صفته وأخلاقه

كان الفرزدق قصيرًا ضخمًا، ذا وجه جهم مدوَّر مجدور، أصلع، يُرسل ما وراء صلعته من شعره ضفيرتين يُخضبهما مع لحيته بالحنَّاء، قال:

خضبتُ بجيِّد الحناء رأسي
ليَعقُب حُمرة بعد البياضِ
هما لونان من هذا وهذا
كِلا اللونَين لستُ له براضِ

وقال جرير وسمَّاه بالقريد الأصلع:

ولقد صككتُ بني الفدوكس صكة
فلقوا كما لقيَ القريد الأصلعُ

وقال:

وهل كان الفرزدق غير قردٍ
أصابتْه الصَّواعق فاستَدارا

وقال يُعيِّره القِصَر والثرثرة:

وإذا بطنتَ فأنتَ يا ابن مجاشع
عند الهَوانِ جُنادف نثَّارُ
وكان الفرزدق صغير القدمين، يَعتمُّ بعمامة كبيرة شبَّهه صاحب الأغاني بالمنسف، ووصف ثيابه إبراهيم الزهري فقال: «طلع الفرزدق علينا في حلَّة أفواف يَمانية موشَّاة له غديرتان.» وكان في مواقف المفاخرة يَرتدي الألبسة الفاخرة، قال الحجاج يومًا له ولجرير: ايتياني في لباس آبائكما في الجاهلية، فلبسَ الفرزدق الديباج والخز وقعد في قُبة،١ ولبس جرير درعًا وتقلَّد سيفًا وأخذ رمحًا وركب فرسًا، وأقبل في أربعين فارسًا، وقال في ذلك:
لبستُ سلاحي والفرزدق لعبة
عليه وشاحا كُرَّج وخلاخلُهْ
أعدوا مع الخزِّ الملاء فإنما
جريرٌ لكم بعلُ وأنتم حلائلهْ

وقال:

وبنا يُدافَع كلُّ أمر عظيمة
ليسَت كنَزوِك في ثياب الكُرَّقِ

والكرق: هو الكرج الذي يَلعَب به المخنثون.

وكان الفرزدق فخورًا تيَّاها، يَفخر بنفسه وبآبائه، ويُعظِّم قبر أبيه ويُقدس ذكراه، أخذ على نفسه أن يُجير كلَّ من استجار بقبر أبيه. ذكروا أن امرأة أتت الفرزدق، فقالت له: إني عُذتُ بقبر غالب، قال: ما حاجتك؟ قالت: إن ابني في بعث السند مع تميم بن زيد القيني، وقد جعلتُ على نفسي أن لا أفارق القبر حتى يُردَّ إليَّ ابني. وكان اسم ابنها خنيسًا، فكتب الفرزدق إلى تميم بن زيد:

تميم بن زيد لا تكونَّن حاجتي
بظهرٍ فلا يَعيا عليَّ جوابها
فهب لي خُنيسًا واتَّخذ فيه مِنَّةً
لحوبة أمٍّ ما يَسوغُ شَرابها
أتَتْني فعاذَت يا تَميم بغالبٍ
وبالحُفرة السافي عليه ترابها

فلم يدرِ تميم أخُنَيس أم حبيش، فأطلق كل من اسمه على هذا الهجاء.

وأصاب رجل دمًا فاستَغاث بقبر غالب، فافتكَّه الفرزدق بمائة ناقة، وفي ذلك يقول الفرزدق:

دعا دعوةً بين المُقرِّين غالبًا
وعاذ بقبرٍ تَحته خير أعظمِ
فقلتُ له أُقريك من قبرِ غالب
هُنيدةَ إن كانت شفاء من الدم
يَنام الطريد بعدها نومة الضحى
ويَرضى بها ذو الإحنة المتحرِّم
ألا هل عَلمتم ميِّتًا قبل غالب
قرى مائةً ضيفًا له لم يُكلم؟!

وضرب مكاتبٌ لبني منقر خيمة على قبر غالب، فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناءً على قبر غالب أبيه، ثم قدم عليه المكاتب وهو بالمربد فقال:

بقبر ابنِ ليلى غالبٍ عُذتُ بعدما
خشيتُ الردَّى أو أن أرد على قسرِ
فخاطبني قبرُ ابن ليلى وقال لي
فكاكك أن تَلقى الفرزدق بالمصرِ

فقال له الفرزدق: صدق أبي، أنخ أنخ، ثم طافَ في الناس حتى جمع له كتابته وفضلًا.

