شعره

أجمع الرواة والنَّقَدة وأهل البصر بالشعر على أن الفرزدق شاعر العرب في العصر الأموي؛ وذلك لأنه يُمثل حياة ذلك العصر أكثر من كل شاعر إسلامي؛ فالعصر الأموي عصر إسلامي عربي خالص، تَغلب عليه سذاجة البداوة في الأدب والسياسة والاجتماع. ولا تجد شعرًا أكثر تأثُّرًا بالإسلام والعصبية العربية، ولا أصح لغةً وأجزل أسلوبًا، ولا أجمع لشوارِد العربية وفصحها وأخبار العرب وأيامهم من شعر الفرزدق.

أما تأثُّره بالإسلام أكثر من جميع الشعراء، فلأنه كان يحفظ القرآن، فأثَّر في نفسه أثرًا بليغًا كان مِن أهم مصادر شعره، أضف إلى ذلك صحبته الحسن البصري العالم التقي الواعظ، حتى كثرت في شعره الألفاظ الإسلامية؛ كالفرقان والدين والرسول والنبي والإسلام والإيمان والكفر والجنة والنار والملائكة والأجَل والبعث والحساب، كما كَثُرت الإشارة إلى القصص القرآني والاستمداد منه والاستشهاد به؛ كقصة آدم وحواء وإبليس، ونوح، وإبراهيم، وإسحق، وصالح والناقة، ويوسف، وفرعون، وعاد وثمود، وداود وسليمان، ويونس، والسامري، ويأجوج ومأجوج، والفيل. أَضِف إلى ذلك نَظم بعض معاني القرآن، وذِكر الآخرة وعذابها والخشية من الحساب، مع التأثُّر بالتعابير القرآنية، وما إلى ذلك من آثار الطابع القرآني الذي يَظهر على شعره واضحًا جليًّا، والشواهد على ذلك كثيرة، نورد بعضها:

قال من قصيدة يهجو بها إبليس:

ألم تأتِ أهل الحِجر والحِجرُ أهلُه
بأنعمِ عيش في بيوت رخامِ
فقلتَ اعقِروا هَذي اللَّقوحَ فإنها
لكم أو تُنيخوها لقوح غرامِ
فلما أناخُوها تبرَّأْتَ منهم
وكنتَ نكوصًا عند كل ذمامِ
وآدم قد أخرجْتَه وهو ساكن
وزوجتُه مِن خير دار مقامِ
وأقسمتَ يا إبليس أنكَ ناصح
له ولها إقسامَ غير إثامِ
فظلَّا يَخيطان الوراق عليهما
بأيديهما مِن أكلِ شرِّ طَعامِ

والقصيدة كلها مُتأثِّرة بالقرآن والروح الإسلامية إلى حدٍّ بعيد، وقال:

حلفتُ بمَن أتى كنفَي حِراء
ومَن وافَى بحجَّته إلالا
ومَن سمَكَ السماءَ له فقامَت
وسخَّر لابن داود الشمالا
ومن نجَّى من الغمرات نوحًا
وأرسى في مواضعها الجبالا

وقال:

أرجو الدعاء مِن الذي تلَّ ابنه
لجبينه ففداه ذو الإنعامِ
إسحق حيث يقول لمَّا هابه
لأبيه حيث رأى من الأحلامِ
امضِ وصدِّق ما أُمرتَ فإنني
بالصبر مُحتسبًا لَخيرُ غُلامِ

وقال ليزيد بن عبد الملك:

كُن مثل يوسف لما كاد إخوته
سلَّ الضغائن حتى ماتَت الحقدُ

وقال من قصيدة يهجو جريرًا:

ولقد ضللتَ أباك تَطلُب دارمًا
كضَلال مُلتمِسٍ طريق وَبارِ
كالسامريِّ يقول إن حركته
دعني فليس عليَّ غير إزاري

وقال يذكر تحويل الوليد بن عبد الملك بيعة دمشق عن المسجد:

فُهِّمتَ تحويلها عنهم كما فَهِما
إذ يَحكُمان لهم في الحرث والغنمِ
داود والملك المَهدي إذ حكَما
أولادها واجتزاز الصوف بالجلم
فهَّمَك الله تحويلًا لبيعتِهم
عن مسجدٍ فيه يُتلى طَيِّب الكَلِمِ

وقال في فرار عمر بن هُبيرة من سجن خالد بن عبد الله القسري:

ولما رأيتَ الأرض قد سُدَّ ظهرها
ولم ترَ إلا بطنَها لك مخرجًا
دعوتَ الذي ناداه يونس بعدما
ثوى في ثلاث مظلمات ففرَّجا

وقال في هجاء آل المهلب:

فصارُوا كمَن قد كان خالَفَ قبلهم
ومِن قبلهم عادٌ عصَت وثمودها

وقال:

فلو أن ذرًّا أو أباه رأى التي
رأيتُ أبَت عيناه أن تتأخرا
إذًا لرأى مثل الذي ظلَّ رانيًا
إلى فرعها داود حتى تحدَّرا
إليها من المحراب وهو على الذي
يفصَّلُ فيه كلُّ شيءٍ مسطرًا

ومنها يقول مادحًا يزيد بن عبد الملك:

به دمَّر الله المزون ومَن سعى
إليهم كما كان الفراعين دمَّرا
بَنيتَ الذي أعيا سليمان وابنُه
وداود والجن الذي كان سَخِرا
فأصبح جسرًا خالدًا ويُدركه
إذا دكَّ عن يأجوج ردمًا فنشَّرا
بقوتِه الله الذي هو باعث
عبادًا له من خلقه حين نشرَا
عصائب كانت في القبور فبُعثرت
وعاد ترابًا خلقُه حين قدَّرا

وقال يمدح سليمان بن عبد الملك:

حملتَ الذي لم تَحمِل الأرضُ والتي
عليها فأدَّيتَ الذي أنت حامِلُه
إلى الله مِن حمل الأمانة بعدما
أضيعت وغال الدِّين عنَّا غوائلُه

وقال مِن قصيدة يمدح بها الحجاج:

