شعره
أجمع الرواة والنَّقَدة وأهل البصر بالشعر على أن الفرزدق شاعر العرب في العصر الأموي؛ وذلك لأنه يُمثل حياة ذلك العصر أكثر من كل شاعر إسلامي؛ فالعصر الأموي عصر إسلامي عربي خالص، تَغلب عليه سذاجة البداوة في الأدب والسياسة والاجتماع. ولا تجد شعرًا أكثر تأثُّرًا بالإسلام والعصبية العربية، ولا أصح لغةً وأجزل أسلوبًا، ولا أجمع لشوارِد العربية وفصحها وأخبار العرب وأيامهم من شعر الفرزدق.
أما تأثُّره بالإسلام أكثر من جميع الشعراء، فلأنه كان يحفظ القرآن، فأثَّر في نفسه أثرًا بليغًا كان مِن أهم مصادر شعره، أضف إلى ذلك صحبته الحسن البصري العالم التقي الواعظ، حتى كثرت في شعره الألفاظ الإسلامية؛ كالفرقان والدين والرسول والنبي والإسلام والإيمان والكفر والجنة والنار والملائكة والأجَل والبعث والحساب، كما كَثُرت الإشارة إلى القصص القرآني والاستمداد منه والاستشهاد به؛ كقصة آدم وحواء وإبليس، ونوح، وإبراهيم، وإسحق، وصالح والناقة، ويوسف، وفرعون، وعاد وثمود، وداود وسليمان، ويونس، والسامري، ويأجوج ومأجوج، والفيل. أَضِف إلى ذلك نَظم بعض معاني القرآن، وذِكر الآخرة وعذابها والخشية من الحساب، مع التأثُّر بالتعابير القرآنية، وما إلى ذلك من آثار الطابع القرآني الذي يَظهر على شعره واضحًا جليًّا، والشواهد على ذلك كثيرة، نورد بعضها:
قال من قصيدة يهجو بها إبليس:
والقصيدة كلها مُتأثِّرة بالقرآن والروح الإسلامية إلى حدٍّ بعيد، وقال:
وقال:
وقال ليزيد بن عبد الملك:
وقال من قصيدة يهجو جريرًا:
وقال يذكر تحويل الوليد بن عبد الملك بيعة دمشق عن المسجد:
وقال في فرار عمر بن هُبيرة من سجن خالد بن عبد الله القسري:
وقال في هجاء آل المهلب:
وقال:
ومنها يقول مادحًا يزيد بن عبد الملك:
وقال يمدح سليمان بن عبد الملك:
وقال مِن قصيدة يمدح بها الحجاج:
وقال من قصيدة يمدح سليمان بن عبد الملك ويهجو الحجاج:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال يرثي الجراح الحكمي:
وقال:
وقال من قصيدة يمدح يزيد بن عبد الملك ويزعم أن أمه حمَلَت به ليلة القدر:
وقال:
وقال في معنى الحديث: «أُريتُ جدَّ بني تميم جملًا أحمر، فأولتُه أنهم لا تضرهم عداوة من عاداهم.»
وقال:
قال وهو محبوس:
وقال:
وقال يهجو جريرًا:
وقال:
ومنها:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وهو مأخوذ من قول النبي عليه السلام لعمه أبي طالب: «يا عمِّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» (سيرة ابن هشام، ج١، ص٨٩).
