الفرزدق

بنو تميم من العرب المُضريَّة، كانت منازلهم بنجدٍ إلى اليمامة إلى البصرة إلى الغري من أرض الكوفة، ومن أشراف تميم بنو دارم، ومن دارم بنو مجاشع عشيرة الفرزدق، نزلوا البصرة وباديتها عند اختطاطها في فتح العراق.

فهو أبو فِراس همَّام بن غالب بن صعصعة، يَنتهي نسبه إلى مجاشع بن دارم. والفرزدق لقب غلب عليه، ومعناه: القطعة من العجين؛ لأنه كان جهم الوجه، أُصيب بالجدري في صغره. وآباؤه من أجواد العرب وكِرامهم وذوي المناقب والمآثر الحميدة،١ كان أبوه غالب لا يُبارى كرمًا، وفَد على النبي عليه السلام، وعُمِّرَ حتى لحق عليًّا بالبصرة، ومات في أول خلافة معاوية، وقبره بكاظمة. وكان جدُّه صعصعة يشتري الموءودات في الجاهلية كل واحدة بناقتين وجمل، فجاء الإسلام وقد اشترى نحو مائة موءودة، وبالَغَ بعضُ الرواة فجعلهنَّ أربعمائة، فقيل له: مُحيي الموءودات، وهو أول من أسلم من أجداد الفرزدق، قدم على النبي فأسلم، وكان يقول الشعر، وفيه يقول الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيا الوئيدَ فلم يُوءَد

وأم غالب ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس، وأم الفرزدق لينة بنت قرظة الضبِّية. وكان للفرزدق أخ اسمه هميم ولقبه الأخطل كان أسنَّ منه، يقول الشعر ولكن ليست له نباهة، وتُوفي قبله، وكان له أخت يُقال لها جعثن.

وُلد الفرزدق حوالي سنة تسع عشرة للهجرة في خلافة عمر، ونشأ على ما يظهر نشأةً بدوية، لم يتعلم القراءة ولا الكتابة وظلَّ أُميًّا، ولكن أباه روَّاه الشعر وكلام العرب وبدأ يقول الشعر وهو صغير. رُوي عنه أنه قال: «كنتُ أجيد الهجاء في أيام عثمان.» وقال: «كنتُ أُهاجي شعراء قومي وأنا غلام في خلافة عثمان، فكان قومي يَخشون معرة لساني منذ يومئذ.» وخلافة عثمان من سنة ٢٣–٣٥. وقال ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء: كان الفرزدق قد رعى غنمًا لأهله في صغره، فذهب الذئب منها بكَبشٍ فقال:

تلوم على أن خالط الذئب ضأنها
فألوى بكبشٍ وهو في الرعي راتعُ

منها:

وما كنتُ مضياعًا ولكنَّ همتي
سوى الرعي مفطومًا وإذ أنا يافعُ
فكان ذلك أول ما عُلم به من شعره.٢

وتَنقطع عنا أخبار الفرزدق طيلة خلافة عثمان، فإذا كانت خلافة عليٍّ ذكر لنا الرواة أن غالبًا — أبا الفرزدق — دخل على عليٍّ بالبصرة ومعه ابنه الفرزدق بعد عام الجمل، فقال: إنَّ ابني هذا من شُعراء مضر فاسمع منه. فقال علي: علِّمه القرآن فهو خيرٌ له. فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيَّد نفسَه في وقتٍ وآلى أن لا يَحلَّ قيده حتى يحفظ القرآن.

وتتسلسل أخبار الفرزدق وتطَّرد منذ تم الأمر لمعاوية، ذكر الطبري وصاحب الأغاني أن الحُتات بن يزيد أحد أعمام الفرزدق وفدَ مع جماعة على معاوية، فخرجت جوائزهم فانصرفوا، ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات، فأمر معاوية بماله فأُدخل بيت المال، فقال الفرزدق قصيدة منها:

أبوكَ وعمي يا معاوي أورثا
تراثًا فيَحتاز التراثَ أقاربُه
فما بال ميراث الحُتات أخذتَه
وميراثُ حرب جامد لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهليةٍ
علمت مَن المرءُ القليلُ حلائبه