وقائلة لي ما فعلَت إذا التقَت
وراءك أبواب المَنايا القواتلِ
فقلتُ لها ما باحتيال ولا يد
خرجتُ من الغمى ولا بالحبائل
ولكن ربي ربُّ يونس إذ دعا
من الحوت في موجٍ من البحر سائل
دعا ربه والله أرحمُ من دعا
وأدناه مِن داعٍ دعا مُتضائلِ

وقال من قصيدة يمدح سليمان بن عبد الملك ويهجو الحجاج:

جُعلتَ لأهل الأرض عدلًا ورحمةً
وبُرءًا لآثار الجروح الكَوالمِ
كما بعث الله النبيَّ محمدًا
على فترةٍ والناس مثل البهائمِ
فلما عتا الحجاج حين طغى به
غنًى قال إني مُرتقٍ في السلالمِ
فكان كما قال ابن نوحٍ سأرتقي
إلى جبلٍ من خشية الماء عاصمِ
رمى الله في جثمانه مثل ما رمى
عن القِبلة البيضاء ذات المحارم
جنودًا تسوق الفيل حتى أعادهم
هباءً وكانوا مَطرخُميَ الطَّراخمِ
نُصرتَ كنَصرِ البيت إذ ساق فيله
إليه عظيم المشركين الأعاجمِ

وقال:

عجبتُ من الآمال والموت دونها
وماذا يرى المبعوث حين يقومُ

وقال:

ولو وطئَت سعدٌ ليأجوج ردمها
بأقدامها لارفضَّ عنها ردومها

وقال:

أبونا خليل الله وابن خليلِه
أبونا أبو المُستخلَفين الأكارم

وقال:

على عهد ابن مريم كان قومي
هم الفرع المقدَّم والسناما

وقال:

فلا أُمَّ إلا أُمُّ عيسى علمتُها
كأمِّكَ خيرًا أمهاتٍ وأمجدا

وقال:

ورثنا عن خليل الله بيتًا
يطيب للصلاة وللطهورِ
هو البيت الذي مِن كل وجهٍ
إليه وجوه أصحاب القبور

وقال يرثي الجراح الحكمي:

لقد صبر الجراح حتى مشَت به
إلى رحمة الله السيوف الصوارمُ
فأصبح في القوم الذين محمد
أخوهم ومَن يلحق بهم فهو سالمُ
جُزوا بالسريرات التي في قلوبهم
جزاهم بها مُحصي السرائر عالمُ
إلى الغرفة العُليا رفيق محمد
مقيمًا ولا منها هو الدهر رائمُ

وقال:

ولو ضافه الدجال يَلتمس القرى
وحلَّ على خبازه بالعَساكر
بعدة يأجوج ومأجوج جُوَّعًا
لأشبعهم شهرًا غداء العَذافر

وقال من قصيدة يمدح يزيد بن عبد الملك ويزعم أن أمه حمَلَت به ليلة القدر:

تلقَّتْ به في ليلةٍ كان فضلها
على الليل ألفًا من شهورٍ مقدَّرًا

وقال:

فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنهم
كأنهم من ثمود الحِجر أو إرمِ

وقال في معنى الحديث: «أُريتُ جدَّ بني تميم جملًا أحمر، فأولتُه أنهم لا تضرهم عداوة من عاداهم.»

إنَّ تميمًا كل جدٍّ لجدها
يذلُّ لفُرَّاس الجُدود كلاكلُه

وقال:

لنا مَسجدا الله الحرامان والهُدى
وأصبحَتِ الأسماءُ منَّا كبيرها
سوى الله إنَّ الله لا شيء مثله
له الأمم الأُولى يقوم نُشورها
رمى الناس عن قوس تميمًا فما أرى
معاداة من عادى تميمًا تضرُّها
ولو أن أمَّ الناس حواء حاربَت
تميم بن مرٍّ لم تجد من يُجيرها
ونُبِّئتُ أشقى جعفر هاجَ شقوة
عليها كما أشقى ثمود مُبيرها

قال وهو محبوس:

وإذا حُملتُ إلى الصلاة كأنني
عبءٌ يميل بعدله المَعدولِ
إني حلفتُ بصارعٍ لابنٍ له
إسحقَ فوق جبينه المَتلول
ولقد حلفتُ بمُقبِلين إلى مِنًى
جاءوا عصائب فوق كل سَبيلِ

وقال:

رجال على الإسلام إذ ما تجالَدُوا
على الدين حتى شاعَ كلَّ مكانِ
وحتى دعا في سور كل مدينة
مُنادٍ يُنادي فوقها بأذانِ
فيجزي وكيعٌ بالجماعة إذ دعا
إليها بسيفٍ صارمٍ وسنانِ
جزاءً بأعمال الرجال كما جزى
ببدرٍ وباليرموك فَيء جنانِ

وقال يهجو جريرًا:

فإنك من هجاء بني نمير
كأهل النار إذ وجدوا العذابا
رجوا مِن حرِّها أن يَستريحوا
وقد كان الصديد لهم شرابًا

وقال:

دعوتُ الذي سوَّى السموات أيدُه
ولَلهُ أدنى من وريدي وألطف
وبيتان بيتُ الله نحن وُلاته
وبيتُ بأعلى إيلياء مُشرَّفُ

ومنها:

على من وراء الردم لو دُكَّ عنهم
لماجوا كما ماجَ الجراد وطوَّفوا

وقال:

حلفتُ برب مكة والمصلى
وأعناق الهديِّ مقلَّداتِ
لقد قلدتُ جلف بني كليب
قلائد في السوالِفِ باقياتِ
قلائد ليس مِن ذهبٍ ولكن
مواسم من جهنم مُنضجات

وقال:

قال الملائكة الذين تخيَّروا
والمُصطفَون لدينِه الأخيارُ

وقال:

عرف القَبائل أننا أربابها
وأحقها بمناسك التكبير
جعل الخلافة والنبوة ربنا
فينا وحرمة بيته المعمورِ
منا النبي محمد يَجلي به
عنا العمى بمصدِّق مَأمورِ

وقال:

أنا ابن خندف والحامي حقيقتها
قد جعلوا في يميني الشمس والقمرا

وهو مأخوذ من قول النبي عليه السلام لعمه أبي طالب: «يا عمِّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» (سيرة ابن هشام، ج١، ص٨٩).