وجاء رجل إلى الحسن البصري والفرزدق جالس إلى جنبه، فقال: يا أبا سعيد! الرجل يقول لا والله ولم والله في كلامه، قال: لا يريد اليمين، فقال الفرزدق: أوَ ما سمعت ما قلتُ في ذلك؟ قال الحسن: ما كل ما قلتَ سمعوا، فما قلت؟ قال قلتُ:
فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال: يا أبا سعيد، نكون في هذه المغازي فنُصيبُ المرأة لها زوج، أفيحل غشيانها ولم يُطلِّقها زوجها؟ فقال الفرزدق: أوَ ما سمعت ما قلتُ في ذلك؟ قال الحسن: ما كل ما قلت سمعوا، فما قلت؟ قال: قلت:
وقال:
وأما تمثيله العربية في فصاحتها وشواردها، وتاريخ العرب في مناقبهم ومثالبهم، حتى قيل: «لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.» وقيل: «لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس.» وقال أبو عمرو بن العلاء: «لم أرَ بدويًّا أقام في الحضر إلا فسد لسانه غير الفرزدق ورؤبة.» فذلك لكثرة مفرداته، وصحَّة تراكيبه، وجزالة أسلوبه، واشتمال شعره على الغريب وأوجه التعابير الفصيحة، ووفرة ما تضمَّنه فخره وهجاؤه ومدحه من أخبار العرب وأيامها ومفاخرها، ومثالب من يهجوهم في الجاهلية والإسلام. خُذ مثلًا لذلك نقيضة من نقائضه مع جرير، تجد فيها: صحة اللغة وفصاحة الأسلوب وجزالة التركيب ورصانة القافية وعراقة العربية مع شيء من الغريب، كما تجد كثيرًا من أخبار العرب في الجاهلية والإسلام، فلو جمع باحث مُفردات الفرزدق التي استعملها في شعره لكادَت تكون مُعجمًا، ولو توفَّر على ترتيب ما فيه من الأخبار والحوادث والأيام والمفاخر والمخازي والعادات والأساطير والخرافات لجمع تاريخًا لحوادث الجاهلية وحياتها الاجتماعية، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُذكَر، نَكتفي بإيراد قليل منها، قال (نقائض، ص١٨٩):
هذه الأبيات الثمانية فيها من الأخبار والحوادث والأيام ما استغرق عشر صفحات كبيرة من كتاب النقائض، ولا سبيل لتلخيصها هنا، ولكن لا بأس بالإشارة إليها؛ فابن مزيقياء قتَله عامر من بني ضبة، ويوم الأميل كان لبَني ضبة على بني شيبان، ومحرَّق: هو ابن الحرث بن مُزيقياء، والملكان هما: محرِّق وأخوه زياد، قُتلا يوم بُزاخة؛ ولهذا اليوم حديث طويل، وعمارة: هو عمارة العبسي، ولمَقتله خبر طويل، والأكابر: شَيبان وعامر وجليحة من بني تيم الله، والجار: يعني بدر بن حمراء الضبي، أجار الأكابر في حديث طويل، ويوم الجمل مشهور.
وقال يُشبِّه وفاء سليمان بن عبد الملك لآل المهلب بوفاء السموءل لامرئ القيس، ووفاء ابن ديهث للحارث بن ظالم:
ومن التعابير العربية التي حفظها لنا شعره قوله (نقائض، ص٢٨٣):
«حيَّ أبي نعامة»: أي وهو حيٌّ، تقول فعلت ذاك حيَّ فلان، أي وفلانٌ حي، وإذا أردت أن تقف على الأسلوب العربي الصريح بجزالته وفخامته فاسمع قوله:
وقوله:
ولا محلَّ للاستزادة من إيراد الشواهد على الناحية العربية في شعره.
ورُوح البادية شائعة في شعره، نَشعُر بها مقصودة بالذات وبالواسطة، كقوله:
وأكثر صوره الشعرية، من تَشبيه وتمثيل واستعارة وكناية واستشهاد، مُنتزعٌ من حياة البادية وما فيها من حيوان ونبات وموات ومظاهر للطبيعة، فهناك الآل والسموم والأعلام الطامسة والآثار الدارسة والأطلال، والدِّمن والمياه الأواجن والأخبية والأثافي والنؤي، والسباع والذئاب والأفاعي والضباب والإبل والشاء والظباء والنعام والقَطا والشيح والقيصوم وحنين النيب، وما إلى ذلك مما توحيه البادية، وستجد ذلك جليًّا في كل باب من أبواب شِعره، ولكن لا بأس بإيراد بيت واحد مُعرق في البداوة؛ إذ إن طرفَي التشبيه فيه مُنتزع من البادية، وهو:
والفرزدق على جفاء طبعه له مخيَّلة تفيض بالحياة وتُحسِّن الابتكار والابتداع ووضع الأقاصيص بأسلوبٍ حسن، رُويَ عنه من ذلك حديثان طريفان يَغلب على الظن أنهما مِن وضعه، الأول: حديث يوم دارة جلجل، وما صنع امرؤ القيس مع النساء اللواتي كُنَّ يتبرَّدن في الماء، وهو خبر مشهور رُوي عن الفرزدق، ودلائل الوضع ظاهرة عليه، وآثار الخيال الشعري فيه أوضح من أن يُنبَّه عليها، ولو كانت المَشاهد الخلابة التي ذكرها الفرزدق وقعت لامرئ القيس لما فاته أن يُصورها بشعره على ما عُرف به من الحرص على وصف حوادثه الغرامية. والحديث الثاني: يصور مأساة غرامية انتهت بموت عقيلة بنت الضحاك، من أولاد النعمان بن المنذر حنينًا لابن عمها عمرو، ويموت عمرو حنينًا لها في الساعة التي ماتت فيها، والحديث مذكور في الأغاني (ج٧، ص٥٢).