وقد أبى عليه كرمه أن يأخذ ميراثه من زوجه حدراء بنت زيق الشيباني؛ وذلك أنها توفيت قبل أن يَبني عليها، فقال له أبوها — وكان نصرانيًّا: قد عرفنا في دينكم الذي يُصيبك من ميراثها النصف، فهو لك عندنا. قال: لا والله لا أرزؤك منه قطميرًا، وهذه صدقتها فاقبضها. فقال: يا بني دارم، والله ما شارَكَنا أكرم منكم لأصهاركم في الحياة، ولا أكرم منكم شركة في الممات.

وكان صافن رجلًا من بني العنبر إداوةً في وقتِ فرامه العنبري وسامه أن يُؤثِره، فلم تطب نفسه عن نفسه، فقال:٢
فلما تصافنَّا٣ الإداوة أُجهشت
إلي غصون العنبري الجُراضمِ
فجاء بجلمودٍ له مثل رأسه
ليشرب ماء القوم بين الصَّرائمِ
على ساعة لو أن في القوم حاتمًا
على جوده ضنَّت به نفسُ حاتم

وهو مع هذا الكرم لا يستنكف من الاستجداء بشِعره؛ فقد كان في مدحه لخلفاء بني أمية يشكو الخلَّة ويطلب المعونة، وربما هدَّد الرؤساء والأغنياء بالهجاء إذا لم يبذلوا له ما يريد. قال المبرد (الكامل، ج١، ص٢١٣): وعد خالد بن صفوان الفرزدق شيئًا فأخَّره عنه، فمرَّ به الفرزدق فهدَّده، فأمسك عنه حتى جاز الفرزدق، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن هذا قد جعل إحدى يدَيه سطحًا وملأ الأخرى سلحًا، وقال إن عمَّرتم سطحي وإلا نضحتُكم بسلحي. وكان لا يرى غضاضة في الأخذ ممن هو مثله أو دونه، زار مرةً وهو في الحجاز كُثيِّر عزة، فأعطاه عشرين دينارًا، قال الفرزدق: هممتُ أن لا أقبل منه، فدعَتْني نفسي وهي طَمِعة إلى أخذها منه فأخذتها. ودخل يومًا المربد فلقيَ رجلًا من موالي باهلة ومعه نحي من سمن يَبيعه، فسامه إياه، فقال له أدفعه إليك وتهبُ لي أعراض قومي؟ فرضي.

ولا تحسب أن هذا التناقُض في أخلاق الفرزدق يقف عند هذا الحد، بل هناك مجموعة من المتناقضات، فكما أنه جوَّاد وسئول فهو أيضًا جافٌّ خشن، وإلى جفائه دعابة ونكتة وجواب حاضر، دخل مرة على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة فضحكوا، فقال: يا أبا فِراس! أتدري مما ضحكوا؟ قال: لا. قال: من جفائك. وليس أدل على قساوة طبعه وخشونته من كره أزواجه له ونشوزهنَّ منه؛ فقد تزوج النوار بحيلة فلجأت إلى ابن الزبير بالحجاز ليُفرِّق بينهما، فما زال الفرزدق يستعطفها حتى عادَت معه على كُرهٍ وعاشت معه عيشة نَكد إلى أن طلقها بعد أن بذلت في سبيل ذلك كل وسيلة، وهو نفسه يُخبرنا كيف كان تضيق به ذرعًا فتنتف لحيته، قال:

قامت نوار إليَّ تَنتِف لحيتي
تَنتاف جعدة لحية الخَشخاشِ
كِلتاهما أسد إذا ما أُغضبت
وإذا رضينَ فهنَّ خير معاش

وزوجتاه رهيمة النمرية وظبية ابنة حالم نشَزَتا فطلَّقَهما، ولعل جفاء طبعه أحرج ابنه لبطة فجعله عاقًّا.