فأغضبَت هذه القصيدة زياد بن أبيه أمير العراق من قِبَل معاوية. وأُضيف إلى ذلك أن الفرزدق هجا بني نهشل وبني فقيم، فشكَوه إلى زياد فازداد غضبًا عليه وطلَبَه فهرب منه، وكان ذلك سنة خمسين. وكان زياد يَمكُث في البصرة ستة أشهر وفي الكوفة ستة أشهر، فإذا كان بالبصرة نزل الفرزدق الكوفة، وإذا كان بالكوفة نزل الفرزدق البصرة، وقد يَهيم في البادية، فبلغ ذلك زيادًا فشدَّدَ في طلبه، فخرج إلى الحجاز مع دليل، فلما كان في الطريق تبعه أسد، فقال في ذلك:

ما كنتُ أحسبُني جبانًا بعدما
لاقيتُ ليلة جانب الأنهارِ
ليثًا كأنَّ على يدَيه رحالةٍ
شثن البراثِنِ مؤجد الأظفارِ
لمَّا سمعتُ له زمازم أجهشت
نفسي إليَّ وقلتُ أين فراري؟
وربطتُ جروتها وقلتُ لها اصبري
وشددتُ في ضيق المقام إزاري
فلأنت أهوَن من زيادٍ جانبًا
اذهب إليك محرم الأسفار

قال لبطة بن الفرزدق: فأنشدت زيادًا هذه الأبيات، فكأنه رقَّ له وقال: لو أتاني لأمَّنته وأعطيتُه. فبلغ ذلك الفرزدق فقال قصيدة، منها:

دعاني زيادٌ للعطاء ولم أكُن
لآتيه ما ساق ذو حسب وفرا

وقَدِمَ الفرزدق المدينة وعاذ بأميرها سعيد بن العاص، ومدحه بقصيدة يقول فيها:

نرى الشمَّ الجحاجح من قريشٍ
إذا ما الأمر في الحدثان عالا
بني عم النبي ورهط عمرو
وعثمان الذين علوا فِعالا
قيامًا ينظرون إلى سعيدٍ
كأنهمُ يرَون به هِلالًا

فأجاره سعيد، وفي هربه من زياد يقول:

ألا من مُبلغٍ عني زيادًا
مُغلغلةً يخبُّ بها البريدُ
بأني قد فررتُ إلى سعيدٍ
ولا يُسطاع ما يَحمي سعيدُ
فررتُ إليه مِن ليثٍ هِزَبْرٍ
تَعادى عن فريسته الأسودُ
فإن شئتَ انتسبتُ إلى النصارى
وإن شئتَ انتسبتُ إلى اليهود
وإن شئت انتسبتُ إلى فُقيم
وناسبَني وناسبتُ القرودُ
وأبغضهم إليَّ بنو فُقيمٍ
ولكن سوف آتي ما تُريدُ

ويقول أيضًا:

أتاني وعيدٌ من زيادَ فلم أَنَمْ
وسيلُ اللِّوى دوني فهَضبُ التَّهائمِ
فبتُّ كأني مشعر خيبرية
سرَت في عظامي أو سمام الأراقم
زياد بن حرب لن أظنَّكَ تاركي
وذا الضغن قد جشَّمتُه غير ظالم

ولما أنشد الفرزدق سعيدًا قصيدته كان عنده مروان بن الحكم، فلما خرج الفرزدق خرج مروان في إثره، فقال: لم ترضَ أن نكون قعودًا حتى جعلتَنا قيامًا في قولك: «قيامًا ينظرون إلى سعيد …» فقال له: يا أبا عبد الملك، إنك مِن بينهم صافن. فحقَد عليه مروان ذلك.