وجاء رجل إلى الحسن البصري والفرزدق جالس إلى جنبه، فقال: يا أبا سعيد! الرجل يقول لا والله ولم والله في كلامه، قال: لا يريد اليمين، فقال الفرزدق: أوَ ما سمعت ما قلتُ في ذلك؟ قال الحسن: ما كل ما قلتَ سمعوا، فما قلت؟ قال قلتُ:

ولستَ بمأخوذ بلغوٍ تقوله
إذا لم تعمد عاقدات العزائمِ

فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال: يا أبا سعيد، نكون في هذه المغازي فنُصيبُ المرأة لها زوج، أفيحل غشيانها ولم يُطلِّقها زوجها؟ فقال الفرزدق: أوَ ما سمعت ما قلتُ في ذلك؟ قال الحسن: ما كل ما قلت سمعوا، فما قلت؟ قال: قلت:

وذاتُ حليلٍ أنكَحَتْنا رماحنا
حلالٌ لمَن يَبني بها لم تُطلَّقِ

وقال:

لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النار مغلول القلادة أزرقا
أخاف وراء القبر إن لم يَعافني
أشد من القبر التهابًا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسواق يقود الفرزدقا

وأما تمثيله العربية في فصاحتها وشواردها، وتاريخ العرب في مناقبهم ومثالبهم، حتى قيل: «لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.» وقيل: «لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس.» وقال أبو عمرو بن العلاء: «لم أرَ بدويًّا أقام في الحضر إلا فسد لسانه غير الفرزدق ورؤبة.» فذلك لكثرة مفرداته، وصحَّة تراكيبه، وجزالة أسلوبه، واشتمال شعره على الغريب وأوجه التعابير الفصيحة، ووفرة ما تضمَّنه فخره وهجاؤه ومدحه من أخبار العرب وأيامها ومفاخرها، ومثالب من يهجوهم في الجاهلية والإسلام. خُذ مثلًا لذلك نقيضة من نقائضه مع جرير، تجد فيها: صحة اللغة وفصاحة الأسلوب وجزالة التركيب ورصانة القافية وعراقة العربية مع شيء من الغريب، كما تجد كثيرًا من أخبار العرب في الجاهلية والإسلام، فلو جمع باحث مُفردات الفرزدق التي استعملها في شعره لكادَت تكون مُعجمًا، ولو توفَّر على ترتيب ما فيه من الأخبار والحوادث والأيام والمفاخر والمخازي والعادات والأساطير والخرافات لجمع تاريخًا لحوادث الجاهلية وحياتها الاجتماعية، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُذكَر، نَكتفي بإيراد قليل منها، قال (نقائض، ص١٨٩):

وهم على ابن مُزيقياء تنازَلوا
والخيل بين عجاجتَيها القسطلُ
وهم الذين على الميل تداركوا
نعمًا يُشلُّ إلى الرئيس ويُعكَل
ومُحَرِّقًا صفدوا إليه يمينه
بصفاد مقتسرٍ أخوه مكبَّلُ
ملكان يوم بُزاخةٍ قتلوهما
وكلاهما تاجٌ عليه مُكلَّل
وهم الذين علوا عمارة ضربةً
فوهاءَ فوق شئونه لا تُوصل
وهم إذا اقتسم الأكابر ردهم
وافٍ لضبَّة والركاب تُشلَّل
جار إذا غدر اللئام وفى به
حسب ودعوة ماجدٍ لا يُخذَل
وعشية الجمل المجلَّل ضاربوا
ضربًا شئون فراشِه تتزيَّل

هذه الأبيات الثمانية فيها من الأخبار والحوادث والأيام ما استغرق عشر صفحات كبيرة من كتاب النقائض، ولا سبيل لتلخيصها هنا، ولكن لا بأس بالإشارة إليها؛ فابن مزيقياء قتَله عامر من بني ضبة، ويوم الأميل كان لبَني ضبة على بني شيبان، ومحرَّق: هو ابن الحرث بن مُزيقياء، والملكان هما: محرِّق وأخوه زياد، قُتلا يوم بُزاخة؛ ولهذا اليوم حديث طويل، وعمارة: هو عمارة العبسي، ولمَقتله خبر طويل، والأكابر: شَيبان وعامر وجليحة من بني تيم الله، والجار: يعني بدر بن حمراء الضبي، أجار الأكابر في حديث طويل، ويوم الجمل مشهور.

وقال يُشبِّه وفاء سليمان بن عبد الملك لآل المهلب بوفاء السموءل لامرئ القيس، ووفاء ابن ديهث للحارث بن ظالم:

وفاء أخي تيماء إذ هو مشرف
يُناديه مغلولًا فتًى غير جأنبِ
أبوه الذي قال اقتلوه فإنني
سأمنع عِرضي أن يُسبَّ به أبي
فإنا وجدنا الغدر أعظم سُبَّةً
وأفضح من قتل امرئٍ غير مُذنب
فأدَّى إلى آل امرئ القيس بزَّة
وأدراعه معروفة لم تُغيَّب
كما كان أوفى إذ يُنادى ابن ديهث
وصرمته كالمَغنم المُتنهبِ
فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظالم
وكان إذا ما يَسلُلِ السيف يَضربِ

ومن التعابير العربية التي حفظها لنا شعره قوله (نقائض، ص٢٨٣):

أو بين حي أبي نعامة هاربًا
أو باللحاق بطيِّئ الأجبال

«حيَّ أبي نعامة»: أي وهو حيٌّ، تقول فعلت ذاك حيَّ فلان، أي وفلانٌ حي، وإذا أردت أن تقف على الأسلوب العربي الصريح بجزالته وفخامته فاسمع قوله:

أحلَّ هُزيم يوم بابل بالقنا
نذور نساء مِن تميم فحلَّتِ
فأصبحنَ لا يَشرِينَ نفسًا بنفسه
من الناس إنْ عنه المنيةُ زلَّتِ
يكون أمام الخيل أول طاعن
ويَضرب أُخراها إذا هي ولَّتِ
عشيةَ لا يدري يزيد أينتحي
على السيف أم يُعطي يدًا حين سُلَّتِ
وأصبح كالشَّقراء تُنحر إن مضت
وتُضرب ساقاها إذا ما تولَّتِ
لعمري لقد جلَّى هزيمٌ بسيفه
وجوهًا علَتها غبرةٌ فتجلَّتِ
وقائلة كيف القتال ولو رأت
هزيمًا لدارَت عينُها واسمدرَّت
وماكرَّ إلا كان أول طاعن
ولا عاينته الخيل إلا اشمأزَّت

وقوله:

ألم ترَ أنا نحن أفضل منكم
قديمًا كما خير الجناح قوادمه
وما زال باني العز مِنا وبيتُه
وفي الناس باني بَيت عز وهادِمه
قديمًا ورثْناه على عهد تبَّع
طوالًا سَواريه شدادًا دعائمه
وكم مِن أسيرٍ قد فكَكنا ومِن دم
حمَلْنا إذا ما ضجَّ بالثقل غارمه

ولا محلَّ للاستزادة من إيراد الشواهد على الناحية العربية في شعره.

ورُوح البادية شائعة في شعره، نَشعُر بها مقصودة بالذات وبالواسطة، كقوله:

وإنا أهل بادية ولسنا
بأهل دراهم حَضَروا القرارا

وأكثر صوره الشعرية، من تَشبيه وتمثيل واستعارة وكناية واستشهاد، مُنتزعٌ من حياة البادية وما فيها من حيوان ونبات وموات ومظاهر للطبيعة، فهناك الآل والسموم والأعلام الطامسة والآثار الدارسة والأطلال، والدِّمن والمياه الأواجن والأخبية والأثافي والنؤي، والسباع والذئاب والأفاعي والضباب والإبل والشاء والظباء والنعام والقَطا والشيح والقيصوم وحنين النيب، وما إلى ذلك مما توحيه البادية، وستجد ذلك جليًّا في كل باب من أبواب شِعره، ولكن لا بأس بإيراد بيت واحد مُعرق في البداوة؛ إذ إن طرفَي التشبيه فيه مُنتزع من البادية، وهو:

فترى الأثافي والرَّماد كأنه
بَوٌّ عليه رَوائم أظآرُ

والفرزدق على جفاء طبعه له مخيَّلة تفيض بالحياة وتُحسِّن الابتكار والابتداع ووضع الأقاصيص بأسلوبٍ حسن، رُويَ عنه من ذلك حديثان طريفان يَغلب على الظن أنهما مِن وضعه، الأول: حديث يوم دارة جلجل، وما صنع امرؤ القيس مع النساء اللواتي كُنَّ يتبرَّدن في الماء، وهو خبر مشهور رُوي عن الفرزدق، ودلائل الوضع ظاهرة عليه، وآثار الخيال الشعري فيه أوضح من أن يُنبَّه عليها، ولو كانت المَشاهد الخلابة التي ذكرها الفرزدق وقعت لامرئ القيس لما فاته أن يُصورها بشعره على ما عُرف به من الحرص على وصف حوادثه الغرامية. والحديث الثاني: يصور مأساة غرامية انتهت بموت عقيلة بنت الضحاك، من أولاد النعمان بن المنذر حنينًا لابن عمها عمرو، ويموت عمرو حنينًا لها في الساعة التي ماتت فيها، والحديث مذكور في الأغاني (ج٧، ص٥٢).

والفرزدق على أُمِّيَّته واسع الرواية، كثير المحفوظ من شعر العرب وأخبارها، قال أبوه غالب لعليٍّ رضي الله عنه لمَّا زاره ومعه الفرزدق: «هذا ابني، وقد روَّيته الشعر يا أمير المؤمنين وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعرًا مجيدًا.» وقال صاحب الأغاني: أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد، فقال له الفرزدق: أُعيدُها عليك، لقد أتى عليَّ زمان لو سمعت بيت شعر وأنا أهوي في بئر ما ذهَب عني. وقال الجاحظ: كان الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم. وقال ابن قتيبة: كان الفرزدق مِعَنًّا مِفَنًّا.

ولم يقف الفرزدق عند حفظ أشعار العرب وأخبارهم، بل حفظ القرآن وروى الحديث النبوي، قال صاحب خزانة الأدب: «روى الفرزدق عن علي عليه السلام أحاديث وعن غيره من الصحابة.» وقال صاحب النجوم الزاهرة (ج١، ص٢٦٨): «روى «الفرزدق» عن علي بن أبي طالب وغيره، وكان يُرسل، وروى عن أبي هريرة وعن جماعة.» فثقافة الفرزدق كما رأيت أعلى ثقافة يبلغها شاعر في ذاك العصر.

ويَجمع الفرزدق إلى خصوبة المخيلة وسعة الرواية كثرة النواحي؛ فشعره سجلُّ حياته ومرآة عصره؛ فحوادثه الخاصة مع أزواجه وأولاده ورواته وأصحابه وخدمه جليلها وحقيرها، وما وقع له من اضطهاد أو حبس أو فرار، وما يراه في سفره من ذئبٍ أو أسد، وأخبار لجوئه إلى القبائل أو الأفراد، مسجلة في شعره حتى لو فتح بابًا في داره. قال وقد جعل لداره بابين:

جعلت لها بابين باب مجاشع
وبابًا لُجَيميًّا عزيزًا مراومه

وكذلك الحوادث الهامة، كحوادث ابن الزبير وأخيه مصعب، وثورتي ابن الأشعث وابن المهلب، وأخبار وُلاة العراق وتغييرهم وما إليها، حتى ليصعب على الإنسان أن يحصر أبواب شعره. كل ذلك مع حُسن التصرُّف وسعة المضطرب وصحة التعبير؛ فهو أكثر الشعراء الإسلاميين نواحي. سُئل ابن دأب عن الفرزدق وجرير، فقال: «الفرزدق أشعر عامةً وجرير أشعر خاصةً.» وورد في النجوم الزاهرة (ج١، ص٢٦٨): «كان يُقال: الفرزدق أشعر الناس عامة، وجرير أشعر الناس خاصةً.»