ولكنه إلى جنبِ ذلك يَميل إلى الدعابة في كثيرٍ من الأحيان، وله فيها أشياء مُستملَحة: كان لرجل من بني تميم على شرطة البصرة امرأة جميلة، فراصده الفَرزدق يومًا حتى مرَّ إلى مجلسه، ثم لم يَزَل يحومُ حول داره حتى لقيَ امرأته ومعها جارية لها، وكان عليه ثوب وشي، فقالت الجارية لمولاتها: ألا ترين هذا البُرد على هذا الأعرابي، ما أحسنه! فقال لها الفرزدق: هل لكِ أن أُقبِّل مولاتكِ قُبلة وأُعطيكِ هذا البرد؟ فقالت الجارية لمولاتها: وما عليكِ من هذا الأعرابي الأحمق. فلما تابعَتْه على ذلك قبَّلها ودفع البرد إلى الجارية وقال لها: اسقيني ماء. فأتَته بماء في قدحٍ زجاج، فلما وضعته في يده ألقاه فانكسر، ثم قعد قريبًا من باب الدار، فلمَّا أتى الرجل أبصره ببابه، فقال: ما يُقعدك ها هنا يا أبا فراس؟ ألك حاجة؟ قال: لا، ولكني استسقيتُ أهل البيت فأتوني بقدحٍ فانكسر فأخذوا بُردي رهنًا. فدخل الرجل فشتم أهله ثم قال: ردُّوا على الفرزدق بُرده.

ومرَّ الفرزدق يومًا بمجلس بني حرام، فقال له عنبسة مولى عثمان بن عفان: يا أبا فراس، متى تذهب إلى الآخرة؟ قال: وما حاجتك إلى ذاك يا أخي؟ قال: أكتب معك إلى أبي، قال: أنا أذهب إلى حيث أبوك في النار؟ اكتب إليه مع ريالويه واصطفانوس. وهجا مرة روايته عمرو بن عفراء الضبي، فغضب وأتاه في نادي قومه، وكان مما قال له: والله لا تَنهاني عن شيء إلا أتيته. فقال الفرزدق: فاشهدوا أني أنهاه أن يَنال أمه. وذكر صاحب الأغاني أن هاشم بن القاسم العنزي قال: جمعني والفرزدق مجلس، فتجاهلت عليه، فقلتُ: مَن أنت؟ قال: أما تعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو فراس، قلت: ومن أبو فِراس؟ قال: أنا الفرزدق، قلت: ومَن الفرزدق؟ قال: أوَ ما تعرف الفرزدق؟ قلت: أعرف الفرزدق أنه شيء يتَّخذه النساء عندنا يتسمنَّ به، فضحك وقال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم. ولما وُصف له النفط في مرضه الذي مات به قال لابنه: يا بُني، عجَّلتَ لأبيك شراب أهل النار.

وكان الفرزدق فاسقًا ماجنًا خليعًا يشرب الخمر — إن وجد إليها سبيلًا — ويأتي المنكرات ولا يَزعُه عن الفواحش حياء أو دين أو شيب، ويُجاهر بالمعاصي، قال في شرب الخمر:

وإجَّانة ريا الشروب كأنها
إذا اغتُمسَت فيها الزجاجة كوكبُ
مختَّمة من عهد كِسرى بن هرمز
بكرنا عليها والفراريح تَنعبُ
سبقتُ بها يوم القيامة إذ دنا
وما للصبي بعد القيامة مطلبُ

وقال يُجاهر بالمعاصي:

أما الزِّناء فإني لستُ تاركه
والمال بيني وبين المرء نصفانِ

وطالما هجاه جرير بشرب الخمر والفجور، وأخبار مُجونِه وخلاعته مُدوَّنة في كتب الأدب. ولكنه مع ذلك كان حَسَن الإيمان بالله، يُقيم الصلوات، ويُعجبه من قومه أن يتدارسوا القرآن ويُكثروا من تلاوته، يُقرُّ بذنوبه ويستغفر الله لها ويخشى عذاب الآخرة، ويَهجو إبليس الذي يُزيِّن له المعاصي ويُطغيه. قال المبرد في الكامل (ج١، ص٥٧): التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: كلا لستُ بخيرهم ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة، وخمس نجائب لا يُدركن، يعني: الصلوات الخمس. وقال: كان الفرزدق يخرج من منزله فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم فيُسَرُّ بذلك ويَجذل به ويقول: إيهٍ فدًى لكم أبي وأمي، كذا والله كان آباؤكم.