ثم عُزل سعيد ووُلي مروان مكانه، وكان الفرزدق وهو في المدينة يَشرب ويدخل إلى القيان، وفي ذلك يقول:

إذا شئتُ غناني من العاج قاصف
على مِعصَمٍ ريَّان لم يتخدَّدِ
لَبيضاء مِن أهل المدينة لم تعِش
ببؤس ولم تتبَعْ حمولة مجحدِ
وقامَت تُخشِّيني زيادًا وأجفلت
حوالي في بُردٍ يَمانٍ ومجسَدِ
فقلتُ دعيني من زيادٍ فإنني
أرى الموتَ وقَّافًا على كل مرصدِ

فبلغ شعره مروان، فدعاه وتوعَّدَه وأمره بالخروج من المدينة وأجَّله ثلاثًا، فقال:

دعانا ثم أجَّلَنا ثلاثًا
كما وُعِدَت لمَهلَكِها ثمودُ

وكتب له مروان إلى بعض عُماله ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار، فارتاب بكتاب مروان، فجاء إليه وقال:

مروان إنَّ مطيتي مَعقولة
ترجو الحباء وربُّها لم يَيئَسِ
أتيتني بصحيفةٍ مختومة
يُخشى عليَّ بها حباء النقرسِ
ألقِ الصحيفة يا فرزدق لا تكن
نكدًا كَمِثلِ صحيفة المُتلمِّسِ
ورمى بها إلى مروان، فضحك وقال: ويحك، إنك أميٌّ لا تقرأ، فاذهب بها إلى من يقرؤها ثم ردَّها حتى أختمها.٣ قال الفرزدق: فخرجت أريد اليمن، حتى إذا صرتُ بأعلى ذي قسي — وهو طريق اليمن من البصرة — فإذا رجل مُقبِل، فقلت: مِن أين وضح الراكب؟ قال: مِن البَصرة. قلت: فما الخبر وراءك؟ قال: أتانا أنَّ زيادًا مات بالكوفة. قال: فنزلتُ عن راحلتي فسجَدت، وقلتُ لو رجعت فمدحتُ عُبَيد الله بن زياد وهجوتُ مروان بن الحكم، فقلت:
وقفتُ بأعلى ذي قسيٍّ مطيَّتي
أمثل في مروان وابن زيادِ
فقلتُ عبيد الله خيرهما لنا
وأدناهما من رأفة وسدادِ

ولما رثى المسكين الدارمي زيادًا بقوله:

رأيتُ زيادةَ الإسلام ولَّتْ
جهارًا حين ودَّعَنا زيادُ

قال الفرزدق لمسكين ولم يكن هَجا زيادًا حتى مات:

أمسكينُ أبكى الله عينك إنما
جرى في ضلالٍ دمعها فتحدَّرا
بكيتَ امرأً مِن آل ميسان كافرًا
ككسرى على عدَّانه أو كقَيصرا
أقول له لما أتانيَ نَعيُه
به لا بظبْي بالصريمة أعفرا

وفي موت زياد يقول:

أبلغ زيادًا إذا لاقيتَ مصرعه
أن الحمامة قد طارَت من الحرمِ
طارت فما زال يَنميها قوادمها
حتى استغاثَت إلى الأنهار والأجم

وكانت إقامة الفرزدق بالحجاز ثلاث سنوات، ولم يعُد إلى البصرة إلا بعد موت زياد سنة ثلاث وخمسين.

ومن الحوادث الهامة في حياة الفرزدق المهاجاة التي وقعت بينه وبين جرير؛ فقد دامت نحوًا من خمسين سنة كانا فيها فرسَي رهان، ويَغلِب على الظن أنها حدثَت بينهما في أواخر أيام معاوية؛ لأن يزيد بن معاوية تمثَّل أمام أبيه بقول جرير:

فأنتَ أبي ما لم تكن ليَ حاجة
فإن عرضَت أيقنتُ أنْ لا أَبا ليا

وهو بيت من قصيدة هجا بها الفرزدق، وسبب المهاجاة هو أن البُعيث المجاشعي الشاعر هجاه جرير ونال من نساء مجاشع، وكان الفرزدق إذ ذاك بالبصرة قد عاهد الله على حفظ القرآن، فقيَّد نفسه وحلف أن لا يُطلق قيده حتى يحفظ القرآن، وبلغ نساء بني مجاشع فُحش جريرٍ بهن، فأتَين الفرزدق وهو مُقيد فقُلن له: قبَّح الله قَيدَك، فقد هتَكَ جرير عورات نسائك، فلُحِّيت شاعر قوم. فأحفَظنه ففضَّ قيده ثم قال يهجو البُعيث ويُعرِّض بجرير من غير أن يصرح باسمه:

ألا استهزأَتْ مني هُنيدة أن رأت
أسيرًا يُداني خَطوُه حِلَقَ الحَجلِ
ولو علمَتْ أنَّ الوثاقَ أشدُّه
إلى النار قالت لي مقالة ذي عَقلِ
لعَمري لئن قيَّدتُ نفسي لطالَما
سعيتُ وأوضعتُ المطية للجهلِ
ثلاثين عامًا ما أرى مِن عمائةٍ
إذا برَقتْ إلا شَددتُ لها رحلي
أتتْني أحاديثُ البعيث ودونه
زرود فشامات الشَّقيف إلى الرملِ
فقلتُ أظَنَّ ابنُ الخبيثة أنني
شُغلتُ عن الرامي الكنانةَ بالنبلِ
فإن يكُ قيدي كانَ نذرًا نذرته
فما بي عن أحسابِ قوميَ مِن شغلِ
أنا الضامِن الراعي عليهم وإنما
يُدافِع عن أحسابهم أنا أو مِثلي

إلى آخر القصيدة، فنقَضَها جرير بقصيدة هجا بها البعيث والفرزدق مُصرِّحًا باسمه، أولها:

عُوجي علينا واربَعي ربة البَغلِ
ولا تَقتُليني لا يحلُّ لكم قتلي

فاضطرَّ حينئذٍ الفرزدق أن يبرز لخصمه، فأجابه بقصيدة كانت أول قصيدة هجا بها جريرًا صراحةً، وقرن معه البعيث، ومطلعها:

ألم ترَ أني يوم جوِّ سويقة
بكيتُ فنادَتْني هُنيدة ما ليا؟

واستمرَّت هذه المهاجاة بينهما منذ ذلك الحين إلى أن مات الفرزدق.

ومن الحوادث التي كان لها أثر في حياة الفرزدق وشعره زواجُه بابنة عمه النوار ابنة أعين بن ضبيعة؛ وخبر ذلك أنَّ النوار خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيَته، وكان الفرزدق وليَّها، فأرسلت إليه أن زوِّجني من هذا الرجل، فقال: لا أفعل أو تُشهدينني أنكِ رضيتِ بمن زوجتُكِ، ففعلَت. فلما توثَّق منها قال: أرسلي إلى القوم فليأتوا. فجاءت بنو عبد الله بن دارم، فشحنوا مسجد بني مجاشع، وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولَّتني أمرها، وأُشهدكم أني قد زوَّجتها نَفسي على مائة ناقة حمراء سُود الحدقة. فنفَرَتْ من ذلك وشخصَت إلى ابن الزبير بمكة، وهو يومئذٍ أمير الحجاز والعراق يُدعى له بالخلافة، واستجارت بخولة بنت منظور بن زبان، زوج ابن الزبير، ولحقها الفرزدق ونزَل على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه واستحدثوه، ثم شفعوا له إلى أبيهم، فجعل يُشفِّعهم في الظاهر، حتى إذا صار إلى خولة قلبتْه عن رأيه، فقال الفرزدق في ذلك:

أمَّا بنوه فلم تُقبَل شفاعتُهم
وشُفِّعتْ بنتُ منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يَأتيكَ مؤتزرًا
مثل الشفيع الذي يأتيك عُريانًا

وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة، فاصطلحا على أن يَرجعا إلى البصرة ويصيرا على حكم بني تميم. فلما بلغا البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها، ومكثت عنده زمنًا على كره، ترضى عنه حينًا وتُخاصمه حينًا، وكانت امرأة صالحة، وقد تزوَّج عليها ليَغيظها، فلم تزل تُرقِّقه وتَستعطِفُه حتى أجابها إلى طلاقها، وأخَذَ عليها أن لا تُفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج رجلًا بعده، ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له. وكان ندمُه شديدًا بعد أن طلقها، وفي ذلك يقول:

ندمتُ ندامة الكسعيِّ لمَّا
غدتْ مني مُطلَّقة نوارُ
ولو أني ملكتُ يدي وقلبي
لكان عليَّ للقدر الخيارُ
وكانت جنَّتي فخرجتُ منها
كآدم حين أخرجه الضرارُ
وكنتُ كفاقئ عينيه عمدًا
فأصبحَ ما يُضيء له النهارُ

وماتت النوار في حياته، وله فيها منذ تزوجها إلى أن ماتت أشعار كثيرة.