ونفَسُ الفرزدق طويل، وقصائده التي تزيد أبياتها على المائة كثيرة، وله القصائد القِصار، وهو في كِلا القسمين قوي لا يسفُّ ولا يَنزل عن طبقته، وكان يُفضِّل القِصار لأنها أسهل حفظًا وأيسر روايةً، وهو «مشهورٌ بحُسن القِطَع» (العمدة، ج١، ص١٢٤).

•••

والمفاضلة بينه وبين جرير شغلت الناس وقسمَتْهم حزبين، وكانت حديث المجالس وسمر السامِرين، بل حديث الجنود في مصافهم وساعات راحتهم، وفي الأغاني. تنازع في جرير والفرزدق رجلان من عسكر المهلَّب، فارتفعا إليه وسألاه، فقال: لا أقول بينهما شيئًا، ثم دلَّهما على الخوارج، فلما توقَّفَ الجيشان بدر أحد المُتنازعين من الصف إلى عُبيدة بن هلال اليشكري الخارجي فسأله عنهما، ففضَّل جريرًا.

وتعصَّب كل حزبٍ لصاحبه حتى قيل: ما ذُكر الفرزدق وجرير في مجلس واتَّفق أهله على واحدٍ منهما. وحتى جعل بعضهم جائزة لمن يفضل الفرزدق من الشعراء. قال صاحب الأغاني: «بذل محمد بن عمر بن عطارد أربعة آلاف درهم وفرسًا لمن فضل من الشعراء الفرزدق على جرير.» والفرزدق عند العلماء واللُّغويين والخاصة أشعر، وجرير عند جمهرة الشعراء أشعر، على أن الشعراء الذين يؤثرون الجزالة وكثرة النواحي يُفضِّلونه أيضًا كالحطيئة، وناهيك بشهادته، وذلك أن الفرزدق لمَّا هرب من زياد واستجار بسعيد بن العاص وأنشده قصيدته كان عند سعيد الحطيئة وكعب بن جعيل، فقال الحطيئة: هذا والله الشِّعر، لا ما تعلل به منذ اليوم أيها الأمير. فقال كعب بن جعبل: فضِّله على نفسك ولا تُفضِّله على غيرك، فقال: بلى والله أُفضله على نفسي وعلى غيري، أدركتَ من قبلك وسبقتَ من بعدك. ثم قال له الحطيئة: يا غلام، لئن بقيتَ لتبرزنَّ علينا، أنجدتْ أمك؟ قال: لا، بل أبي. ونُقل عن البحتري أنه كان يُفضِّله؛ قال المرزباني في الموشح: «قال أبو الغوث يحيى ابن البحتري: كان أبي يقول: لا أرى أن أُكلِّم من يُفضِّل جريرًا على الفرزدق ولا أعدُّه من العلماء بالشعر، فقيل له: وكيف وكلامك أشد انتسابًا إلى كلام جرير منه إلى كلام الفرزدق؟ فقال: كذا يقول مَن لا يعرف الشعر، لعمري إن طبعي بطبع جرير أشبه، ولكن من أين لجرير معاني الفرزدق وحُسن اختراعه؟ جرير يُجيد النسيب، ولا يَتجاوز هجاء الفرزدق بأربعة أشياء: بالقين، وقتْل الزبير، وبأخته جعثن، وامرأته النوار، والفرزدق يهجوه في كل قصيدة بأنواع هجاء يخترعها ويُبدع فيها.»

•••

والفرزدق على طول نفسه وسعة مُضطربه وكثرة فنونه تختلف حالاته في قرض الشعر باختلاف بواعثه، حتى ربما وجد مشقَّة في قرضه واحتال لرياضته. قال الجاحظ: قال الفرزدق: «أنا عند الناس أشعر الناس، وربما مرَّتْ عليَّ ساعة ونزْعُ ضرسٍ أهوَن عليَّ من أن أقول بيتًا واحدًا.»١ وكان إذا لم يُفتح عليه ركب ناقته وطاف وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخالية. قال له مرة وهو في المدينة رجلٌ من الأنصار: بلغني أنك تقول إنكَ أشعر العرب. قال: وتَزعمه مُضر. فقال الرجل: قد قال حسَّان بن ثابت شعرًا فأردتُ أن أعرضه عليك وأؤجلك فيه سنة، فإن قلتَ مثله فأنت أشعر العرب، وإلا فأنت كذاب مُنتحِل، ثم أنشده:
لنا الجفنات الغُر يلمعنَ بالضحى
وأسيافنا يَقطرن من نجدة دمًا

قال الفرزدق: فأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن مِن الشعر، فكأني مُفحَم لم أقُل شعرًا قط، حتى إذا نادى المُنادي بالفجر رحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقُدتُ بها حتى أتيت ذبابًا (وهو جبل بالمدينة)، ثم نادَيتُ بأعلى صوتي: أجيبوا أخاكم أبا لبيني، فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلتُ ناقتي وتوسَّدتُ ذراعها، فما قمتُ حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتًا.