والفرزدق على أُمِّيَّته واسع الرواية، كثير المحفوظ من شعر العرب وأخبارها، قال أبوه غالب لعليٍّ رضي الله عنه لمَّا زاره ومعه الفرزدق: «هذا ابني، وقد روَّيته الشعر يا أمير المؤمنين وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعرًا مجيدًا.» وقال صاحب الأغاني: أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد، فقال له الفرزدق: أُعيدُها عليك، لقد أتى عليَّ زمان لو سمعت بيت شعر وأنا أهوي في بئر ما ذهَب عني. وقال الجاحظ: كان الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم. وقال ابن قتيبة: كان الفرزدق مِعَنًّا مِفَنًّا.
ولم يقف الفرزدق عند حفظ أشعار العرب وأخبارهم، بل حفظ القرآن وروى الحديث النبوي، قال صاحب خزانة الأدب: «روى الفرزدق عن علي عليه السلام أحاديث وعن غيره من الصحابة.» وقال صاحب النجوم الزاهرة (ج١، ص٢٦٨): «روى «الفرزدق» عن علي بن أبي طالب وغيره، وكان يُرسل، وروى عن أبي هريرة وعن جماعة.» فثقافة الفرزدق كما رأيت أعلى ثقافة يبلغها شاعر في ذاك العصر.
ويَجمع الفرزدق إلى خصوبة المخيلة وسعة الرواية كثرة النواحي؛ فشعره سجلُّ حياته ومرآة عصره؛ فحوادثه الخاصة مع أزواجه وأولاده ورواته وأصحابه وخدمه جليلها وحقيرها، وما وقع له من اضطهاد أو حبس أو فرار، وما يراه في سفره من ذئبٍ أو أسد، وأخبار لجوئه إلى القبائل أو الأفراد، مسجلة في شعره حتى لو فتح بابًا في داره. قال وقد جعل لداره بابين:
وكذلك الحوادث الهامة، كحوادث ابن الزبير وأخيه مصعب، وثورتي ابن الأشعث وابن المهلب، وأخبار وُلاة العراق وتغييرهم وما إليها، حتى ليصعب على الإنسان أن يحصر أبواب شعره. كل ذلك مع حُسن التصرُّف وسعة المضطرب وصحة التعبير؛ فهو أكثر الشعراء الإسلاميين نواحي. سُئل ابن دأب عن الفرزدق وجرير، فقال: «الفرزدق أشعر عامةً وجرير أشعر خاصةً.» وورد في النجوم الزاهرة (ج١، ص٢٦٨): «كان يُقال: الفرزدق أشعر الناس عامة، وجرير أشعر الناس خاصةً.»
ونفَسُ الفرزدق طويل، وقصائده التي تزيد أبياتها على المائة كثيرة، وله القصائد القِصار، وهو في كِلا القسمين قوي لا يسفُّ ولا يَنزل عن طبقته، وكان يُفضِّل القِصار لأنها أسهل حفظًا وأيسر روايةً، وهو «مشهورٌ بحُسن القِطَع» (العمدة، ج١، ص١٢٤).