والفرزدق على شُهرته وكرم بيته لم يكن له كبير حظٍّ عند أكثر وُلاة العراق لتقلُّبه وخُبث لسانه؛ فقد مرَّ أنه هرب من زياد بن أبيه إلى الحجاز، ولم يَعُد إلى البصرة إلا بعد موت زياد، ولم يَضطهده عبيد الله بن زياد عامل العراق، فلما مات يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وضَعُف ابنه عن القيام بالأمر من بعده، خلَع أهل البصرة ابن زياد واختاروا واليًا عليهم عبد الله بن الحرث الملقَّب بببَّة، وكتبوا إلى ابنِ الزبير بالبيعة، وفي ذلك يقول الفرزدق:

وبايعتُ أقوامًا وفيتُ بعهدهم
وبَبَّة قد بايعتُه غير نادمِ
فلما استعاد عبد الملك العراق وولَّى أخاه بشرًا الكوفة والبصرة سنة أربع وسبعين مدَحَه الفرزدق،٤ فقرَّبه بشر وكان يؤثره، ولكن أيامه لم تَطُل، بل مات بالبصرة سنة خمس وسبعين، ورثاه الفرزدق قائمًا على قبره. فلما وليَ الحَجَّاج سنة خمس وسبعين خافه الفرزدق كثيرًا، وتقرَّب إليه بالمدح وغلا في تقريظه فلم يُصَب بسوء، أما آل المهلَّب فقد هجاهم ومدَحهم، ولما وليَ عمر بن هبيرة العراق من قِبَل يزيد بن عبد الملك قال الفرزدق:
أمير المؤمنين وأنتَ عفٌّ
كريم لستَ بالطبع الحريص
أَأولَيتَ العراق ورافدَيه
فزاريًّا أحذَّ يدِ القميص
ولم يكُ قبلها راعي مخاض
ليأمنه على وركَي قلوص
تفنَّنَ بالعراق أبو المثنى
وعلَّم أهله أكلَ الخبيص

وهجاه بغير ذلك، فحبسه عمر ثم أطلَقه، فلما عُزل وحُبس مدحه الفرزدق، فقال: ما رأيت أكرم منه، هجاني أميرًا ومدحني أسيرًا.

ثم ولي خالد بن عبد الله القسري مِن قِبل هشام بن عبد الملك، فقال الفرزدق:

ألا قطعَ الرحمن ظهر مطيَّة
أتَتنا تُخطِّي من دمشقٍ بخالدِ
وكيف يؤمِّ المسلمين وأمُّه
تَدين بأن الله ليس بواحدِ

فحقد عليه وتربَّص به الدوائر، واعتلَّ بهجائه نهر المبارك الذي حفره خالد، فأمر بحبسِه، فخاف الفرزدق كثيرًا ومدح خالدًا وهو محبوس، واستجار بهشام ومدَحَه كثيرًا، وكان مما قاله في السجن:

أبلِغْ أمير المؤمنين رسالة
فعجِّل هداكَ الله نزعَك خالدًا
بنى بيعة فيها الصليبُ لأمه
وهدَّم من بُغضِ الصلاة المساجدا

فأمر هشام بإطلاقه.