•••

وهو على صحة لغته وجزالة أسلوبه ورصانة قوافيه وشدة أَسر شِعره وطول باعه في الشعر لم يكن حسن الأراجيز، وما له منها إلا النزر اليسير على حسب ما وصل إلينا منها، وقد يُداخل في كلامه ويُعاظل في تراكيبه ويُقدِّم ويؤخر ويتجوز في استعمال الوحشي والغريب والإقواء وما هو أشبه باللحن لاحتياجه للتأويل والتقدير؛ وذلك لثقته بنفسه واعتماده على سليقته ولقَساوة في طبعه، فإذا قيل له في ذلك قال: قلت لفلان من أصحاب النحو: احتَلْ لذلك، وإذا حاجَّهُ أو عارضه نحوي قال: «عليَّ أن أقول وعليكم أن تَحتجُّوا.» وربما هجا من يُدقِّق عليه. قال الأنباري في طبقات الأدباء (ص٢٢): كان ابن أبي إسحق الحضرمي يردُّ كثيرًا على الفرزدق ويكلمه في شعره، فقال فيه الفرزدق:

فلو كان عبد الله مولى هجوتُه
ولكن عبد الله مولى مواليا

فقال له ابن أبي إسحق: ولقد لحنتَ أيضًا في قولك: مولى مواليا، وكان ينبغي أن تقول: مولى موالٍ. وسمعه مرة يُنشد:

وعضَّ زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مِسحتا أو مجلَّفُ

فقال له ابن أبي إسحق: على أي شيء ترفع أو مجلف؟ قال: على ما يسوءُك وينوءُك. وهجا أيضًا من النحاة عنبسة الفيل تلميذ أبي الأسود الدؤلي فقال:

لقد كان في معدان والفيل زاخرٌ
لعنبسة الراوي عليَّ القصائدا

على أن أكثر النُّحاة وأصحاب اللغة كان يُعجبهم هذا النوع العويص من شعر الفرزدق، يُشقِّقون منه المسائل ويُفرعون الأحكام ويتخذونه كالأحاجي، قال كردين: «سَقَطُ الفرزدق شيءٌ يَمتحن الرجال فيه عقولهم حتى يَستخرجوه.» والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قوله يمدح خال هشام بن عبد الملك:

وأصبح ما في الناس إلا مملكًا
أبو أمِّه حيٌّ أبوه يُقاربه

وقوله:

وسيري إذا ما الطومساء تطخطختْ
على الركب حتى يَحسَبوا القفَّ واديًا

وقوله:

نهيتُ ابنَ عفرا أن يُعفِّر أمه
كعفر السلا إذا عفَّرَتْه ثعالبه
فإن امرءًا يَغتابني لم أطأ له
حريمًا ولم تَنهاه عني أقاربه

وقوله:

خليفة أهل الأرض أصبح ضَوءُه
به كان يُهدى للهدى كلُّ مُهتدِ

وقوله:

لأم أتَتْنا بالوليد خليفةً
من الشمس لو كان ابنها البدر أنجبُ

وقوله:

هو السيف الذي نصَرَ ابنَ أروى
به مروانُ عثمان المصابا

وقوله:

إن المصيبة إبراهيمُ مصرعه
هدَّ الجبال وكاد الركن ينفردُ

وقوله:

ما من يدي رجل أحقُّ بما أتى
من مكرمات عظائم الأخطارِ
من ساعدينِ يَزيدُ يَقدحُ زنده
كفَّاهما، وأشد عقد جوارِ

وقوله:

ولم يكن الحَجَّاج إلا على الذي
هو الدين أو فقْد الإمام ليجزعا

وقوله:

أفاطم لو صاحبتِهنَّ عذرتِنا
ولم تستطيعي القُلقُلان العشنزرا

وقال:

مُعلنكسِ الكينِ مجلوم مشافره
ذي ساعدَينِ يُسمى دارةَ القمرِ

وقوله:

القاتل القرن والأبطال كالحة
والجوع بالشحم يوم القِطقِط الشبمِ

وقوله وقد جعل الفاعل مفعولًا به لأنَّ رويَّ القصيدة مضموم:

أنا المُطعِم المقرور في ليلة الصبا
وأجهلُ مَن يَخشى الجهولَ بوائقُه

وقوله:

وقد خبَطَت رحلي عليها مطيَّتي
إليكَ ولم تعلق قلوصي بصاحبِ

يريد: إليك خبطت مطيَّتي ورحلي عليها.

وقال وفيه الأقوياء:

ما ضرَّها أن لم يَلدْها ابنُ عاصِم
وأن لم يَلدها مِن زرارة معبدُ
ربيبة داياتٍ ثلاثٍ ربَينها
يُلقمنها من كل سخنٍ ومُبرَدِ

وقوله:

لو بابي جامع عرضت حاجتنا
أنجحت أو ببني العوجاء من قَطَنِ
بنو قبيصة لا تخفى مكارمهم
من دون أعراضهم أموالهم جننُ

ومثله قوله:

لو أنَّ أشيَمَ لم يَسبِق أسنَّتَنا
وأخطأ الباب إذ نيرانُنا تَقِدُ
إذًا لوافق مسعودًا وصاحبه
كلاهما خارج الأعفاج والكبدِ

وقوله وقد جزم بعد لو:

لو يعلموا حسب المنيخ إليهم
وعلى بيوتهم الطريق اللهجمُ

وقوله وقد خفف أي:

تنظرتُ نصرًا والسماكيم أَيهُما
عليَّ من الغيث استهلَّت مواطره

وقوله:

تداركني من هوَّة كان قعرها
ثمانين بوعًا للطويل العشنَّقِ

وقوله وفيه التضمين:

ولما دعوتُ ابن المراغة للتي
رهنتُ لها ابني أيُّنا للعظايم
أحقُّ أبًا وابنًا وقومًا إذا جرى
إلى المجد بالمُستأثرات الجسايم

وقوله وقد أقحم الهاء في «فاضله» ولا موضع لها:

فإن أهجُ كعبًا أو كلابًا فإنهم
كلا طرفيهم للنميري فاضله

وقوله وقد أقحم كان:

في حومة غمرت أباك بحورها
في الجاهلية كان والإسلام

وقوله:

مُتقلِّدًا لأبيه كانت عنده
أرباقَ صاحبِ ثلةٍ وبهامِ

يريد: متقلدًا أرباقَ صاحب ثلة وبهام كانت عندة تلك الأرباق، وهي الحبال.

وقوله:

ولو أن سعدًا أقبلت من بلادها
لجاءت بيبرينَ الليالي تَزَحَّفُ

أي: لجاءت يبرينُ بجيش مثل الليالي يملأ كل شيء سوادُه.

