الأدب والحكمة

للفرزدق في الأدب والحكمة مقدار من الأبيات لا بأس به، يَشتمل بعضها على رأيٍ صحيح أو حكمة حسنة أو قول يُتمثَّل به، وهذا الضرب يُمثِّل الرُّوح العربية في أدبها وحكمتها؛ كقوله:

لا يُعجبنَّك دنيا أنت تاركها
كم نالها مِن أُناسٍ ثم قد ذهبوا
يَفنى أخوك فلن تَلقى له خلفًا
والمال بعد ذهاب المال يُكتسب

وقوله:

أرى كل حيٍّ ميتًا فمُودِّعًا
وإن عاش دهرًا لم تَنُبه النوائبُ

وقوله:

سلوت عن الدهر الذي كان معجبًا
ومثل الذي قد كان من دَهرِنا يُسلي
وأيقنتُ أني لا محالةَ ميتٌ
فمتَّبعٌ آثار من قد خلا قبلي
وإني الذي لا بدَّ أن سيُصيبه
حمام المنايا من وفاة ومِن قَتلِ
فما أنا بالباقي ولا الدَّهرُ فاعلَمي
براضٍ بما قد كان أذهَب مِن عَقلي
ولا مُنصفي يومًا فأُدرك عندَه
مظالمَه عندي ولا تاركًا أكلي
وأين أخِلَّائي الذين عَهدتُهم
وكلهم قد كان في غِبطة مثلي
دعتْهم مقادير فأصبحتُ بعدهم
بقية دهر ليس يُسبَق بالذحل

وقوله:

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرًا
مثل الشفيع الذي يَأتيك عُريانًا

وقوله:

فكان كعنز السوء قامت بظلفها
إلى مُديَةٍ وسط التراب تُثيرها

وقوله:

ألم تَعلموا يا آل طوعة أنما
يهيج جليلات الأمور دقيقها

وقوله:

فقد تَلتقي الأسماء في الناس والكُنى
كثيرًا، ولكن لا تَلاقى الخلائق

وقوله:

وليس شباب بعد شيب براجعٍ
يد الدهر حتى يَرجع الدرَّ حالبُه

وهكذا بقية أبياته المقلَّدة، وقد سبق إيراد أكثرها.

وللفرزدق ضرب آخر فيه زُهد ونسك وتوبة ووعظ وإقرار بالذنب وزجر للنفس، وهذا الضرب يُمثِّل الروح المتأثِّرة بالدين، وهو في كلا الضربَين يُمثل الشاعر الإسلامي في عصر بني أمية، عصر العروبة المتأثِّرة بالإسلام؛ من ذلك قوله:

ألا كلُّ شيء في يد الله بالغُ
له أجل عن يومه لا يُحوَّلُ
وإن الذي يغترُّ بالله ضائع
ولكن سيُنجي الله من يتوكلُ
تُبيِّن ما يخفى على الناس غيبه
ليالٍ وأيامٌ على الناس دُوَّلُ
يَبين لك الشيء الذي أنت جاهل
بذلك علَّام به حين تسألُ
ألا كل نفس سوف يأتي وراءها
إلى يوم يلقاها الكتاب المؤجلُ

وله قصيدة يعلن فيها توبته ويهجو بها إبليس، منها قوله:

ألم ترني عاهدتُ ربي وإنني
لبين رتاجٍ قائمٌ ومقامِ
على قسمٍ لا أشتُمُ الدهر مسلمًا
ولا خارجًا من فِيَّ سوءُ كلام
ألم ترني والشعر أصبح بيننا
دروءٌ من الإسلام ذات حوام
بهنَّ شفى الرحمن صدري وقد جلا
عشا بصري منهنَّ ضوء ظلام
فأصبحتُ أسعى في فكاك قلادة
رهينة أوزار عليَّ عظام
أُحاذر أن أُدعى وحَوضي مُحلِّق
إذا كان يوم الوِرد يوم خصام
ولم أنتهِ حتى أحاطَت خطيئتي
ورائي ودقَّتْ للدهور عظامي
أطعتُك يا إبليس سبعين حِجَّة
فلما انتهى شيبي وتمَّ تمامي
فررتُ إلى ربي وأيقنتُ أنني
مُلاقٍ لأيام المنون حمامي
ألا طالما قد بِتُّ يُوضع ناقتي
أبو الجن إبليس بغير خِطام
يُبشرني أن لن أموت وأنه
سيُخلدني في جنةٍ وسلامِ
وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغي
رضاه ولا يقتادني بزمام
سأجزيك مِن سَوءات ما كنتَ سُقتني
إليه جروحًا فيك ذات كِلام
تُعيِّرها في النار والنار تلتقي
عليك بزقُّوم لها وضِرام

وهناك أبيات تجري هذا المجرى سبق إيرادها في فصل تأثُّره بالإسلام.