وعُمِّر الفرزدق طويلًا ونيَّف على التسعين، وتُوفي بالبصرة سنة ١١٠، وقيل سنة ١١٢، وقيل سنة ١١٤، وقبره بالبصرة في مقابر بني تميم، وكان مرضه ذات الجنب، وقيل: الدبيلة، فوُصف له أن يشرب النفط الأبيض، فقال لابنه لبطة: يا بُني، عجَّلتَ لأبيك شراب أهل النار. وأوصى وهو في مرضه عتق عبيده بعد موته وبدفع شيء من ماله إليهم، فلما احتُضر جمع سائر أهل بيته وأنشأ يقول:

أروني مَن يقوم لكم مقامي
إذا ما الأمرُ جلَّ عن الخطاب
إلى مَن تَفزعون إذا حثوتم
بأيديكم عليَّ من التراب

فقال له بعض عبيده الذين أمر بعتقِهم: إلى الله. فأمر ببَيعِه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه.

ومن زوجات الفرزدق: النُّوار بنت أعين بن ضيعة المجاشعي، وليست أول زوجاته؛ لأنه يقول:

وقد سخطت مني نوار الذي ارتَضَت
به قبلها الأزواج خابَ رحيلُها

وقد طلقها كما مرَّ، وحدراء بنت زيق الشيباني، تُوفيت قبل أن يَبني عليها. ورهيمة بنت غني النمرية، نشزت فطلقها وقال من أبيات:

لها بشر شثنٌ كأنَّ مضمَّه
إذا عانقت بعلًا مضمُّ قتادِ
قرنتُ بنفسي الشؤم في وردِ حوضها
فجُرعتُه ملحًا بماءِ رمادِ
وما زلت حتى فرَّق الله بيننا
له الحمد منها في أذًى وجهادِ

وظبية ابنة حالم من بني مجاشع، تزوجها بعد أن أسنَّ فنشزَت منه. وورَد في شعره ذكر امرأة اسمها سويدة، قال (الديوان، طبعة بوشر، ص١٣٢):

ألا زعمت عرسي سويدة أنها
سريع عليها حفظتي للمَعَاتبِ

عدا من ملكت يمينه، وكان يحب التزوُّج بالزنجيَّات.

وأما أولاده فقد ذكرهم صاحب الأغاني، فقال: وكان له من الولد خبطة ولبطة وسبطة، هؤلاء هم المعروفون، وكان له غيرهم فماتوا ولم يُعرفوا. وكان له بنات خمس أو ست، ذكر منهنَّ واحدة اسمها مكيَّة كانت أمها زنجية، وكان الفرزدق إذا حميَ الوطيس وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقول:

ذاكم إذا ما كنتُ ذا محميَّه
بدارمي أمه ضبِّية
صمحمح يُكنى أبا مكِّيَّه

وكان ابنه لبطة من العقَقة، وفيه يقول:

أإن أرعشَتْ كفَّا أبيكَ وأصبحَتْ
يداك يدَي ليثٍ فإنَّك جاذبه
إذا غالبَ ابنٌ بالشباب أبًا له
كبيرًا فإن الله لا بدَّ غالبُه

وذكر للَبْطةَ هذا ولد اسمه أعين، وانقطع نسل الفرزدق من جهة أولاده الذكور. وكان للفرزدق حلقة خاصة في المربد، وكان له رواة يكتبون شعره ويروونه، منهم: أبو شفقل، وعمرو بن عفراء الضبي، وعُبيد بن حنظلة، وعبد الله بن زالان، وعبد الله بن عطية، وابن مثوبة.

١  قال المرزباني في معجم الشعراء: «وبيت الفرزدق من أشرف بيوت بني تميم، ومِن شرفِه أنه ليس بينه وبين معد بن عدنان أب مجهول.»
٢  ورد في ديوان الفرزدق (طبعة بوشر، ص٢٢٨) ما نصه: وقال الفرزدق وهو أول ما قال من الشعر:
شاهد إذا ما كنت ذا محمية
بدارميٍّ أمه ضبِّية
صمحمح مثل أبي مكية
وقال الفرزدق في أول ما قاله:
يا حبذا نَضحك بالمشافر
كأنه تَهتان يومٍ ماطر
٣  ولكن ورد في ديوان الفرزدق (طبعة بوشر، ص١٨١، آخر سطر) ما يدل على أن الفرزدق كان يقرأ: «… وجعل الفرزدق يقرأ الكتب … إلخ.»
٤  انظر: ابن عساكر، ج٣، ص٢٤٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