•••
والمفاضلة بينه وبين جرير شغلت الناس وقسمَتْهم حزبين، وكانت حديث المجالس وسمر السامِرين، بل حديث الجنود في مصافهم وساعات راحتهم، وفي الأغاني. تنازع في جرير والفرزدق رجلان من عسكر المهلَّب، فارتفعا إليه وسألاه، فقال: لا أقول بينهما شيئًا، ثم دلَّهما على الخوارج، فلما توقَّفَ الجيشان بدر أحد المُتنازعين من الصف إلى عُبيدة بن هلال اليشكري الخارجي فسأله عنهما، ففضَّل جريرًا.
وتعصَّب كل حزبٍ لصاحبه حتى قيل: ما ذُكر الفرزدق وجرير في مجلس واتَّفق أهله على واحدٍ منهما. وحتى جعل بعضهم جائزة لمن يفضل الفرزدق من الشعراء. قال صاحب الأغاني: «بذل محمد بن عمر بن عطارد أربعة آلاف درهم وفرسًا لمن فضل من الشعراء الفرزدق على جرير.» والفرزدق عند العلماء واللُّغويين والخاصة أشعر، وجرير عند جمهرة الشعراء أشعر، على أن الشعراء الذين يؤثرون الجزالة وكثرة النواحي يُفضِّلونه أيضًا كالحطيئة، وناهيك بشهادته، وذلك أن الفرزدق لمَّا هرب من زياد واستجار بسعيد بن العاص وأنشده قصيدته كان عند سعيد الحطيئة وكعب بن جعيل، فقال الحطيئة: هذا والله الشِّعر، لا ما تعلل به منذ اليوم أيها الأمير. فقال كعب بن جعبل: فضِّله على نفسك ولا تُفضِّله على غيرك، فقال: بلى والله أُفضله على نفسي وعلى غيري، أدركتَ من قبلك وسبقتَ من بعدك. ثم قال له الحطيئة: يا غلام، لئن بقيتَ لتبرزنَّ علينا، أنجدتْ أمك؟ قال: لا، بل أبي. ونُقل عن البحتري أنه كان يُفضِّله؛ قال المرزباني في الموشح: «قال أبو الغوث يحيى ابن البحتري: كان أبي يقول: لا أرى أن أُكلِّم من يُفضِّل جريرًا على الفرزدق ولا أعدُّه من العلماء بالشعر، فقيل له: وكيف وكلامك أشد انتسابًا إلى كلام جرير منه إلى كلام الفرزدق؟ فقال: كذا يقول مَن لا يعرف الشعر، لعمري إن طبعي بطبع جرير أشبه، ولكن من أين لجرير معاني الفرزدق وحُسن اختراعه؟ جرير يُجيد النسيب، ولا يَتجاوز هجاء الفرزدق بأربعة أشياء: بالقين، وقتْل الزبير، وبأخته جعثن، وامرأته النوار، والفرزدق يهجوه في كل قصيدة بأنواع هجاء يخترعها ويُبدع فيها.»
•••
قال الفرزدق: فأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن مِن الشعر، فكأني مُفحَم لم أقُل شعرًا قط، حتى إذا نادى المُنادي بالفجر رحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقُدتُ بها حتى أتيت ذبابًا (وهو جبل بالمدينة)، ثم نادَيتُ بأعلى صوتي: أجيبوا أخاكم أبا لبيني، فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلتُ ناقتي وتوسَّدتُ ذراعها، فما قمتُ حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتًا.