وقال: والفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلَّق بأستار الكعبة وعاهد الله أن لا يكذب ولا يشتم مسلمًا:

ألم تَرني عاهدتُ ربي وأنني
لبَين رتاج قائمًا ومقامِ
على حلفةٍ لا أشتم الدهر مسلمًا
ولا خارجًا من فيَّ زور كلام

وفي هذا الشعر:

أطعتُكَ يا إبليس تسعينَ حَجَّة
فلما انقَضى عمري وتمَّ تمامي
رجعتُ إلى ربي وأيقنتُ أنني
مُلاقٍ لأيامِ المنون حمامي

وقال صاحب الأغاني: قال الرقاشي: خرجتُ في ليلة باردة فدخلت المسجد، فسمعت نشيجًا وبكاءً كثيرًا، فلم أعلم من صاحب ذلك، إلى أن أسفر الصبح فإذا الفرزدق، فقلتُ: يا أبا فراس، تركت النوار وهي لينة الدثار دفئة الشعار. قال: إني والله ذكرت ذنوبي فأقلقَتْني ففزعتُ إلى الله عزَّ وجل.

وكان على تبجُّحه بتفليق الجماجم وحزِّ الغلاصم من أجبنِ خلق الله، إذا قيل له أجب الأمير أخذته القشعريرة وصار أودع مِن حمامة، قال لمَّا طلبه زياد بن أبيه:

إذا ذكرَتْ نفسي زيادًا انكمشَتْ
من الخوف أحشائي وشابَتْ مفارقي

وقال:

أتاني وعيدٌ من زيادٍ فلم أَنَمْ
وسيل اللوى دوني وهَضبُ التهائمِ
فبِتُّ كأني مشعر خيبرية
سَرَتْ في عظامي أو سمام الأراقمِ
فدعني أكن ما كنتُ حيًّا حمامة
من القاطنات البيت غير الروائمِ

قال القالي في ذيل الأمالي (ص٧٦): «لمَّا كان يوم من أيام دير الجماجم حمل حاجب بن خشينة العبشمي في الخيل على أهل العراق مع الحجاج فأزال صفوفهم، فقال الحجاج للفرزدق وهو عنده: ألا ترى ما أكرم حملة ابن عمِّك؟ فقال: أيها الأمير، إنه رجل جوَّاد، وقد سفر ماله (أي مزقه)، فحمل حملة مفلس. فقال له الحجاج: فهل لك أن تحمل كما حملَ وأُلحِق عطاءك بعطائه؟ فقال: إني أخاف إذا حملت أن يَنقطِع أصل العطاء.»

وكان لصَّان في طريق البصرة يُسمَّيان «الشبثين»؟ يقطعان الطريق ويَسلُبان الناس، فقال الفرزدق يتمنى لقاءهما ليُريح الناس من شرِّهما:

يا ليتني «والشبثين»؟ نلتقي
ببلدٍ ليس به من نتَّقي
ثم يُحاط حولنا بخندقٍ
ثم يُقال يا فرزدقُ اصدُقِ

فبلغهما تمنِّيه لقاءهما فلقياه، وتمت الرواية بأن عبَثا به وأخذا منه شيئًا ثم ردَّاه إليه.

وربما تنادر عليه الناس بالتخويف والتهويل، قال صاحب الأغاني: بينما الفرزدق جالس بالبصرة أيام زياد في سكة ليس لها منفذ، إذ مرَّ به رجلان من قومه كانا في الشرطة وهما راكبان، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن أفزعه؟ وكان جبانًا، فحرَّكا دابَّتيهما نحوه فأدبر مُولِّيًّا، فعثر في طرف برده فشقَّه وانقطع شسع نعله وانصرفا عنه، وعرف أنهما هَزَءا منه فقال:

لقد خار إذ يَجري على حماره
ضرار الخنا والعنبريُّ ابن أخوقا
وما كنتُ لو خوَّفتُماني كلاكما
بأميكما عن بانتَين لأَفرُقا
ولكنما خوفتُماني بخادرٍ
شتيم إذا ما صادفَ القِرن مزقا٤

ودخل الفرزدق مرة مع فتيان من آل المهلب في بِركة يتبرَّدون فيها، ومعهم ماجن يُقال له ابن أبي علقمة، فجعل يتفلَّتُ إلى الفرزدق ويقول: دعوني … حتى لا يهجونا أبدًا، فجعل الفرزدق يستغيث ويقول: ويلكم، لا يمسُّ جلده جلدي.