وقوله:

إني وإن كانت تميمُ عِمارتي
وكنتُ إلى القُدموس منها القُماقمِ

وقوله:

ضغا ضغوة في البحر لما تغطمَطَت
عليه أعالى موجه وأسافله

وقوله وقد فصل بين الصفة والموصوف:

هوى الخطفى لما اختطفتُ دماغه
كما اختطف البازيُّ الخشاشَ المُقارعُ

وقوله:

إذا قيل أيُّ الناس شرٌّ قبيلةً
أشارتْ كليب بالأكفِّ الأصابعُ

رفع الأصابع بأشارتْ، ورفع كليب بمضمر، كأنه قال: هذه كليب.

وقوله:

حرب ومروان جدَّاك اللذا لهما
من الروابي عظيمات الجماهيرِ

وكان الفرزدق يهتزُّ للشعر الجيد كثيرًا، رُوي عنه أنه سمع منشدًا ينشد قول لبيد:

وجلا السيوف عن الطلول كأنها
زُبُرٌ تجدُّ متونها أقلامها

فخرَّ ساجدًا، فعوتب على ذلك فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر. ولما حضرته الوفاة جعل يُكرر هذا البيت:

فظلتْ تَعالى باليفاع كأنها
رماحٌ نحاها وجهة الريح راكزُ

وكأنه كان يريد أن يختص بإحسان الشعراء، ويرى نفسه أولى به منهم، فيغير على شعراء الجاهلية والإسلام أمواتًا وأحياءً ويسلبهم أحسن ما قالوا غصبًا، كان يقول: «خير السرقة ما لا يجب فيه القطع.» قال صاحب الأغاني: وقف الفرزدق على جميل والناس مجتمعون عليه وهو يُنشد:

ترى الناس ما سِرنا يَسيرُون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناسِ وقَّفوا

فأشرَعَ إليه رأسه من وراء الناس وقال: أنا أحق بهذا البيت منك، قال: أنشدك الله يا أبا فِراس، فمضى الفرزدق وانتحله.

ووقَف على الشمردل وهو يُنشد قصيدة له فمر فيها هذا البيت:

وما بين مَن لم يُعط سمعًا وطاعةً
وبين تميم غير حز الغلاصمِ

فقال له: والله يا شمردل لتتركنَّ لي هذا البيت أو لتتركنَّ لي عرضك، فقال: خذه، لا بارك الله لك فيه، فادَّعاه الفرزدق وجعله في إحدى قصائده. ومرَّ الفرزدق بابن ميَّادة وهو يُنشد:

لو أن جميع الناس كانوا بربوةٍ
وجئتُ بجدي ظالم وابن ظالمِ
لظلَّت رقابُ الناس خاصعة لنا
سجودًا على أقدامنا بالجماجمِ

فقال له: أما والله يا ابن الفارسية لتدعنَّه لي أو لأنبشنَّ أمك من قبرها، فقال له ابن ميادة: خذه، لا بارك الله لك فيه، فانتحل الفرزدق البيتَين ووضع مكان ظالم: دارمًا، فقال: «وجئت بجدي دارم وابن دارم.» وسمع ذا الرمة ينشد قصيدة له، فأعجبه منها أربعة أبيات أولها:

أحين أعاذت بي تميم نساءها
وجُردتُ تجريد اليمانيِّ من الغمدِ

فقال لراويته: يا عبيد، اضمُمْها إليك. ورُوي أن أبا عمرو بن العلاء لقيَ الفرزدق فاستنشده بعض شعره فأنشده قول المتلمس:

كم دون مية من مُستعمل قذف
ومن فلاة بها تُستودَع العيسُ

فقال له أبو عمرو: أوَ هذا لك يا أبا فِراس؟ فقال: اكتمها، والله لضوالُّ الشعر أحبُّ إليَّ من ضوالِّ الإبل.

•••

والنقاد يُشبِّهون الفرزدق بزهير بن أبي سُلمى من حيث الجزالة وحسن التصرف والتنخُّل، ولظهور القوة على شعره أكثر من الطبع؛ كقوله:

ألمَّا على أطلال سُعدى نُسلِّم
دوارس لما استُنطِقَت لم تَكلمِ
وقوفًا بها صَحبي عليَّ وإنما
عرفتُ رسوم الدار بعد التوهُّمِ
يقولون لا تَهلك أسًى ولقد بدت
لهم عَبرات المُستهامِ المُتيَّمِ

والقصيدة كلها تُشبِه معلقة زهير، على أن الفرزدق أشبه بامرئ القيس من حيث شدَّة الأَسرِ وجفاء الطبع واتجاه الأهواء، ولا سيما الغزل، وقد كان يَروي شعره.

ولقد استقام للفرزدق من الأبيات البارعة التي تجري مجرى الأمثال الجامعة بين شرف المعنى وشرف اللفظ ما لم يَستَقِم لغيره؛ فهو أكثر الشعراء الإسلاميين بيتًا مقلَّدًا، من ذلك قوله:

فيا عجبًا حتى كليب تسبُّني
كأن أباها نهشلٌ ومجاشعُ

وقوله:

وكنا إذا الجبَّار صعَّرَ خدَّهُ
ضربناه حتى تَستقيمَ الأَخادعُ

وقوله:

وكنتَ كذئب السوء لما رأى دمًا
بصاحبه يومًا أحال على الدمِ

وقوله:

تُرجِّي رُبَيع أن تجيء صغارها
بخير وقد أعيا رُبَيعًا كبارها

وقوله:

قوارصُ تأتيني وتحتقرونها
وقد يَملأ القَطرُ الإناءَ فيفعمُ

وقوله:

أحلامُنا تَزِن الجبالَ رزانةً
وتخالُنا جنًّا إذا ما نَجهلُ

وقوله:

فإن تنجُ مني تَنجُ من ذي عظيمة
وإلا فإني لا إخالُكَ ناجيًا

وقوله:

ترى كل مظلومٍ إلينا فراره
ويَهرُب منا جهده كلُّ ظالمِ

وشعر الفرزدق في شدة الأَسرِ وفخامة التركيب وقوة الرصف وإحكام القافية وجزالة الأسلوب وصحَّته في الذروة العليا؛ كقوله:

تميمٌ إذا تمَّت عليك رأيتها
كلَيلٍ وبحرٍ حين يلتقيانِ
فَضَلنا بثنتَين المعاشرَ كلهم
بأعظمِ أحلامٍ لنا وجفانِ
جبال إذا شدُّوا الحُبى من ورائهم
وجنٌّ إذا طارُوا بكل عنانِ

وقوله:

أرى كل قوم وَدَّ أكرَمُهُم أبًا
إذا ما انتَمى لو كان مِنا أوائلُه
فخرنا فصُدِّقنا على الناس كلِّهم
وشرُّ مساعي الناس والفخرِ باطلُه

وقوله:

ألم يكُ جهلًا بعد سبعين حجة
تذكُّر أمِّ الفضل والرأسُ أشيبُ؟
وقيلُك هل معروفها راجعٌ لنا
وليس لشيء قد تفاوتَّ مطلب؟
على حين ولَّى الدهر إلا أقلُّه
وكادت بقايا آخر العيش تذهب
فإن تُؤذِنِينا بالفراق فلستُمُ
بأول مَن يَنسى ومن يتجنَّبُ
ورُبَّ حبيبٍ قد تناسيتُ فقده
يَكادُ فُؤادي إثره يتلهَّبُ
أخي ثقة في كل أمرٍ يَنوبُني
وعند جسيم الأمر لا يَتغيَّبُ
قرعتُ ظنابيبي على الصبر بعدَه
فقد جعلَت عنه الجَنائبُ تُصحِبُ٢

وقوله:

وكان نُفيْعٌ إذ هَجاني لأُمِّه
كباحثة عن مُدية نَستثيرُها
عجوز تُصلي الخمس عاذَت بغالب
فلا والذي عاذَت به لا أضيرها
فإني على إشفاقها من مَخافتي
وإن عقَّها بي نافع لمُجيرُها

وشعره في جملته يدلُّ على قدرة الشاعر وبُعد نظره وإحاطته بما يَرمي إليه من الأغراض، وسعة مخيَّلته وانفساح مجاله؛ ولذلك كَثُرت فيه الصور، ولكن أكثره غير مُنتزَع من النفس، أو قُل إنه منتزع من طبعٍ جاف؛ لذلك فهو يُعجب ويستدعي الإكبار، ولكنه لا يَمتزج بأجزاء النفس كشِعر المطبوعين، وهذا معنى قولهم: «الفرزدق يَنحَت مِن صخْر.» على أنَّ الباعث الشعري إذا خلص إلى نفسه وهزَّها — وقليلًا ما يَخلُص — صدر عنها ما يُطرب ويُشجي، كأبياته في طلاق النُّوار، وبعض أبياته في رثاء بَنيه، وهي:

إذا ذُكرَتْ أسماؤهم أو دُعوا بها
تكادُ حَيازيمي تفرَّى صلابُها
إذا ذكرَتْ عيني الذِين هم لها
قذًى هيج منها للبُكاء انسكابُها
هَجَرْنا بيوتًا أن تُزارَ وأهلُها
عزيز علينا يا نُوار اجتِنابُها
وما زلتُ أَرمي الحرب حتى تركتُها
كسيرَ الجَناح ما تدفُّ عُقابُها

وكقوله في حب بَنيه:

ألا زعمت عِرسي سُويدةُ أنها
سريعٌ عليها حفظتي للمعاتبِ
ولولا أُبَيْنُوها الذين أحبُّهم
لقد أنكَرتْ مني عنودَ الجنائبِ
ولكنَّهم ريحان قلبي ورحمة
من الله أعطاها مليكُ العواقبِ

وهو على كثرة إحسانه وحُسن تصرُّفه وسعة ميدانه ووفرة ما تناوله من المعاني والمواضيع في شعره يُجيد الفخر كثيرًا، لِما رُكب في طبعه من حب التفاخُر والتعاظُم والتِّيه، ويجيد الهجاء لأنه سلاح يذود به عن دعواه في فخره، ويستعمله في وجه من يهاجمه ويُنكر عليه تلك الدعوى، وكثيرًا ما اتخذه آلة يُرهب بها الناس لأغراضٍ شتَّى. ومدحه يُعرب عن مقدرة عظيمة، ولكنه كثير الغُلُوِّ والمبالغة، ووصفه — على قلة قصائده المخصَّصة للوصف — من أجوَد الشعر، ومزية الوصف شائعة في كثير من شعره. وغزلُه في جملته شهواني فيه مجون وفُجور، ولكنه أصدق أنواع شعره؛ لأنه يُصوِّر نفس الفرزدق كما هي. ورثاؤه قليل لا يُعتدُّ به كما يُعتد بفخرِه وهجائه، وله في الأدب والحكمة أبيات تمثل الطبع العربي المتأثِّر بالإسلام؛ فبعضُها يَجري مجرى المثل، وبعضها فيه زهد وتوبة ونُسُك. وله معانٍ لا تدخل تحت باب من الأبواب المُصطلَح عليها، ذكر فيها حوادث خاصة وعامة تُفيد كثيرًا في تفهُّم سيرته وأخلاقه، كما تدلُّ على مقدرته واتخاذه الشعر أداةً صالحة لتصوير حياته ومُحيطه.

١  قال صاحب الأغاني (ج٢١، ص٨٥): قال سلمة بن عياش: دخلتُ على الفرزدق السجن وهو محبوس، وقد قال قصيدته:
إنَّ الذي قد سمكَ السماء بَنى لنا
بيتًا دعائمه أعزُّ وأطولُ
وقد أفحم وأجبل، فقلت له: ألا أُرفدك؟ فقال: وهل ذلك عندك؟ فقلت: نعم، ثم قلت:
بيت زرارة محتبٍ بفنائه
ومجاشع وأبو الفوارس نَهشلُ
فاستجاد البيت وغاظَه قولي وأدخله في قصيدته.
٢  الظنبوب: عظم الساق، يُقال قرعت ظنبوبي على الأمر: إذا اعتزمتُ عليه، والجنائب: أراد بها نفسه، وإصحابها: انقيادها وسلوَّها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