الفرزدق
بنو تميم من العرب المُضريَّة، كانت منازلهم بنجدٍ إلى اليمامة إلى البصرة إلى الغري من أرض الكوفة، ومن أشراف تميم بنو دارم، ومن دارم بنو مجاشع عشيرة الفرزدق، نزلوا البصرة وباديتها عند اختطاطها في فتح العراق.
وأم غالب ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس، وأم الفرزدق لينة بنت قرظة الضبِّية. وكان للفرزدق أخ اسمه هميم ولقبه الأخطل كان أسنَّ منه، يقول الشعر ولكن ليست له نباهة، وتُوفي قبله، وكان له أخت يُقال لها جعثن.
وُلد الفرزدق حوالي سنة تسع عشرة للهجرة في خلافة عمر، ونشأ على ما يظهر نشأةً بدوية، لم يتعلم القراءة ولا الكتابة وظلَّ أُميًّا، ولكن أباه روَّاه الشعر وكلام العرب وبدأ يقول الشعر وهو صغير. رُوي عنه أنه قال: «كنتُ أجيد الهجاء في أيام عثمان.» وقال: «كنتُ أُهاجي شعراء قومي وأنا غلام في خلافة عثمان، فكان قومي يَخشون معرة لساني منذ يومئذ.» وخلافة عثمان من سنة ٢٣–٣٥. وقال ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء: كان الفرزدق قد رعى غنمًا لأهله في صغره، فذهب الذئب منها بكَبشٍ فقال:
منها:
وتَنقطع عنا أخبار الفرزدق طيلة خلافة عثمان، فإذا كانت خلافة عليٍّ ذكر لنا الرواة أن غالبًا — أبا الفرزدق — دخل على عليٍّ بالبصرة ومعه ابنه الفرزدق بعد عام الجمل، فقال: إنَّ ابني هذا من شُعراء مضر فاسمع منه. فقال علي: علِّمه القرآن فهو خيرٌ له. فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيَّد نفسَه في وقتٍ وآلى أن لا يَحلَّ قيده حتى يحفظ القرآن.
وتتسلسل أخبار الفرزدق وتطَّرد منذ تم الأمر لمعاوية، ذكر الطبري وصاحب الأغاني أن الحُتات بن يزيد أحد أعمام الفرزدق وفدَ مع جماعة على معاوية، فخرجت جوائزهم فانصرفوا، ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات، فأمر معاوية بماله فأُدخل بيت المال، فقال الفرزدق قصيدة منها:
فأغضبَت هذه القصيدة زياد بن أبيه أمير العراق من قِبَل معاوية. وأُضيف إلى ذلك أن الفرزدق هجا بني نهشل وبني فقيم، فشكَوه إلى زياد فازداد غضبًا عليه وطلَبَه فهرب منه، وكان ذلك سنة خمسين. وكان زياد يَمكُث في البصرة ستة أشهر وفي الكوفة ستة أشهر، فإذا كان بالبصرة نزل الفرزدق الكوفة، وإذا كان بالكوفة نزل الفرزدق البصرة، وقد يَهيم في البادية، فبلغ ذلك زيادًا فشدَّدَ في طلبه، فخرج إلى الحجاز مع دليل، فلما كان في الطريق تبعه أسد، فقال في ذلك:
قال لبطة بن الفرزدق: فأنشدت زيادًا هذه الأبيات، فكأنه رقَّ له وقال: لو أتاني لأمَّنته وأعطيتُه. فبلغ ذلك الفرزدق فقال قصيدة، منها:
وقَدِمَ الفرزدق المدينة وعاذ بأميرها سعيد بن العاص، ومدحه بقصيدة يقول فيها:
فأجاره سعيد، وفي هربه من زياد يقول:
ويقول أيضًا:
ولما أنشد الفرزدق سعيدًا قصيدته كان عنده مروان بن الحكم، فلما خرج الفرزدق خرج مروان في إثره، فقال: لم ترضَ أن نكون قعودًا حتى جعلتَنا قيامًا في قولك: «قيامًا ينظرون إلى سعيد …» فقال له: يا أبا عبد الملك، إنك مِن بينهم صافن. فحقَد عليه مروان ذلك.
