تُرك في المطر.»
فأجابه تشرشل: «نعم. من المؤسف أنه تبلَّل. أعتقد أنني كنت مهملًا بعض الشيء.»
ونهض وخرج من المنزل. وبعد ١٠ دقائق حين خرج لويس بونديل وجده على درجات السلم، جلس واضعًا مرفقَيه على ركبتَيه وذقنه على يديه، يحدِّق بثبات في الظلام.