•••
وهو على صحة لغته وجزالة أسلوبه ورصانة قوافيه وشدة أَسر شِعره وطول باعه في الشعر لم يكن حسن الأراجيز، وما له منها إلا النزر اليسير على حسب ما وصل إلينا منها، وقد يُداخل في كلامه ويُعاظل في تراكيبه ويُقدِّم ويؤخر ويتجوز في استعمال الوحشي والغريب والإقواء وما هو أشبه باللحن لاحتياجه للتأويل والتقدير؛ وذلك لثقته بنفسه واعتماده على سليقته ولقَساوة في طبعه، فإذا قيل له في ذلك قال: قلت لفلان من أصحاب النحو: احتَلْ لذلك، وإذا حاجَّهُ أو عارضه نحوي قال: «عليَّ أن أقول وعليكم أن تَحتجُّوا.» وربما هجا من يُدقِّق عليه. قال الأنباري في طبقات الأدباء (ص٢٢): كان ابن أبي إسحق الحضرمي يردُّ كثيرًا على الفرزدق ويكلمه في شعره، فقال فيه الفرزدق:
فقال له ابن أبي إسحق: ولقد لحنتَ أيضًا في قولك: مولى مواليا، وكان ينبغي أن تقول: مولى موالٍ. وسمعه مرة يُنشد:
فقال له ابن أبي إسحق: على أي شيء ترفع أو مجلف؟ قال: على ما يسوءُك وينوءُك. وهجا أيضًا من النحاة عنبسة الفيل تلميذ أبي الأسود الدؤلي فقال:
على أن أكثر النُّحاة وأصحاب اللغة كان يُعجبهم هذا النوع العويص من شعر الفرزدق، يُشقِّقون منه المسائل ويُفرعون الأحكام ويتخذونه كالأحاجي، قال كردين: «سَقَطُ الفرزدق شيءٌ يَمتحن الرجال فيه عقولهم حتى يَستخرجوه.» والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قوله يمدح خال هشام بن عبد الملك:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقال:
وقوله:
وقوله وقد جعل الفاعل مفعولًا به لأنَّ رويَّ القصيدة مضموم:
وقوله:
يريد: إليك خبطت مطيَّتي ورحلي عليها.
وقال وفيه الأقوياء:
وقوله:
ومثله قوله:
وقوله وقد جزم بعد لو:
وقوله وقد خفف أي:
وقوله:
وقوله وفيه التضمين:
وقوله وقد أقحم الهاء في «فاضله» ولا موضع لها:
وقوله وقد أقحم كان:
وقوله:
يريد: متقلدًا أرباقَ صاحب ثلة وبهام كانت عندة تلك الأرباق، وهي الحبال.
وقوله:
أي: لجاءت يبرينُ بجيش مثل الليالي يملأ كل شيء سوادُه.
وقوله:
وقوله:
وقوله وقد فصل بين الصفة والموصوف:
وقوله:
رفع الأصابع بأشارتْ، ورفع كليب بمضمر، كأنه قال: هذه كليب.
وقوله:
وكان الفرزدق يهتزُّ للشعر الجيد كثيرًا، رُوي عنه أنه سمع منشدًا ينشد قول لبيد:
فخرَّ ساجدًا، فعوتب على ذلك فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر. ولما حضرته الوفاة جعل يُكرر هذا البيت:
وكأنه كان يريد أن يختص بإحسان الشعراء، ويرى نفسه أولى به منهم، فيغير على شعراء الجاهلية والإسلام أمواتًا وأحياءً ويسلبهم أحسن ما قالوا غصبًا، كان يقول: «خير السرقة ما لا يجب فيه القطع.» قال صاحب الأغاني: وقف الفرزدق على جميل والناس مجتمعون عليه وهو يُنشد:
فأشرَعَ إليه رأسه من وراء الناس وقال: أنا أحق بهذا البيت منك، قال: أنشدك الله يا أبا فِراس، فمضى الفرزدق وانتحله.
ووقَف على الشمردل وهو يُنشد قصيدة له فمر فيها هذا البيت:
فقال له: والله يا شمردل لتتركنَّ لي هذا البيت أو لتتركنَّ لي عرضك، فقال: خذه، لا بارك الله لك فيه، فادَّعاه الفرزدق وجعله في إحدى قصائده. ومرَّ الفرزدق بابن ميَّادة وهو يُنشد:
فقال له: أما والله يا ابن الفارسية لتدعنَّه لي أو لأنبشنَّ أمك من قبرها، فقال له ابن ميادة: خذه، لا بارك الله لك فيه، فانتحل الفرزدق البيتَين ووضع مكان ظالم: دارمًا، فقال: «وجئت بجدي دارم وابن دارم.» وسمع ذا الرمة ينشد قصيدة له، فأعجبه منها أربعة أبيات أولها:
فقال لراويته: يا عبيد، اضمُمْها إليك. ورُوي أن أبا عمرو بن العلاء لقيَ الفرزدق فاستنشده بعض شعره فأنشده قول المتلمس:
فقال له أبو عمرو: أوَ هذا لك يا أبا فِراس؟ فقال: اكتمها، والله لضوالُّ الشعر أحبُّ إليَّ من ضوالِّ الإبل.