ومما يدل على جبنه ارتعاش يده لمَّا ضرب عنق الأسير، وجعل المستشرق الألماني الأستاذ شادي في الفصل الذي كتبه على الفرزدق في دائرة المعارف الإسلامية هذه الحادثة دليلًا على قساوته أيضًا، وخبر ذلك كما رواه ابن قتيبة في الشعر والشعراء: أن سليمان بن عبد الملك أمر الفرزدق أن يضرب عنق أسير رُومي، فنبا السيف عنه في يده، فضحك الناس فقال:

أيُعجِبُ الناس أن أضحكتُ خيرهم
خليفة الله يُستسقى به المطر
لم ينبُ سيفيَ من رعبٍ ولا دهشٍ
عن الأسير ولكن أخَّرَ القدرُ
ولن يُقدِّم نفسًا قبل مدتها
جمع اليدَينِ ولا الصمصامة الذكرُ

ثم قال:

ما أن يُعاب سيدٌ إذا صبا
ولا يُعاب صارمٌ إذا نبا
ولا يُعاب شاعر إذا كبا

وقال جرير في ذلك:

بسيف أبي رغوان قينِ مجاشع
ضربتَ ولم تَضرب بسيف ابن ظالمِ
ضربت به عند الإمام فأُرعِشَت
يداكَ وقالوا مُحدَثٌ غير صارمِ

فقال الفرزدق:

ولا نَقتل الأسرى ولكن نفكُّهم
إذا أثقل الأعناق حملُ المغارمِ
فهل ضربة الرُّومي جاعلة لكم
أبًا عن كليب أو أبًا مثل دارمِ

أما هواه السياسي فشعره يدل على أنه مع بني أمية، ولكن الواقع أنه مع القويِّ الغالب من قريش أيًّا كان. تراه في أيام معاوية ويزيد يخصُّ بالحرمة من الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، ويُنوِّه بذكر بني أمية كما ورَد في قصيدته التي مدح بها سعيد بن العاص. فلما مات يزيد واختلَّتْ أحوال بني أمية وخلع أهل البصرة عاملها عبيد الله بن زياد واختاروا عبد الله بن الحرث واليًا عليهم وكتبوا لابن الزبير بالبيعة له، كان الفرزدق من جملة المبايعين، ثم لما بعث عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله بن أُسيد إلى البصرة ليأخذ البيعة له، ولحق به جماعة من تميم وخلعوا ابن الزبير قال الفرزدق يلومهم:

عجبتُ لأقوامٍ تميمٌ أبوهُمُ
وهم في بني سعد عظام المباركِ
وكانوا رءوس الناس قبل مَسيرهم
مع الأزد مصفرًّا لحاها ومالكِ
ونحن نفَينا مالكًا عن بلادنا
ونحن فقأنا عينَهُ بالنيازكِ
أبا حاضران تلقَهُ الخيل تلقه
على لاحق أبزيمه بالسَّنابك
فما ظنكم بابن الحواري مصعب
إذا افترَّ عن أنيابه غير ضاحِك

ولكنه لما تمَّ الأمر لعبد الملك أصبح خليفة الله، وصار ابن الزبير كذاب مكة قال:

فالأرض لله ولَّاها خليفَتَه
وصاحب الله فيها غير مغلوبِ
بعد الفساد الذي قد كان قام به
كذاب مكة مِن مكرٍ وتخريب

وصار بعد ذلك يُنكِر على كلِّ مَن عصى بني أمية ويَرضى عمَّن أطاعهم؛ فقد هجا عبد الرحمن بن الأشعث وأنكر عليه عصيانه على بني أمية بقصيدة أولها:

لبئستْ هدايا القافلين أتَيتُمُ
بها أهلَكُم يا شرَّ جيشَينِ عُنصرًا

وقال في السميدع الزهراني، وكان يدعو ليزيد بن المهلب في عصيانه على بني أمية، فكره رجال من بني تميم الفتنة ولحقوا بالشام:

فدًى لرءوسٍ من تميم تَتابعوا
إلى الشام لم يَرضَوا بحكم السميدع
أحكمُ حروريٍّ من الدين مارق
أصلَّ وأغوى مِن حمار مُجدَّعِ