•••

وللفرزدق معانٍ لا تدخل تحت باب من هذه الأبواب، ولكنها ذات بال؛ لأنها تلقي نورًا على حياة الفرزدق الخاصة وحياة محيطه، نُظمت في حوادث خاصة وعامة، تارةً تكون مستقلة وتارة تكون ضمن قصائد المدح أو الهجاء، كأقواله في اختلافه مع زوجه النوار، ومقاضاته لدى ابن الزبير، وهربه من زياد والتجائه إلى القبائل والأشخاص، وما لقيَه في سفره من وحشٍ وسبع، وما قاله في حبسه وفي عقوق ابنه، وما كان يقوله في توليَة الولاة وعزلهم، كمسلمة بن عبد الملك، وابن هبيرة، وخالد بن عبد الله القسري، وابن المهلَّب، وانتقام خلفهم من سلفهم كما وقع لابن هبيرة من القسري، وكشكواه من جور العمال وجُباتهم وإرهاقهم الرعية بالعسف والشدة، وتسخير الناس بحفر الأنهُر، وكقوله في ثورتي ابن الأشعث وابن المهلب على بني أمية، إلى غير ذلك من الأغراض التي تصور حياة المحيط الذي كان يعيش فيه الفرزدق، وقد سبق إيراد كثير منها، ونورد الآن قسمًا آخر منها، قال يشكو إلى الوليد بن عبد الملك جور عاملٍ:

أميرَ المؤمنين وأنت تشفي
بعدل يديكَ أدواءَ الصُّدورِ
فكيف بعاملٍ يَسعى علينا
يُكلِّفنا الدراهم في البدور
وأنَّى بالدراهم وهيَ منا
كرافعِ راحتَيهِ إلى العَبورِ
إذا سُقنا الفرائض لم يُردها
وصدَّ عن الشُّويهة والبعير
إذا وضَعَ السياط لنا نهارًا
أخذنا بالربا سَرَق الحرير١
فأدخَلنا جهنم ما أخذنا
من الأرباء مِن دُونِ الظُّهورِ٢
فلو سمعَ الخليفة صوتَ داع
يُنادي الله هل لي مِن مُجيرِ
وأصوات النساء مقرَّنات
وصبيان لهنَّ على الحُجورِ
إذًا لأجابهنَّ لسانُ داعٍ
لدين الله مِغضابٍ نَصورِ

وقال يشكو إلى سليمان بن عبد الملك:

ويُجمِّرون٣ بغَير أُعطية
في البرِّ مَن بُعثوا وفي البحرِ
ويُكلِّفون أباعرًا ذهبتْ
جيفًا بلين تقادمَ العصر
حتى غَبطنا كل مُحتمل
يُمشى بأعظمه إلى القَبر
وتمنَّت الأحياء أنَّهم
تحت التراب وجيء بالحَشر
ما أصبحَت أرضُ العراق بها
ورق لمُختبط ولا قشرِ

وقال في نهر المبارك الذي حفره خالد بن عبد الله القسري بواسط:

وأهلكتَ مالَ الله في غير حقِّه
على نهرِكَ المشئوم غير المباركِ
وتَضرب أقوامًا صحاحًا ظهورهم
وتَترُك حق الله في ظهر مالكِ

هذه دراسة موجزة للفرزدق شاعر العرب في العصر الأموي، ورأس الشعراء الإسلاميين، لا أدَّعي أنها كاملة ولكن أرجو أن تكون صحيحة.

١  السَّرَق: الشقاق، واحده سَرَقَة.
٢  يقول: أخذنا الحرام خوفًا على ظهورنا أن تقع عليها السياط.
٣  التجمير: حبس الجيوش في المغازي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