•••
والنقاد يُشبِّهون الفرزدق بزهير بن أبي سُلمى من حيث الجزالة وحسن التصرف والتنخُّل، ولظهور القوة على شعره أكثر من الطبع؛ كقوله:
والقصيدة كلها تُشبِه معلقة زهير، على أن الفرزدق أشبه بامرئ القيس من حيث شدَّة الأَسرِ وجفاء الطبع واتجاه الأهواء، ولا سيما الغزل، وقد كان يَروي شعره.
ولقد استقام للفرزدق من الأبيات البارعة التي تجري مجرى الأمثال الجامعة بين شرف المعنى وشرف اللفظ ما لم يَستَقِم لغيره؛ فهو أكثر الشعراء الإسلاميين بيتًا مقلَّدًا، من ذلك قوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وشعر الفرزدق في شدة الأَسرِ وفخامة التركيب وقوة الرصف وإحكام القافية وجزالة الأسلوب وصحَّته في الذروة العليا؛ كقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وشعره في جملته يدلُّ على قدرة الشاعر وبُعد نظره وإحاطته بما يَرمي إليه من الأغراض، وسعة مخيَّلته وانفساح مجاله؛ ولذلك كَثُرت فيه الصور، ولكن أكثره غير مُنتزَع من النفس، أو قُل إنه منتزع من طبعٍ جاف؛ لذلك فهو يُعجب ويستدعي الإكبار، ولكنه لا يَمتزج بأجزاء النفس كشِعر المطبوعين، وهذا معنى قولهم: «الفرزدق يَنحَت مِن صخْر.» على أنَّ الباعث الشعري إذا خلص إلى نفسه وهزَّها — وقليلًا ما يَخلُص — صدر عنها ما يُطرب ويُشجي، كأبياته في طلاق النُّوار، وبعض أبياته في رثاء بَنيه، وهي:
وكقوله في حب بَنيه:
وهو على كثرة إحسانه وحُسن تصرُّفه وسعة ميدانه ووفرة ما تناوله من المعاني والمواضيع في شعره يُجيد الفخر كثيرًا، لِما رُكب في طبعه من حب التفاخُر والتعاظُم والتِّيه، ويجيد الهجاء لأنه سلاح يذود به عن دعواه في فخره، ويستعمله في وجه من يهاجمه ويُنكر عليه تلك الدعوى، وكثيرًا ما اتخذه آلة يُرهب بها الناس لأغراضٍ شتَّى. ومدحه يُعرب عن مقدرة عظيمة، ولكنه كثير الغُلُوِّ والمبالغة، ووصفه — على قلة قصائده المخصَّصة للوصف — من أجوَد الشعر، ومزية الوصف شائعة في كثير من شعره. وغزلُه في جملته شهواني فيه مجون وفُجور، ولكنه أصدق أنواع شعره؛ لأنه يُصوِّر نفس الفرزدق كما هي. ورثاؤه قليل لا يُعتدُّ به كما يُعتد بفخرِه وهجائه، وله في الأدب والحكمة أبيات تمثل الطبع العربي المتأثِّر بالإسلام؛ فبعضُها يَجري مجرى المثل، وبعضها فيه زهد وتوبة ونُسُك. وله معانٍ لا تدخل تحت باب من الأبواب المُصطلَح عليها، ذكر فيها حوادث خاصة وعامة تُفيد كثيرًا في تفهُّم سيرته وأخلاقه، كما تدلُّ على مقدرته واتخاذه الشعر أداةً صالحة لتصوير حياته ومُحيطه.