وقال في فتنة يزيد بن المهلب:

لقد كذب الحي اليمانون شقوةً
بقحطانها أحرارُها وعبيدها
يرومون حقًّا للخلافة واضحًا
شديدًا أَواسيها طويلًا عمودها
فإن تصبروا فينا تقرُّوا بحكمنا
وإن عدتمُ فيها فسوف نُعيدها

ولما ولَّى عبد الملك أخاه بشرًا العراق اختصَّ به الفرزدق، ولما مات بشرٌ رثاه وذهب إلى قبره وعقَرَ عليه فرسه، وصار منذ ذاك الحين عثمانيًّا أمويًّا يَفتخر بأخواله بني ضبة وببلائهم مع السيدة عائشة يوم الجمل:

وأنا ابن حنظلة الأغرُّ وإنني
في آل ضبة لَلمُعمُّ المُخوَلُ
وعشيَّة الجمل المُجلَّل ضاربوا
ضربًا شئون فراشِه تَتزيَّلُ

ويمدح بني أمية بانتصارهم يوم صفين ويتقرَّب إليهم بأنه جارٌّ مروان:

أبى الله إلا نَصرَكم بجنودِه
وليس بمَغلوب مِن الله صاحبه
وكائن إليكم قادَ مِن رأس فتنة
جنودًا وأمثال الجبال كتائبه
فمنهنَّ أيام بصفين قد مضَت
وبالمرج والضحاك تُجري مقانبه
سما لهما مروان حتى أراهما
حياض منايا الموت حمرًا مَشاربه
فما قام بعد الدار قوَّاد فتنة
ليُشعلَها إلا ومروان ضاربُه
أبى الله إلا أنَّ ملككم الذي
به ثبت الدين الشديد نصائبه

وهو في أماديحه لخلفائهم يغلو فيهم أكثر من جميع شعرائهم، فيجعل الخلافة حقهم الذي لا يختلف فيه اثنان؛ لأنهم ورثوا عثمان الذي أفضت إليه الخلافة بحكم الشورى، ويزعم أنهم يضربون بسيف النبي، وأن أعداءهم كأعداء النبي يوم بدر، وأنهم الأئمة الهادون المهديُّون، ولا سيما سليمان بن عبد الملك؛ فلقد كان يُلقبه بالمَهديِّ دائمًا، وأن الوحي يكاد ينزل عليهم — كما سيأتي ذلك — مفصَّلًا عند الكلام على مدحه. وكان يَكيل المدح لعُمالهم جُزافًا؛ فقد مدح الحجاج كثيرًا وزعم أن الله كان يُمدُّه بملائكة من عنده، قال في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث:

دعوا ودعا الحَجَّاج والخيلُ بينها
مدى النيل في سامي العَجاجة أكدَرا
إلى باعث الموتى ليُنزل نصرَه
فأنزل للحَجاج نصرًا مؤَزَّرًا
ملائكةً مَن يجعل الله نصرهم
له يكُ أعلى في القتال وأصبرا
رأوا جِبرئيلَ فيهمُ إذ لَقُوهم
وأمثاله من ذي جناحَينِ أظهَرا
فلما رأى أهلُ النفاق سلاحَهم
وسيماهمُ كانوا نَعامًا مُنفَّرًا

ورثى أخاه وابنه، فلما مات الحجاج رثاه، ثم لمَّا بويع لسليمان بن عبد الملك — وهو يكره الحَجاج — مدح سليمان وهجا الحجاج. قال ابن عياش: لقيتُ الفرزدق فقلت له: يا أبا فراس، أنت الذي تقول:

فليتَ الأكفَّ الدافئات ابن يوسف
يُقطَّعن إذ غُيِّبنَ تحت السَّقائفِ؟

فقال: نعم أنا، فقلت له: بمَ قلت بعد ذلك له:

لئن نفر الحجاج آل معتِّب
لقوا دولة كان العدو يُدالها
لقد أصبح الأحياء منهم أذلةً
وفي النار مَثواهم كلوحًا سبالها

فقال: نعم، نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلَّى منه انقلبنا عليه.