ثم عُزل سعيد ووُلي مروان مكانه، وكان الفرزدق وهو في المدينة يَشرب ويدخل إلى القيان، وفي ذلك يقول:
فبلغ شعره مروان، فدعاه وتوعَّدَه وأمره بالخروج من المدينة وأجَّله ثلاثًا، فقال:
وكتب له مروان إلى بعض عُماله ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار، فارتاب بكتاب مروان، فجاء إليه وقال:
ولما رثى المسكين الدارمي زيادًا بقوله:
قال الفرزدق لمسكين ولم يكن هَجا زيادًا حتى مات:
وفي موت زياد يقول:
وكانت إقامة الفرزدق بالحجاز ثلاث سنوات، ولم يعُد إلى البصرة إلا بعد موت زياد سنة ثلاث وخمسين.
ومن الحوادث الهامة في حياة الفرزدق المهاجاة التي وقعت بينه وبين جرير؛ فقد دامت نحوًا من خمسين سنة كانا فيها فرسَي رهان، ويَغلِب على الظن أنها حدثَت بينهما في أواخر أيام معاوية؛ لأن يزيد بن معاوية تمثَّل أمام أبيه بقول جرير:
وهو بيت من قصيدة هجا بها الفرزدق، وسبب المهاجاة هو أن البُعيث المجاشعي الشاعر هجاه جرير ونال من نساء مجاشع، وكان الفرزدق إذ ذاك بالبصرة قد عاهد الله على حفظ القرآن، فقيَّد نفسه وحلف أن لا يُطلق قيده حتى يحفظ القرآن، وبلغ نساء بني مجاشع فُحش جريرٍ بهن، فأتَين الفرزدق وهو مُقيد فقُلن له: قبَّح الله قَيدَك، فقد هتَكَ جرير عورات نسائك، فلُحِّيت شاعر قوم. فأحفَظنه ففضَّ قيده ثم قال يهجو البُعيث ويُعرِّض بجرير من غير أن يصرح باسمه:
إلى آخر القصيدة، فنقَضَها جرير بقصيدة هجا بها البعيث والفرزدق مُصرِّحًا باسمه، أولها:
فاضطرَّ حينئذٍ الفرزدق أن يبرز لخصمه، فأجابه بقصيدة كانت أول قصيدة هجا بها جريرًا صراحةً، وقرن معه البعيث، ومطلعها:
واستمرَّت هذه المهاجاة بينهما منذ ذلك الحين إلى أن مات الفرزدق.
ومن الحوادث التي كان لها أثر في حياة الفرزدق وشعره زواجُه بابنة عمه النوار ابنة أعين بن ضبيعة؛ وخبر ذلك أنَّ النوار خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيَته، وكان الفرزدق وليَّها، فأرسلت إليه أن زوِّجني من هذا الرجل، فقال: لا أفعل أو تُشهدينني أنكِ رضيتِ بمن زوجتُكِ، ففعلَت. فلما توثَّق منها قال: أرسلي إلى القوم فليأتوا. فجاءت بنو عبد الله بن دارم، فشحنوا مسجد بني مجاشع، وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولَّتني أمرها، وأُشهدكم أني قد زوَّجتها نَفسي على مائة ناقة حمراء سُود الحدقة. فنفَرَتْ من ذلك وشخصَت إلى ابن الزبير بمكة، وهو يومئذٍ أمير الحجاز والعراق يُدعى له بالخلافة، واستجارت بخولة بنت منظور بن زبان، زوج ابن الزبير، ولحقها الفرزدق ونزَل على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه واستحدثوه، ثم شفعوا له إلى أبيهم، فجعل يُشفِّعهم في الظاهر، حتى إذا صار إلى خولة قلبتْه عن رأيه، فقال الفرزدق في ذلك:
وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة، فاصطلحا على أن يَرجعا إلى البصرة ويصيرا على حكم بني تميم. فلما بلغا البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها، ومكثت عنده زمنًا على كره، ترضى عنه حينًا وتُخاصمه حينًا، وكانت امرأة صالحة، وقد تزوَّج عليها ليَغيظها، فلم تزل تُرقِّقه وتَستعطِفُه حتى أجابها إلى طلاقها، وأخَذَ عليها أن لا تُفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج رجلًا بعده، ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له. وكان ندمُه شديدًا بعد أن طلقها، وفي ذلك يقول:
وماتت النوار في حياته، وله فيها منذ تزوجها إلى أن ماتت أشعار كثيرة.