وقد زعَم بعض من ترجم للفرزدق أنه كان يرى رأي الشيعة في بني أمي، وجميع ما قاله في بني أمية والخلافة حُجة على تلك الدعوى لا لها، فما أدري بماذا يَستدلُّون ولا كيف يفهمون ويحكمون! ورد في النقائض (ص٣٦٦) أن سليمان بن عبد الملك حجَّ بالناس، فبلغه وهو بمكة أن بني تميم خلعوا طاعته، فخطب الناس بعرفات وذكر غدرَ بني تميم ووثوبهم على سلطانهم وإسراعهم إلى الفتن، وقال إنهم أصحاب فِتَن وأهل غدر وقلة شكر، فقام الفرزدق وفتَح رداءه وقال: يا أمير المؤمنين، هذا ردائي رهنٌ لك بوفاء تميم، والذي بلغك كذب، ثم جاءت بيعتُهم لسليمان، وفي ذلك يقول الفرزدق:

أتاني ورَحلي بالمدينة وَقعة
لآلِ تميم أقعَدَت كل قائمِ
كأنَّ رءوس الناس إذ سمعوا بها
مدمَّغة من هازمات أمائم
فِدًى لسيوف من تميم وفى بها
ردائي وجلَّتْ عن وجوه الأهاتمِ

أما كونه يُحب آل البيت ويُجلُّهم فهذا ما يُشارك به جميع المسلمين، على أنه لم يَذكر في كل شعره أحدًا من آل البيت إلا زين العابدين في ستة أبيات؛ وهي:

إذا رأتْهُ قريشٌ قال قائلها
إلى مكارم هذا يَنتمي الكرمُ
هذا الذي تَعرِفُ البطحاء وطأته
والبيتُ يعرفه والحل والحرمُ
يكادُ يُمسكه عرفان راحته
ركنُ الحطيم عليه حين يستلمُ
هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم
هذا التقيُّ النقيُّ الطاهر العَلَمُ
مَن يَشكُر الله يَشكر أوليَّة ذا
فالدِّين من بيت هذا ناله الأممُ
أيُّ القبائل ليسَت في رقابهم
لأولية هذا أو له نِعمُ

مدحه بها بالشرف والمكارم والدين والتقوى التي يُقرُّ لزين العابدين بها خلفاء بني أُمية أنفسهم، ثم زاد الناس على هذه الأبيات قصيدة للحزين الكناني يَمدح بها عبد الله بن عبد الملك، قال صاحب الأغاني (ج٤، ص٧٥): «والناس يَروُون هذين البيتين:

في كفِّه خَيزران ريحها عبق
من كفِّ أروعَ في عرنينه شَممُ
يُغضي حياءً ويغضى من مهابته
فلا يُكلم إلا حين يَبتسمُ

للفرزدق في أبياته التي يمدح بها علي بن الحسين، وهو غلط ممَّن رواه فيها، وليس هذان البيتان مما يُمدح به مثل علي بن الحسين عليهما السلام وله من الفضل المتعالَم ما ليس لأحد.» ثم نسبهما مع أبيات أُخَر للحزين الكناني وقال: «والصحيح أنهما للحزين في عبد الله بن عبد الملك، وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني مُتشابهة تُنبِئ عن نفسها.»

وذكر صاحب الأغاني خبرًا للفرزدق يتعلق بآل البيت، فقال: «لقيَ الفرزدق الحسين بن علي عليهما السلام متوجهًا إلى الكوفة خارجًا من مكة في اليوم السادس من ذي الحجة، فقال له الحسين صلوات الله عليه وآله: ما وراءك؟ قال: يا ابن رسول الله، أنفُسُ الناس معك وأيديهم عليك، قال: ويحك، معي وقرُ بعيرٍ من كتبهم يدعونني ويُناشدونني الله. فلما قُتل الحسين صلوات الله عليه قال الفرزدق: فإن غضبَت العرب لابن سيدها وخيرها فاعلموا أنه سيدوم عزُّها وتَبقى هيبتَها، وإن صبرت عليه ولم تتغيَّر لم يَزدْها الله إلا ذلًّا إلى آخر الدهر، وأنشد في ذلك:

فإن أنتمُ لم تثأروا لابن خيركم
فألقوا السلاح واغزلوا بالمغازلِ»

وذكر الطبري في تاريخه (ج٦، ص٢١٨): أن الفرزدق لقيَ الحسين بمكة، ونقل الحديث الذي دار بينهما بمثل ما رواه صاحب الأغاني، وزاد عليه: أن الفرزدق لقيَ بعد ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، قال الفرزدق: «ثم مضيتُ فإذا بفسطاط مضروب في الحرم وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني فأخبرتُه بلقاء الحسين بن علي، فقال لي: ويلك، فهلا اتبعته؟ فوالله ليُملَكنَّ ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه، فهممتُ والله أن ألحق به ووقَع في قلبي مقالته، ثم ذكرتُ الأنبياء وقتلهم فصدَّني ذلك عن اللحاق بهم.» هذا ما رُويَ عن الفرزدق، ولكن شعره خلا حتى من الإشارة إلى هذه الحادثة.

ولعلَّ أدنى الآراء إلى الصواب أن نقول إنَّ الفرزدق يقول بالعصبية العربية، وبالمضرية منها على القحطانية، ويرى أن قريشًا أشرف العرب وأجدرها بالحكم، وأشرف قريش هاشم وعبد شمس. قال يَهجو المهلب بن أبي صفرة ويدَّعي أنه نبطي، وفي قوله حميَّة جاهلية وعصبية للعرب في جاهليتها وإسلامها:

فكيف ولم يَأتُوا بمكة منسكًا
ولم يَعبُدوا الأوثان عند المحصَّبِ

وقال يهجو المهلب أيضًا:

وكيف ولم يَقُد فرسًا أبوكم
ولم يَحمل بَنيه إلى «الدوار»
ولم يَعبُد «يغوث» ولم يشاهد
لحِمْيرَ ما تَدين ولا نزارِ
وما لله تَسجُد أزد بصرى
ولكن يَسجُدون لكل نار

«والدوار ويغوث من أصنام العرب في الجاهلية»، ومثله قوله في بني حنيفة الذين قاتَلَهم خالد بن الوليد وهم مع مسلمة:

ولو بأُباض إذ لاقوا جلادًا
بأيدي مثلهم وسيوف كفرِ
لذادوا عن حريمهم بضربٍ
كأفواه الأوارك أيَّ هبر
ولكن جالدوا ملكًا كرامًا
هم فضُّوا القبائل يوم بدر

يقول لو قاتلوا مثلهم لغلبوهم، ولكن قاتلوا الدين والملائكة.

وقال في تفضيل قريش:

ما حملَت ناقة من معشر رجلًا
مثلي إذا الريح لفَّتْني على الكورِ
أعز قومًا وأوفى عند مكرمة
معظَّم من دماء القوم مَهجورِ
إلا قريشًا فإن الله فضَّلها
على البرية بالإسلام والخيرِ

قال لبطة: بينا أنا والفرزدق في المسجد الحرام إذ أقبل رجل من قريش جميل، فلما رآه أعجبه فأقبل عليَّ وقال:

إنَّ قريشًا خيار الناس خيرُهُم
وشرُّهم سيد الأشرار في النار

وقال في خالد القسري، وهو يمني:

سلوا خالدًا لا أكرم الله خالدًا
متى وَليَت قسرٌ قريشًا تَدينها
أقبلَ رسول الله أم بعد عهده
فتلك قريش قد أغثَّ سمينُها

وقال في تقديم هاشم وعبد شمس من قريش:

ولو سُئلت مَن كفؤها الشمسُ أومأت
إلى ابنَي منافٍ عبد شمس وهاشمِ
١  قال أبو عبيدة: وقف جرير بالمربد وقد لبسَ درعًا وسلاحًا تامًّا وركب فرسًا، فبلغ ذلك الفرزدق فلبس ثياب وشْي وسوارًا وقام في مقبرة بني حصن ينشد بجرير (النقائض، ص٦٢٤).
٢  الكامل للمبرد، ج١، ص١١١.
٣  تصافن القوم الماء: تقاسموه بالحصص؛ وذلك بأن توضع حصاة في أسفل الإناء ويُصبَّ فيه قدر ما يغمرها من الماء، فيشرب الواحد ثم يصب أيضًا كذلك فيشرب الآخر، وهلُمَّ جرًّا، فينال كل واحد مثل نصيب صاحبه. يستعملون ذلك في الأسفار عند قلة الماء.
٤  يُرجع إلى هذه القصة في ديوان الفرزدق، طبعة بوشر، ص٤٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