والفرزدق على شُهرته وكرم بيته لم يكن له كبير حظٍّ عند أكثر وُلاة العراق لتقلُّبه وخُبث لسانه؛ فقد مرَّ أنه هرب من زياد بن أبيه إلى الحجاز، ولم يَعُد إلى البصرة إلا بعد موت زياد، ولم يَضطهده عبيد الله بن زياد عامل العراق، فلما مات يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وضَعُف ابنه عن القيام بالأمر من بعده، خلَع أهل البصرة ابن زياد واختاروا واليًا عليهم عبد الله بن الحرث الملقَّب بببَّة، وكتبوا إلى ابنِ الزبير بالبيعة، وفي ذلك يقول الفرزدق:
وهجاه بغير ذلك، فحبسه عمر ثم أطلَقه، فلما عُزل وحُبس مدحه الفرزدق، فقال: ما رأيت أكرم منه، هجاني أميرًا ومدحني أسيرًا.
ثم ولي خالد بن عبد الله القسري مِن قِبل هشام بن عبد الملك، فقال الفرزدق:
فحقد عليه وتربَّص به الدوائر، واعتلَّ بهجائه نهر المبارك الذي حفره خالد، فأمر بحبسِه، فخاف الفرزدق كثيرًا ومدح خالدًا وهو محبوس، واستجار بهشام ومدَحَه كثيرًا، وكان مما قاله في السجن:
فأمر هشام بإطلاقه.
وعُمِّر الفرزدق طويلًا ونيَّف على التسعين، وتُوفي بالبصرة سنة ١١٠، وقيل سنة ١١٢، وقيل سنة ١١٤، وقبره بالبصرة في مقابر بني تميم، وكان مرضه ذات الجنب، وقيل: الدبيلة، فوُصف له أن يشرب النفط الأبيض، فقال لابنه لبطة: يا بُني، عجَّلتَ لأبيك شراب أهل النار. وأوصى وهو في مرضه عتق عبيده بعد موته وبدفع شيء من ماله إليهم، فلما احتُضر جمع سائر أهل بيته وأنشأ يقول:
فقال له بعض عبيده الذين أمر بعتقِهم: إلى الله. فأمر ببَيعِه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه.
ومن زوجات الفرزدق: النُّوار بنت أعين بن ضيعة المجاشعي، وليست أول زوجاته؛ لأنه يقول:
وقد طلقها كما مرَّ، وحدراء بنت زيق الشيباني، تُوفيت قبل أن يَبني عليها. ورهيمة بنت غني النمرية، نشزت فطلقها وقال من أبيات:
وظبية ابنة حالم من بني مجاشع، تزوجها بعد أن أسنَّ فنشزَت منه. وورَد في شعره ذكر امرأة اسمها سويدة، قال (الديوان، طبعة بوشر، ص١٣٢):
عدا من ملكت يمينه، وكان يحب التزوُّج بالزنجيَّات.
وأما أولاده فقد ذكرهم صاحب الأغاني، فقال: وكان له من الولد خبطة ولبطة وسبطة، هؤلاء هم المعروفون، وكان له غيرهم فماتوا ولم يُعرفوا. وكان له بنات خمس أو ست، ذكر منهنَّ واحدة اسمها مكيَّة كانت أمها زنجية، وكان الفرزدق إذا حميَ الوطيس وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقول:
وكان ابنه لبطة من العقَقة، وفيه يقول:
وذكر للَبْطةَ هذا ولد اسمه أعين، وانقطع نسل الفرزدق من جهة أولاده الذكور. وكان للفرزدق حلقة خاصة في المربد، وكان له رواة يكتبون شعره ويروونه، منهم: أبو شفقل، وعمرو بن عفراء الضبي، وعُبيد بن حنظلة، وعبد الله بن زالان، وعبد الله بن عطية، وابن مثوبة.